الفقيه المتشرد

أمي تحبني أو هذا هو خيارها الوحيد، فليس لديَّ إخوة أصغر أو أكبر يقاسمونني حبها، كنا أنا وهي فقط في هذه الحياة. أنا أيضًا أحبها، هذا لا يمنع الشجار اليومي الذي يجري بيننا واختلاف وجهات النظر في أشياء جوهرية ومهمة. مشكلة أمي لا تتحمل السرعة التي أغير بها رأيي في القرارات التي قد أكون اتخذتها بكامل وعيي وإرادتي. والشيء الآخر هو أنَّ أمي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة تخصني بل الأشياء التي تخصني وحدي، كتصفيف شعري أو فرده، تعاملني كطفلة غير راشدة، هذا هو السبب المباشر الذي يوتر العلاقة بيننا. قد كنت أصر على أن يبقى بُقا الليلة في البيت، أن يبيت بالديوان، وجهة نظرها ألا يبقى رجل مع سيدتين لا تربطه بهما وشائج شرعية: يقولوا الناس علينا شنو؟

– أنا يا أمي لا أهتم بما يقول الناس.

ترد مستخدمة طريقتي نفسها، مع التأكيد على كلمتي أهتم والناس، ربما نطقتهما مستخدمة أسنانها: لكني يا سلوى، أنا أهتم بما يقول الناس.

قلت لها همسًا: نحن ماشين نشوف المتشردين في الحديقة، وحنجي وننوم هنا في البيت، والبيت ده بيتك زي ما هو بيتي وبيت أبوي.

قالت بكل برود، بذات درجة الصوت الهامس في أذني، وهي تقبض على رأسي بشدة كأنما لو أنها أطلقتني سأهرب قبل أن تكمل جملتها: أبوك لو كان عارف بنته بتطلع زيك قليلة أدب كان «قتلك»، قتلك قبل ما يموت.

قلت لها، قد ملئت غيظًا: كويس، أنت ليه ما قتلتيني؟!

قالت وهي تحملق في عيني: أنا لا أقتل الذباب والحشرات.

لحسن الحظ عبد الباقي لم يكن قريبًا ليسمع شتائمنا، كان بالديوان وكنت وأمي بالمطبخ، عندما تصل أمي لهذه المرحلة من إطلاق الشتائم أفضل الانسحاب؛ لأنني لا أستطيع أن أحمي نفسي من أسلحتها الشريرة التي تبدأ بالقذف بآنية المنزل، لا يعلم غير الله ما يكون آخرها!

خرجنا — أنا وبُقا — استقللنا المواصلات العامة من بحري المحطة الوسطى إلى ميدان الشهداء، إلى الحديقة. عبرنا أمام بيت جدنا الخليفة عبد الله التعايشي، لم تكن لدينا — الاثنين — رغبة في ممارسة الجنس، ولو أن كلينا نظر إلى البيت الأثري الجميل في تَشَهٍّ، كان يشغل جسدينا وروحينا الأطفال والمتشردون المعرضون للتصفية. حيانا الرسميون الذين يحرسون بوابة بيت الخليفة. قد تكون القطط سعيدة الآن في حجرتنا، قد تتوسد مخداتنا ولحافنا اللذيذ. كانت الحديقة المهجورة صامتة كعادتها، دخلناها بحيث لا يرانا أحد، خاصة رجال الشرطة. لم نجد الأطفال الآخرين. شممنا رائحة الجثة المتعفنة منذ ولوجنا حوش الحديقة، عندها أصررنا على الدخول سريعًا. كانت الرائحة تجذبنا للداخل على الرغم من أنها لا تُطاق. وجدنا جثتين لطفلين آخرين متعفنتين، في الحجرة شبه المظلمة، تحرسهما جيوش من الذباب والجرذان، كان طنين الذباب مرعبًا. ونحن نتعمق في الحجرة المهجورة وجدنا آخر يحتضر يطلب الماء، بين حين وآخر يردد في صوت حزين: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحمدًا رسولُ الله . يرتل سورة من القرآن لم نتبينها، لكننا كنا متأكدين أنه يقرأ سورةً ما. يطلب جرعة ماء، ثم يردد الشهادة مرة أخرى. كان شبه مشلول … شبه ميت … شبه نبي … شبه إنسان!

