المقالة الثالثة

أدب أبي العلاء

تدل المقالة الأولى على أنَّ الحياة العامة في عصر أبي العلاء، لم تكن شيئًا تطمئن إليه النفس، أو يرضى به الرجل الحكيم؛ لفساد ما كان فيها من سياسةٍ وخلقٍ، ومن تقسيم ثروةٍ وتأثير دينٍ، وتدل المقالة الثانية على أنَّ الحياة الخاصة لأبي العلاء، لم تكن خيرًا من الحياة العامة؛ فقد مُزِجت بألوانٍ من المصائب وعثور الجد، وعلى أنَّ الرجل قد أحسن الدرس، وأجاد التعلم، ورحل إلى مدنٍ مختلفةٍ، وأقام في بيئاتٍ متباينةٍ، وكان له قلبٌ ذكيٌّ، وأنف حميٌّ، وبصيرةٌ ثاقبةٌ، وذوقٌ سليمٌ؛ فهذه المؤثرات كلها قد اشتركت في تأليف التراث الأدبي لأبي العلاء، فإذا وصفنا هذا التراث، كان من الحق علينا أنْ نحلله إلى عناصره، ونرده إلى مصادره، ونحن فاعلون إنْ شاء الله مع حرصنا على الإيجاز والاقتصاد.

لأبي العلاء شعرٌ ونثرٌ، وقد كان يعتقد أنه شاعرٌ، كما كان يعتقد أنه كاتبٌ، ولا شك في أنه قد نظم كثيرًا من الشعر، وأنَّ ما ضاع من نظمه أكثر مما بقى؛ فإنه بدأ يعاني صناعة القريض في الحادية عشرة من عمره، وقد نيف على الثمانين وما ترك القريض، وما أعرض عنه. فمن المعقول أنْ ينتج هذا العمر الطويل والعمل الكثير شعرًا كثيرًا، على أنه يحدثنا عن نظمٍ قد ضاع، ولم يصل إلينا منه شيءٌ؛ فقد ذكر أنَّ كتابه المعروف باسم «استغفر واستغفري» يشتمل على عشرة آلاف بيتٍ، ونحن لا نعرف من هذا الكتاب إلا اسمه. ويحدثنا ناصري خسرو في رحلته: أنَّ أبا العلاء قد نظم من الشعر مائة ألف بيتٍ، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة؛ أي قبل موت الشاعر بعشر سنوات. ولا ريب أنه قد نظم بعد ذلك الشيء الكثير، ومع ذلك فليس لدينا من نظمه الآن، إلا شيءٌ لا يُقاس إلى ما يروي التَّاريخ من كثرة نظمه. والأمر في نثره كالأمر في شعره، بل هو أشد غرابةً، وأدعى إلى العجب؛ فإنا لا نجد من نثره إلا رسالة الغفران، ورسالة الملائكة، وطائفةً من صغار الرسائل، فإذا سألنا التَّاريخ عما كتب أبو العلاء أنبأنا بالشيء الكثير؛ فإن ديوان رسائله الخاصة، كان ثمانمائة كراسةٍ — كما يحدثنا أبو العلاء نفسه. فلو فرضنا الكراسة — كما فرضها مرجليوث — ورقتين اثنتين، لكانت رسائله ستمائةٍ وألف ورقة؛ أي: مائتين وثلاثة آلاف صفحةٍ، مع أنَّ المطبوع منها بالشام لا يتجاوز مع شرحه ستًّا وثلاثين ومائة صفحة، فأين ذهب سائرها؟ سؤالٌ يستعجم التَّاريخ عن جوابه، ويعجز الزمان عن بيانه. على أنَّ لأبي العلاء كتبًا أدبيةً ذهبت جملةً، ولم يعرف التَّاريخ إلا أسماءها، ككتاب الصاهل والشاحج وكتاب تاج الحرة، وكتاب الفصول والغايات، وغيرها من الكتب، التي لا نشك في أنها كانت تعيننا على فهم القيمة الكتابية لأبي العلاء، لو سمح بها الزمان. على أنَّا لم نبدأ هذه المقالة لنأسف على ما فات، بل أردنا بها أنْ نصف ما في أيدينا، فلندع ذكر ما لا سبيل إليه، ولنبحث عما هو موجودٌ.

شعره

ليس لدينا من شعر أبي العلاء إلا ثلاثة دواوين؛ أولها: سقط الزند، والمشهور أنه يشتمل على شعره أيام الشباب، وإنْ كان ذلك موضع بحثٍ، فإنا نجد فيه قصائد نُظِمت في بغداد، وبعد رجوعه إلى المعرَّة، بل نجد قصيدةً نُظِمت سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ، وهي الطائية التي بعثها إلى خازن دار العلم ببغداد، وإنما نُعيِّن لها هذا التاريخ؛ لأن فيها ذكر الفتنة التي أذكاها بالشام صالح بن مرداس ليملك حلب، وحسان بن مفرج ليملك الرملة، وسنان بن عليان ليملك دمشق، وقدمنا تاريخ ذلك كله في المقالة الأولى، فهذه القصيدة قد نظمها أبو العلاء وله خمسون سنةً. ومن الظاهر أن ليست هذه بسن الشباب، غير أنَّ أبا العلاء نفسه هو الذي حدثنا بأن سقط الزند يشتمل على أشعارٍ نُظِمت في أيام الصبا، وهو إنما خبرنا بذلك في ثبت كتبه، الذي لا نشك في أنه وضع بعد سنة أربعين وأربعمائةٍ، فلا شك في أنَّ أبا العلاء إنما لاحظ أنَّ شعر الشباب في سقط الزند أكثر من شعر الكهولة والشيخوخة، فحكم عليه هذا الحكم، ولعل الكتاب قد جُمِع بعد رجوع أبي العلاء من بغداد، ثم زِيدَ عليه ما جدَّ من الشعر.

الثاني: الدرعيات، وهو ديوانٌ صغيرٌ، يشتمل على أشعارٍ وُصِفت فيها الدرع خاصةً، وقد طُبِع بمصر ملحقًا بسقط الزند، ونُصَّ في ثبت الكتب على أنه كتابٌ مستقلٌّ، أُلحِق بسقط الزند. ولقد حاولنا أنْ نُعلِّل عناية أبي العلاء بالدروع خاصةً، فلم نستطع أنْ نفهم لذلك سببًا، إلا أنْ يكون قد حفظ في وصف الدرع شيئًا كثيرًا، فأراد أنْ يُظهِر مقدرته الفنية بوضع ديوانٍ لها خاصة. وليس من البعيد أنْ تكون بين الدرعيات وبين هذا القانون الصارم الذي أخذ به نفسه، واتقى به الألم والجزع صلةٌ ما، ولكن ذلك على ما فيه من تكلفٍ يحتاج إلى النص التاريخي، على أنَّ الدرعيات لم تُنظَم إلَّا في الطور الثالث من حياته، وذلك ما لم نُوفَّق إليه.

الثالث: اللزوميات، وهي أكبر الدواوين الثلاثة، وأجلُّها خطرًا، نُظِمت كلها في الطور الثالث، فمثلت حياة عقله ووجدانه وخلقه أحسن تمثيل. ونحن واصفون كل ديوانٍ من هذه الدواوين الثلاثة على حدةٍ، ثم نتبع ذلك بكلمةٍ عامةٍ في منزلة أبي العلاء من الشعر، ومكانته من نظم القريض.

سقط الزند

أبو العلاء هو الذي رتَّبَ سقط الزند، كما أنه الذي رتَّبَ اللزوميات والدرعيات والرسائل، وقد كان الرجل على كلامه شديد الحرص، وبآثاره عظيم العناية كأنه كان يخشى أنْ يكون بغض النَّاس له، وشكهم في دينه، حائلًا بينهم وبين جمع كلامه وتدوينه، ولكنه لم يرتب سقط الزند ولا غيره من كتبه ترتيبًا تاريخيًّا ولا فنيًّا، فخلط المدح، والوصف، والنسيب، والرثاء، ولم يُعيِّن تواريخ القصائد ولا مواقيتها، ولكنَّا مُقسِّمون شعره في سقط الزند باعتبارين مختلفين: أحدهما باعتبار التاريخ، والآخر باعتبار الموضوع.

التقسيم الأوَّل

نظم أبو العلاء شعره منذ بلغ الحادية عشرة، وبقي ينظمه إلى أنْ مات، وإذ كنا قد جعلنا حياته أطوارًا ثلاثةً؛ أحدها: طور الصبا، وينتهي سنة ثلاثٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، حين بلغ العشرين. والثاني: طور الشبيبة، وينتهي سنة أربعمائةٍ، حين عاد من بغداد، واعترف بانقضاء شبيبته في رسالته إلى أهل المعرَّةِ. والثالث: طور الكهولة والشيخوخة، وينتهي بموته. فلا بد من أنْ ينقسم شعره إلى هذه الأطوار.

ولئن كان تعيين التَّاريخ لقصائده كلها في سقط الزند، يحتاج إلى كثير من العناء، فإن سقط الزند نفسه، قد عيَّن لنا تاريخ قصائد بعينها، نستطيع أنْ ندرسها، فنعرف منها تأثر شعر الرجل، بما اختلف عليه من أطوار الحياة. فمن شعره في الطور الأول رثاؤه لأبيه؛ لأنه نظمه في الرابعة عشرة من عمره، ومن شعره في الطور الثاني ما كتبه إلى أبي حامدٍ الإسفراييني، وما تشوق به إلى المعرَّةِ وهو بالكرخ، وما رثى به أبا الشريفين الرضي والمرتضى، وما ودع به بغداد، وما بكى به على أُمِّه، ومن شعره في الطور الثالث ما كتبه إلى البغداديين بعد رجوعه من العراق، وفيه قصيدةٌ نُظِمت سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ، وهي الطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد، وقدمنا الإشارة إليها غير مرةٍ.

ولقد كُنَّا نودُّ أنْ ندرس هذه القصائد درسًا مفصلًا، حتى تكون أحكامنا على الرجل ظاهرة الأدلة، واضحة البراهين، ولكن ذلك شيءٌ يطول به القول، ويخرج من القصد، وقد قدمنا في المقالة الثانية وصف رثائه لأبيه، وقصيدته إلى الإسفراييني، وحسبنا أنْ نسطر هنا نتائج درسنا المفصَّل.

•••

فأما شعره في طور الحداثة فتكثر فيه المبالغة، ويظهر فيه التكلف، وتنقصه متانة اللفظ، ورصانة الأسلوب، وإتقان المعنى. ولا يكاد الباحث يتوسمه، حتى يرى فيه سذاجة الطفل، وعبث الوليد، وحسبك أنْ تنظر إلى قوله في رثاء أبيه:

نقِمتُ الرضا حتى على ضاحك المزنِ
فلا جادني إلا عبوسٌ من الدجنِ

وترجع إلى ما قدمناه من نقده.

والتقليد في شعر الحداثة ظاهرٌ، والحرص على المحاكاة واضحٌ، والكلف بإظهار التفوق والنبوغ، يعلن نفسه إلى الناس؛ لذلك لا يكاد يخطر له الخاطر القيِّمُ حتى يذهب التكلف بقيمته، فإن أردت الدليل على ذلك؛ فانظر إلى قوله:

ونادبة في مسمعي كل قينةٍ
تغرِّدُ باللحن البريء من اللحن

فهذا المعنى في نفسه جميلٌ ظريفٌ، ولكنه في هذا البيت نيءٌ لم ينضج، وقد شانه هذا الجناس المتكلف، والبديع المتعمل، فانظر إليه حين نضج عقله، واشتدت مرَّتهُ؛ كيف أدَّى هذا المعنى نفسَه في أعذب لفظٍ، وأجمل صورةٍ، وأصفى أسلوبٍ، فقال:

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحمامةُ أم غنـْ
ـنَتْ على فرع غصنها الميَّادِ؟!

ألم ترَ إلى هذا الاستفهام، كيف يعلن الشك ويخفي اليقين؟ وكيف ينم على استهزاء الشاعر بالحياة، ويأسه من الصفو؟ وكيف يُمثِّل قدرته على اختراع الصور، وحسن التعريض؟ ما باله في هذا البيت قد شك في تغريد الحمامة، فلم يدرِ أبكاء هو أم غناء؟ وقد كان يجزم في البيت الأول بأن غناء القينة بكاءٌ، وترنمها إعوالٌ، أليس ذلك لأن المعنى قد نضج في نفسه، حتى ثبت عليه اعتقاده وحتى بسط سلطانه على الحيوان، بعد أنْ مَدَّ ظله على الإنسان؟ ثم انظر كيف وقف الحمامة على الغصن المياد، في الروضة النضرة ذات الزهر المبتسم، والنور المؤتلق، ثم ظن بألحانها الظنون، في حال ما يشك النَّاس في أنها حال جذلٍ طربٍ، وآية بشرٍ وابتهاج؟

هذا يمثل لك طفولة شعر أبي العلاء في رثاء أبيه، واكتهاله في رثاء أبي حمزة الفقيه الحنفي، وسنبيِّن رأينا في هذه القصيدة حين نعرض لها.

