عودة البازنجر

سريعًا ما ظهرت على الطفلين علامات الراحة؛ صارت بشرتهما ناعمة، نما على رأسيهما شعرٌ نظيفٌ ناعمٌ خالٍ من القمل والبراغيث. أصبحا يكسبان يوميًّا وزنًا إضافيًّا. هذا هو الشهر الثاني لهما بمنزلنا … لا أكثر. تعلما كيف يستخدمان المرحاض، وافتتنا بمشاهدة القنوات الفضائية، خاصة اسبيس توون، إم بي سي ثري، واسبيس بور. بل أصبحت لهما أفلامهما ومسلسلاتهما المفضلة. تحسنت لغتهما، تجدهما عندما يتشاجران يستخدمان لغة مثل: احذر أيها الغبي! بدلًا من: هيييي أوع.

وأصبحا يدعوان أمي بلفظة «ماما»، بدلًا من «الجُلْكَا».

الغريب في الأمر اكتشفنا مؤخرًا أنهما توءم؛ نتيجة لمعايشتنا لهما اليومية وملاحظة نظام نمو الأسنان والسلوك الذي يكاد أن يكون متطابقًا. كما أن دكتورة مريم أخذتهما لاختصاصي أطفال، أكد لها ذلك. هو أمر كان دائمًا موضع شك لديَّ، كنت قد أحسست أنهما توءمان منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما فيها. لكن إصرار الفكي على عكس ذلك جعلني أتجاهل الموضوع.

لكن أجمل المفاجآت، وأكثرها إرباكًا عندما قررت أمي وحبيبها وليد الجندي ذلك الروائي الغريب، الزواج. كان هذا حدثًا عجيبًا وجميلًا في الوقت نفسه. كنت دائمًا ما أفكر في سعادة أمي، فقدها المبكر لزوجها، صبرها الطويل عليَّ، ونوباتها النفسية المتكررة التي كانت بقدر كبير نتيجة لفقدها والدي وحياة العزوبية الروتينية التي تعيشها. لا شيء غير الزوج يحل محل الزوج … كل الحذلقة الاجتماعية وطبيبات الأسرة لا تقنع امرأة عرفت متعة جسد الآخر، بأن تستعيض عنه بالطقوس الاجتماعية وثرثرة الأهل والجيران. فالجسد يحن إلى جسد لا إلى لغة. قالت لي: كل ما يعيبه كان شيئًا واحدًا — حدثتني أمي بخجل — إنه يتعاطى الكحول، ليس كثيرًا، لكنه يشرب العرق كل يوم، أليست هذه مشكلة كبيرة؟ ألا يفتت ذلك كبده، إذا لم يكن قد تفتت أصلًا؟

طمأنتها بأنها تستطيع أن تجعله يقلل من تعاطيه أو يتركه للأبد، حسب مجهودها معه، طالما لم يكن مُدْمنًا، فيمكن تدارك الأمر …

– لكن المُشكلة الأخرى

– إيه المشكلة الأخرى يا أمي؟

يصر على أن تنتقل أمي معه إلى بيته، هي لا ترغب في أن تتركني أعيش وحدي في هذا البيت.

– ح ترحلي معاي؟

يستحيل ذلك بالطبع، أن أنتقل معها لبيت زوجها. وهو أيضًا يرفض أن يقيم معنا في البيت؛ فبيتنا لا يتحمل بنتًا، زوجًا، أمًّا وطفلين مشاغبين. هذه الأمور المعلقة لم تنقص شيئًا من سعادة أمي ونضارتها؛ حيث إنها أصبحت جميلة وندية مثل زهرة. أثبتت بالفعل أنها أجمل مني … أجمل بكثير، بل أصغر عمرًا. كنت أحس كلما تجملت أمي كانت تقصدني أنا بالذات. هذا الشيء لا يؤلمني ولا يربكني؛ لأنها ببساطة تريد أن تصبح يانعة مثل ابنتها الوحيدة التي هي أنا. مَرَّ الزواج برفق وسهولة، حيث تم عقد القران في بيت جدي بالقرية. انتهى كل شيء، وأقاما معي بالبيت إلى أن تُحل إشكالية بقائي وحدي. أمي قالتها صراحة: إنها لا تخاف علي من مكروه بقدر ما تخاف علي من نفسي، وأنني قد لا أستطيع أن أضبط سلوكي. بصراحة أكثر: الجاهل عدو نفسه، وأنني إذا بقيت وحدي بالمنزل سوف أخرب سمعتها وسمعة أسرتها.

