ذَاكرةُ العَرَق

العرق أو ما يطلقون عليه الأثينول أو الميثانول: هو في الواقع خليط بين الاثنين، بنسب متفاوتة. لكن من خلال استيتس status في الفيس بوك بعنوان الكحول، علقت أستاذة جامعية لمادة الكيمياء اسمها عائشة حسن كاتبة: «العرق البكر الذي يُنْتَج في الدقائق الأولى من عملية التقطير الكحولي البلدي؛ أي قبل أن تغلى المادة المخمرة موضوع التقطير، وهي البلح أو العنب، السكر، الجوافة أو الذرة أو غيرها من النشويات المخمرة بفعل الحرارة، ويُسمى أيضًا الأثينول أو السيكو أو السكوسكو، وغالبًا ما يكون خاليًا من الشوائب والميثانول …» وأخذت تعدد أسماء العرق، حتى تخيل لي أنها فدادية لا يُشق لها غبار. فخاطبتها في رسالة داخلية message، ما إذا كانت لديها معرفة في كيف تتم عملية صناعة الأثينول بلديًّا في البيوت؟ واستخدمت هذه الصيغة المحترمة حتى لا أكون قد أسأت لها فيما لو ظنت أنني أقصد أنها تصنع العرق بنفسها … وهذا بالطبع حرام بَيِّن؛ لأن الله لعن صانع الخمر، وشاربها، بائعها، حاملها والمحمولة إليه. ومن اسمها أستطيع أن أخمن أنها مسلمة ملتزمة. لكن لحسن المفاجأة أن أرسلت لي كتابًا إلكترونيًّا فريدًا ألَّفهُ أحد الأوروبيين المفتونين بما سماه «عبقرية المرأة السودانية في التخمير» عنوان الكتاب Fermentation Technology in Sudan. قد تناول فيه صناعات كثيرة بالتفصيل: كيف تعد وكيف تستخدم، بل كيف ومتى يتم تناولها مثل الكول، الشرموط، أم جنقر، المرايس بأنواعها، المِرِس، خميس طويرة، الكاني مورو والشربوت، ثم تناول صناعة الإيثانول تحت عنوان العرق.
تعدُّ صناعة العرق صناعة مستحدثة في السودان؛ لأنه لا توجد قبيلة لديها اسمٌ غير مركب له، وتقريبًا ترجمة اسمه في أكثر من عشر من اللغات المحلية هي بالشيء المر، «أتى بقائمة طويلة من أسماء العرق، من كثير من القبائل الشمالية، الجنوبية، قبائل شرق وغرب السودان، باللغات المحلية، من أراد أن يستزيد معرفة فليسأل جدته في البيت، وكلها تعني الشيء المر.» إذن، ظل هذا الشيء المر عابرًا في الثقافات السودانية قديمها وحديثها، ولو أن تقطيره بدأ مع دخول العرب للسودان، فهو كذلك احتفظ باسمه الأصيل الذي يشرح ويعبر تمامًا عن طريقة استخلاصه، فهو ليس سوى عرق البلح أو العنب عندما يتعرض لدرجة حرارة عالية، نفس فكرة تقطير العرق. أما المجموعات السكانية القديمة فهي بارعة في صناعة المريسة بكل أنواعها، وهي خمور طيبة وصديقة، أقرب للغذاء منها للكحول، هي متعمقة في الثقافات الأفريقية وتُسمى في بعض البلاد الأفريقية بالبيرة المحلية. تصنع بتخمير النشويات الطبيعي بتعرضها لبكتيريا التخمر العالقة بالهواء. كان هذا الكتاب ممتعًا، والتصميم الإيضاحي لصناعة العرق كان مفيدًا أيضًا، وخاصة خطوات تصنيعه من الذرة المسماة بالفيتريتا؛ حيث تبدأ بعمل:
  • الزريعة: «وهي عملية تنبيت (زراعة) الذرة في وسط رطب، غالبًا ما تكون بين سطحين من الخيش أو الكتان.»

  • السورج: «وهو خلط مسحوق الزريعة مع عجين شديد الحموضة بفعل التخمير مع إضافة قليل من الماء وتقليب الخليط في صاج كبير من الحديد على نار موقدة بالحطب إلى أن يحمر أو يصبح بُنيًّا، وهو الذي يعطي المريسة لونها المميز ورائحتها الزكية أيضًا، وتستخدمه بعض القبائل مثل قبيلة الأدك في النيل الأزرق كوجبة غذائية كاملة.»