شعره في الطور الثاني

فأما شعره في الطور الثاني فتكاد تغلب عليه المبالغة، ولكن حظه من التكلُّف ينقص، وقسطه من المتانة يزيد، وتمثيله لعواطف الشاعر يصح، فإذا جاوز الخامسة والثلاثين ورأيناه ببغداد بدأنا نودِّع المبالغة في شعره، ونستقبل الاقتصاد في اللفظ والمعنى جميعًا، ورأينا ظاهرةً ينبسط ظلُّها على شعر الرجل، وهي التجمل بالاصطلاحات العلمية، ألم ترَ إلى افتنانه في استعارة الاصطلاحات الفقهية، حين خاطب الفقيه الشافعيَّ فقال:

وربَّ ظُهر وصلناها على عجلٍ
بعصرها في بعيد الورد لمَّاعِ
بضربتين لطُهر الوجه واحدةٌ
وللذراعين أخرى ذات إسراع
وكم قصرنا صلاةً غير نافلةٍ
في مهمهٍ كصلاة الكسف شَعْشَاع
وما جهرنا ولم يصدح مؤذِّنُنا
من خوف كل طويل الرُّمح خداع
في معشرٍ كجمار الرمي أجمعها
ليلًا وفي الصبح ألقيها إلى القاع

أو لم ترَ إليه كيف أحسن استعارة الاصطلاحات حين ودع أهل بغداد، فقال:

فدونكم خفض الحياة فإننا
نصبنا المطايا في الفلاة على القطع

فانظر إلى هذا البيت: كيف جمع إلى التطرُّف باصطلاحات العلم دلالةً على الحسرة بفراق بغداد وحب الخير لأهلها، في أحسن لفظٍ وأرق أسلوب، ثم انظر إلى مطلع هذه القصيدة كيف استعار فيه الاستعارات الدينية، ودل به على التولُّه والتفجُّع، فقال:

نبيٌّ من الغربان ليس على شرع
ينبئنا أنَّ الشعوب إلى صدع
أصدقه في مريةٍ وقد امترت
صحابة موسى بعد آياته التسع

فهذان البيتان يمثلان عقله ووجدانه معًا، ثم يمثلان مع ذلك ما ورث من آداب الجاهلية وما حفظ من علوم الإسلام، وانظر إلى قوله يتشوق إلى المعرَّةِ:

فيا برقُ ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليها الدهرُ منذ ليالي

وقوله في قصيدةٍ أخرى:

إذا سألتْ بغدادُ عنِّي وأهلُها
فإني عن أهل العواصم سآل

كيف يمثلان حنين الشاعر إلى بلده، وكلفه بوطنه القديم؟

في هذا الطور نظم أبو العلاء أكثر ما يشتمل عليه سقط الزند من الشعر، ولا سيما المدح الذي لم يقصد به إلا تَمْرِين القريحة، كما قال في المقدمة، وإنما نحكم هذا الحكم؛ لأنا نجد في هذا الشعر متانةً قصر عنها شعره الأول، ومبالغةً جلَّ عنها شعره الثالث، ومعاني لا تلائم ناشئًا يقرزم،١ ولا توافق فيلسوفًا يتجنب الكذب والمَيْن، ويعرض عن المنى والآمال، فمن ذلك قوله في القصيدة الأولى من سقط الزند يصف برق المعرَّةِ:
سرى برقُ المعرَّة بعد وهنٍ
فبات برامةٍ يصف الكلالا
شجا ركبًا وأفراسًا وإبلًا
وزاد فكاد أنْ يشجو الرِّحالا

وقوله يصف السيف:

يذيب الرعب منه كل عضبٍ
فلولا الغمد يمسكه لسالا

فانظر كيف انتهت به المبالغة إلى الإحالة، فزعم أنَّ البرق كاد يشجو الرحال، وأنَّ الخوف يذيب السيوف في أغمادها، حتى لو لم تكن مغمدةً لسالت، وفي هذا البيت مبالغةٌ من وجهين؛ أحدهما: وصفها بالرُّعبِ، والآخر: وصفها بالذَّوبِ. وفيه قصورٌ لا يُغتفَر، فقد كان من الحق عليه حين عمد إلى المبالغة أنْ يرعى عهدها، ولا يميل بها إلى الإخلال. ولكنه زعم أنَّ السيوف يذيبها الرعب وهي في الأغماد ولولاها لسالت، فما عسى أنْ تكون حالها إذا جُرِّدَت نصالها؟! ألعلها تسيل حتى لا يبقى في أيدي أصحابها إلا مقابضها؟! فإن كان ذلك فهي الإحالة المنكرة، والتقصير القبيح؛ إذ يجب أنْ يكون بين العرب تحسه السيوف في الأغماد، والرعب تحسه مجردة فرق عظيم. ولعله كان يجب أنْ تستحيل في هذه الحالة إلى بخارٍ، فإن زعم أنها لقيته مجردةً لم يصبها شيءٌ فهو الإخلال الذي لا مزيد عليه، والمبالغة في شعر هذا الطور كثيرةٌ لا يحصيها العدُّ.

في هذا الطور أيضًا عبثت الضرورات بشعر أبي العلاء فوقع فيه بعض الخطأ النحوي؛ فانظر إليه كيف سكَّن لامَ الفعل مع أن، في قوله: فكاد أنْ يشجو الرِّحالا. وكيف وَضَعَ أن بعد كاد؟ فإن زعم منتصرٌ له أنَّ ذلك في كلام العرب قليلٌ، وأنَّ لأبي العلاء وجهًا من التأول، قلنا: إنَّ أبا العلاء نفسه، قد كان أبغض النَّاس لحكم الضرورة في الشعر، كما ترى عند الكلام على رسائله.

وفي هذا الطور نَسَبَ أبو العلاء، وتغزل، وافتخر؛ لأنه في الطور الثالث لم يَمِلْ إلى هذين الفنين، وفي هذا الطور أيضًا وصف الأشياء المختلفة، وسنحكم على هذه الأبواب عند الكلام على ما طرق من الفنون.

شعره في الطور الثالث

كان القانون الصارم الذي اتخذه أبو العلاء لنفسه، بعد رجوعه من بغداد، مؤثرًا أشدَّ التأثير في أطوار حياته؛ فقد صبغه بصبغة التشدد في كل شيءٍ، وكلفه التزام ما لا يلزم في أعماله العقلية، وحياته المادية على السواء، فتأثر شعره بهذا القانون تأثرًا ظاهرًا، فامتنعت منه المبالغة؛ لأن الحرص على الصدق يحول بينه وبينها، وامتنعت منه الضرورات؛ لأن التشدد في الحياة، كلَّفه التشدد في التماس الإجادة، ورأيناه يلتزم القوافي الصعبة، فيطيل فيها من غير أنْ يظهر عليه مللٌ أو سأمٌ، ومن غير أنْ يصيبه ضعف أو خور. وحسبك بالتائية التي بعث بها إلى أبي القاسم التنوخي، والطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد، دليلًا على ما كان يأخذ به نفسه في الشعر من التشدد في إيثار القافية الصعبة، وكذلك رأيناه يتشدد في محاكاة المتقدمين من العرب، فيؤثر الألفاظ البدوية الجزلة، والمعاني البدوية الفخمة، ولا يتحضر في شعره إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، فهو إذا كتب إلى خازن دار العلم ببغداد ابتدأ قصيدته على طريقة أهل البادية، فقال:

لِمَنْ جِيرةٌ سِيمُوا النَّوَالَ فلم يُنْطُوا
يظللهم ما ظلَّ ينبته الخط
رجوت لهم أنْ يقربوا فتباعدوا
وألا يَشِطُّوا في المزار فقد شطوا
يَمَانون أحيانًا شآمون تارةً
يعالون عن غور العراق لينحطوا
بنازلةٍ سقط العقيق بمثلها
دعا أدمع الكندي في الدمن السقط

فانظر إليه، ألست ترى منه في مرآة هذا الشعر أعرابيًّا في طمريه يحدو بلفظه الجزل ناقة طرفة بن العبد التي يقول فيها:

أمونٍ على ظهر الإران نصأتها
على لاحبٍ كأنه ظهر برجد

بل لم يكفِ أبا العلاء أنْ يتخيَّر من الألفاظ ما لم يألف أهل عصره، حتى استعمل غريب اللغة ونادرها، فوضع أنطى في أول القصيدة موضع أعطى، وهي لغةٌ قضاعية قُرِئ بها في القرآن، على أنَّ بداوة أبي العلاء لم تمنعه من اصطناع البديع، فقد استعمل الجناس في البيت الأول الذي آثر فيه غريب اللغة، فقال:

يظللهم ما ظل ينبته الخط

ولقد كان عهدنا بالبديع حضريًّا مهلهلًا، فإذا نحن نراه في شعر أبي العلاء الآن بدويًّا جزلًا، وكان النَّاس ولا يزالون يُعجَبون بقول أبي الطيب:

حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوب

فإذا نحن نرى فيها الآن حُسْنًا جلبه أبو العلاء، فأحسن تقديره وأقره في نصابه، ثم انظر إلى الطباق في قوله:

يعالون عن غور العراق لينحطوا

كيف أحسن الملاءمة بينه وبين هذا الأسلوب البدوي الجميل، ثم لم يزل يصف الشام والجزيرة وما فيهما، من فتنٍ سياسيةٍ وصفًا بدويًّا، حتى وصل إلى بغداد، ففرغ لخطاب صاحبه؛ فهذا الحرص الشديد على بداوة اللفظ والأسلوب، مع اصطناع البديع وألوان الزينة يُمثِّل لنا شيئين؛ أحدهما: تأثير هذا القانون الصارم في شعره حتى باعد بينه وبين شعر العصر الذي قِيلَ فيه، كما باعد بين الشاعر وبين غيره من معاصريه، والثاني: أثر الدرس اللغوي الذي عكف عليه أبو العلاء، بعد رجوعه إلى المعرَّةِ. فقد يُخيَّلُ إلينا أنَّ هذا الدرس نفسه هو الذي أوحى إليه باستعمال كلمة أنطى، ولولا أنه مرَّ بها بينما كان يفسر بيتًا غريبًا لما وجدت إلى شعره من سبيل، على أنَّ صرامة هذا القانون وتأثير هذا الدرس لم يستطيعا أنْ يقطعا ما بين الرجل وبين عصره من الصلة في الأسلوب الشعري، فما زالت تجمعه به أسباب البديع والتظرف بالاصطلاحات العلمية.

يكاد التكلف لا يوجد في شعر أبي العلاء لهذا الطور، إلا أنْ يضطر إلى نظم شيءٍ ليس مما يتناوله الشعر، وما نحسب أنَّ ذلك وقع له إلا في قوله من القصيدة التي بعث بها إلى أبي القاسم التنوخي:

سألته قبل يوم السير مبعثه
إليك ديوان تيم اللات ما ليتا

فانظر: كيف اضطره التكلف، إلى أنْ يضع المصدر الميمي موضعًا إنْ قَبِلَهُ النحو فلن يقبله الذوق، وكيف اضطرته القافية إلى جناسٍ هو أشبه بالرطانة، وأدنى إلى التنافر، الذي يمجُّه السمع ويثقل به اللسان.

أبو العلاء في هذا الطور بدويُّ اللفظ والأسلوب، قليل التكلف والمبالغة، ولكن شعره يُمثِّل شخصه تمثيلًا صحيحًا، بحيث إنك إذا درست حياته، ثم عرض لك من شعره ما لا تعلم أنه له، لم تشك في أنَّ هذا الشعر يمثل نفس أبي العلاء. ومصدر ذلك أنَّ غير أبي العلاء من الشعراء قلما يفكرون في أنفسهم أو يعترفون بها، فهم يُفْنُونَها فيما يحاولون أنْ ينظموا الشعر فيه، فإذا مدحوا فنيت قوتهم في الممدوح. أما أبو العلاء فقد كان شديد الاعتراف بنفسه، كثير التفكير فيها، لا ينزل عنها ليتقن مدحًا أو يحسن وصفًا، وإذ كان محبًّا أو مكرهًا على أنْ تظهر نفسه في جميع أعماله، وكانت نفسه ممتازةً كما قدمنا، فلا جرم كان شعره كنفسه، ممتازًا أشد الامتياز.

أبو العلاء كما مَثَّل شخصيته في شعره الناضج، مَثَّل عواطفه أيضًا حتى إنك لتكاد إذا قرأت البيت من هذا الشعر، تُحلِّله إلى تلك العواطف التي ائتلف منها تحليلًا دقيقًا، من غير أنْ يلقاك في كل ذلك كبير عناءٍ؛ فانظر إلى قوله:

أثارني عنكم أمران والدةٌ
لم ألقها وثراءٌ عاد مسفوتا

وابحث عما يؤلفه من العواطف تجد أنه يأتلف من عواطف ثلاثٍ؛ الأولى: حزنه على بغداد، والثانية: حزنه على فقد والدته وأنه لم يُوفَّق إلى لقائها، والثالثة: تألُّمه من الفقر وقلة المال. فإذا شئت أنْ ترُدَّ هذه العواطف الثلاث إلى أصولها التي كوَّنتها، وعللها التي اشتركت فيها، رأيته إنما يحزن على بغداد؛ لأنه فارق فيها ما كان يهوى من دور العلم ومجالس المناظرة، وما كان يحب من الأصدقاء والأصفياء، وما كان يؤمل من الثروة وحسن الحال، ثم ما اضطر إليه من الفشل والجوع إلى حيث لا يحب أنْ يكون، وإنما يحزن على فقد والدته؛ لأنه يذكر فيها برها به، وعطفها عليه، ومعونتها له على حوادث الزمان، وأنه فقد مِنْها نصيرًا كان يغني عنه غير قليل. وإنما يألم من الفقر؛ لأنه هو الذي قص جناحه، وقصر باعه، وحال بينه وبين ما يريد، وجعل موقفه من آماله موقف من تغريه الرغبة، ويثنيه العجز. فإذا سألت التَّاريخ عن هذا البيت، أصادقٌ هو فيما يصف من أمر صاحبه؟ أنبأك بأنه صادقٌ من غير ريبٍ. ثم إذا سألت قواعد الفن عن هذا البيت، أمستجمعٌ هو لشرائط الشعر؟ حدثتك بأنه لا ينقصه منها شيءٌ؛ لأنه يستطيع أنْ يبلغ من القلب الحساس موضع التأثير، وإنْ لم يستعن على ذلك بالخيال. لقد ذكرنا لفظ الخيال، فمن الحق علينا أنْ نبين أنَّ عمل الخيال قليل في هذا الطور من أطوار أبي العلاء، وذلك واضحٌ إذا لاحظنا أنه لم يكن يحيا حياة شاعرٍ! بل حياة فيلسوفٍ، فليس الخيال هو الذي يمد شاعريته في هذا الطور، وإنما هي حياةٌ كانت في نفسها شاعرةً، تأتلف من أطوارٍ مؤثرةٍ، في كل قلبٍ رقيقٍ.