بغير أي تحفظ، في لحظة واحدة حملناه خارج المكان، أنا من جهة الرأس، باقي من جهة الساقين. كان ثقيلًا، طويلًا كث الشعر، باردًا وثرثارًا مثل ببغاء. أحضرنا له ماء، رفع رأسه، نظر إلينا، قال بصوت متحشرجٍ: عايز آكل، أنا جيعان حاموت من الجوع.

أصابتنا الحيرة البالغة في أسلوب التعامل مع حالته، كان الخوف هو السيد الأساسي والوحيد للموقف. العفنة تطل علينا بعنقها القذر من داخل الحجرات، شبح الجثث يطاردني … يرتسم في كل شيء أنظر إليه. كانت عيونهم البارزة للخارج تحملق فيَّ طوال الوقت … أصبت بحالة من الغثيان. المتشرد الطويل يثرثر في همس غير منقطع، يقرأ ما يمكن أن نطلق عليه كلامًا مقدسًا … وهو يحتضر في صورة دراماتيكية. يرجونا بإصرار إنساني ومحبة في البقاء عنيفة، أن ننقذه! نخاف أيضًا على أنفسنا من السجن والمساءلة؛ حيث بالإمكان أن تُلفق في حقنا أي من التهم ذات المعيار الثقيل. كنا كما هو واضح ومعروف أننا نخشى من فرقة الموت. لم نرهم … لم نحتك بهم، لكنهم كانوا دائمًا ما يفيخون في وعينا ويشعلون عُشب المخالفات في ذواتنا … نتخيلهم يطوفون حولنا مثل فريق من الشياطين. إنهم دائمًا موجودون في مكان ما في الوعي أو خارجه. إذا كان لدينًا المال لكان تصرفنا مختلفًا، فالمال — كما يقولون — نوع من التفكير. كنا في قارعة الطريق ويسهل القبض علينا؛ لأن الجثة التي لا تكف عن الثرثرة ترقد ممددة على الأرض في وضع شاذ ومفضوح. قمنا بتغطيتها بجوال فارغ من الخيش عثر عليه عبد الباقي في المكان. قبل يومين أقام بعض السياسيين الرحماء مأتمًا للعزاء في بيت كبير وثري، تحدثوا فيه عن المتشردين بحب وعاطفة جياشة. قد بكى البعض على الظلم الذي حاق بهم وحقهم المسلوب في الحياة الكريمة. كنا هناك، تعرفنا برجل ذي مال وعاطفة، رجل شحيم بدين نظيف، تفوح من جوانبه فابريقات كرستيان ديور، قال لي إنه سيقدم لنا كل ما يستطيع من مساعدة طالما كنا نخدم المتشردين طواعية: أنا مهتم شديد بموضوعهم، لا بد من تصحيح وضع المتشردين في السودان.

قمت بالاتصال به عبر جَوَّاله، جاء صوته هادئًا منسابًا رقيقًا من الجانب الآخر، بلغني شوقه في كلمات عشر ثقيلة، وأنه سأل عني كثيرًا، وفي باله محاولة مبيتة للاتصال بي ودعوتي لوجبة في مكان سوف أختاره بنفسي. لم يسألني لمَ اتصلتُ به، ولم يعطني فرصة لقول ما أريد قوله، إلى أن نفد رصيدي القليل جدًّا من الدفع المقدم وانتهت المكالمة إجباريًّا. لكنه اتصل بي مرة أخرى سريعًا قائلًا: إنه سيدخل في اجتماع بعد قليل مع مسئول كبير، سينتهز الفرصة ويناقش معه موضوع المتشردين، سيتصل بي لاحقًا، ربما بعد الاجتماع مباشرة: تسلمي يا ستي، باي باي!

