الفصل التاسع

العقل الاجتماعي

(١) هو تموج كهرطيسي

رأينا فيما تقدم ثلاثة عوالم في الكون:
  • الأول: عالم المادة المؤلفة من الفوتون — أو فوتون الأيثر — والشاغلة حيز الكون وزمانه.
  • والثاني: عالم الحياة الشاغل ما بين سطح الأرض والجَلَد — الهواء.
  • والثالث: عالم العقل الذي هو حركة خصوصية من حركات الحياة.

والآن نرى عالمًا أعلى، هو عالم العقل الاجتماعي.

إذا كان العقل تاج الحياة، فالعقل الاجتماعي هو قمة هذا التاج.

كما أن العقل الفردي هو نتيجة تركب الحركات الحادثة في ملايين خُليَّات الجهاز العصبي المُتوافقة في اتجاه واحد لغاية واحدة، هكذا العقل الاجتماعي هو تركب الحركات الحادثة في مَلايين الأفراد المتوافقين في اتجاه واحد لغاية واحدة.

ليس المقام مقام بحث في أنظمة الاجتماع البشري، ولكن دارس علم الاجتماع — والمطلع على مجلدَي «علم الاجتماع» اللذين أصدرناهما بهذا العلم منذ بضع سنين — يفهم أن المراد بالعقل الاجتماعي هو اشتراك الجمهور في عقيدة دينية أو رأي سياسي أو في زي واحد أو تقليد واحد، بحيث يسددون جميعًا أفعالهم إليه، وهذا يستلزمُ أنْ تكون عَقيدتهم الفردية قد صيغت في قالب واحد تقريبًا، كأنَّهم يفتكرون فكرًا واحدًا، ويشتهون غاية واحدة، ويتعاونون في الحصول عليها، لذلك ترى أنه إذا صدرت فكرة من مركز واحد رئيسي كحكومة أو سلطة دينية أو جمعية أو حزب، أو شبه رئيس كزعيم أو عالم أو ذي فن أو مُخترع أو نابغة مُبتكر؛ إذا صدرت من أي مركز كهذه المراكز حركة نظام أو رأي أو بدعة أو فن جديد؛ انتشرت حركة هذه الموجة على جميع العقول الفردية، وهزَّتها كلها هزَّة واحدة، وطبعت فيها الفكرة نسخًا مُتعددة كما تطبع عبارتها على الورق، فكأن الفكرة فكرة عقل جماعة.

يُستفاد مما تقدَّم أن العقل الاجتماعي هو مجموعة عقول فردية مصوغة صياغة واحدة في بيئةٍ واحدة، تتحرك معًا في اتجاه واحد كما تتحرَّك ملايين ذرَّات المادة معًا في جرم واحد حول مركز واحد بسرعة واحدة؛ لارتباط جاذبي فيما بينها وبين المركز؛ فالفكرة أو الرأي الاجتماعي هو المركز الذي تحوم من حوله عقول الجماعة بقوة جاذبية ذلك الرأي لها، وانتشار الفكرة الصادرة من مركز عبقرية أو زعامة إلى الأفراد هو كانتشار الموجة في الجوِّ الجاذبي إلى جميع الجهات، بحيث يصدم كل عقل يصيبه فيحركهُ ليدور حول الفكرة نفسها.

ليس هذا التشابه بين تجاذب الذرَّات نحو المركز وبين تجاذب العقول نحو الفكرة تشابهًا مجازيًّا، بل هو حقيقي لأنَّ القوة الجَاذبة واحدة في النوعين، بالرَّغم من التباين العظيم في الشكل.

رأينا الحركة الفكرية في الدماغ الواحد تموُّجًا في جميع الخليات؛ لأن الجوَّ الكهرطيسي الذي تسبح فيه ذرات الخليات يتموَّج بفعل ذرات المَركز الدِّماغي، فيُحرك ذرَّات الخليات جميعًا وينتج فيها حركة واحدة، وتأينًا Ionisation واحدًا وتحوُّلًا Anabolism واحدًا، وهذه الحركة هي التفكير العقلي.
كذلك نرى خليات الدماغ الواحد في المركز الاجتماعي — الزعيم أو العبقري — حين تنتج فكرة أو رأيًا تحدث في جَوِّهَا الكهرطيسي أمواجًا تسير في أسلاك الجهاز العصبي وتصدر إلى الخارج في شكلين:
  • الأول: صور اللفظ الكلامي الذي تنتقل أمواجه الهوائية إلى الآذان، فالأدمغة، وتحدث نفس الفكرة فيها.
  • والثاني: في شكل حركات عضلية كالإشارات الكتابية ونحوها، وهذه تصدر أو تعكس أمواجًا نورانية تنتقل إلى العيون فالأدمغة، وتحدث فيها الحركات الخليية التي تصدر نفس الفكرة؛ تلك عن طريق العين، وهذه عن طريق الأذن.

