العُرس الوَحشيُّ

أصبح كل شيء واضحًا الآن بعد أن تناقشنا بكل صراحة ووضوح، قال — كما هو الحال — إنه يحبني لكنه أيضًا ليس بإمكانه أن يفعل شيئًا من أجل أمي. أمي تريدني ألا أدخل في علاقة ما، ما لم أكن متأكدة أنها سوف تنتهي بالزواج. وهو يعرف ذلك جيدًا، قلت له: شوف لي عريس.

في الحق كنت جادة معه؛ لقد تغيرت آرائي كثيرًا في هذه الأيام القليلة، لقد تعلمت درسًا مهمًّا من الفِكي وأسرته أن السعادة لا تحتاج لتكلفة باهظة، تفكير، شروط أو تخطيط، إنها دائمًا هناك، في القصر كما هي في المزبلة. قال إنه سوف لا يفعل. كان يعلم نقطة ضعفي، وهي أنني أحبه بعمق؛ لذا كان دائمًا لا يتنازل عن مواقفه. يدفعني أنا للتنازل، ويعرف تمامًا أنه يستطيع أن يجدني كلما شاء. من جانبي لا أرى في ذلك مشكلة، فكل ما أفعله معه كان دافعه الحب والرغبة الأكيدة في الفعل. لكن قررت أن ينتهي كل شيء اليوم، في هذا اليوم بالذات. لم ننتبه إلى أننا كنا نتحدث بصوت عالٍ ومزعج إلى أن دخلنا المكتب. رأينا الدهشة في وجوه الزملاء، اعتذرنا لهم، واصلنا الحوار بهدوء في المكتب، لكن كان هذه المرة عن أسرة الفِكي، لقد أصبحنا مرتبطين بهذه الأسرة المتشردة بصورة غير مهنية، وكنا نعرف أننا لا نستطيع أن نحل مشاكلهم الإنسانية، لا يمكننا أن نجعلهم يسكنون معنا في البيت، فبيتنا صغير، ولا يتحمل أسرة أخرى. ليس بإمكاننا أن نستأجر لهم بيتًا، فالإيجار غالٍ جدًّا في الخرطوم، هذا إذا قبل صاحب المنزل استئجار بيته لمتشردين. كما أننا لا نستطيع أن نلتزم بالدفع شهريًّا، وليس للفِكي دخل يمكنه من دفع الإيجار، بل لا يستطيع أن يوفر الطعام اليومي لأسرته التي تتغذى الآن من سوبر ماركت الطبيعة؛ وهي المزابل! وفقًا لتجاربنا الكثيرة مع المتشردين نعرف أيضًا أنهم لا يميلون للإقامة الدائمة في مكان ما، ما لم يتم ذلك تحت شروط إنسانية معينة تضع حالاتهم الخاصة في الحسبان. الشيء الأخطر هو كيفية الحفاظ على أمنهم وحملات تجميع المتشردين تقوم بدورياتها المعتادة في كل الشوارع. المنظمة لا تستطيع أن تفعل شيئًا في كل هذه الأمور ولا توجد أي مؤسسة تساعد في حل هذه المحنة. كان علينا في الآخر أن نقوم بطردهم من بيتنا، طبعًا إلى الشارع! هذا مؤلم، ولا يمكن تحمله ولو أنهم لا يتوقعون منا خيرًا من ذلك. أحسست بألم في معدتي. كان بيتنا في الجانب الآخر من المنظمة، وهي كما سبق أن قلت هي جزء من بيت ورثناه من والدي رحمة الله عليه. لم أعمل بنصيحته: امشي البيت. اتفقنا على أن نشرك كل الموظفين في الحوار الخاص بأسرة الفكي، وهم جميعًا يعملون في مجال العمل الإنساني، ولهم خبرات في التعامل مع المتشردين والأطفال لا يستهان بها.