الروائي وليد الجندي، يكبر أمي بسبع سنوات. ليس في عمرها، كما كانت تقول هي. لم يتزوج من قبل … كانت له تجربة حب يتيمة مع المرحومة سيدة إبراهيم التي قُتِلتْ في تظاهرات شعبية، اختنقت بمسيل الدموع، بينما تعاني هي من مرض الأزمة … ماتت على الأسفلت. كانت تعمل في التمريض بمستشفى أم درمان. لا يحب أن يخوض كثيرًا في هذا الأمر. يعمل هو مستشارًا هندسيًّا مستقلًّا … تخرج قبل سنوات كثيرة من كلية الهندسة جامعة القاهرة. عمل كثيرًا جدًّا في كل بقاع السودان، لم يستقرَّ بالخرطوم إلا قبل عشر سنوات فقط. أمي تعرفت عليه في إحدى زياراتنا لقبر أبي، منذ سنوات بعيدة. بينما كان يزور هو من أسماها صديقتنا سيدة إبراهيم. نشر روايته الأولى قبل شهر تقريبًا، لكنه لم يحبط لأنها لم تخلق الأثر الذي كان يتوقعه، حيث لم يكتب عنها أي من النقاد الذين قاموا بقراءتها. فهو يظن أنه قام بمجهود كبير من أجل أن تصبح روايته ذات قيمة فنية عالية، أن تصبح في الوقت نفسه علامة فارقة في تاريخ الرواية السودانية على أقل تقدير، في ظنه، وهو صادق في ذلك. كما أشار بعض القراء إلى أول رواية في العالم تُكتب من وجهة نظر القلم الذي تُسطر به، الأوراق والحبر. هو يعرف أن الزمن خير الناقدين، سوف ينصفه. على كل هو ليس متعجلًا، فالنقد في بلدنا بطيء وهو غالبًا ما يلحق بالكتابة بعد جري قد ينقطع نَفَسهُ أثناءه. قد كتب الرواية في ثماني سنوات. بإمكانه أن ينتظر بضعة أعوام أخرى لكي يأتي من يكتب عنها بعمق، يكفي أنَّ أمي احتفت بالرواية احتفاء بالغًا، لدرجة أنها نادمته، غنوا معًا للفنان إبراهيم عوض الذي يفضلانه: عَزيز دُنْيَاي …

أقنعني الجندي زوج أمي أن أرحل معهما في بيته، فهو بيت كبير في السلمة بالخرطوم. يتكون من طابقين عملاقين، يستطيع أن يوفر لي نوعًا من الخصوصية: يعْجبكِ!

وفعلًا قبلت، لا لشيء لكن لأنني لم أستطع أن أوفر هذه الخصوصية لأمي في بيتنا الصغير … وزوجها.

في زيارة مفاجئة، جاءنا الفِكي في مكتب المنظمة. عندما وجد المستأجرين الجدد ببيتنا، وصفوا له المكتب. كان لا يزال نظيفًا … بدا عليه الاهتمام بنفسه وهندامه، يبدو أنه قد استحم عدة مرات في الشهور الماضية، وغسل ملابسه كثيرًا؛ لأنها بدت باهتة من أثر الصابون والشمس. فمن يره يظنه عامل يومية كادحًا، ليس متشردًا عاطلًا، لا يرغب في العمل. ولو أنه ما زال نحيفًا، تفوح من جسده وملابسه رائحة الشمس. بعد أن تناول بعض الماء وكوب الشاي سأل عن الأطفال: حسكا وجلجل. سألته سؤالا مفاجئًا: أين هرب هو ونونو؟

قال لنا، وكنت أعلم أنه يكذب: إن نونو رفضت البقاء في البيت وأجبرته على الهروب.