أخذ منا سائق التاكسي كل ما لدينا من نقود، وهي ليست كثيرة. أمي كانت أكثرنا حركة وقلقًا على صحة المتشرد المريض، واتبعت معه طريقة للإطعام تقول: إنها الوحيدة التي تنفع مع شخص لم يتذوق الطعام منذ أيام. كل ما يعاني منه كان ألمًا في المعدة حادًّا … أعطيناه جرعة كبيرة لا نعلم مقدارها العلمي من الفلاجيل، وهو الدواء الذي نتناوله في البيت لكل الأمراض التي تصيبنا في الأحشاء؛ حيث إننا لا نستطيع أن نفرق ما بين ألم المعدة، ألم المصران، والمغص الكلوي. صنعت له أمي كوبًا كبيرًا أيضًا من الحلبة. سألناه ما إذا كان يشعر بصداع؟ قال: إنه يريد أن يأكل لا أكثر. التهم كل ما يستطيع بلعه مثل تمساح بشري. أعطته أمي إحدى جلابيب أبي، بعد أن استحم جيدًا. رمينا بلباسه، بنطاله وفانلته الداخلية الممزقة التي تفوح منها رائحة نتنة بعيدًا … تم استبدال كل شيء. كان شابًّا وسيمًا نحيفًا تبدو على وجهه بعض التقرحات بفعل المرض أو الشجار اليومي … عيناه ضيقتان محمرتان … كان يبتسم بصورة متواصلة حتى ظننا أنه أبله. قال إنه لم يتناول الأسبرت أو أيًّا من المخدرات في حياته، ليس حتى التمباك والسجائر. وقال إن والده أودعه خلوة في ضواحي كردفان، وأنه هرب منها وعمل مساعدًا في شاحنة لوري إلى أن وصل أخيرًا إلى مدينة أم درمان، التي كان يعلم أن بها أحد أقاربه. بحث عنه ولم يجده؛ لأنه كان يظن أنَّ ذلك سهل، فأم درمان في مخيلته لم تكن سوى قرية كبيرة. وهكذا بات يومها في الطرقات ثم يومين … إلى أن أصبح بلا نقود. ثم تعرف على أطفال ورجال وبنات الشوارع، ثم صار واحدًا منهم. هو الآن زعيم لكل المجموعة التي تقيم حول موقف الشهداء وعمارة المتشردين، قد حصل على شهرة عظيمة في المعركة التي دارت بين مشردي سوق أم درمان ومشردي الشهداء؛ حيث كان أول من استخدم النبلة في مثل تلك المعارك. يسمونه: «الفِكِي»؛ لأنه كان الوحيد بين كل المتشردين الذي يحفظ بعض سور القرآن ويعرف كيف يتوضأ، ولو أنه لم يتوضأ أو يصلي في حياته كلها. كان يصنع التمائم والأحجبة لأصحابه، ويعرف كيف يلقن الشهادة للمحتضرين منهم؛ حتى يموتوا على ذمة الإسلام ويدخلوا الجنة. كانت بساقه اليُسرى علامة لجرح كبير … بل قطع بسكين أو آلة حادة، تجنب الخوض فيما هو وراء ذلك الأثر.

في الحقيقة أنا لست خالية ذهن تمامًا عن ماهية هذا الفقيه المتشرد، فعملي في مجال المتشردين جعلني أعرف الكثيرين منهم شخصيًّا وأسمع عمن لم ألتقِ بهم، وخاصة إذا كانوا ذوي سمعة متميزة وخطرة مثل هذا الفقيه المزيف، الذي يرقد في ديواننا الآن بعد أن نجا بحياته وألَّفَ قصة روت كيفية وصوله إلى أم درمان طازجة قبل قليل. ربما تكون هي قصة متشرد حقيقية رواها له في يوم ما. هذا الذي يعرف بالفِكِي أخطر متشرد مرَّ بمدينة أم درمان، مغتصب، سارق، كاذب، قاتل، وعلى ذلك كله يمارس الدجل والشعوذة. كان بُقا أيضًا قد تبين أننا قد أنقذنا حياة مُتشرد كبير، زعيم لا يُشق له غبار، رجل صال وجال في شوارع المدن الثلاث. الشيء المحير فعلًا هو أنَّ متشردًا بكل تلك السُّمعة لِمَ لَمْ يحاول أن يغير من واقعه شيئًا، وكيف حاصره الموت في ذلك المكان المهجور العفن؟! إذن، هل صحيحٌ ما قاله إنهم كانوا يقصدونه هو بالذات: ليشنو (لماذا)؟