التقسيم الثاني لسقط الزند

الآن نقسم سقط الزند باعتبار ما يشتمل عليه من الفنون، بعد أنْ قسمناه باعتبار ما اختلف على صاحبه من الأطوار. يشتمل سقط الزند على المدح والفخر، والوصف والرثاء، والنسيب، وليس فيه من الهجاء شيءٌ، ولم يتعرض لوصف الخمر، ولا الصيد، ولا الغلمان، وليس فيه من فن الحكمة والحماسة إلا ما يمكن أنْ يلم به في طريقه، إلى المدح أو الفخر أو النسيب. وهذا واضح، فإن حياة أبي العلاء لم تكن حياة لهوٍ ولعبٍ فيصف الخمر والغلمان، وكان ذهاب بصره حائلًا بينه وبين الصيد والحرب، فلم يكن من المعقول أنْ ينظم في هذه الفنون قصائد خاصةً، فأما الحكمة فقد خصص لها أكثر من كتابٍ؛ ولذلك لم يودع سقط الزند من قصائده الخلقية شيئًا. ونحن باحثون عن هذه الفنون فنًّا فنًّا، حتى يكون البحث مفصلًا مستوفى، وحتى نفهم أبا العلاء في آدابه كما فهمناه في حياته.

المدح

أكثر سقط الزند إنما يأتلف من المدائح، ولكنا مضطرون إلى أنْ نقسم هذه المدائح قسمين؛ الأول: قصائد أنشأها ابتداءً وقصد بها إلى شخص خياليٍّ أو موجودٍ، وهذه القصائد هي التي يصح أنْ نبحث عنها، أكانت تنظم لنيل الصلات؟ وإذا كان أبو العلاء قد حدثنا في مقدمة كتابه أنه لم يتكسب بشعره فقد أراحنا من البحث؛ لأنه عندنا صادقٌ مأمونٌ. الثاني: قصائد لم ينظمها إلا ليجيب بها شاعرًا مدحه، أو صديقًا كتب إليه، وبين هذين النوعين من المدح فرقٌ ظاهرٌ.

ذلك أنَّ النوع الأول تكثر فيه المبالغات، ويُفهَم فيه أثر الخيال؛ لأن الشاعر لا يريد به إلا إتقان الصناعة الفنية كما يفهمها، ثم هو لا يخشى أنْ يُرمَى بالغلو أو التقصير، بالقياس إلى شخص الممدوح؛ لأنه في أكثر الأحيان شخصٌ مخترعٌ، ثم هو لا يتشدد في اتقاء الضرورات الشعرية في هذا النوع؛ لأنه لا يخشى أنْ يلقاه ممدوحه بنقدٍ أو إنكارٍ، بخلاف النوع الثاني فإنه تقل فيه المبالغات قلةً ظاهرةً، وربما خلت منها القصيدة خلوًّا تامًّا. وأكثر ما يكون ذلك في كتبه إلى أصحابه ببغداد، ثم هو يتقي الضرورات الشعرية في هذا النوع ما استطاع؛ لأنه يحرص على ألا تكون قصيدته أقل من قصيدة صاحبه الذي يجيبه. والنوع الأول لا يمثل عواطف خاصةً؛ لأن أكثره منتحلٌ متكلفٌ، والنوع الثاني يمثل ما يجد الشاعر من عواطف الإخاء والإخلاص، ومن الحنين والشوق، ومن الحزن والأسى، ومن الإعظام والإكبار؛ لأنه لم ينظمه في أكثر الأحيان إلا متأثرًا بشيءٍ من هذه العواطف التي تكون بين الأصدقاء، والفرق ظاهرٌ بين شعرٍ نظمته الصناعة وحدها، وشعرٍ اشترك القلب في نظمه وتأليفه، والنوع الأول يقع كله في طور الشبيبة، والنوع الثاني يقع أكثره في طور العزلة. وتعليل ذلك ميسورٌ؛ فإن الرجل في شبيبته قد كان فارغًا لعبث الخيال، فأما في عزلته فقد شُغِل عن ذلك، وربما كانت أولى سقط الزند، أجمل قصائد النوع الأول، ومطلعها:

أعن وخد القلاص كشفت حالا
ومن عند الظلام طلبت مالا؟!

أما النوع الثاني فأكثره جيدٌ، وأظهره تائيته التي بعث بها إلى أبي القاسم التنوخي، وطائيته التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد، وعينيته التي بعث بها إلى عبد السلام بن الحسين البصري، وداليته التي بعث بها إلى خاله أبي القاسم، ونونيته التي بعث بها إلى الشريف أبي إبراهيم موسى بن إسحاق. ولقد كنا نود أنْ نصف هذه القصائد كلها، ونظهر القارئ على دقائقها، لولا أنَّ هذا يضطرنا إلى إطالةٍ ليست في موضوع الكتاب؛ فإن الوصف المفصل لقصائد أبي العلاء، يحتاج إلى كتابٍ خاصٍّ. على أنَّا مضطرون إلى أنْ نصف هذه النونية؛ لمزايا اختصت بها، ولكنا نرجئ ذلك إلى ما بعد الكلام عن الوصف؛ لأن الوصف والمدح يشتركان فيها اشتراكًا تامًّا.

الفخر

ليس في سقط الزند من الفخر شيءٌ كثيرٌ، وإنما هي قصائد قليلةٌ أنبلها اثنتان؛ أولاهما: الهمزية، التي مطلعها:

ورائي أمامٌ والأمام وراءُ
إذا أنا لم تكبرني الكبراءُ

وثانيتهما اللامية التي مطلعها:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ
عفافٌ وإقدامٌ وحزمٌ ونائلُ

فأما أولاها فقد خيل الشاعر فيها أنه يخاطب شخصًا بعينه، فقال:

تساور فحل الشعر أو ليث غابه
سفاهًا وأنت الناقة العشراء

وفيها للهجاء ظلٌّ ضئيل؛ إذ يقول:

ومذ قال إنَّ ابن اللئيمة شاعرٌ
ذوو الجهل مات الشعر والشعراء

وليس في القصيدة كبير معنى، إنما يفتخر الشاعر بنفسه وعزتها، وأمانيه وسعتها، وقومه وسلطانهم على الشعر، واستيلائهم على الأرض، وغناهم عن الناس، وافتقار النَّاس إلى ما عندهم من معروفٍ.

وأما الثانية فللحكمة والمثل منها حظٌّ موفورٌ، وللمبالغة والغلُوِّ فيها قسطٌ عظيمٌ، ولم يتجاوز الشاعر بها الكلام عن نفسه، والتمدح بكرم خلقه، وبُعْد همِّه. والحق أنَّ طبيعة أبي العلاء، لم تكن طبيعة الرجل الفخور؛ لأن الفخور يحتاج إلى طائفةٍ من الأخلاق لم يكن لأبي العلاء فيها حظٌّ، فهو يحتاج إلى القدرة على المين، والدفاع عنه، وإلى إكبار الصغير من أمره، وإصغار الكبير من أمر غيره، وإلى شيءٍ من الصفاقة يَحُول بينه وبين تأثير الحياء، ويمكنه من أنْ يلقى النَّاس بأكاذيبه وكأنه صادقٌ برٌّ، ولا سيما إذا لم يكن في حياته وحياة قومه ما يطلق لسانه بالفخر. وقد قدمنا أنَّ خلق الحياء قد كان أقوى الأخلاق سلطانًا على نفس أبي العلاء، فليس له إلى أنْ يغلو في إعلان المين سبيلٌ. ومما لا شك فيه أنَّ أبا العلاء لم يفتخر إلا في الطور الثاني والأول من حياته، فأما الطور الثالث فقد شغلته الفلسفة فيه عن الفخر، والفخر أشدُّ المعاني مناقضةً للفلسفة، ومضادة للحكمة، وكيف يفتخر بزينة الحياة رجلٌ كان يرى الحياة شرًّا محتومًا، ويرى الخير كله في الفناء؟!

الوصف

مثل أبي العلاء لا يتقن من الوصف ما يحتاج إلى الإبصار، وإنما يتقن وصف ما يحيط به علمه من غير المبصرات، فإن تناول الأشياء المبصرة، فوصفها وفصَّل أجزاءها وحدودها، فليس يخلو من إحدى اثنتين: إما أنْ يكون عيالًا على غيره من الوصاف المبصرين، فيأخذ عنهم ما قالوا، وينفخ فيه من نظمه روحًا خاصًّا، وليس هو في هذه الحال واصفًا ولا شاعرًا وإنما هو نظامٌ، وإما أنْ يملكه الغرور، ويأخذه العجب، فيتناول الأشياء المبصرة بالوصف، والتفصيل من غير أنْ يأتم بغيره، أو يترسم خطو شاعرٍ آخر، وهو في هذه الحال عرضة الخطأ الشائن، والسخف الكثير.

ذلك أنَّ إجادة الوصف الشعري لشيءٍ من الأشياء، تقتضي أنْ يُحدِّق الشاعر فيما يريد أنْ يصفه تحديقًا يظهره على دقائقه، ويرسمها في نفسه رسمًا يمس عواطفه وخياله حتى ينطلق لسانه بوصف هذا الشيء نقلًا عما تركت صورته في خياله وقلبه، من الشكل المفصل والتأثير الشديد. ومن الواضح أنَّ ضريرًا كأبي العلاء ليس له إلى ذلك سبيلٌ، فإذا كانت له إجادةٌ في الوصف فإنما هي في وصف الأشياء المعنوية؛ كاللذة والألم وكالحزن والفرح، وكألوان القول وفنون الكلام.

وقد درسنا ما عرض له أبو العلاء من الوصف، فإذا هو لم يَعْدُ هذه الأشياء، وإذا هو حين تعرض لوصف المبصرات قد حرص كل الحرص على تقليد النَّاس فيما قالوه. ولقد يغتر بعض الباحثين بما يجد في شعره، من وصف النجوم ومواقعها وحركاتها، ومن وصف السيف وروائه، والفرس وأجزائه، ولكنه إنْ أُعجِب بذلك فإنما يُعجَب بشيءٍ ليس لأبي العلاء فيه إلا الرواية وحسن التنسيق، فهو في الحقيقة يستطرف شيئًا تليدًا. ولو أنه استطاع أنْ يدرس من الأدب والعلم ما درس أبو العلاء من غير أنْ يفوته منه شيءٌ، لكان من اليسير عليه أنْ يَرُدَّ هذه الأوصاف المبصرة إلى مصادرها. ولقد كنا نود ذلك، ولكنا لم نُوفَّق إلى أكثر ما درس أبو العلاء في حياته الطويلة كما قدمنا في المقالة الثانية، ونحن بعد ذلك نخشى الإطالة ونتجنب كثرة التفصيل، ونرى أنَّ الوصول إلى هذا الغرض يحتاج إلى كتبٍ خاصةٍ تُفرَد له، على أنا نقنع الآن بالإشارة إلى المصادر العامة التي يأخذ منها المكفوفون ما يطرقون من أوصاف المادة، فأولها: ما يقرأون ويستظهرون من الشعر والنثر الذي أنشأه المبصرون، والثاني: ما يرثون من الأساطير القديمة، والثالث: ما يسمعون من أحاديث الناس، والرابع: ما يجدون في كتب العلم من خصائص الأشياء.

هذه المصادر تشترك في إمداد المكفوفين، بما تجد في كلامهم من وصف المبصرات، فأبو العلاء إذا وصف النجوم فليس يعدو هذه المصادر في وصفه، ولكن أثر الأساطير في هذا الوصف شديدٌ.

ذلك أنَّ الشاعر يحس من نفسه القصور، عن أنْ يبلغ شأو المبصرين في هذا الفن، فيحتال في أنْ يعوض شعره من هذا القصور، ما يزين لفظه ويُجمِّل معناه، وما يُصبي إليه النفوس، ويستهوي إليه الأفئدة، ولن ترى كالأساطير مؤديًا لهذا الغرض، وموصلًا إلى هذه الغاية؛ فإنها على ما لها من جمال الخيال، تثير في النفس عاطفة الكلف بالقديم والحنين إليه، ولهذه العاطفة في نفس الإنسان أثرٌ غير قليل.

وقد آن لنا أنْ نستدل على هذه القضية بالأدلة الظاهرة من شعر أبي العلاء، ولسنا نختار لهذا الاستدلال إلا نونيته التي وَعَدْنا بوصفها عند الكلام على ما لأبي العلاء من المديح.

بدأ أبو العلاء هذه القصيدة بقوله:

عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني

فوصف الأماني بالبياض، لا لأنه يعقل هذا اللون، فقد حدثنا أنه لا يعقل من الألوان إلا الحمرة؛ بل لأنه رأى النَّاس يَصِفون الجميل بهذا اللون، ويستبشرون به فيما لهم من النظم والنثر والحديث، وهو بعد يريد أنْ يصف أمانيه بالحسن، وقد حفظ أنَّ الظلام لونه السواد، فطابق بين هذين اللونين، وطابق بين فناء الأماني البيض وبقاء الظلام الحالك؛ إشارةً إلى اليأس وانقطاع الرجاء من لذات الحياة، وسأل صاحبيه أنْ يعللاه بما عندهما من خيرٍ ليتلهى عن احتمال هذه الحياة المفعمة باليأس والقنوط، فكان لهذا الطباق صورةٌ خاصةٌ مثلت ما في نفس الشاعر من عاطفة اليأس من المستقبل، والأسف على الماضي، فأثارت هذه الصورة في نفس القارئ عاطفة الرثاء له، والحزن عليه، ثم قال:

إن تناسيتما وداد أناسٍ
فاجعلاني من بعض من تذكران

وليس في هذا البيت من الوصف شيء، وإنما هو تذكيرٌ بالعهد، وإغراءٌ بالمحافظة عليه، ثم قال:

ربَّ ليلٍ كأنه الصبح في الحسـ
ـن وإنْ كان أسود الطيلسان

فشبَّه اللَّيلَ بالصبح لا في شيءٍ ماديٍّ بل فيما يمتع النفوس به من السرور والاطمئنان، ولفعه بطيلسان أسود كثيرًا ما لفعه به النَّاس من قبل، ثم قال:

قد ركضنا فيه إلى اللهو لما
وقف النجم وقفة الحيران

فوقف الثريا موقف الحيران وليس في ذلك إلا الدلالة على طول الليل، والمطابقة بين الركض والوقوف، ثم قال فيها:

ليلتي هذه عروسٌ من الزنـ
ـج عليها قلائدٌ من جُمانِ

وتشبيه الليل بالزنجي والنجوم بالدرر قديمٌ مطروقٌ، قد اتخذه الشعراء معنى شائعًا يبتذلونه ويصرفونه في أغراضهم، فليس لأبي العلاء في هذا التشبيه، إلا جعله الليلة عروسًا قد لبست من النجوم قلائد من جمانٍ.