– أين نونو الآن؟

قال: إنها في أم درمان، قال: إنها تعمل مع إحدى النساء في سوق قندهار بأم درمان كمنظفة للآنية المتسخة، وأنها تنام في ذات المطعم، قال فجأة ودون مقدمات، واضعًا على فمه ابتسامته المربكة: أنا عايز أشيل أولادي معاي.

قلتُ في استغراب. وكأنه ليست هنالك صلة بينه وبينهم: تشيلهم توديهم وين؟

قال بهدوء وفي فمه ذات الابتسامة الغريبة المربكة: يقعدوا مع أمهم في قندهار. أمهم تبكي الليل والنهار؛ لأنها مشاقة ليهم.

سألته بقسوة: قل لي يا الفكي: الأولاد ديل أولادك؟

قال بسرعة وبكل ثقة: أيوة أولادي! في شنو؟

قلت له: هل يرغب في أن يعيش أولاده عيشة رغدة في بيت نظيف ويتوفر لهما الطعام والشراب وكل شيء. ويدرسان إلى أن يتخرجا من الجامعة وينفعاه وينفعا نفسيهما، ويظلا يحملان اسمه. وصورتُ له ما استطعتُ الحياةَ التي تنتظرهما في كنف أسرة مقتدرة.

قال بإصرار شبيه بالغضب واختفت ابتسامته بصورة كاملة ونهائية: عايز أولادي يتربوا معاي. أمهم عايزاهم.

انضم للحوار المدير التنفيذي للمنظمة وبعض الزملاء، سأله المدير التنفيذي عن أيهما أكبر سنًّا، جلجل أم حسكا؟

قال سريعًا: حسكا.

سأله عن فرق العمر بين الاثنين.

قال، دون تردد وهو يتجنب النظر في عيني المدير: سنة.

قال له المدير التنفيذي إنه كاذب؛ لأن الطفلين توءمان. أنكر ذلك، وقال: إنهما يتشابهان لا أكثر، وإنه يعرف أطفاله جيدًا. وأخيرًا اتفق الجميع على أن تُجرى فحوصات طبية متقدمة لمعرفة حقيقة الأمر، مثل اختبار اﻟ DNA. والفحوصات المصاحبة، بعد ذلك: نديك أولادك لو طلعوا أنهم أولادك بالجد.

لم يفهم شيئًا، لكنه على ما يبدو عرف أن الموضوع أكثر تعقيدًا مما يظن، فسأله المدير التنفيذي — بصورة ملتوية — ما إذا لو دُفِعَتْ إليه أتعابه بسخاء كبير وبسرية تامة. هل يتنازل عنهم لأسرة كريمة تقوم برعايتهم؟ فسكت لفترة طويلة، فسألته عن كم هي أتعابه؟

– ادفعوا لي ٥٠٠ جنيه وشيلوهم مرة واحدة.

قلت له، وأنا أحملق في عينيه: نديك ٢٠٠!

قال وقد برقت عيناه إثارة: ٥٠٠ بس، أنا جاملتكم، اللي في عمرهم ده الواحد ٥٠٠، شيلوا الاتنين ﺑ ٥٠٠.

كما يقول المثل: «كنا نريد أن نصطاد فأرًا، فاصطدنا فيلًا!»

ها هي بوابة قميئة فتحت الآن، كنا نعلم بأنها موجودة في مكان ما لكن لا ندري أيًّا من خيوطها. بعد تشاور فيما بيننا، عزمنا على معرفة التفاصيل التي سوف نحتفظ بها لأنفسنا، إلى أن يحين وقت العمل. ها هو أول الخيط، لن نفرط فيه بعد الآن، مهما كلفنا. اقترحنا بأن نقوم بإغرائه بالمال … إذا رفض فإننا اتفقنا على أن ننتزع المعلومات منه بالقوة. قررنا من حينها بسجنه في مكتب المنظمة إلى حين معرفة كل خيوط الشبكة. لكنه عندما رأى أول ألف جنيه حدثنا عن الزبائن. هو لا يعرف غير الزبائن الوسطاء، أما كل ما عداهم في علم الغيب. بالطبع صدقنا ذلك؛ لأن الزبائن ليسوا بالغباء الذي يجعلهم يكشفون له كل خيوط اللعبة، ولا الأهم منها، أو بعضها، فهو قد يقع في يد من يجبره على قول كل شيء في يوم ما. من ثم حدثنا عن الزبون الذي ينتظر في أم درمان لشراء التوءمين. سألناه: فيمَ يستفيد الزبائن من الأطفال؟ قال: إنه لا يعرف، لكن يُقال: إنهم يستخدمونهم اسبيرات (قطع غيار).