لأي مدًى يمكن الاستفادة منه في مشروع التحري؟ عندما مشي على قدميه، بعد أسبوع بأكمله حيث لاحظنا أنه يمشي بعرج طفيف نتيجة لقصر في رجله اليسرى. لاحظنا أيضًا أنه أطول بقليل مما رأيناه في بادئ الأمر وأكثر نحافة، بجسده ندبٌ صغيرٌ، جروح متعددةٌ مبعثرةٌ في وجهه وكتفيه. لكنه تحدث بفصاحة قبل أن يتمكن من المشي بأيام كثيرات، أقصد منذ اليوم الأول؛ حيث إنه استطاع أن يثرثر ببراعة مع أمي، وباءت محاولاته بالفشل في إقناعها بأنها مريضة نتيجة عمل شرير فُعل بها، وأنه «فِكِي» عالج ويعالج المرضى عن طريق القرآن، ورتل عليها سورة يس من ذاكرته. أمي، أنا وبُقا كنا نعرف أنه إنما يريد أن يقدم شيئًا لنا ولأمي بالذات مقابل رعايتها المتفردة له … لم ينجُ أيضًا من تهمة التكسب. أمي تفعل كل شيء بحب، تقول: إنها لا تقوم بعمل أي شيء ما لم تشعر بالحب.

تمشَّى قليلًا، احتسى قهوة طيبة صنعتها له أمي. قال وهو يضغط بكف يده اليسرى، على عنقه النحيف الذي تغطيه شُعيرات الذقن الكثة، إنه يريد أن يقول لنا الحقيقة وراء حياته. لقد كذب علينا في بادئ الأمر، وحكى لنا حكايات سمعها من بعضهم، وهي الحكايات الرسمية وراء كل متشرد، يحكونها للشرطيين وللقضاة إذا مثلوا أمامهم في محكمة، للباحثين الاجتماعيين وموظفي المنظمات العاملة في المجال.

– أنا بخاف من الناس، لكن أنتو ناس طيبين أنقذتوا حياتي.