المدير العام رجل خمسيني أصلع … لا يتحدث كثيرًا، لكنه يتميز بعلاقاته الواسعة وسنوات عمله الطويلة في المجال؛ فلقد عمل مع منظمات لها سمعتها في مجال حقوق الأطفال، مثل: اليونيسيف، منظمة رعاية الأطفال السويدية والأمريكية، وأطفال الحرب، عمل أيضًا في منظمة رعاية كبار السن. ومن الزملاء: حليمة حسين، وهي على الرغم من صغر سنها إلا أنها عملت مع المتشردين كثيرًا وخاصة في دارفور وجنوب السودان. هنالك عماد، مصطفى، أنا وبقا كما هي العادة ضيفًا دائمًا علينا وهو في إجازته السنوية. توصلنا سريعًا لحل فيما يخص الأطفال والأم أيضًا؛ وهو أن نودعهم بيت الحماية بالمايقوما، والأم سوف تقوم برعاية أطفالها بنفسها وخدمة الأطفال الآخرين بمقابل مبلغ ضئيل. المدير العام يستطيع أن يسهل ذلك، والآن. أما الأب فبإمكانه أن ينام في المنظمة مع الخفير، وأن يعمل نهارًا في غسيل السيارات في وسط الخرطوم طالما كان يستطيع أن يحتفظ بملابسه نظيفة ولا يتردد على المزابل وأوكار المتشردين الآخرين، ويمشط شعره بالمشط عندما ينمو له شعر. وهو لحسن الحظ — على حسب إقراره — لا يتعاطى المخدرات أو المكيفات، ومستعد لترك الدجل والشعوذة. لكن بقا كان له رأي آخر، وهو: أن نجعل منه نجمًا.

لم يدهشنا اقتراح بقا الغريب! على الرغم من أننا انفجرنا ضحكًا. ذهبنا جميعًا بأفكارنا إلى الكيفية التي سيستثمر بها بقا إمكانات الفِكي في الحفظ السريع. لكن، هنالك مشكلة أخرى وهي أن الفكي لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم ما يحفظ، فهو مثل المسجل الإلكتروني لا أكثر، ولو أنه يحفظ ما يسمع بأي لغة كانت، حتى ولو كان نُباح كلب، فهو يحاكي أصوات الحيوانات والطيور كلها وكأنه من ذات الفصيلة. فقط تبقى لنا أن نعرف كيف سيصنع بقا من الفكي نجمًا، إذا تذكرنا شيئًا محبطًا آخر؛ وهو أن الفكي كذاب ولا يمكن أن يوثق به، وأنه غير مستقر نفسيًّا! قال بقا سيأخذ منه ذلك ما بين ستة أشهر إلى سنة من الآن: الموضوع عايز شوية تعب.

فُضَّ الاجتماع على صراخ أمي من خلف الحائط، شاكية من الأولاد الشياطين: حسكا وجلجل اللذين قلبا حياتها جحيمًا، إنهما لا يسمعان الكلام. ولا تدري أين ذهب الفكي وأين ذهبت أمهما، قالت: شردوا وخلوا لي العيال.

وأضافت بصورة واضحة وجلية: إذا تأخرتوا تلقوني كتلتم (قتلتهم)؛ ديل خربوا البيت خراب!

الطفلان اللذان يكادان أن يكونا في عمر واحد: الطول نفسه الحجم نفسه والملامح، الصلعتان نفساهما، اللتان أنجزهما لهما أبوهما الفكي بماكينة حلاقة أبي الأثرية … النزق نفسه، الشيطنة، النهم وحب الاستطلاع. إلا أن أحدهما يكبر الآخر بعام كامل — حسب إفادة الفكي — فيمكن تقدير عمريهما ما بين السنة الرابعة والخامسة.

قاما بقلب كل منقولات البيت رأسًا على عقب في فترة من الزمن لا تتعدى ربع الساعة، حيث خرجت أمي لشراء رغيف من أجل وجبة الغداء. وكانت قد أغلقت باب الشارع عليهما جيدًا؛ خوفًا من أن يهربا ويجدهما من يضر بهما، خاصة أنهما خلعا ملابسهما جميعًا وبقيا عاريين كما ولدتهما نونو. تعفرا في التراب وأصبحا مثل شبحين خرجا لتوهما من القبر. أكثر ما أثار غيظ أمي وأغضبها أكثر هو أنهما حطما زجاجات العطور البلدية التي كلفت أمي الكثير في إعدادها وأنها تحتفظ ببعضها منذ زواجها، تريد أن تورثها لي عندما أتزوج. قد أكلا بعض الدلكة أيضًا، وشربا جرعات لا شك أنها كبيرة من عطر «الخُمرة» البلدي قبل أن يدلقاه على الأرض؛ لذا كانا شبه سكرانين أو أنهما كانا في حالة سُكر تام. أصبحت رائحة البيت مثل خدر العروس. في الحقيقة جعل ذلك أمي تتذكر يوم عُرسها، فبكت بكاء مُرًّا، بكت كما يبكي سكران مبتدئ. همس بقا في أذني: الميثانول!