فنرى أن التموج الكهرطيسي هو الوسيط الموجي الذي تنتقل فيه أمواج الفكرة من دماغ إلى أدمغة عديدة؛ إذن الحركة الفكرية تنتشر في جو كهرطيسي كانتقال النور والحرارة … إلخ، سواء في الدماغ الواحد أو في جماعة أدمغة.

(٢) العقل مركز التموج

الفكر إذن صورة من صور القوة — الطاقة، وقوته تمتاز بكونها قوة تنظيمية، أو قوة سيطرة تسيطر على قوى المادة، بمعنى أنها إذا تسددت إلى قوة مادية طوعت حركتها طبقًا لها؛ فالفكرة الصادرة من مركز زعامة أو مركز ابتكار نبوغ إذا انتشرت أوعزت إلى عقليات أخرى أن تتحرك بفكرات مماثلة لها؛ فقوة هذه الفكرة المركزية لم تتوزع على العقليات العديدة، وإنما هي أثارت قوى العقليات العديدة لكي تحذو حذوها؛ فالفكرة التي نشأت في هذه العقليات العديدة طبقًا للفكرة المركزية كانت تحركًا بقوة العقليات نفسها، بإيعاز الفكرة المركزية؛ فالفكرة المركزية هي «كالزنبلك» الذي يُحركه المِيكانيكي بقوة ضعيفة، فيُطلق العنان للآلة الميكانيكية أن تدور بالقوة المودعة فيها، لا بقوة الزنبلك. ما كانت حركة الزنبلك إلا إيذانًا لها بالدوران.

بهذه القوة الفكرية الممتازة يقود الزعيم القوم والقائد للجيش، وكلاهما يحمسان الجماعة لفعل الأفعال العظيمة، وما كانت قوته الفكرية إلا إيعازًا لقوى الجماعة أن تفعل الفعل المُوعَز به.

ثم إنَّ هذه القوة الفِكرية تمتازُ بكونها تُخزَن ولا تضمحل، ففيما نحنُ نقرأ مثلًا تعاليم موسى أو عيسى أو محمد تنشط في أدمغتنا التفكيرات بمبادئ هؤلاء الأنبياء والرسل وننشط نحن للتحدث بها، أو الكرازة وللعمل بموجبها، وفيما نحن نشاهد آثار الأقدمين التي هي مخزونات فكراتهم ينشط فينا التفكير بها، وقد نضع مثلها ولو بتعديل وتنقيح، وفيما نحن نقرأ تاريخ نيرون تنشط فينا أفكار الحنق عليه. ففكرة الأنبياء والرسل وفكرات الأقدمين الأثريين وفكرة نيرون؛ كانت قوة مخزونة كلما عرضت لنا أثارت فينا فكرات تقتضيها.

فإذا كانت ثمَّت أرواح خالدة فهي هذه الفكرات المَخزونة الخَالدة في الكتب والرُّسوم والآثار التي تُثير فينا فكرات مُضارعة لها أمس واليوم وغدًا إلى ما شاء الله أن تبقى الحياة على الأرض تنتج عقولًا.

(٣) رد فعل العقل على الحياة والمادة

فهمنا أن العقل — فرديًّا أو اجتماعيًّا — هو نتيجة تفاعل الذرَّات الأربع في خليات الدماغ — التفاعل الكيماوي المُتواصل السريع بلا انقطاع — فما انقطع في شخصية حيٍّ إلا بعد أن تناولته أحياء بعده. بقي أن نعلم أنَّ للعقل تأثيرًا على المادة الحية أو التي بلا حياة — وهو رد فعل عظيم — هو تأثير الحي في البيئة، فلا يقتصر هذا التأثير على فعل العقل السامي — عقل الإنسان — بل يعم سلسلة العقول من أدناها إلى أعلاها، ولكنَّ أضعفه في الدنيا منها وأقواه في العليا.

الجيولوجي ينبئنا عن التغييرات التي حدثت على سطح الأرض، حدثت بفعل الحياة الدنيا؛ فالمَرجان أنشأ جزرًا في البحار، والغابات تستمطر السماء حيث لم يكن مطر من قبل، وأمطارها جرت أنهارًا وسيولًا جرفت الأتربة من الأعالي إلى الأسافل. تكفي هذه الإشارة المُختصرة إلى تطوير الحياة للبيئة كرد فعل لتطوير البيئة للحياة.

وإذا صعدنا إلى العقل البشري وجدنا تأثيره في المادة عجابًا؛ العقل سيطر على كثير من نواميس الطبيعة فطوَّعها واعتقلها واستخدمها؛ سيطر على تيارات الكهارب واستولد منها نورًا وقوة ميكانيكية، كما سيطر على حرارة البُخار فاستولد بواسطتها هذه القوة، فضلًا عن التيار الكهيربائي.