وهذا التشبيه إنْ حسن وقعه على السمع، وعذبت ألفاظه على اللسان، ولم تنبُ صورته الظاهرة عن الخيال، فهو شديد النبو عن الحقيقة، بعيدٌ ما بينه وبينها من الأمد، فإن ذلك لا يتم إلا إذا كان ائتلاف النجوم، وانتظامها وموقعها من الليل، كائتلاف القلادة وموقعها من العروس. ومن الظاهر أنَّ الليل ليس كالعروس إلا في اللفظ، وأنَّ النجوم ليست كالقلادة إلا على طرف اللسان. ثم عرض أبو العلاء لوصف المعاني وهو لوصفها متقنٌ، وللتشبيه فيها مجيدٌ، فقال:

هرب النوم عن جفوني فيها
هرب الأمن عن فؤاد الجبان

فانظر إليه كيف أحسن التشبيه كل الإحسان، وأجاده أتم الإجادة، وإنما وُفِّق إلى ذلك حين لازم بين هرب النوم عن جفونه، وبين شيءٍ لم تألف النفس استحضاره، إذا استحضرت الأرق والسهاد، وهو هرب الأمن عن قلب الجبان، وإنما سبيله في ذلك التشبيه سبيل ابن الرومي في التشبيه المادي؛ إذ قال:

ولازوردية تزهو بزرقتها
وسط الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قاماتٍ ضعفن بها
أوائل النار في أطراف كبريت

ذلك أنَّ استحضار الكبريت في أطراف النار قد كثر وشاع، حتى لم تكبره النفوس ولم يحفل به الخيال، فإذا نظر الناظر إلى البنفسج لم يخطر له أنْ يتخيل في الروضة المونقة ذلك المنظر الذي يألفه في بيته، فلما ألَّف الشاعر بين هذين المنظرين المفترقين في استحضار النفس أشد الافتراق، وافق هذا التأليف من النفوس استغرابًا، ومن القلوب هوىً. وكذلك لزوم الروع قلب الجبان أمرٌ كثير الخطور بالبال والجريان على الألسنة، ولكن النَّاس لا يذكرونه إذا ذكروا السهر الذي يصيب المحزون لهمٍّ أو غرامٍ، فلما سبق أبو العلاء إلى التأليف بينهما وقف النفس منهما على غريبٍ غير مألوفٍ، بخلاف قول ابن المعتز في وصف الهلال:

انظر إليه كزورقٍ من فضةٍ
قد أثقلته حمولةٌ من عنبر

فإن النَّاس إذا استظرفوا هذا التشبيه أو أُعجِبوا به فسبيلهم سبيل من يُعجَب بأملٍ لن يظفر به، ولن يحصل عليه، ولو قد أُتِيح له مرآه لأتيحت له به السعادة ونعمة البال. ولعمري ما حدَّث ابن المعتز نفسه بأن يرى على صفحات دجلة يومًا ما زورقًا من الفضة تثقله حمولةٌ من العنبر، إنما تلك أحاديث النائم، وخطرفة الخيال، قال أبو العلاء بعد ذلك:

وكأن الهلال يهوى الثريَّا
فهما للوداع معتنقان

وليس لهذا البيت من الحسن إلا ما يثيره ذكر الهوى والوداع واعتناق العاشقين، فأما البيت فإنما يشير إلى اجتماع الهلال والثريا في برج الحمل — كما يقول الشراح. ولعمر أبي العلاء لو اعتنق هذان العاشقان لدهمت الفلك داهمة، ولأصابه الخطب العظيم، قال أبو العلاء بعد هذا:

وسهيل كوجنة الحبِّ في اللو
ن وقلب المحبِّ في الخفقان

فأخذ هذين التشبيهين مبصر الطرفين، وفيه تشبيه لون بلونٍ، والناس يصفون سهيلًا بحمرة الضوء، على أنَّ جمال التشبيه إنما جاء من لفظ المشبه به؛ لدلالته على ما تهوى النفوس من خدود الحسان، والتشبيه الثاني تشبيهٌ لشيءٍ تبصره العين، وهو حركة سهيل بشيءٍ آخر تصفه الكتب ويتحدث عنه الشعراء، وهو خفوق القلب. وجماله جاء من لفظ المشبه به أيضًا، لما يُخيَّل من شدة اضطراب قلب العاشق وسرعة خفقانه، ثم أخذ يصف سهيلًا بما في أحاديث العرب عن مواقع النجوم ووقائعها، فوقفه موقف الفارس يستعرض خصومه وجعل حمرته نجيع الدم الذي خضَّبه به أعداؤه في تلك الحرب الخرافية، وجعل أختيه الشعريين تبكيان عليه، ثم ذكر نجمين خلفه يزعم العرب أنهما قدماء، ثم وصف الليل وقد وخطه المشيب بضوء الصباح. وهو قول الفرزدق:

والشيبُ ينهضُ في الشباب كأنَّهُ
ليلٌ يصيح بجانبيه نهار

ثم حدَّثنا بإشفاق الليل حين أصابه المشيب من هجر نجومه التي جعلها غواني حسانًا، بعد أنْ جعلها قبل ذلك قلائد من الجمان، فزعم أنَّ الليل قد ستر مشيبه، بتلك الحمرة التي تبدو عند الصبح، وسماها الشاعر زعفرانًا، ثم وصف النسر الواقع حين هم متباطئًا بالنفور، فزعم أنَّ النهار قد جرد عليه من ضيائه سيفًا فهمَّ بالطيران، ولعمر أبي العلاء لقد كان من حق هذا النسر أنْ يسرع بالطيران لا أن يهم به. ولما فرغ من أساطير الجاهلية عمد إلى أساطير الشيعة، يتقدم بها إلى صاحبه الهاشمي، فزعم أنَّ هذه الحمرة التي تسبق مطلع الفجر وتلحق مغرب الشمس، إنما هي شاهدان من دم علي وابنه الحسين، قد ثبتا في قميص الليل؛ ليستعديا اللهَ على خصومهما يوم الحساب. ومضى بعد ذلك في المدح، فأثنى على صاحبه بما كان للنبي من بلاءٍ في الغزو وغناءٍ في الدين، وذكر ما تقوله الشيعة من أنه أحد الخمسة الذين هم المقصودون بما في أنواع الكلام من لفظٍ ومعنى، ثم ذكر بني هاشمٍ وفضلهم وخص الممدوح وأولاده بالفضيلة، واعتذر إليه من تقصيره في إجابته. فلفظ القصيدة رقيقٌ جزلٌ، وأسلوبها حلوٌ عذبٌ، ومعانيها مستهويةٌ للقلوب، خلابةٌ للألباب، ولكن حظَّ الشاعر فيها إنما هو حظ الرجل، يتخير من الحديقة أحاسن الأزهار، فينسق منها طاقةً حسنة التنسيق؛ ليقدمها إلى صديقه، فله التنسيق ولغيره الاختراع والإيجاد، ذلك شأن أبي العلاء وغيره من المكفوفين فيما نرى لهم من وصف المبصرات، فإذا عرضوا لوصف المعاني بلغوا من إتقانه ما يشتهون.

الرثاء

ليس في سقط الزند من المراثي إلا قصائد سبعٌ، رثى الشاعر أمه منها باثنتين وبكى على أبيه بواحدةٍ، ونعى أبا الشريفين بواحدةٍ أخرى، واستعبر على أبي حمزة الفقيه بالخامسة، وابن جعفر بن علي بن المهذب بالسادسة، وذكر بالسابعة أبا إبراهيم العلوي.٢

حياة أبي العلاء المملوءة بالهموم والأحزان، وفلسفته المفعمة بالسخط على الوجود وما فيه، تعدانه للنبوغ في الرثاء، ولكنه رثى أباه طفلًا لم ينضج عقله، ولم تتكون فلسفته، ولم يظهر نبوغه، ولم تمتز عواطفه، فأخطأته الإجادة، ورثى أمه في آخر الطور الثاني وأول الطور الثالث؛ أي في عصر انتقاله من حالٍ إلى حال، واضطراب نفسه بين ماضٍ مؤلمٍ ومستقبلٍ مظلمٍ، وقبل أنْ تمتاز فلسفته وتتبين، فخضع لما أَلِف شعراء العرب أنْ يخضعوا له من إجادة النظم وإتقان الوصف، من غير أنْ يحفلوا بإظهار العواطف كما هي، وتمثيل النفس وأحزانها من غير تكلفٍ ولا تعملٍ؛ لذلك كان أبو العلاء في رثاء أمه واصفًا أكثر منه راثيًا، أما صديقه «أبو إبراهيم العلوي» فقد رثاه في طورٍ لا نعرفه، ولكن قصيدته في رثائه تخلو من المتانة والحزن معًا. وليس أبو العلاء على أبي الشريفين أشد حزنًا منه على صديقه أبي إبراهيم، وإنما هي قصيدةٌ أنشأتها المجاملة، وأثر فيها حب الإعجاب، فظهر فيها تكلف الحزن وتصنع البكاء. إنما الرثاء الجيد ما رثى به أبا حمزة وجعفر بن علي بن المهذب، فإنك لا تكاد تقرأ رثاء أبي حمزة، حتى تتمثل أبا العلاء بين يديك، ينشدك هذه القصيدة بصوت الحزين المطمئنِّ؛ صوت يمثلُ حزنًا قد فطر قلب الشاعر، وصدَّعَ كبده، واطمئنان قد منعه من إظهار الجزع الذي يذهب بوقار الفيلسوف. نعم، وصوت يصدر عن رجل يشترك عقله وقلبه في تأليف ما يقول، فللقلب تمثيل الحزن الشديد، وللعقل فهم الأشياء كما هي، ودعاء النفوس إلى اليأس من آمال الحياة، والصبر على آلامها.

نعتقد أنَّ العرب لم ينظموا في جاهليتهم وإسلامهم، ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدةً تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء، نتهم ذوقنا ونتهم أنفسنا بالتعصب لأبي العلاء إشفاقًا على الآداب العربية، ألا يكون فيها من الرثاء الجيد ما يعدل هذه القصيدة؟! ولكنا نضطر بعد الدرس وإجادة البحث إلى تبرئة أنفسنا من هذه التهمة.

غَيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي
نَوْحُ باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيهٌ صوت النَّعِيِّ إذا قيـ
ـسَ بصوت البشير في كل نادِ
أَبَكَتْ تلكم الحمامة أم غنـْ
ـنَت على فرع غصنها الميادِ؟!

أي معنىً أصحُّ وأي لفظٍ أمتن؟! أي أسلوبٍ أرقُّ وأيُّ تركيبٍ أرصن؟! أي معرض يستثير حزن القلوب ويستنزف ماء الشئون؟! أترى أنَّ البكاء يردُّ مفقودًا، وأنَّ الغناء يحفظ موجودًا؟! أليس استيلاء الضعف على نفسك وعبثه بِلُبِّك هو الذي يحزنك لصوت الناعي، ويطربك لصوت البشير؟! أليس الاستبشار بالشيء مقدمة حزنٍ عليه؟! أرأيت حزنك يعظم على الهالك، إنْ لم يكن حرصك عليه شديدًا، وحبك له موفورًا، وأنسك بقربه عظيمًا؟! أرأيتك لو صدقت نفسك الحديث ووطنتها على احتمال الأشياء كما هي، تجد كبير فرق بين الخير والشر؟!

إنَّ حزنًا في ساعة الموت أضعا
ف سرورٍ في ساعة الميلادِ

أترى أنَّ الشاعر يكذب في ذلك أو يَمِينُ؟!

صاحِ هذي قبورنا تملأ الرُّحـ
ـبَ فأين القبور من عهد عاد؟!
خفِّف الوطء ما أظنُّ أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ
سِرْ إنْ اسطعتَ في الهواء رويدًا
لا اختيالًا على رفات العبادِ!
فقبيحٌ بنا وإنْ قدُمَ العهـ
ـد هوان الآباء والأجداد
انظر إليه: كيف أحسن المزج بين رأيه الفلسفي في انحلال الأجسام إلى عناصرها،٣ وبين ما أراد من البكاء على الهالكين والعزاء للباقين، والأمر بالتواضع والعظة، والنهي عن الخيلاء والاستكبار. كلُّ ذلك في لفظٍ لا يطمع الناقد في أن يجد إلى نقده سبيلًا:
أبنات الهديل أسعدن أو عد
ن قليل العزاء بالإسعادِ
إيهِ لله دَرُّكنَّ فأنتنْ
نَ اللواتي يُحسِنَّ حفظ الوداد

ألم ترَ إليه كيف يئس من وفاء الناس، ومال مع الخيال إلى بنات الهديل، فاستعانهن على مصيبته، واستبكاهُنَّ لنازلته؟! وكيف جعل أول هذين البيتين موسيقي اللفظ حين تعرض لنجوى الحمائم؟!

كيف أصبحت في مكانك بعدي
يا جديرًا مني بحسن افتقاد؟!

فانظر، كيف تتمثل أحزان الشاعر وعبراته في هذا البيت، وكيف يظهر إشفاقه على صاحبه، وتذكره لعهده القديم؟

القصيدة كلها من هذا النحو، والإطالة في وصفها ليست من شرط الكتاب، أما رثاؤه لجعفر بن علي بن المهذب فقد غلبت عليه الحكمة، حتى كادت لا تكون إلا قصيدةً نُظِمت في فلسفة الموت،٤ وقلما رأيت فيها بيتًا إلا وهو يصلح لأن يكون مثلًا سائرًا، وحكمةً جاريةً على الألسنة. وعلى الجملة، فإن إجادة أبي العلاء لفن الرثاء تنحصر في هاتين القصيدتين، وعندنا أنه قد بزَّ بهما شعراء الرثاء جميعًا في الجاهلية والإسلام.