أنجبته أمه على مسطبة خلف مباني السينما الوطنية بالخرطوم بحري قبل ما لا يقل عن ثمانية وعشرين عامًا — وهذا بالتخمين — بعد انتهاء العرض السينمائي بقليل، قبل أن يغادر رواد السينما شارع السيد علي الميرغني. لقد شهد ميلاده مئات الأفراد … كان ميلادًا طليقًا وحرًّا، على الهواء مباشرة، تمامًا مثل ميلاد الحملان! تبرع ممرض رحيم — كان قد صحب حبيبته الجميلة للسينما عرض في هذا اليوم — بقطع حبل السرة والتخلص من الملحقات المصاحبة للولادة. أرضعتني أمي في الفور، هكذا كانت تقول له دائمًا: أنت مولود جيعان! حتى آخر مرة رآها فيها، كانت تكرر له الجملة نفسها، وسيظل جائعًا طوال عمره؛ لأن كلبا ضالًّا قد أكل المشيمة خاصته … خطفها من قرب أمه الدائخة التي كانت تنوي أن تقوم بدفنها عند باب السينما متى ما أفاقت من خدر الولادة. على الرغم من أنه كان أول المواليد، إلا أن أمه في ذلك الوقت عمرها اثنا عشر أو ثلاثة عشر عامًا، لكنه يصر على أن عمرها كان ثماني سنوات أو أقل. دكتورة مريم أكدت لنا أنَّ ذلك مستحيلٌ لأسباب علمية؛ حيث إنَّ الرحم لا يكون قد اكتمل عند الثامنة. الشيء الآخر والأهم هو: مَن عرَّفه أن أمه كانت في الثامنة؟ كيف عرفت أنها في الثامنة؟ لقد شاهد بأم عينيه طفلات صغيرات في أقل من الثامنة من عمرهن يمارسن الجنس في الأوكار ومجاري مياه الخريف باستمتاع، بل يمتهن الدعارة ويكسبن منها الكثير، وإنهن يحبلن ويلدن ويرضعن أطفالهن! هو نفسه قد مارس الجنس مع بعضهن، ليلًا ونهارًا، في الأجحار والأوكار وقارعة الأزقة الخالية من المارة في منتصف الليالي المظلمة، أينما اتفق وصادف أن اختلى بواحدة منهن. لقد حكى لنا فيما بعد أنَّ أمه ذاتها وُلدت في أحد شوارع أم درمان من أم طفلة، أنجبتها ثم ماتت مباشرة بعد ميلادها … وهذا قضاء وقدر لا أكثر. إذن، من عَرَّفَها بتاريخ ميلادها؟ ولو أنَّ هذا المنطق أيضًا يمكن الرد عليه وتفنيده بكل بسهولة. تربى في كل الشوارع بدون فرز. يعرف كل الأمكنة بالعاصمة ذات المدن الثلاث بأسمائها، يحفظ تاريخ كل مبنى، حديقة، حفرة، وكوشة، بل يستطيع أن يقول: إنَّ أول مالك عربة في الشارع الفلاني كان اسمه فلان الفلاني! هذا الرجل النحيل الطويل ذاكرة للمكان لا يُسْتَهانُ بها. ثم حدثنا قائلا: أنا أول زول باع الأسبرت في الخرطوم للشباب. وحياتي ما شربتهُ … قلبي أباه كُلو كُلو (نهائيًّا) ريحتو بتعمل لي طُمَامْ. أنا لا أدخن ولا بشم ولا بسكر بس لو ربنا هداني من الشغل داك! تاني ما عندي مُشكلة.

سألته مستفسرة: الشُغُل دَاكْ شُنُو؟

قال دون إحراج وهو يبتسم وينظر إليَّ في وقاحة: اللقو!

واللقوية هي كل ما يُمكن أن يُمَارَس معه الجنس وتُطلق على المذكر والمؤنث … على امرأة، رجل، أو حيوان. وهي مفردة شائعة في لغة المتشردين المسماة بالرندوك. ويستخدمها أيضًا أنصاف المتشردين وبعض العاملين في الأسواق والمهن الهامشية، ونحن الناشطين مع المتشردين.

قال إنه حفظ كل الذي حفظهُ من القرآن من صلاة الجمعة وبعض القراء العرضيين الذين يوجدون هنا وهنالك، يقرءون القرآن وينتظرون الناس أن يضعوا في مواعين فارغة أمامهم بعض المال، مال يتراكم يومًا بيوم إلى أن يصبح في يد البعض ثروة طائلة: في واحد بنى بيتًا وعنده عشرين ركشة!

كان بإمكانه أن يصير شحاذًا من تلك الفئة القرآنية التي تثري بسرعة، إلا أنه لا يمكنه أن يكون طاهرًا طوال الوقت، والقرآن يحتاج لطهارة. اعترف فيما بعد أنه عمل في مهنة شحاذ قارئ للقرآن لما يقارب الشهرين على أسوار الجامع الكبير بالخرطوم، لكنه أصيب باللعنة وبدأ جسده يصدر رائحة أشبه ببول الكلب، كبر القمل برأسه حتى أصبح في حجم الصراصير، قد بصق في مرات كثيرة ديدان كبيرة في حجم الأصبع من فمه، وأقسم أن ثعبانًا حيًّا خرج من دبره. عرف أن ذلك حدث له؛ لأنه كان يتلو القرآن في نجاسة، وهو لا يستطيع أن يتحكم في أمر نجاسته؛ لأنه لا يستطيع التحكم في ممارساته الجنسية الضالة. في اعترافه المشين للسمعة الإنسانية، قال: إنه يمارس الجنس مع كل الأنواع، نساء ورجالًا، أطفالًا وطفلاتٍ وبعض الحيوانات الأليفة مثل الكلاب والمواشي، قد لخص عبد الباقي ذلك قائلًا: مع كل ذي دبر!