عن طريق كمين قمنا بنصبه مع بعض أصحابنا في المباحث الجنائية والشرطة، في أقل من ساعتين، كان في يدي البوليس أحد أخطر الوسطاء في الخرطوم في المتاجرة بالأطفال، وهو من دل رجال المباحث على موقع «الجزارة البشرية»، طبعًا بعد تمارين شاقة نفذها في غرفة الاعتراف والرقص الممتاز!

•••

بالتأكيد، هذه الرواية ليست رواية بوليسية، وأنتم تتفهمون ذلك. أيضًا لكي لا نربك القراء وبعض النقاد المحتملين، فالراوي فيما يلي هو الكاتب نفسه؛ لأنني لاحظت أن الأبطال الحبريين، الذين صنعتهم بنفسي وبما لدي من مواهب في بنائهم الموضوعي، وتشكيلهم تاريخيًّا ونفسيًّا، أخذوا يسوقون الرواية نحو مخافر الشرطة، ينحون بها منحًى بوليسيًّا، ويتحدثون عن أصحاب لهم في الشرطة والمباحث الجنائية. أنا مثلي مثل ألفريد هتشكوك، وكل المؤمنين البسطاء، أخاف من الشرطيين. لذا سأقود السرد هنا بنفسي، كروائي وراوٍ؛ حتى أجنب روايتي الوقوع في فخ الأجاثاكرستية، أو الكوناندولية، أن تصير رواية بوليسية، وبعد أن أنقذ روايتي سأعيد مِقْوَد الأمور للراوِيَةِ الأساسية سلوى، أو غيرها ممن أتوسم فيهم خيرًا. هذا يعني ببساطة أن السرد سوف لا يعود القهقرى إلى كيف تم القبض على عصابة الاتجار بالأطفال، كيف قاوموا، كيف تحايلوا، كيف تبادلوا الركلات، الضربات … وتراشقوا بالأسلحة البيضاء؟ ولا كيف استل الشرطيون أسلحتهم النارية في مواجهة عنف البازنجر، مَن مات، مَنْ جَرَحَ مَنْ؟ وأنني أيضًا سأتجاهل الأحداث التي كانت قبل وبعد أن يقول كبير ضباط الشرطة، وقد تطاير الشرر الممزوج بالخوف من عينيه: «اقتله، اقتله، عايز يخصيني، أرجوك!»

لكنني كما يفعل ربان السفينة التي تمرد بحارتها، وأعلنوا تحولهم إلى قراصنة، سأتدبر أمر روايتي بحكمة، بحرفية، وطول بال.

لا أدري كيف تجمع السكان بهذه السهولة حول الموضع الذي سيصبح في الشهور القادمة حديث الصحافة والناس، خاصة بعد فضيحة لجنة المنظمات التي تعمل في مجال حقوق الأطفال، تلك اللجنة الدولية التي جاءت تتقصى الخبر أو ما أسموه جريمة العصر، ودخلت البلاد بغير تصديق رسمي، حيث تم رفض طلبها من أولياء أمر الشعوب السودانية وسدنة أسرارها. وما سُمي بفضيحة هو نجاح بوليسنا الهمام في القبض عليهم متلبسين بالتحري في قضية «الجزارة البشرية» — هذا هو الاسم الذي أطلقه بعض المعارضين والخونة للبيت الذي نحن بصدد التحدث عنه — بدون تصديق رسمي.