لا مُتسع لوصف ما فعله العقل البشري من التطورات المادية على سطح الأرض، كيفما التفت وفكرت وجدت نماذج هذه الأفعال العجيبة التي أنتجتها القوى العقلية، وإذا اطلعت على ما اكتشفه العقل من أسرار الطبيعة، وعلل ظاهراتها في الأرض والسماء وتحت الأرض وما وراء السماء؛ دُهشت لمقدرة هذا العقل.

والفلسفة هي عقل أسمى، هي عقل العقل.

(٤) أنظمة التجمع والتفرع والدوران العقلية

فيما تقدم من البحث فهم القارئ أنَّ العَقل خاضع لسنة التجمع والتَّفرع وسُنَّة الدوران أيضًا؛ فالعقل الفردي هو تجمع حركات ملايين الخليات الدماغية في أسلوب واحد منتج فكرة واحدة قائمة بذاتها، والعقل الاجتماعي هو تجمع حركات عقليات الأفراد في أسلوب واحد مُنتج رأيًا أو عقيدة واحدة.

وفيما الفكرة الواحدة تنتشر تتفرع إلى فكرات مُختلفة فيما بينها بعض الاختلاف كثيرًا أو قليلًا، ومن ذلك نَشأ الاختلاف في التصورات والأفكار والآراء حتى في صيغ القول، فمع أن الجماعة تتجمع على نظرية واحدة أو عقيدة واحدة، تراها في ذهن كل واحد منهم ذات شكل خاص يختلف شيئًا عن الشكل الذي في ذهن الآخر، وقد تتباين في بعض الأذهان تباينًا كليًّا بحيث إن النظرية الواحدة تنفلق إلى نظريتين أو بضع نظريات فرعية، كعقيدة الاشتراكية مثلًا؛ فهي عدة نظريات مُفترقة بعضها عن بعض بحسب ميول الفئات أو الأشخاص البارزين، وكذلك الأمر في العقائد السياسية كالديمقراطية مثلًا؛ فهي فروع مختلفة باختلاف الهيئات الحكومية وعقائد المتفلسفين فيها.

فترى أنَّ التفرُّع الفكري مُصاحب للمُجتمع العقلي على الدوام، تجمع العقول على فكرة عامة وتتباين في وجوه هذه الفكرة.

أما التنظيم الدوراني العقلي فهو ظاهرة انتشار الفكرات؛ فكل فكرة صادرة من مركز ابتكاري هي مركز حركة الانتشار، الفكرة تنتشر من المركز إلى عقول الجماعة، فكأن العقول في تأثرها مِنها تدور حول هذا المركز؛ فكأنها نظام شمسي قائمٌ بذاته.

ولأن العقل نتيجة تركب معقَّد؛ تركُّب حركات خليات دماغية، هي نتيجة تركب جزيئات عديدة متنوعة، وكل جزيء هو مُركب ذرات عديدة؛ فمراكز الفكرات عديدة لا تكاد تُحصى، والدورانات عديدة بتعدُّد المراكز، يُقاطع بعضها بعضًا ويُصادم بعضها بعضًا. فالعالم العقلي هو بحر متعدد أشكال الأمواج تعدُّدًا لا يُحصى، بحيث يتعذر عليك أن تتبع دورة حركة فكرية وأن تهتدي إلى مركزها.

•••

رأينا أننا كُلما صَعدنا درجة في سُلم ارتقاء العوالم الكونية رأينا التنظيم أكثر تركبًا وتعقدًا، وأشكال الأنظمة أكثر تعدُّدًا؛ ففي العالم المادي لا نرى إلا ست درجات أنظمة «تجمعية — تفرعية»، ذات ست دورانات بسيطة متداخلة، يمكنك أن تميزها بعضها عن بعض وتظفر بمركز كل منها. وفي العالم الحيوي نرى ثلاثة أنظمة متداخلة متمايزة: نظام كل من الذرات الأربع، ثم نظام جزيئاتها، وهذا متفرع إلى ألوف الفروع البروتايينية والكربوهيدراتية والدهنية؛ ثم نظام البروتوبلاسم، وهذا مُتفرع إلى ألوف الفروع بمُقتضى وظائف الأنسجة المؤلفة منها، ولكل من هذه الأنظمة دورانه الخاص الممتاز به.

حتى إذا جئنا إلى النظام العقلي ولا سيما العقلي الاجتماعي لا نعود نظفر بنظام مُستقل؛ لأنَّ النظام العقلي يبتدع كل هنيهة نظامًا فرعيًّا جديدًا، كل فكرة هي نظام فرعي قائم بنفسه، وبالتالي نستطيع أن نُميز دورانًا عن آخر.