النسيب

نظلم أبا العلاء إنْ وصفناه بإجادة الغزل، وإنما هو رجلٌ ضريرٌ مفجعٌ، قد ملكه الزهد وحالت فلسفته بينه وبين لذات الحياة؛ فلم يرقص قلبه لموعد وصالٍ، ولم يجب لوشك ارتحالٍ، ولم يسمع من أحاديث الغيد الحسان، ولا شرب من رهينة الدنان ما يطلق لسانه بالنسيب الغريب والغزل الرقيق، إنما هي مقطوعاتٌ نظمها نظمًا فنيًّا، لا مدخل للقلب فيه، ولا سبيل للوجدان عليه.٥

الدرعيات

درسنا الدرعيات درسًا خاصًّا رجاء أن نجد فيها ما يبين العلة التي اقتضت كلف أبي العلاء بالدروع، وإفراده لها قصائد خاصةً مع أنه لم يسبغها على جسمه قط؛ إذ كان لم يشهد حربًا ولا قتالًا، إنما كان جهاد مثله — كما يقول — الزهد وضبط النفس:

أجاهد بالظهارة حين أشتو
وذاك جهاد مثلي والرباط

لم ينتج لنا البحث إلا ما قدمناه في أول هذه المقالة، من الظن الذي لا نستطيع أن نجزم به. إذن؛ فليس من حق الدرعيات أن يشتد البحث عنها ويطول القول فيها، وإنما الحق لها أن تلحق بما في سقط الزند من الوصف؛ فإنها لا تتجاوز الافتنان في تشبيه الدرع بالغدير مرةً، وعين الجراد مرةً أخرى، وفي ذكر بلائها في تثليم السيوف وتحطيم الرماح، وحياطة الدراعين. واللهجة الجاهلية فيها غالبةٌ، والأسلوب البدوي فيها ظاهرٌ، والغريب بين ألفاظها كثيرٌ، وربما عمل الخيال في التأليف بين هذه الأوصاف الموروثة عن الجاهليين، فنظم الشاعر محاورةً بين الدرع والسيف، وأخرى بين غلامٍ وامرأةٍ باعت درع أبيه، وثالثةً عن لسان رجلٍ اضطر فباع درعه، وهو في كل ذلك لا يزيد عن اختراع الأساليب المختلفة، لنظم ما حفظ من وصف الشعراء للدروع.

اللزوميات

غير هذه المقالة أحق بوصف اللزوميات؛ لأنها إلى أن تكون كتابًا فلسفيًّا أقرب منها إلى أن تكون ديوانًا شعريًّا، وإنما نعرض لها الآن؛ لنصفها من الوجهة الأدبية وصفًا موجزًا. ولقد عملت اللزوميات عملًا غير قليلٍ في تكوين طائفةٍ من الخصائص الأدبية لأبي العلاء، وكما أنَّ سقط الزند قد خضع في نظمه لآرائه الفلسفية، فقد خضعت اللزوميات أيضًا لهذه الحياة، إلا أنَّ صرامة قانونه الفلسفي تُلمَس باليد في اللزوميات، ويحتاج الباحث إلى أنْ يدل عليها في سقط الزند.

لفظ اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم، هو شعار أبي العلاء في جميع أطوار حياته، بعد رجوعه من بغداد؛ فقد التزم في شعره ونثره وسيرته أشياء لم يلتزمها من قبل، ولم يكن من الحق عليه التزامها، وإنما آثرها حين راض نفسه على تكلف المشقة، واحتمال المكروه، فالتزم في اللزوميات أن تكون القافية على حرفين؛ أي أنْ يلتزم حرفًا لو أسقطه لما كان متجاوزًا قواعد القافية.

ليس أبو العلاء هو الذي سبق إلى اختراع هذا الفن من التكلف، بل قد سبقه إليه كثيرٌ في تائيته التي مطلعها:

خليليَّ هذا ربع عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلَّتِ

وذلك أنه التزم اللام إلى آخر القصيدة، ولو لم يلتزمها لم يلحقه بذلك عيب، ولم يدلنا تاريخ الآداب، على أنَّ كثيرًا قد التزم هذه اللام تكلُّفًا، أو وقع له التزامها من غير أنْ يرغب فيه، ومهما يكن من ذلك فكثيرٌ هو الذي اخترع هذا الفن. ولكن الشعراء لم يمالئوه عليه؛ لما يستتبع من المشقة في النظم ومن بسط سلطان اللفظ على المعنى. والعجب أنَّ الشعر العربي وحده، هو الذي يختص بالتزام قافيةٍ واحدةٍ في القصيدة، وإنْ طالت، فانظر كيف جاء كثيرٌ فأراد أنْ يضاعف هذه المشقة ويزيد عبئها ثقلًا!

أقبل أبو العلاء بعده بثلاثة قرونٍ، فالتزم طريقته ونظم عليها ديوانًا ضخمًا، وبالغ في التحرُّجِ حتى أخذ نفسه باستيفاء حروف المعجم كافةً، وما يلحقها من الحركات والسُّكونِ، فلكل حرفٍ أربعة فصولٍ، إلا الألف فإنها لا تكون إلا ساكنةً، فاشتمل الكتاب على ثلاثة عشر فصلًا ومائةٍ، ضمَّنها آراءه الفلسفية التي خصصنا لشرحها المقالة الخامسة. هذا التكلف اضطر أبا العلاء إلى المبالغة في اصطناع الغريب؛ ليقوم له بما يحتاج إليه من القافية، وقد عابه كثيرٌ من النَّاس بهذا التكلف، كابن الأثير في كتاب المثل السائر، والأستاذ الإسكندري، في كتابه الذي نثره في تاريخ الآداب العباسية، وعندنا أن كلا الرجلين، لم يُوفَّق في لومه على أبي العلاء؛ لأن أبا العلاء لم يضع هذا الكتاب على أنْ يكون ديوان شعرٍ، وإنما وضعه ليكون كتابًا فلسفيًّا — كما قدمنا. وقد اعترف الرجل نفسه بذلك في مقدمة الكتاب، واعتذر مما عسى أنْ يقع فيه، مما لا يوافق أساليب الشعراء، كما اعتذر من أنَّ الكتاب سينقصه الخيال الذي يعتمد عليه جمال الشِّعر؛ لأنه عاهد نفسه ألا يضع فيه إلا ما يعتقد أنه الحق، وأنه من الكذب والمين بريءٌ، والحق الخالص قليل الملاءمة لمذاهب الشعر وأهواء الشعراء، على أنَّ التكلف في اللزوميات لم يبلغ من الكثرة مبلغ أنْ يكون من عيوب الكتاب، وقد كان أبو العلاء كثير الحفظ والاستظهار، بصيرًا بنقد الشعر، فمن المعقول أنْ يتجنب العيب والزلل ما استطاع، وذلك هو الذي أنتجه لنا الدرس المستقصي لكتاب اللزوميات.

لم يُرِد أبو العلاء أنْ يُظهِر في كتاب اللزوميات، مقدرته اللغوية وبراعته في قرض الشعر، كما ظن طائفةٌ من الناس، وإنما سلك هذا المسلك فيما نعتقد، ليكون أدعى إلى إيثار الغريب والاستكثار منه، حتى تخفى أغراض الكتاب على كثيرٍ من الناس، لم يكن يحب أنْ يظهروا عليها، وهذا فيما نرى علة حبه للرمز والإيماء، وإيثار الألفاظ الجافية للمعاني الغريبة؛ فمما لا شك فيه أنَّ الرجل كان يودُّ لو عَمِي أمر كتابه، على ناسٍ من المتشددين في الدين حتى لا يتخذوه وسيلةً إلى إهدار دمه وإزهاق نفسه، فلا جرم آثر من الألفاظ والأساليب ما يصعب فهمه على هؤلاء الناس. وسترى في المقالة الخامسة أنَّ أبا العلاء ينص على أنه يصطنع الألغاز؛ لإخفاء أغراضه على كثير ممن يتناولون كتابه، فأما أنَّ اصطناع الألغاز في نفسه حسنٌ أو قبيحٌ في الدلالة على الآراء الفلسفية، فشيءٌ نعرض له في غير هذا الفصل.

أكثر اللزوميات متين اللفظ، فخم الأسلوب، وقليلٌ منها السهل الرقيق، والاصطلاحات العلمية منبثةٌ فيها بغير حسابٍ، حتى إنه في قصيدةٍ واحدةٍ استعار من علماء الشعر والصرف والعروض والفقه، فقال:

ما لي غدوتُ كقاف رؤبة قيدت
في الدهر لم يقدر لها إجراؤها؟!

أشار إلى قافية رؤبة يقول فيها:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق
مشتبه الأعلام لمَّاعِ الخفق

وقال:

أُعلِلتُ علة قال وهي قديمةٌ
أعيا الأطبَّة كلهم إبراؤها

فاستعار من علماء التصريف، وقال:

وإذا النفوس تجاوزت أقدارها
حدو البعوض تغيَّرتْ سجراؤها
كصحيحة الأوزان زادتها القوى
حرفًا فبان لسامعٍ نكراؤها

فاستعار من أصحاب العروض، وقال:

ووجدت دنيانا تشابه طامثًا
لا تستقيم لناكحٍ أقراؤها

فاستعار من الفقهاء، وقد استعار في قصيدةٍ أخرى من علماء القافية، فقال:

وكأنما هذا الزمان قصيدةٌ
ما اضطرَّ شاعرها إلى إيطائها

والعروض في اللزوميات كثيرٌ، لا يخلو منه فصلٌ من الكتاب، وكذلك القافية والنحو والصرف، وذلك يدل على شدة تأثير الدرس اللغوي في ملكته الشعرية، والعجيب أنك تلقى في هذه الاصطلاحات المستعارة، تشبيهاتٍ صحيحةً جيدة، مع أنها في أنفسها أبعد ما تكون من ظرف الشعراء، أما الاصطلاحات الفلسفية فليس لنا أنْ ندل على انتشارها في الكتاب؛ لأن ذلك حقها الفطري؛ إذ الفلسفة هي المقصودة بتأليف الكتاب، ولأبي العلاء في اللزوميات خصائص ليست في غيره، فمنها سلوكه في الشعر مسلك المؤلفين في النثر، كأن يورد اللفظ المحتمل معنيين، فيضطر إلى تفسيره؛ كقوله:

وكل أديب أي سيدعى إلى الردى
من الأدب لا أن الفتى يتأدب

وقوله:

نُوديت ألويت فانزل لا يراد أتى
سيرى لوى الرَّمْل بل للنبت إلواء

وهذا في اللزوميات كثيرٌ، والبديع منتثر في اللزوميات محتكم فيها، ولكن أبا العلاء اختار في استعمال الجناس أسلوبًا يوشك أنْ يكون مقصورًا عليه؛ ذلك أنْ يعقد المجانسة بين أول كلمةٍ في البيت وآخر كلمةٍ منه، في جملة القصيدة أو أكثرها؛ كقوله:

إثران من خير وشرٍّ لنا
ويلحق التثريب أثرانا
عمران مرَّا لكبيرٍ ولا
يترك للدامر عمرانا

ومثل ذلك كثيرٌ، والأمثال السائرة في اللزوميات أكثر من أنْ يحصيها العدُّ، وكثرتها معقولةٌ في كتاب حظ الأخلاق منه عظيمٌ. ولأبي العلاء نوعٌ من الشعر في اللزوميات، ذهب فيه مذهب مناجاة الحيوان، فحاور الديك والحمامة، والذئب والشاة والجمل، وهذا النوع من شعره عذبٌ حلوٌ يفيض رحمةً ورقةً.

لم يُوضَع اللزوميات في وقت معروفٍ، ولكنه نُظِم في الطور الثالث من غير شكٍّ، ومن قصائده ما يُعيِّن التَّاريخُ لنا وَقْتَها كالتي نظمها في استيلاء صالحٍ على حلب، وفي حصاره للمعرَّةِ ونحو ذلك.

كلمة عامة في شعره

الآن، وقد فرغنا من الوصف الخاص لشعر أبي العلاء، ينبغي أنْ نفي بما وعدنا به من الوصف العام لهذا الشعر، فنذكر خصائصه التي تميزه من غيره، فأول هذه الخصائص غموض الأغراض، وذلك ظاهرٌ في سقط الزند والدرعيات واللزوميات جميعًا؛ فإنك تقرأ القصيدة من شعر أبي العلاء، وقد فهمت ألفاظها المفردة، فلا تكاد تفهم معانيها، حتى تُعنَى بتفهمها عناية خاصةً، ولئن صح أنَّ هذا الغموض مقصودٌ في اللزوميات، فلا شك في أنه غير مقصود في سقط الزند؛ أي مصدره شيءٌ في نفس الشاعر. ولسنا في حاجةٍ إلى أنْ نبحث عن هذا الشيء بعدما بيَّنه لنا أبو العلاء في قوله: «إنه وحشي الغريزة، إنسيُّ الولادة.» فهذه الغريزة الوحشية، يستحيل أنْ يصدر عنها إنسيُّ الشعر، وكما أنَّ صاحبها غريب الأطوار فشعره وآثاره الأدبية ينبغي أنْ تكون مثله. على أنَّ هذه الغريزة الوحشية، لم يشتدَّ تأثيرها في شعر الرجل، إلا بعد أنْ اعتزل النَّاس وأخذ نفسه بهذا القانون الصارم الذي قدَّمنا وصفه، فأعان هذه الغريزة على وحشيتها واشتداد آثارها.

أما في طوره الثاني، فلم يبلغ الغموض من القوة ما بلغه في الطور الثالث؛ وذلك لأن أبا العلاء كان شديد الحرص فيه على التقليد والاحتذاء، وعلى أنْ يتصل في شعره بأهل عصره. ومن هنا، ظهر روح المتنبي في أشعار هذا الطور، حتى إنك لتقرأ لاميته التي مطلعها:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل

فيُخيَّلُ إليك أنك إنما تقرأ في ديوان المتنبي، على أنَّ أبا العلاء قد تأثر بغير المتنبي من الشعراء، فتكاد تلمح ابن الرومي في نونيته التي مطلعها:

علاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني

ومصدر ذلك شدة عنايته بالشعر العباسي درسًا وتحصيلًا، فسترى أنه شرح ديوان البحتري والمتنبي وأبي تمامٍ.

وللعلوم الفلسفية تأثيرٌ ظاهرٌ في شعر أبي العلاء غير اللزوميات؛ فإنك تجده في سقط الزند وفي الدرعيات شديد الحرص على القصد في الألفاظ والمعاني، وعلى تحقيق خواطره الشعرية تحقيقًا يشتد أحيانًا حتى يملكه الاصطلاح العلمي، فيقول:

مقيم النصل في طرفي نقيضٍ
يكون تباينٌ منه اشتكالا
تبين فوقه ضحضاح ماءٍ
وتبصر فيه للنار اشتعالا

ويقول:

والكبر والحمد ضدَّان اتفاقهما
مثل اتفاق فتاء السن والكبر

فقوله في طرفي نقيضٍ وضدان، إنما هو من ألفاظ المنطق، وكذلك التباين والاشتكال.