البيت بناية جديدة تتكون من طابقين، وهو سِمة البيوت الكثيرة التي بناها الأثرياء الجدد، شيد في مدينة الفردوس، حي الصفاء، يجاور المبنى الفخم لشركة نون، الرائدة والمحتكرة لتجارة وتوريد سيارات شركة تويوتا اليابانية. للذين يعرفون تفاصيل وأفرع شارع الستين نستطيع أن نصف لهم المكان بجملة قصيرة: «تقاطع ش٦٠ مع ٣٣»، في شارع قذر، هذه الصفة الأخيرة ليست استثنائية، فكل شوارع المدينة تتصف بها، حتى أكثر أحياء العاصمة رُقيًّا، حيث تتناثر في شوارعها أكياس البلاستيك الفارغة، فوارغ الأطعمة الجيدة، المزابل الحزينة، الأتربة، ونفاياتهم المنزلية القيمة. في العادة يُبقي الأثرياء على بقايا مواد وحفريات البناء، من: طوب، أسمنت متحجر، قطع سيخ غير مفيدة، بعض الحصى، رمال صفراء خشنة، ما يمثل شحنة عربة نقل كبيرة من الأتربة وغيرها، تبقى عشرات السنوات بعد اكتمال المبنى إلى أن تصير هي ذاتها أحد معالم المكان. لا أدري ما الحكمة من ذلك؟! قال لي أحد الأصدقاء، مفسرًا تلك الظاهرة: «إن جُلَّ هؤلاء الأثرياء الجُدد ذوو عقلية ريفية بسيطة مثلهم مثل السياسيين، وليس بإمكانهم أن يفرقوا ما بين ما هو أوساخ وما هو زينة الحياة الدنيا.» يعجبني تعبير الروائي ميلان كونديرا قاصدًا تلك الفئة: إنهم ليسوا أثرياء، لكنهم فقراء لديهم مال.

إذا تركنا النميمة جانبًا، نجد كبار أثرياء المكان، بعض العاملين في بيوتهم، والقليل من الأطفال الذين لم ينصاعوا لأوامر أسرهم بالبقاء في المنازل وألا يقلقوا بشأن ما يدور؛ لأن التفاصيل ستصل إليهم في غرفهم الآمنة، نضيف إليهم ما لا يقل عن مائة شرطي مدججين بأسلحتهم الأوتوماتيكية الرهيبة، عشرين من الصحفيين، ثم الأطفال الأحياء الذين يتم إجلاؤهم من المبنى الآن، يغادرون مثل العميان إلى عربة الإسعاف. عندما مر موكب الجثث أو الرفات المحروق بعد ذلك، يتبعه خيط من العفونة، كان الأهالي ذوو القلوب الرقيقة الرحيمة والأنوف الطازجة قد هَرَبوا بعيدًا قابضين بأناملهم على أنوفهم في تأفف مقيت، اثنان منهم على الأقل سقطا مُغْمًى عَليهما. كان عبد الباقي، سلوى، مدير المنظمة الأصلع وكثير من أصدقائهم، يقفون في داخل قاعة الاستقبال معًا ورجال المباحث. كانت دكتورة مريم ومعها مستشاران من الطب الشرعي، يتجولون حول ما يُشبه قبرًا أسطوريًّا ضخمًا، أو أكبر قبر على وجه الأرض، قبر لا يمكن ملؤه؛ لأنه يحول الجثة إلى بعض رفات حنين وسهل التخلص منه. ينقسم المبنى إلى قسمين رئيسيين مفصولين فصلًا تامًّا عن بعضهما البعض، قسم للإعاشة وهو يتكون من مطبخ كبير، سُفرة تسع عشرين شخصًا وست حجرات، واحدة للمشرفة والطباخة، وخمس غرف أخرى بكل غرفة أربعة أسِرَّة. يحتل قسم الإعاشة هذا الطابق الأعلى من المبنى كله، كان معدًّا جيدًا بحيث يشكل بيئة معقولة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة والثامنة عشرة، بينهم بنتان. ولو أن الأطفال كانوا في حالة من الإعياء بالغة؛ نتيجة للمخدر الذي يتناولونه بصورة مستمرة، أو كما لاحظ أبطالنا، كانوا شبه موتى. حسنًا، إنهم مثل الزومبي Zombie، نصف أحياء ونصف أموات، يأكلون ويشربون ويذهبون للمرحاض، عندما يتكلمون لا يقولون شيئًا مفيدًا، مجرد همهمات بائسات مملات في الغالب لا تعني شيئًا يستطيع أن يفهمه المشرفون. وجوههم مسطحة، مسترخية لا تظهر أي مشاعر، كأنها أقنعة بلاستيكية. يقضون خمسين في المائة من يومهم — كما هو متوقع لمن في حالتهم — نيامًا.