كان يستطيع أن يحفظ كل ما يسمعه دون أن يعرف ماذا يعني ذلك عن ظهر قلب! واختبرناه. أخذ يكرر لنا كلامًا علميًّا قالته دكتورة مريم — بنسبة ثمانين بالمائة — وكأنه مُحاضِرٌ جامعي في علم الأحياء الدقيقة، أو ببغاء آدميٌّ كبيرٌ. أسمعنا من الذاكرة مباشرة — هو لا يقرأ ولا يكتب — خطبة صلاة جمعة كاملة. كنا نكتشف فيه شخصيةً غريبةً ومدهشة لإنسان إذا كان قد وَجَدَ قليلًا من الرعاية والإرشاد النفسي؛ لأصبح اليوم شخصية مختلفة، على الأقل فقيهًا دينيًّا، أو كما قالت دكتورة مريم: خطيبًا سياسيًّا ماهرًا. أضافت: إن هذا الفِكِي قد يكون ذكيًّا جدًّا أو في غاية الغباء، من يدري؟! ابتدرنا الحوار في موضوع الإسبرت، ونحن قد تعبنا من حكاية بطولاته التافهة، التي نعدُّها نحن غير إنسانية وفي غاية الوحشية والقرف.

مصادر الأسبرت (الأثينول) كثيرة ومتعددة. قال: أهمها: دكاكين تركيب العطور.

قال له بُقا مؤكدًا: نعرف هذا المصدر.

قال وهو ينظر في عمق عيني بقا، وفي فمه ابتسامة مربكة: ستات العرقي!

قال له بقا: نعرفهن برضو.

قال: الأسطى!

– من هو الأسطى؟

– اسمه الأسطى.

– وتاني؟

– ما عنده اسم.

– وتاني.

قال: الصياغ بتاعين الدهب والفضة.

– وتاني؟

قال: أمي.

– أمك؟

– أيوا … أمي، يجيبهُ ليها الأسطى براو «بنفسه».

– وتاني.

قال ضاحكا: أنا.

كان يبتسم كثيرًا، بصورة حسبناها في بادئ الأمر مَرَضِيَّة، لكننا قليلًا قليلًا تعودنا عليها وفهمنا أنها ليست سوى حيلة لتلطيف اللغة الخشنة التي يعبر بها عن الأشياء. يحب أن يتحدث عن كل شيء … يخاف من شيئين: الموت والشرطة. وهو في ذلك مثلنا جميعًا. إلا أنه اعترف لنا طواعية بجريمتي قتل قام بهما وعشرات جرائم الاغتصاب. وهو لا يسميها اغتصاب، بل يطلق عليها سيطرة، وقال: إنها سُنة الحياة؛ راكبْ أو مركوبْ!

في الحقيقة استخدم الفِكي كلمتين بذيئتين تافهتين وهما: «ظاعط أو مظعوط»، لكننا استبدلناهما بتلك الكلمتين المحترمتين مراعاة منا للذوق العام وحساسية المصنفات الأدبية المفرطة وخصوصية الشعوب الرسالية الطيبة، مثل شعبنا السوداني. على كلٍّ، الفكي يفضل أن يكون الأول، لكن في ظروف كثيرة في هذه الشوارع اللعينة المظلمة، وخاصة في صباه الباكر، كثيرًا ما كان الثاني!