ولأبي العلاء في أشعار الطور الأول والثاني ألفاظٌ وأساليب جاوز فيها المقيس من قواعد النحو؛ كاستعماله «هأنا» من غير اسم الإشارة، وإنما يُستعمَل معه؛ لأن ها التنبيه لا تدخل على الضمير منفردًا، وذلك في قوله: «فهأنا لا أخون ولا أُخَان.» ومصدر هذا الخطأ إنما هو تقليده للمتنبي الذي كان يثق بطبعه، ولا يتقيَّد بقواعد النحو. فلما كان الطور الثالث من أطوار أبي العلاء، حرص أشد الحرص على تأثر الأقدمين في نظمهم، فأصبح شعره من الصحة بحيث يبلغ منزلة الاستشهاد به.

وقد بينا أنَّ الشعر الجيد حقًّا لأبي العلاء، إنما هو شعر الطور الثالث؛ لأن شخصية الشاعر وعواطفه تظهر فيه.

تكاد العاطفة الدينية لا تظهر في سقط الزند، بل ربما نمَّ هذا الكتاب على الشاعر بضعف الأثر الديني في شبيبته، وأنه لا يتخذ هذا الأثر إلا لونًا ظاهرًا، وليس حظ الدين من سقط الزند، بأكثر من حظه في الدرعيات؛ أي إنه لا يكاد يُوجَد ولا يُحَسُّ، فأما اللزوميات فبيان الأثر الديني فيها يتصل بغير هذا الفصل.

من هنا، يظهر أنَّ أبا العلاء قد كان شاعرًا كشعراء عصره في الطور الثاني، ثم أصبح في الطور الثالث متميزًا في نفسه بخصائصه التي قدمناها، فمن الحق أنه قلد المتنبي، ولكن من الحق أنَّ هذا التقليد قد كان في عصر الشبيبة وحده، ولقد يزعم أناسٌ أنَّ أبا العلاء ليس إلا صورة من صور المتنبي، وهو وهمٌ مصدره قلة الدرس الصحيح؛ فإن أبا العلاء كما قدَّمنا شديد الاعتراف بشخصيته، قليل الفناء في غيره، فإذا شئنا أنْ نقارن بينه وبين المتنبي، كانت الفروق بينهما ظاهرةً واضحةً.

فالمتنبي واضح اللفظ ناصع الأسلوب، وأبو العلاء غامضهما غموضًا ما، والمتنبي حكيمٌ ينتحل الحكمة ويتكلف الفلسفة، وأبو العلاء حكيمٌ حقًّا وفيلسوفٌ لا يعرف التكلف ولا الانتحال، والمتنبي متكسب بشعره، وأبو العلاء لم يذق لشعره ثمرةً ماديةُ في حياته، والمتنبي على رفعة قدره وعزة نفسه محبٌّ للدنيا متهالكٌ عليها، قد مدح الملوك والأمراء والوزراء لنيل الثروة أو الإمارة، وأبو العلاء مبغضٌ للدنيا، زاهدٌ فيها، مزدرٍ لطلابها. ولقد ظل أبو الطيب يكدح طول حياته في طلب الدنيا حتى قتلته، بينما ظلت الدنيا تكدح في طلب أبي العلاء حتى قتلها.

هذه فروقٌ ظاهرةٌ بين الرجلين في سيرتهما وأخلاقهما، ولها الأثر العظيم في شعرهما، ولقد كان المتنبي متكبرًا تياهًا، وكان مع كبره وتيهه لا يأنف أنْ يرتزق بالشعر، أما أبو العلاء فكان متواضعًا، وكان مع تواضعه، يأنف أنْ يكون لأحدٍ عليه فضلٌ؛ فحبُّ المال والتماسه من الملوك والأمراء، اندفع بالمتنبي إلى الكذب والمين، وجعل حكمته صنعةً، وفلسفته شركًا لاصطياد الأموال. والاستهانة بأمر الدنيا جعلت أبا العلاء شديد الحرص على الصدق، عظيم الحذر من انتحال الزور، فكانت حكمته صادقةً، وفلسفته فطريةً.

ومن هنا استجاب المتنبي إلى الخيال، وامتنع أبو العلاء عليه، وكان المتنبي غنيًّا شحيحًا، وكان أبو العلاء فقيرًا كريمًا، وكان المتنبي شديد الحرية في اللغة، لا يحفل بالقياس، ولا يأبه للقواعد، ولا يعنيه أنْ يتأثر الطريقة القديمة بل يبيح لنفسه أنْ يخترع الأساليب، وأنْ يخالف القواعد إلى النظم، حتى كثر قول النَّاس فيه وطعنهم عليه، وقد سلك أبو العلاء طريق المتنبي في الطور الثاني من حياته، ثم بدا له فعدل عنه، واتخذ طريق الجاهليين والإسلاميين من العرب، غير مفرِّطٍ في حظه من أساليب عصره، فقد اصطنع البديع وهو حضريٌّ مهلهلٌ فكساه ثوبًا من ثياب البادية.

وعلى الجملة، كان شعر أبي العلاء في عصره كالذي يسميه الفرنج الآن «كلاسيك»، وكان شعر المتنبي يوشك أنْ يكون حرًّا لولا أنه التزم طريقة العرب في الوزن والقافية. ولعلَّ الدرس اللغويَّ الذي لزم أبا العلاء بمعرَّة النعمان تسعًا وأربعين سنةً، هو الذي جعله أعرابي الشعر والنثر، وإنْ أبت فلسفته أنْ تُسبِغ على شعره ثوب السذاجة البدوية؛ فالبيت من الشعر يقوله الأعرابي متين اللفظ والأسلوب، ساذج المعنى، قليل التركيب، أما المعري فله من البداوة متانة اللفظ والأسلوب، فأما سذاجة المعنى وقلة تركيبه فليس لأبي العلاء منهما شيءٌ.

ومن المعقول ألا يكون له منهما حظٌّ، فإن الدرس اللغويَّ قادرٌ على إصلاح مَلَكته لا على مسخها، وليس من الممكن أنْ ينتج الدرس المتعمِّقُ في اللغة والفلسفة جميعًا إلا هذا المزاج؛ للفلسفة المعنى والتصور، وللغة اللفظ والأسلوب. والمتنبي وإنْ كثرت في شعره الألفاظ الفلسفية لا يبلغ مبلغ أبي العلاء في كثرة الاصطلاحات العلمية في كل فنٍّ.

وليس شيءٌ من ذلك لأحدهما بعيبٍ، ولكنه يدلُّ على أنَّ أبا العلاء كان أكثر من أبي الطيب تحصيلًا للعلم، واستظهارًا لفنونه، واحتكامًا في ألفاظه واصطلاحاته. وتصرف أبي العلاء باصطلاحات العلم هذا النحو من التصرف، كسب شعره ظرفًا ليس لأبي الطيب.

وكلا الشاعرين عفيف اللفظ لا يعرض للفحش ولا للخناء، إلا أنَّ للمتنبي كثيرًا من الغناء الجميل، وشيئًا من الهجاء المقذع، أما أبو العلاء فلم يكن له من هذا الفن شيءٌ. وأبو الطيب فخورٌ محسنٌ للفخر، وأبو العلاء دون منزلته في هذا الفن أيضًا، وأبو الطيب مدَّاحٌ مُجِيدٌ، وأبو العلاء حين كره الخيال لم يُحسن هذا الفن، وكلا الشاعرين يُجِيد الرثاء، إلا أنَّ أبا العلاء على إقلاله في هذا الفن أحذق من المتنبي فيه.

وليس في شعراء العرب كافةً، من يشارك أبا العلاء في خصال امتاز بها، منها أنه أحدث فنًّا في الشعر، لم يعرفه النَّاس من قبل، وهو الشعر الفلسفي الذي وضع فيه كتاب اللزوميات، وربما خُيِّل إلى النَّاس أنَّ الشعر الفلسفي قديمٌ عند العرب، نظم فيه زهيرٌ، وعديُّ بن زيدٍ، وأبو العتاهية وأبو الطيب؛ لأنهم طرقوا فنون الحكمة والزهد، وأنواع العبرة والعظة. ولكن هذا النوع من الشعر غير الذي أنشأه أبو العلاء، إنما أنشأ أبو العلاء فنًّا من الشعر استنزل الفلسفة من منزلتها العلمية المقصورة على الكتب والمدارس، إلى حيث تسلك طريق الشعر إلى قلوب الناس، نريد بالفلسفة أشمل معانيها، سواءٌ كانت فلسفةً إلهيةً أو خلقيةً أو رياضيةً أو طبيعيةً، لا فرق بين هذه الفنون في شعر أبي العلاء، فقد أخذ من كل فنٍّ بنصيبٍ.

فأما الشعراء الذين سبقت إليهم الإشارة، فأقسامٌ ثلاثةٌ: قسمٌ لم يستقِ حكمته إلا من الفطرة وتجارب الحياة الساذجة، ومن هؤلاء زهيرٌ. وقسمٌ يستقي حكمته من الدين، ومن هؤلاء عديُّ بن زيدٍ، فإنه استقى حكمته من الدين المسيحي؛ إذ كان عباديًّا متنصِّرًا، وأبو العتاهية فإنه استقى حكمته من الإسلام والموروث من أدب الفرس. وقسمٌ استقى حكمته من الفلسفة الخلقية، كأبي الطيب؛ فإن فلسفته ليست إلا تلك الكلمات التي كان يقولها الفلاسفة، ويكتبونها بمعرض التحدث عن الأخلاق. أما أبو العلاء فقد عمد بشعره إلى إثبات النظريات الفلسفية، في الطبيعة والرياضة والألوهية والأخلاق، فهو يقول مثلًا في إثبات أنَّ الأبعاد لا تتناهى، وهي مسألة من مسائل العلم الطبيعي:

ولو طار جبريلٌ بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروجَ من الدهرِ

ويقول في تعريف الزَّمان، وهي من مسائل العلم الطبعي أيضًا:

الساع آنية الحوادث ما حوت
لم يبدُ إلا بعد كشف غطائها
وكأنما هذا الزمان قصيدةٌ
ما اضطر شاعرها إلى إيطائها

ويقول في علم النفس حين أراد أنْ يبيِّن صدور الشهوات عن القلب:

القلب كالماء والأهواء طافيةٌ
عليه مثل حباب الماء في الماء

ويقول حين أراد أن يقرر مذهب المعتزلة في وجوب الإذعان لحكم العقل خاصة:

كذب النَّاس لا إمام سوى العقـ
ـل مشيرًا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلبَ الرحـ
ـمة عند المسير والإرساء

ويقول في الرد على أصحاب الديانات، فيما يُثبِتون من تنزيه الله عن الزمان والمكان، وقد سلك في هذه الأبيات طريق المتكلمين في المناظرة:

قُلْتُمْ لنا خالقٌ قديمٌ
قلنا صدقتم كذا نقولُ
زعمتموه بلا زمانٍ
ولا مكانٍ ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خبيءٌ
معناه ليست لنا عقول

ويقول في الاستدلال على نفي البعث بمذهب أرسططاليس في قدم العالم:

إنْ صحَّ ما قال ارسطاليس من قِدَمٍ
وهبَّ من مات لم يجمعهم الفلك

فهذا النحو من الشعر لم يعرفه العرب قبل أبي العلاء، فإن قال قائلٌ: إنَّ ابن سينا قد نظم قصيدته في النفس، فقال:

هبطت إليك من المحل الأرفع

قلنا: فإن ابن سينا لم يضع ديوانًا شعريًّا، أحاط فيه بفنون الفلسفة، وتلك خاصةٌ لم يشارك أبا العلاء فيها أحدٌ ممن قبله ولا بعده، ليس يعنينا الآن أنْ تكون هذه الخاصة محمودةً أو مرذولةً؛ فقد أخذنا أنفسنا في صدر هذا الكتاب، بأن نقرر الأشياء كما هي، لا نحمدها ولا نذمها؛ إذ ليس الحمدُ والذمُّ من عمل المؤرِّخين، ولا مما يتناوله فنُّ التاريخ.

مرجليوث اجتهد في أنْ يقارن بين أبي العلاء وأبي العتاهية في هذا الشعر الفلسفيِّ، فزعم أنَّ بين الرجلين تشابهًا، وتابعه على ذلك سلمون، ولقد كنَّا نحب أنْ نجتهد في بيان هذا الوهم الذي وقع فيه هذان العالمان، لولا أنَّ دائرة المعارف الإسلامية التي يكتبها المستشرقون سبقت إلى هذا، فجعلت قياس أبي العلاء إلى أبي العتاهية ظلمًا وحيفًا؛ إذ كان أبو العتاهية يستقي من الدين ويتقيَّد به، وكان أبو العلاء يستقي من الفلسفة ولا يتقيَّد بالدين، وهذا الفرق ظاهر الأثر في شعر الرجلين. وخصلةٌ أخرى لم تلتفت إليها دائرة المعارف، وهي أنَّ أبا العتاهية، على كثرة ما استعان بالدين في زهده الذي ملأ به ديوانه، كان فاسقًا مشتهرًا بالمجون، بخلاف أبي العلاء الذي استملى الفلسفة واتهمه النَّاس بالزندقة والإلحاد، فإنه لم يَمِلْ إلى لهوٍ ولم يذهب مذهب مجونٍ.

هذا الفنُّ الشعريُّ الفلسفيُّ الذي أنشأه أبو العلاء، قد وهب اللغة العربية في اللزوميات مزاجًا خاصًّا يألفه أهل الجد، ويميل إليه أصحاب الحزم. مزاجٌ لا يعرف الباطل إليه سبيلًا، ولا يملك الضعف النفسي عليه سلطانًا، ثم هو مع ذلك ممثلٌ لعواطف الشاعر تمثيلًا صحيحًا، فليس ينقصه من مزايا الشعر المعروف إلا الكذب وقلة الغريب.