الجزء الآخر من المنزل ينقسم إلى قسمين متصلين ببعضهما البعض: المقبرة والمشرحة. الأخيرة هي غرفة عمليات ميدانية معقمة، بها أجهزة بسيطة. تفسر دكتورة مريم ذلك بأنهم لا يحتاجون لغير مشارط، بعض المقصات والقطن. يعطون الطفل جرعة كبيرةً من المخدر، لا يستيقظ بعدها أبدًا. ثم يقومون بنزع أعضائه الحيوية، يحفظونها في ثلاجات خاصة — توجد اثنتان منها — ثم يتخلصون من بقية الأحشاء والجثة في المقبرة المجاورة، والمقصود هنا الحجرة الأخرى، أعني الفرن؛ حيث يتم تجفيفها تدريجيًّا، من ثم الاحتفاظ برفاتها لسانحة التخلص منه. قد لا تحتاج هذه العملية طبيبًا متخصصًا، بل يستطيع جزارٌ ماهرٌ — تلقَّى فترة تدريبية قصيرة على يد شخص متمرس — القيامَ بكل ذلك، بسرعة وإتقان. أهم شيء في الموضوع هو الحفظ السليم في المكان السليم، وسرعة التخلص من العضو بالبيع للزبون المناسب الذي في غالب الأحوال يتم توفيره قبل العملية، عن طريق وسطاء ثقات وذوي خبرة عالية في المجال. توالت المعلومات بصورة مُدهشة بعد ذلك، تم كشف ثلاث شبكات رئيسية؛ أكبرها: فرع النيل الأبيض، مقرها مدينة ربك. الثانية: فرع النيل الأزرق، مقرها مدينة سنار. الثالثة: تسمى المكتب الرئيسي، مقره هذا المبنى بالخرطوم. أما الأفراد الذين ينطوون تحت هذه الشبكة، فإنني لا أستطيع أن أذكر أسماءهم هنا ولا وظائفهم أو أي معلومة عنهم، فهم عينة الشخصيات التي يُعَبَّر عنها بجملةٍ غليظةٍ حاسمةٍ: «الشخصيات التي يجب ألا تُمَس!»

وكما تقول إحدى بطلات «ذَاكِرة الخَنْدَرِيس»، وأظن أنها أم سلوى: «خَوفُ المُؤمنِ عَلى نَفْسِه حَسَنة.» وإنني أعلم أيضًا أنكم لا تتوقعون مني غير ذلك.

عَليَّ أن أتوقف هنا، أُسلِمُ مِقْوَدَ السرد لأبطال الرواية، سلوى سوف تكمل معكم كل ما ترغبون فيه أن يكتمل.

•••

كنا في حالة نفسية جيدة وروح معنوية عالية، على الرغم من أننا فشلنا تمامًا في الوصول لأي خيط يقودنا إلى موردي الميثانول القاتل، وكان دائمًا ما ينقطع الخيط عند خط أحمر لا يمكن تجاوزه. فكل الموردين العشرين، إما أنهم قُبضوا الآن تحت التحقيق، أو أنهم هربوا واختفوا نهائيًّا. اثنان منهم ماتا مسمومين بذات الميثانول. لكنا كنا سعداء جدًّا بما حققناه من نجاح في موضوع بيع الأطفال نجاحًا ما كنا نحلم به، أتى إلينا ساعيًا بقدميه ونحن لم نبرح مكتبنا، لكن أليست الصدفة تأتي لمن يبحث عنها؟

كانت أمي في غاية السعادة، لم أرها مطلقًا في تلك الحالة إلا في يوم زواجها، لدرجة أنها سمحت لي صراحًة أن أذهب مع بقا أينما شئت: اتفسحوا!

لكني قلت لها موضحة: للأسف يا أمي أنا وبقا انتهت العلاقة اللي بينا.