– والمُشْكِلة شُنُو؟

والآن يبدو أننا تعرفنا على خمسين مصدرًا للميثانول والأثينول في المدن الثلاث … الخرطوم، بحري وأم درمان. والفكرة الحكيمة التي أتت بها أمي هي أن نصطحب الفكي معنا لنرى أمه ونتحدث معها بشأن الأسطى. من اسمه يبدو أنه ذو أهمية بالغة، وظننا أنه مفتاح اللغز. بعد أن اشترينا له ملابس جديدة وحذاءً جديدًا جميلًا … أخذناه للحلاق الذي قام بإزالة شعر ذقنه ورأسه كله حتى ينمو له آخر خالٍ من بيض القمل والبراغيث، وحف شاربيه بعد لأي، فالشاربان دليل الرجولة. قام بنفسه بنظافة جسده الشخصية … تعطر جيدًا وخرجنا. كان يمشي بسرعة أمامنا، وهو يتحسس ملابسه من وقت لآخر … يبتسم لنا ابتسامته المريبة تلك. عبرنا أزقة كثيرة في سوق أم درمان. كان يتوقف فجأة عندما نمر بمزبلة كبيرة. وكم مرة منعه بقا من تناول بعض المرميات على الأرض! كان يقول أنه يفعل ذلك دون شعور منه … وأن رائحة المزبلة تجذبه إليها. للمزبلة رائحة متميزة ورحيمة، أستطيع أن أشم من بعد كافٍ رائحة ما يمكن أكله وهو مرمي بإهمال في كومة الأوساخ … لولا هذه المزابل الرحيمة لماتت أمم من البشر. كنت أتوقع أن تقع عيني على أمه بين وقت لآخر … في ركن ما … في زاوية ما من الطريق، لكنني لم أنتبه إلى أنه لا يوجد متشردون في الشوارع. أم درمان في هذه الأيام أصبحت مثل مدينة فاضلة، خالية من الشحاذين، المتشردين، والمتسكعين الكثيرين الذين كانت تذخر بهم وتجمل وجهها الفقير الخشن بسحنتهم البائسة! في حقيقة الأمر، المدينة نفسها مثل متشرد مُهمَل فاقد الرعاية الأسرية، بائل في نفسه متبولٍ على غيره، مخبول وأعمى. أخذتُ أحس بالخوف الفعلي. ولجنا ممرًّا مظلمًا — أو يكاد أن يكون كذلك — يقع خلف سوق أم درمان، عند زقاق المباول العامة، كانت رائحة المكان لا تُطاق، تحتلها أنفاس الفضلات الآدمية والحيوانات النافقة التي تُرى هنا وهنالك. أمام مجرى مائي شبه مغلق، طلب منا أن نتوقف ونتركه يذهب وحده. قلنا له عليه ألا يخشى شيئًا من جانبنا! قال: إنهم يخشون … كما أننا الآن جنب المكان. جلسنا على الأرض كما طلب منا؛ لكي لا نُرى منذ الوهلة الأولى. تقدم بضع خطوات ثم أطلق صفيرًا ناعمًا ثلاث مرات وصمت. بعد دقيقة أو أكثر أو أقل سمعنا صفيرًا آخر. ثم رد الفكي بصفير؛ فانفتح غطاء مجرى لتصريف مياه الأمطار وخرج منه طفلان صغيران أشعثان عاريان تمامًا كأنهما إبليسان صغيران من رسومات الفنان الإسباني بُول كلي … جريا نحو الفلكي وتشعبطا في يديه الطويلتين. قال مبتسمًا: ديل أولادي حسكا وجلجل.

لم نسأله أيهما حسكا وأيهما جلجل، فلقد كانا يشبهان بعضهما البعض مثل عملتين من فئة واحدة.

بعد قليل خرجت شيطانة كثة الشعر … بل لها شعر طويل يصل إلى منتصف ظهرها، متسخ وملتف على ذاته. لونها يميل للصفرة، صغيرة عجفاء مثل جرو أجرب جائع. قفزت مباشرة في كتف الفكي الطويل. باسها في وجهها المتسخ قائلًا لنا: دي بتي نونو.

نظرت إليه باستغراب أو إعجاب، أو ربما بتساؤل، ثم عضته في عنقه النظيف المعطر بشدة. صرخ في صوت قبيح مرح: حبوبتكم جِريوة وين يا عيال الكلب؟

قال الطفلان معا في آن واحد: اتلحست (ماتت). ثم أضافت نونو بصوت خمير: دَقَستْ واتلحستْ، شالوها الإرا (البوليس) ميتة يوم الجمعة.