لأبي العلاء خاصةٌ أخرى؛ وهي أنه أول من أفرد ديوانًا خاصًّا في موضوعٍ من الموضوعات التي ألَّفها الشعراء. وهذا الديوان هو الدرعيات التي لم يتناول فيها إلا وصف الدروع. نعم؛ إنَّ لأبي نواسٍ في الطرد والصيد، وفي الغلمان والخمر شعرًا لو جُمِع منفصلًا لكان ديوانًا خاصًّا، وكذلك غيره من الشعراء، ولكن أبا العلاء هو الذي سبق إلى هذه الفكرة من غير أنْ يسبقه إليها سابقٌ؛ فهذه الخصائص هي التي ميَّزت أبا العلاء من شعراء عصره، بل من شعراء المسلمين كافةً، فلننتقل الآن من شعر أبي العلاء إلى نثره.

نثره

لأبي العلاء النثر الكثير، ولكن ما بقي لنا منه النذر اليسير، فليس لدينا من نثره إلا رسائله، ورسالة الغفران، ورسالة الملائكة. على أنَّ هذا المقدار القليل، بل شيئًا منه، يكفي فيما نريد من درس الملَكَة الكتابية لأبي العلاء، فإن شخصيته تتمثل في نثره كما تتمثل في شعره، بحيث يكفي القليل منهما لنتبين صفات الرجل ومنزلته فيهما؛ فالزمان — وإنْ أضاع أكثر الآثار العلائية — لم يُضِع شخصه؛ لأن هذا الشخص كان خالدًا بطبعه، وليس للزمان على الشيء الخالد من سبيلٍ؛ فليس شخص أبي العلاء هو الذي تأثر بضياع آثاره، وإنما الآداب وعلومها هي التي فقدت بضياع هذه الآثار شيئًا عظيمًا.

لم يحفظ لنا التَّاريخ من نثر أبي العلاء في صباه شيئًا، ولعله لم يتكلف النثر في هذا الطور، وإنْ تكلف الشعر. وكما قسمنا شعره إلى أطوار ثلاثة فإنا نقسم نثره إلى طورين: أحدهما كُتِب في شبيبته قبل العزلة، والآخر كُتِب بعدها. وليس لدينا مما كُتِب قبل العزلة شيءٌ قليل، فإن رسالة المنيح، ورسالة الإغريض، اللتين كتبهما إلى الوزير المغربي أبي القاسم، قد كُتِبتا في هذا الطور؛ إذ فيهما ذكر أبي الوزير والدعاء له — وهو الذي قتله الحاكم قبل سنة أربعمائةٍ كما قدمنا — ولدينا رسائله التي كتبها ببغداد إلى خاله أبي طاهر في شأن كتب السيرافي، ورسالته إلى أهل المعرَّة قبل أن يصل إليها. فأما ما كُتِب بعد العزلة فكثيرٌ أيضًا، وحسبك برسالة الغفران ورسالته التي كتبها إلى خاله أبي القاسم في رثاء أمه، والتي كتبها إليه يعزيه عن أخيه الذي مات بدمشق، والتي أجاب بها أبا الحسين أحمد بن عثمان النكتي البصري وغيرها … ونحن واصفون نثره في هذين الطورين، ثم باحثون عن خصائصه العامة، وعن الفنون التي تناولها في النثر، كما بحثنا عن ذلك في الشعر.

نثره في طور الشباب

إذا كان شعر أبي العلاء في طور الشباب كثير التكلف، قليل المتانة؛ فإن نثره كذلك في هذا الطور، وإنما كثر في كلامه التكلف حين حرص على إظهار التفوق، والظفر بالإجادة، فكأنه يملي عن ميله إلى النبوغ.

لذلك لم تخلُ رسائله من السجع، بل قد تقرأ الرسالة كلها فلا تظفر بجملتين غير مسجوعتين، وكذلك لم تخلُ رسائله من الغريب، بل لا تكاد تمرُّ فيها بجملةٍ خلت من لفظٍ غريب، وحظ المبالغة في نثر هذا الطور كحظها في شعره. وكما أنَّ أوائل سقط الزند قد عبث بها التكلف، فحال بينها وبين تمثيل عواطف الشاعر، فقد عبث التكلف برسائله أيضًا، حتى ما تستطيع أنْ تدرس أخلاقه وميوله الفطرية، فيما كتب إلى أبي القاسم المغربي، وإنما هي ألفاظٌ مرصوفة، وكلماتٌ قد قُرِنَ بعضها إلى بعض، يزينها السجع، وتختلف متانةً وضعفًا من حينٍ إلى حين، وتظهر فيها المبالغة التي لا تأتلفها العادة، ولا يطمئن إليها العقل. انظر إلى قوله في رسالة المنيح:

إنْ كان للآداب — أطال الله بقاء سيدنا — نسيم تضوَّع، وللذكاء نار تشرق وتلمع، فقد فغمنا على بُعْد الدار أَرَج أدبه، ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه، وحوَّل الأسماع شفوفًا غير ذاهبةٍ، وأطلع في سُوَيداوات القلوب كواكب ليست بغاربة؛ وذلك أنَّا معشر أهل هذه البلدة، وُهِب لنا شرفٌ عظيم، وأُلقِي إلينا كتابٌ كريم، صدر عن حضرة السيد الحبر، ومالك أعنة النظم والنثر، قراءته نسكٌ، وختامه بل سائره مسكٌ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

فهل ترى في هذا الكلام لفظًا قيمًا، أو أسلوبًا عذبًا، أو صناعة جيدة؟! وهل تجد إلا كلفًا بالسجع ممقوتًا، وحرصًا على المبالغة مرذولًا، وتكلفًا هو أشبه بتعمل الأطفال؟! وإلا فما قوله: «وللذكاء نارٌ تشرق وتلمع؟!» أليس لفظ «تلمع» هذا قد أُكرِه على مكانه ليؤدي حق السجع؟! ثم انظر إلى قوله: «فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه، ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه.» فإن الفطرة تقتضي أنْ يقول: «تلهب ذكائه.» ولكن حب السجع اضطره إلى أنْ يعدل عن الفطرة إلى التكلف، وكذلك قوله: «ذلك أنَّا معشرَ أهل هذه البلدة، وُهِب لنا شرف عظيم، وأُلقِي إلينا كتاب كريم.» ليس إلا من بارد اللفظ، وفاتر السجع، وإنْ عزَّ علينا أنْ ننال كلام أبي العلاء بهذه المقالة، إلا أنا لا نغض منه، وإنما نَصِف حاله. وليس قوله: «السيد الحبر، ومالك أعنة النظم والنثر.» بأقل بردًا وفتورًا من سابقه.

ولئن كان قد أساء في طالعة هذه الرسالة، فقد أحسن بعض الإحسان في طالعة رسالة الإغريض؛ إذ قال: «السلام عليك أيتها الحكمة المغربية، والألفاظ العربية، أيُّ هواء رقاك، وأي غيثٍ سقاك؟! بَرْقُه كالإحريض، ووَدْقُه مثل الإغريض، حللت الربوة، وجللت عن الهبوة، أقول لك ما قال أخو بني نُمَير لفتاة بني عُمَير:

زكا لك صالحٌ وخلاك ذمٌّ
وصبَّحك الأيامن والسعود»

أحسن بعض الإحسان حين تمثل الحكمة في شخص أبي القاسم، فخاطبها هذا الخطاب الرقيق، وإنْ كان السجع والتكلف لم يفارقاه.

في هذا الطور، نمَّت رسائل أبي العلاء بشيءٍ لا نعرفه في سيرته، وهو الاجتهاد في التبرؤ مما يخالف رأي الجماعة، فقد تبرَّأ في رسالة المنيح من مقالة الطبعيين في السحاب مرة، ومن المنجِّمين والفلاسفة مرةً أخرى، وليس يدلُّ ذلك إلا على أنَّ حريته العقلية لم تكن قد نضجت بعد.

نعم؛ إنه كان يرى التقيَّة كما سنثبت ذلك في المقالة الخامسة، ولكن تقيته كانت سلبيةً؛ أي إنه كان يُكنِّي عن آرائه ولا يَرُدُّ عليها.

أبو العلاء ذمَّ السجع في رسالة المنيح إذا جاء متكلفًا، والعجب أنه نسي مكانه من هذا التكلف، وليس يدلُّ ذلك إلا على أن مَلَكته في النقد، لم تكن قد نضجت أيضًا.

تكثر الاصطلاحات العلمية في نثر هذا الطور، ولا سيما اصطلاحات العلوم اللغوية، فانظر إلى قوله في رسالة الإغريض:

فحرس الله سيدنا حتى تُدغَم الفاء تلك حراسة بغير انتهاء، وذلك أنَّ هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاوٍ وذو تصعيدٍ، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غدٍ وأمس، وجعل الله رتبته التي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تُخفَض أبدًا.

فانظر إليه، استعار من التجويد والنحو والصرف، على أنه يمضي في ذلك حتى يستعير من العروض والقافية، وكأنه حين فقد الإحاطة بما في الأرض والسماء، من مناظر الجمال التي يستمد منها الشعراء والكتاب تشبيههم، ويؤلفون منها خيالهم عمد إلى ما وعى صدره من علوم اللغة، فاتخذ منها لتشبيهه مادةً، ولخياله مجالًا، أتى من ذلك بالشيء الطريف، فصدق حين قال عن نفسه في سقط الزند:

وقد تعوَّضتُ من كلٍّ بمشبهه
فما وجدت لأيام الصِّبا عوضا

على أنَّ رسالته إلى المعرَّةِ، تدل على انتقالٍ غريبٍ في ملكته الكتابية؛ فإنها كانت في آخر طور الشباب، وأول طور العزلة الذي تغيرت فيه حياة الكاتب تغيرًا ظاهرًا.

نثره في طور العزلة

يبهرك من رسالته إلى أهل المعرَّةِ حين تقرؤها ما ترى فيها من تمثيل شخص الكاتب وعواطفه، حتى يُخيَّل إليك أنك إنما تسمع ألفاظها من كاتبها، وترى شخصه بين سطورها، وكأنها صورةٌ شمسيةٌ تمثل هذا القلب الذي ملكه الحزن على فقد الأحياء، وفراق الأخلاء، وإصفار اليد من المال، وقيام العقبات بينه وبين دور العلم، وانصرافه عن لذات الحياة، وتجلده على آلامها. كل ذلك تشفُّ عنه هذه الرسالة ولو أنَّ ألفاظها خشنةٌ نابية.

مصدر هذا أنَّ الألفاظ ليست هي التي تناجيك، وإنما تناجيك من الكاتب نفسٌ قد طرحت التصنع، وخلعت ثوب الرياء، وبدت لك كما هي، غير متكلفة إظهار فضيلةٍ، ولا محتالة في إخفاء نقيصةٍ. فهذا هو أظهر الفروق بين نثر أبي العلاء في طَوْرَيْهِ، تجده في كل ما كتب بعد رجوعه من بغداد. وقد بيَّنا في المقالة الثانية مقدار ما يمثله رثاؤه لأمه من ذلك، ولقد كان يحرص أبو العلاء أشد الحرص، على أنْ يخفي نفسه على القارئ في بعض رسائله، ولكن شخصه كان يأبى إلا الظهور، كان يلقي بينه وبين القارئ أستارًا صفيقةً من غريب اللفظ، وحُجُبًا كثيفةً من ثقيل السجع، ويقيم حوله أسوارًا منيعة من المباحث اللغوية والصور الدينية، ولكن عواطفه الحادة، تأبى إلا أنْ تخترق هذه الموانع كافةً، لتصل إلى قلب القارئ فتترك فيه ندوبًا، لدغات الجمر أخف منها وقعًا، وأهون منها احتمالًا.

ذلك حاله في رسالة الغفران، فكم اتخذ حوله من الشعراء الجاهليين جنودًا يذودون عنه، ويناضلون من دونه، وكم أسبغ على نفسه من علوم اللغة وآدابها دروعًا تعصمه من وصمة الإلحاد، وكم ضحَّى من زنادقة العباسيين بضحايا ليُعلِن أنه مسلم، ولكن هذا الكيد كله لم يزد النَّاس إلا علمًا به، واتهامًا له، حتى قال الذهبي: «إنه صاحب الزندقة المأثورة.» واستدل على ذلك برسالة الغفران.

أبو العلاء هو أظهر الكُتَّاب المسلمين شخصيةً، وأوضحهم عاطفةً في نثره؛ ذلك لأنه لم يستطع أنْ يكون منافقًا، ولم يُوفَّق إلى تكلف الحيلة في إخفاء نفسه، وإنْ وُفِّق التوفيق كله في تكلف السجع والغريب.

لقد حكَّم قانونه الفلسفي الصارم في نثره، كما حكَّمه في شعره وحياته، فالتزم في الكتابة ما لا يلزم من إيثار الغريب، وتصريف اصطلاحات العلم في التعبير عن العواطف، والدلالة على الميول، فهو يؤدي كثيرًا من الأغراض بتلك الضروب العروضية، التي ما أراد الخليل بها إلا أنْ تدل على مجرد الأوزان والتفاعيل.

من أظهر خصال أبي العلاء في نثر هذا الطور، حرصه على الاستقصاء التام، بحيث إذا عرض لمسألةٍ لغويةٍ أو نحويةٍ في طريقه لم يستطع أنْ ينصرف عنها حتى يستقصيها، ولقد اشتدَّ ضيق أهل الجنة وأهل النار من الشعراء والرواة به؛ لكثرة ما ألح عليهم في النقد والمناظرة، حتى نفد صبر إبليس الذي لا ينفد صبره، فأغرى الزبانية أنْ يقذفوه في النار، وحتى أوقع فنونًا من الملاحاة بين أهل الجنة الذين لا يعرف الخلاف إليهم سبيلًا.

هذا الاستقصاء يرضي العالم المحقق، ولكنه يُسئِم القارئ المتعجِّل؛ لذلك كان الملل إلى نفس القارئ في نثر أبي العلاء سريعًا، إلا أنك إذا درست الرجل، وفهمت روحه وعواطفه، أصبح كلفك بعشرته في نثره وشعره، ألزم لك من ظلك، وهذه من أخص الصفات التي امتاز بها أبو العلاء.

أما المبالغة فقد قلَّت، ولكنها لم تَنْمَحِ، على أنَّ أبا العلاء قد اتخذ لهذه المبالغة دواءً حسنًا، فما تجد مبالغةً في نثره إلا وقد أحاطها من الألفاظ بما يكف من غلوائها فتراه يستعمل كاد مَرَّة ولو مرة أخرى.