قالت مندهشة: لييه يا بت؟

قلت لها محاولة أن يكون صوتي هادئًا وعاديًّا: أنا سوف لا أفكر في موضوع الزواج أبدًا، في هذه الحياة ما هو أهم منه، أما الأطفال فالآن لدينا توءمان، أنا وأنت شركاء. قالت بصوت منخفض: شنو الأهم من الزواج؟

حسنًا، يا سلوى، قولي لها ما هو الأهم من الزواج! لم تكن لدي فكرة محددة، أو إجابة مقنعة، أو إنني كنت أفكر في شيء بعينه عندما قلت لها تلك الجملة. لكن من منطلق أن أجيب على سؤالها الذي هو أشبه بصفعة غير متوقعة من كف نمر على وجهي، لم أقل لها إن عبد الباقي يعد التفكير في الزواج انحرافًا من قِبل البنت، ومحاولة فاشلة من الرجل على احتلال جسد المرأة وحسم معركته ضده بهزيمته أو بافتراسه، قلت لها: أهم من الزواج عدم التفكير فيه.

تراجعت أمي مبتسمة في حزن. بدا واضحًا أن إجابتي لم تقنعها … بل إن إجابتي لم تقنعني أنا أيضًا. هكذا، تعكر مزاج أمي مرة أخرى، أخذت تعتذر لي ظنًّا منها أنني تأثرت برأيها السَّلبي عن عبد الباقي، وأنني استجبت للضغط الذي فرضته عليَّ؛ فتركته. أكدت لي أنها لا تشك في أخلاقي وسلوكي بل ووعيي بالحياة، لكن قلب الأم الذي لا يطمئن على شيء، كان دليلها الأوحد. قلق أمي وعكرة مزاجها لم يمنع أن يستمر الحفل في مكتب المنظمة إلى ساعة متأخرة من الليل، وأن يغني صديقنا أمير موسى أجمل أغانيه ويحكي لي في أُذني نكتتين بذيئتين. ولم يمنع أيضًا من أن أقضي باقي الليل في حجرتي الجميلة في صحبة حبيبي الجديد، الذي تم إطلاق سراحه قبل ساعتين، اتصل بي بمجرد أن وجد أول مركز اتصالات، كان هزيلًا، في أردية متسخة، لكن ليس بجسده أثر للضرب، إنهم لم يعذبوه مباشرة على جسده، فقط كانوا لا يسمحون له بالنوم. قال لي لاحقًا: في الحقيقة كنت لا أرغب في النوم، إلا إذا باغتني النوم مباغتة، كنت خائفًا جدًّا، خائفًا بالجد.

كانت تفوح من جوانبه رائحة أشبه بعبق الخشب المتعفن. كنا في الحمام … طلب مني أن أدلك جسده بيدي، قال: إنه يفتقد كثيرًا ملمسًا رقيقًا. لم يمس جلده الماء طوال الأسابيع التي حُبس فيها. كان سعيدًا جدًّا، يظن أن حياة جديدة قد كتبت له، ما كان يصدق أنه سيخرج من ذلك الجب سالمًا. العجيب في الأمر إلى تلك اللحظة، لم يستطع أن يتبيَّن حقيقة الذين قاموا بحجزه طوال هذه الأسابيع! لم يخبره أي منهم عن سبب حجزه، كما أنه لا يعرف لم أطلقوا سراحه أخيرًا؟! سألته سُؤالًا ظل يُؤرقني لشهور كثيرة مضت: ما هو السؤال الذي طرحه على وزير الرعاية الإنسانية في المؤتمر الصحفي بمقر جريدة السودان في ٢٠ / ٧ / ٢٠١١؟ كان عليه بالساحق والماحق والبلاء المتلاحق؛ فقد وظيفته لأجله وما زال مطاردًا من قبل جهات كثيرة. تحدث وهو مغمض العينين، يحاول أن يضع ابتسامة صغيرة على شفتيه المبتلتين؛ لأن الصابون السائل كان يهبط من شعر رأسه على جفنيه وفمه مباشرةً، قال من بين فقاعات الصابون: «سألته: هل تم تبادل أي خبرات فنية بين الحكومة الوطنية وحكومة البرازيل في شأن التعامل مع إشكالية التشرد؟ وهل تمت الاستفادة من تلك الخبرات، إذا ما كان قد حدث هذا التبادل فعلًا؟»

٢٩ / ١١ / ٢٠١١
الدمازين – النيل الأزرق

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