  • الفُطَّارة: «وهي عجين فطير يتم تقليبه على النار في ذات صاج السورج إلى أن يتحول إلى عصيدة عملاقة.»

يتم خلط المكونات الثلاثة مع بعضها البعض، ثم تترك ليوم كامل معرضة لبكتيريا التخمير بعد إضافة قدرٍ محسوبٍ من المياه، بعد ذلك تقوم الفدادية بتصفية الخليط، مستخدمة قطعة من قماش الدمور الخفيف؛ لتنتج المريسة ومعها المُشُك، وهذا الأخير ألذ وجبة يمكن تقديمها لحيوان عزيز للنفس: حمارك المُفَضل، بقرتك الحلوب، أو ثورك الخاص، أو بيعه كعلف لأصحاب الماشية. لكن معظم الفداديات يحتفظن بماشية في منازلهن للاستفادة من المُنْتَج المصاحب للمريسة الذي هو المُشُك، والخليط نفسه يمكن أن يصنع منه عرق العيش، عندما تقوم الفدادية بقليه على النار بعد أن تم تخميره — خليط السُّورج والفُطَّارة — جيدًا بمعزل عن الهواء. وتمد صبابة (ماسورة) ملفوفة بقطع قماش مبلولة بالمياه، تنتهي في وعاء آخر مغلق وهو أيضًا غارق في مياه باردة، تقوم بتغييرها كلما سخنت. والفدادية البارعة تعرف من درجة سخونة المياه كمية العرق ونوعيته؛ فتقوم في الحال بتعبئته في زجاجات، وهذا البكر لا يباع إلا لخاصة الزبائن، وهو الأثينول النقي التي تحدثت عنه ميمونة سُكوسُكو في حكاية أمي، ويُدلَّل كثيرًا من قِبَل الندماء، على الرغم من أنه يقتلهم في بطء وصمت، بتحطيم خلايا أكبادِهم الحزينة وإتلاف البنكرياس. ومن ثم تنتظر تقطير الفدادية العرق درجة ثانية، الذي يتم بيعه للعامة، وهو الأكثر خطورة؛ لأنه يحتوي على الأثينول والميثانول وكثيرٍ من الشوائب التي بعضها شديد السُّميَّة، وهذا يفضله الشعراء المفلسون وأغنياء المتشردين وبعض المبتدئين في مهرجان السُّكر الذين لا طاقة لهم بتناول السُّكوسُكو النقي، مثل صديقنا الطيب الحلزون وحبيبته مها عبدُه. هم يحتاجونه لنسيان شرور العالم الكثيرة التي تحيط بهم، أو تأجيل الإحساس بها إلى حين. الفِكي لا يتعاطاه، ليس لأنه يتسبب في تليف الكبد أو إتلاف البنكرياس، وهو لا يعرف عنهما شيئًا، ولا يدري ما إذا كان له بنكرياس أم لا؛ لكنَّ قلبه هو الذي رفض هذه الأشياء، كما قال، ويقصد بخبث شديد أن قوة خفية خلفه تمنعه من إتيان المهلكات، وهي أيضًا محاولات بائسة للنصب والاحتيال علينا.

لم ينم الفكي ولم تنم زوجته إلا متأخرين؛ وذلك لعدم تعودهما على النوم في حجرة أو على فراش، هي المرة الأولى في حياتهم جميعًا أن يدخلوا حجرة نظيفة — دخل الفِكي السجن عدة مرات — وينامون على سرير وملاءة. ولأول مرة أيضًا تدور مروحة فوق رءوسهم، قد أرعبهم صوتها المخيف، وظنوا أنها ستسقط عليهما، لم يعرف أي منهم كيف يتم إيقافها. أخيرًا توكلوا على الله … رقدوا جميعًا على فرش فوق الأرض متلاصقين، عندما صعب عليهم النوم، فتحوا الباب وجميع النوافذ. كانوا يحتاجون لهواء أكثر … لفضاء أرحب … لرائحة الشارع؛ حتى يناموا. وأخيرًا اضَّجعوا حيث وجدتهم أمي في الصباح الباكر، عندما استيقظت لأداء صلاة الصبح. كانوا منكمشين على بعضهم البعض، تحت حائط الديوان ما بين الباب وأصص الزينة المتراصة في فناء البيت، ملتحفين الأرض، تغطيهم السماء الشاسعة الرحيمة، تحوم حولهم قطتان ضالتان، كأنهم يمثلون لوحةً وحشيةً منسيةً لهنري ماتيس!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