كان الأبوان قد اختفيا قبل ذلك الحفل بساعتين، خرجا في غفلة من أمي. لم يسرقا شيئًا، تفقدنا كل حاجيات البيت، وجدناها كما هي. كان الطفلان يلعبان لا أكثر، أو قل: إنهما أقاما عُرسًا وحشيًّا بديعًا، شاركت فيه كل أدوات المنزل، عطور أمي، الأغذية المحفوظة في الثلاجة، صنابير المياه، التلفاز الكبير والأصص التي كانت قبل ساعات قلائل تحتوي في أحشائها على نباتات زينة حية جميلة ومخضرة. قمنا بغسلهما … ألبسناهما ملابسهما النظيفة … أعطيناهما حلوى حتى يكفا عن البكاء والصُّراخ؛ لأن أمي ضربتهما ضربًا مُبرحًا وهي في حالة ثورة وجنون.

لم يسألا إطلاقًا عن أبويهما. كانا يأكلان كل ما تقدمه لهما أمي التي يبدو أن ثورة غضبها قد انتهت إلى ثورة رحمة مفاجئة. كان نصيبنا منها غداء جيدًا وشايًا بالنعناع. أتينا بعربة المنظمة اللاندكروزر لنأخذهما إلى دار الرعاية بالمياقوما، وهي إحدى الملاجئ الرحيمة التي تستقبل الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية واللذين أعمارهم فوق الرابعة. لقد أراحنا الله من مسئولية الأبوين، طالما هربا بإرادتيهما، وخاصة ذلك الشرير الأكبر الفِكي. ولو أننا بفقدنا له نكون قد فقدنا مرة أخرى أول الخيط لموردي الميثانول، وتعود قضية البحث إلى المربع الأول. إلا أن الخير كله في إنقاذنا لحياة الطفلين الشقيين، وقد يصادفان مستقبلًا مختلفًا عن الذي كان يتربص بهما في مجاري المياه بأم درمان. إلا أن أمي فاجأتنا قائلة: خلوا الأولاد هنا، أنا عايزاهم يومين تلاتة يكونوا معاي!

قلت لها وقد أغضبني انقلابها المفاجئ: يا أمي وطني نفسك، خلي عندك رأي واحد. لدى أمي فلسفة في تغيير الآراء؛ حيث إنها تعدُّ الإنسان السليم هو الإنسان الذي لديه المقدرة على الاقتناع بالأفكار الجديدة التي تطرأ عليه، والعمل وفقًا لها فورًا، ولديه مقدرة أكبر في ألا يتحرج من ذلك … بل أن يدافع عن أفكاره الجديدة. وهي تعدُّ نفسها إنسانة سليمة. تحدثني أيضًا عن كتبٍ قرأتها في هذا الشأن، عن فليسوف غريب له باع في منهاج التفكير الإيجابي. لكن بيني وبين نفسي أميل لفكرة أن وراء تردد أمي وتغييرها المفاجئ لآرائها عنصرًا مَرَضيًّا. ربما هي آثار ثانوية لنوبات الإحباط التي تداهمها أحيانًا، إنني لحد ما، ورثت عنها تقلب الآراء.

قالت وهي لا تعير غضبي اهتمامًا كعادتها: خلي صحتهم تتحسن شُوية ويمكن أخلاقهم تتحسن برضو. هم أطفال لا ذنب لهم … أطفال في غاية الذكاء والبراءة. خلينا نساعدهم شوية، هم شياطين أولاد كلب لكن ذنبهم شنو؟

ثم سألتنا إذا كنا لا نريد الشاي بالنعناع مرة أخرى. على بقا أن يقوم باللعب مع الطفلين لعبة الرسوم التي يحبانها، هذا إذا لم يكن لديه شيء آخر يفعله، أو أنه لا يريد أن يذهب إلى بيته الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