قلنا: إنَّ الغريب والسجع يلزمان أبا العلاء في كتابته، ولكن من الحق علينا أنْ نقسم نثر أبي العلاء قسمين: أحدهما ما يذهب فيه مذهب الإنشاء والتنميق، وهذا لا بد فيه من السجع والغريب، والآخر ما يذهب فيه مذهب القصص التاريخي أو العلمي، وهذا يقل فيه السجع والغريب، حتى لا تكاد تعثر بهما؛ لذلك انقسمت رسالة الغفران قسمين، فأما ما كان من وصف الجنة أو نعيمها، أو النار وجحيمها فالسجع فيه لازمٌ، والغريب فيه موفورٌ، وأما ما وصف به الزنادقة فسهلٌ مرسلٌ يسيغه السمع ولا ينبو عنه الطبع. وكذلك انقسمت رسالته التي عزى بها خاله أبا القاسم عن أخيه هذين القسمين، فأما ما اشتمل على مصارع الأنبياء والملوك وأعلام الناس، فسائغ اللفظ وإن التزم فيه السجع، وأما ما وُصِفت به مصارع الحيوان فلن تصل إلى فهمه إلا بعد العناء الشديد.

فنونه النثرية

طرق أبو العلاء بنثره المدح والعزاء والوصف، ولم يطرق الفخر ولا الهجاء ولا غيرهما من الفنون التي يطرقها الكتاب؛ فأما المدح فقد كتب فيه رسالة المنيح ورسالة الإغريض، وعرض له في غير هاتين الرسالتين.

والمجاملة في مدح أبي العلاء النثري ظاهرةٌ، وكثيرًا ما اتقاها بالمحاولات اللفظية والاستطراد اللغوي، وأما العزاء فقد كتب فيه رسالتين نابهتين، رثى بإحداهما أمَّه، وقد قدَّمنا وصفها، ورثى بالأخرى خاله، ولكنها لا تدل على شيءٍ من الحزن والأسف، وإنما هي تسليةٌ وتعزية وقد سلك فيها الكاتب طريقتين: إحداهما طريق القصص فألمَّ بمصارع الأنبياء من العرب وبني إسرائيل، وبعواقب الملوك من سبأ وحمير، ومن المناذرة والغسانية والأكاسرة، وبمهالك الأعلام من فرسان العرب وأجوادها، ثم ذهب مذهب أبي ذؤيب الهذلي في عينيَّته من وصف مصارع الحيوان، فتتبع الآساد والفيلة إلى الذرات والنمال، ولم يدع من الحيوان الذي أَلِفه النَّاسُ في الأرض والسماء وحشيًّا ولا إنسيًّا إلا ذكر مصرعه مع التفصيل الشديد. وأما الوصف فلم تخلُ منه رسالةٌ من رسائل أبي العلاء، وشأنه في الوصف النثري كشأنه في الوصف الشعري؛ أي إنه يستمد معانيه مما يحفظ أكثر من استمدادها مما يحس. وليس وصفه لمصارع الحيوان إلا خلاصة ما قال الشعراء الجاهليون والإسلاميون فيها، لقد لخَّص في رثائه لخاله عينيَّةَ أبي ذؤيب، ومعلقة لبيد، وأكثر شعر الشمَّاخ بن ضرار.

النقد

لأبي العلاء في النقد مَلَكةٌ قويةٌ، كونتها له دراسته للحياة وأخلاق الناس، وتعمقه في الدرس العلمي. وهذا النقد ينقسم قسمين: أحدهما النقد العلمي والأدبي، وتمثله رسالةٌ بعث بها إلى أبي الحسن أحمد بن عثمان النكتي البصري، ينقد فيها شيئًا من شعره فيمزج النقد بالسخرية مزجًا ظريفًا ولكنه لذاع، والآخر نقد العادات والأخلاق ومألوف الناس، وتمثله رسالة الغفران، فقد نقد فيها كثيرًا من مألوف الناس، ولكنه سلك إلى هذا النقد طريق السخرية، فكان على خصومه شديد الوقع، وخاز اللذع، لا يفوقه في ذلك إلا بديع الزمان الهمذاني في رسائله، وإنما سبق البديع إلى هذا الفن؛ لأنه ترك الاحتشام والوقار، ولم يأنف من ألفاظٍ يستحي أبو العلاء أنْ يفكر فيها.

السخرية

من قرأ رسالة الغفران، وأراد أنْ يفقه معناها حقَّ الفقه، احتاج إلى دقة ملاحظةٍ، وحذق فطنةٍ، وبُعْد نظرٍ، ونور بصيرةٍ، وإلى أنْ يدرس روح الكاتب فيحسن درسه، ويعرف أغراضه، فإذا لم يُوفَّق إلى ذلك مرت به رسالة الغفران وهو يظنها من أقوم كتب الدين.

ذلك أنَّ أبا العلاء يسلك في هذه الرسالة إلى النقد مسلكًا خفيًّا، تكاد لا تبلغه الظنون، ولولا أنَّ مؤرخيه قد كانوا يسيئون الظن به، لما اهتدوا إلى ما في رسالة الغفران من النقد. على أنهم لم يفهموا منه إلا الظاهر الذي يُلمَس، والصريح الذي لا يُشَك فيه؛ كالأشعار الإباحية التي رواها عن بعض الزنادقة، فأما نقده الخاص فقلَّما فطنوا له، ولسنا نشك في أنَّ عليًّا أبا منصور بن القارح الذي كُتِبت إليه هذه الرسالة، قد كان شديد الزندقة أو شديد الغفلة؛ فإن أبا العلاء لا يكتب بهذه الرسالة إلا وهو واثق منه بإحدى الخصلتين، وتدلنا رسالة الغفران على أنَّ هذا الرجل كان معاقرًا للخمر، متهالكًا عليها، حتى ألح عليه أبو العلاء في أنْ يتوب، ولسنا الآن في معرض الكلام على رسالة الغفران من حيث ما بينها وبين دين أبي العلاء من صلة، وإنما نريد أنْ نبحث عنها من وجهين: أحدهما السخرية التي تشتمل عليها، والآخر الخيال الذي عمل في تأليفها.

فأما السخرية فحسبك أنْ تسمع خلاصة القصص الطويل، الذي ساقه أبو العلاء لدخول علي بن القارح في الجنة، قام هذا الرجل من قبره يوم البعث فلبث في الموقف أمدًا طويلًا، حتى أعياه الحرُّ والظمأ، وهو واثقٌ بدخول الجنة؛ لأن معه صكَّ التوبة، فلم يفهم معنى هذا الانتظار، ففكر في أنْ يخدع سدنة الجنة بما كان يخدع به النَّاس في الدنيا من الشِّعر، فأنشأ القصائد الطوال في مدح رضوان، وأنشده إياها فلم يفهم منها شيئًا؛ لأنه لا يتكلم العربية، فلما عَيَّ علي بن قارح بأمره، سأله: ما بالك لم تحفل بقصائدي وقد كان يحفل بها ملوك الدنيا؟! ثم كانت بينهما محاورةٌ آيست علي بن قارح من رضوان، فانتقل إلى سادنٍ آخر يُقال له زفر وأعاد معه القصة نفسها، ولكن هذا الخازن نبهه إلى أنْ يتشفع بالنبيِّ في أمره، فاجتهد حتى وصل إلى حمزة، فتوسل به إلى علي، وإنه لفي طريقه إلى علي وقد كلفه أنْ يُظهِر كتاب توبته، وإنه لفي ذلك وإذا شيخه أبو علي الفارسي، قد ضاق ذرعه بطائفةٍ من شعراء البادية، يخاصمونه فيما تأوَّل من كلامهم، فنسيَ التوبة وأَمْرَ الشفاعة، وذهب إلى أستاذه فذاد عنه أولئك الأعراب، ثم رجع إلى علي وقد فَقَدَ كتاب التوبة، ولكن عليًّا قد هوَّن عليه الأمر، وطلب منه شاهدًا على التوبة، فاستشهد بقاضٍ من قضاة حلب وقَبِل على شهادته، ولكن سقاه من الحوض، وأيأسه من دخول الجنة قبل الحساب فلم يرَ إلا الحيلة، فذهب إلى شبابٍ من بني هاشمٍ، فقال: لقد ألَّفْتُ في الدنيا كتبًا كثيرة، كنت أبدؤها وأختمها بالصلاة على النبيِّ وعترته، فحقت لي بذلكم عليكم حرمة، ولي إليكم حاجة، قالوا: وما هي؟ قال: إذا خرجت أمكم الزهراء من الجنة لزيارة أبيها، فتوسلوا بها إليه في أنْ يأذن بدخولي الجنة، فقبلوا منه، ثم نادى منادٍ: يا أهل الموقف، غضوا أبصاركم حتى تمر الزهراء. ومرت فاطمة فسلمت على أبنائها، ورغبوا إليها في أمر صاحبهم، فقبلت، وأشارت إليه أنْ يتبعها، فتعلَّق بركاب إبراهيم ابن النبيِّ، ولم تكن خيلهم تمشي على الأرض لكثرة الزحام، إنما كانت تطير في الهواء.

وصلوا إلى النبي وشفع فيه، وعاد مع فاطمة وإخوتها ليدخل الجنة، فلما بلغ الصراط لم يستطع أنْ يتقدَّم عليه قيد أصبع، فبعثت إليه الزهراء جاريةً تعينه، فأخذت الجارية كلما أسندته من ناحيةٍ مال من الأخرى، حتى أعياه ذلك وأعياها، فقال لها: يا هذه، إنْ أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:

ستِّ إنْ أعياك أمري
فاحمليني زقفونه

فقالت: وما زقفونه …؟ قال: أنْ يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك بيديه، ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفر طاب:

صلحت حالتي إلى الخلف حتى
صرتُ أمشي إلى الورا زقفونه

فقالت: ما سمعت بزقفونه، ولا الجحجلول، ولا كفر طاب إلا الساعة. فتحمله وتجوز كالبرق الخاطف، فلما جاز قالت الزهراء عليها السلام: قد وهبنا لك هذه الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنان. فلما صار إلى باب الجنة قال له رضوان: هل معك من جواز؟ فقال: لا، فقال: لا سبيل للدخول إلا به. فعيَّ بالأمر وعلى باب الجنة من داخل شجرة صفصافٍ، فقال: أعطني ورقةً من هذه الصفصافة، حتى أرجع إلى الموقف فآخذ عليها جوازًا، فقال: لا أخرج شيئًا من الجنة إلا بإذنٍ من العلي الأعلى — تقدس وتبارك. فلما ضجر بالنازلة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو أنَّ للأمير أبي المرجى خازنًا مثلك، ما وصلتُ أنا ولا غيري إلى درهم من خزانته. والتفت إبراهيم — صلى الله عليه — فرآه وقد تخلَّف عنه، فرجع إليه فجذبه جذبةً حصله بها في الجنة.

فهذه الصور التي تمثلها هذه القصة الصغيرة، تبين مقدار ما تشتمل عليه رسالة الغفران من السخرية الخفية، وأمثالها كثير.

الخيال

لم يخترع أبو العلاء في هذه الرسالة شيئًا كثيرًا، وإنما وردت أقاصيص الوعاظ بأكثر ما فيها، فإذا كان في الرسالة شيء، فهو التنسيق والسخرية، على أنه قد أخطأ مواضع من الخيال كان حقه ألا يخطئها، فإن ابن القارح في أحد مجالسه، جعل كلما تمنى لقاء رجلٍ من أهل الجنة، نظر فإذا هو بين يديه، فلم يكن فرق بين سكان الجنة وبين أثاثها وفاكهتها في ذلك، وكذلك أوقع الخلاف والمهاترة بين أهل الجنة، حتى كادت تقع الملاكمة بين ابن قارح وبين رؤبة، لولا أنْ توسط العجاج.

مهارته اللغوية

ولقد مر ابن القارح بمدائن الجن في الفردوس، فزارهم وسمع من أشعارهم، فإذا أشعارٌ بلغت من غرابة اللفظ والأسلوب، مبلغًا يُخيَّل إلى سامعها أنه كلام الجنة حقًّا، وما نشك في أنَّ أبا العلاء هو الذي انتحل هذه الأشعار، أما معانيها فلا تتجاوز ما رُوِي في الأخبار الدينية من أحوال الجن. والقول المفصل في رسالة الغفران يحتاج إلى كتابٍ خاص، نرجو أنْ نُوفَّق إليه، وحسبنا أنْ نقرر الآن أنَّ هذه الرسالة هي أول قصةٍ خياليةٍ عند العرب، والفرنج يشبهونها بكتاب «دانتي» الطلياني الذي سماه La Comedie dévine وكتاب «ملتن» الإنجليزي الذي سمَّاه «الجنة الضائعة»، وعندنا أنَّ لقصة المعراج صلةً بهذه الأقاصيص.

خصائصه النثرية

يختص نثر أبو العلاء بما اختص به شعره من الغموض وكثرة الغريب، لا يتصل بنثر عصره إلا بصلةٍ واحدةٍ، هي السجع الملتزم. وللأمثال في نثر أبي العلاء حظٌّ عظيم، حتى إنك لتجزم بأن أبا العلاء أكثر الكتاب للأمثال استعمالًا.

تتصف آداب أبي العلاء عامةً بوصفين لازمين: أحدهما العفة المطلقة؛ فإنك لا تجد في شعره ولا نثره كلمةً من تلك الكلمات القبيحة التي شاعت في عصره وحفظتها يتيمة الدهر. وتعليل ذلك لا يحتاج إلى إطالة القول.

الثاني: تأثير علم النجوم العربي فيها تأثيرًا ظاهرًا، يمثله كتاب اللزوميات، وهذه التشبيهات الكثيرة، والأقاصيص المنتشرة في سقط الزند والرسائل. وإذ قد فرغنا من درس الآداب العلائية فلننتقل إلى علم أبي العلاء.

١  القرزمة: الابتداء بقول الشعر.
٢  أبو العلاء وما إليه للميمني ص٦٧.
٣  فتح أبو الطيب المتنبي له هذا الباب (انظر «مع المتنبي» للمؤلف ص٣٨٦)، كما فتح له أبوابًا فلسفية أخرى.
٤  والمتنبي أستاذه فيها، انظر رثاءه لعمة عضد الدولة، فقد قلَّدها أبو العلاء حتى في الوزن.
٥  شأن أبي العلاء في النسيب كشأن أبي الطيب، شغلته نفسه وفلسفته عن إجادة هذا الفن، انظر «مع المتنبي» للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