لم يظهر على وجهه النظيف أي أثر للحزن، الصدمة أو المفاجأة، وكأنه سمع نشرة أخبار الأرصاد الجوية التي لا يفهم فيها شيئًا.

قلت له معزية: البركة فيكم!

وتقبل التعازي من الجميع. لم يبك … لكنه أخذ يحزن تدريجيًّا في صمت قاتل، أو كما ظننت. لم يسأل عن شيء، مضى وأبناؤه معلقون على كتفيه وظهره. مَرَّ أمامنا ونحن جالسون كأننا لم نكن هناك. خرج من الزقاق، خرجنا خلفه. كان منظرًا غريبًا وشاذًّا، رجلٌ يرتدي ملابس جميلة جديدة زاهية، نظيف حليق الرأس، الذقن والشارب، يفوح من بين جوانبه عطر hope، على ظهره وكتفيه أطفال في غاية الاتساخ والبشاعة، يصيحون مثل دجاجات بلدية شَمت فُسَاءَ ثعلب … اثنان عاريان تمامًا، صبيةٌ تلبس ما لا يستر ولا يعري، مِزَقًا شديدة الاتساخ، بها عفونة جثة قط نافق منذ أسبوع، شعرها الكث الغريب يغطي كثيرًا من عريها. وقبل أن ينتبه إليهم من يمكن أن يؤلمهم، قمنا بحشرهم في عربة أجرة. انطلقنا نحو منزلنا في الخرطوم بحري، احتج كثيرًا سائق العربة على الروائح التي لا تطاق، وكان يمضي في الشوارع بسرعة عالية، يريد أن يتخلص من شحنته بأسرع ما يمكن، كما أنه لم يستطع أن يخفي جنون حب الاستطلاع عنده، وكان يسأل كلما وجد فرصة لذلك، ماذا نريد أن نفعل بهم؟ إلى أين نأخذهم؟ وهل نحن جهة حكومية أم منظمة؟ هل سمعنا بقصة الأطفال الذين ماتوا بالإسبرت؟ هو شاهد جثتين قبل يومين في زقاق في السوق الشعبي بأم درمان، رآهما في الصباح الباكر وهو في طريقه لترحيل بعض بائعات الشاي. علم بعد ذلك أن الجهات المسئولة كانت تجمع جثثهم بشاحنات الأوساخ من الأزقة، المجاري والشوارع الجانبية، تأخذهم ليدفنوا بعيدًا في الصحراء شمال أم درمان. أضاف بما يعني أنهم ليسوا سوى أوساخ، وهو يشجع على التخلص منهم بأي صورة كانت، وها هو الله قد خلصنا منهم، أرسل إليهم من يسقيهم الأسبرت المسموم. كان ثرثارًا؛ لذا قررت ألا أدعه ينزلنا عند المنزل، لكن على بعد شارع من الزقاق الذي نقيم فيه، همست لعبد الباقي بذلك.

أفرغت أمي أمعاءها مرتين، قبل أن ينعطف بنا سائق سيارة الأجرة الصغيرة الثرثار ناحية سينما حلفايا، حيث أوقفه عبد الباقي. أعطيناه ما اتفقنا عليه من نقود، وتوقفنا في مكاننا إلى أن اختفت العربة عن الأنظار تمامًا، من ثم هرولنا بهم ناحية منزلنا الذي لا يبعد كثيرًا، وسط أعين المارة المتطفلة المشحونة بالأسئلة التي لا إجابات لها في غير حجرات التحري المخيفة في مخافر الشرَطة، أو أمكنة أخرى أكثر رعبًا.

تركنا أمي تفرغ ما تبقى من أمعائها عند قارعة الطريق، معطية ظهرها للأسفلت ووجهها لحائط السينما العجوز المغلقة، المهجورة التي هي الآن إحدى أوجار اللصوص وملاجئ المتشردين، غير الآمنة، بعد أن انتهى عصر السينما والرفاهية، وفشل مشروع الاستنارة القومي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