(٥) نظام الأدبية

قلنا: إن العقل الاجتماعي هو قمة تاج الأنظمة الكونية. فهل ثمت نظام آخر فوقه أرقى منه؟

نعم هو نِظام الأدبية؛ «أدب النفس»، الأخلاق. هذا النِّظام ترصيع لتاج العقلية، هو التنظيم الأعلى الذي يعصم النظامين العقلي والحيوي من الفَوضى ويَقيهما من الفساد، هو الذي يجعل التنظيم مُطردًا ومُتجهًا إلى المثل الأعلى.

الأدبية تنظيم لتصرف الحي أو سلوكه بحيث يجعل هذا التصرُف الحي متقيًا الأخطار المُهددة لكيانه، ومنتفعًا من البيئة: طبيعية واجتماعية؛ حرصًا على بقائه. يجعله مُطاوعًا للبيئة القاسية العتية التي لا تطاوعهُ، ومُكيِّفًا البيئة اللينة التي تُطاوعه تكييفًا يقدره على أن يدرأ الشرَّ وينتفع بالخير. الأدبية إذن هي التعقل الأسمى، الفضيلة، هي تاج العقل الاجتماعي.

نشأت هذه الأدبية مع الحياة كنشوء العَقلية معها مُنذ أبسط أدوارها؛ أي: منذ نشوء الخليَّة المفردة، وترقت معها حتى بلغت إلى درجة الإنسانية؛ فهي بسيطة مع الحي البسيط، ومُركبة معقدة مع الحي الأعلى المركب المعقَّد.

الأدبية إذن عالم خامس من عوالم الكون: المادة، الحياة، العقل الفردي، العقل الاجتماعي، الأدبية.

(٦) فماذا بعد هذه؟

هل يقف التطور الكوني عند هذا الحد؟

لا نظنُّ. بل نعتقد أن التطور مطرد مستمر، لا ندري ماذا يأتي بعد الأدبية من الأنظمة الكونية الرئيسية، ولكننا ننتظر أن يكون في قلب الطبيعة حلقات جديدة من سلسلة الأنظمة، نجهل شكلها وأسلوب حركتها وغايتها، ستبرزها الطبيعة في لوحة المستقبل.

نعتقد ذلك لأنَّنا رأينا أنَّ العقل ما رسا على سطح المادة فقط، بل جعل يبني طبقات فوقها؛ ففي الأحياء الدنيا كانت الغريزة البَسيطة كافية للحرص على البَقاء، هي ضرب من الفهم، هي فهم داخلي فقط متفاعل مع عوارض البيئة، نقول: إنها فهم داخلي؛ لأنَّه كان يُكيف خليات أعضاء الحي بحسب ما تقتضيه البيئة، ثم ارتقى في الأحياء العليا فصار فهمًا خارجيًّا أيضًا مُضافًا إلى الغريزة، صار من جهة يكيف الحي بمقتضى البيئة، ومن جهة أخرى يكيف البيئة ما استطاع لكي تطاوع الحي. في الدرجة الأولى الحي الأدنى آلته أعضاؤه فقط، وفي الدرجة الثانية الحي الأعلى لم يكتف بأعضائه آلةً له، بل استنبط آلات خارجة عنه كالعدد الميكانيكية وغيرها يستخدمها في الحرص على بقائه، وقد نجح في استنباط الآلات الخارجية حتى كاد يستغني عن استخدام بعض آلاته العضوية، وقد بطل عمل بعضها بهذا الاستغناء، فلا يدب على الأربع ولا يستعمل أخمص قدمه كفًّا للقبض ككف يده كبعض أشباه الإنسان، ولا يجتر، ولم يعد يستطيع الركض السريع، ولم تَبْقَ له مخالب … إلخ؛ لأنَّ آلته أغنته عن كل هذه.

ثم ارتقى الفهم في الأحياء العليا أيضًا درجة أخرى، إذ صار يدرك أن له إدراكًا، وصار يفهم الفهم، وصار يُعلل ويُفسر ويتفلسف؛ أي: صار له عالم عقلي قائم بذاته مجرد عن المادة؛ فكثير من غرائزه تحولت إلى تعقل مستند إلى الاختبار وإلى استدلال واستنتاج من مُجرد التفكير بتحليل الظاهرات.

هنا نشأت درجة التجريد Abstraetion، والرياضيات أعظم وأظهر نموذج للتجريد هذا، فما أدرانا أن ينشأ من هذا التجريد الذي هو أعلى ظاهرات العقل عالم آخر ليس لنا الآن أقل تصوُّر عنه؟ ما أدرانا أن يصبح الفهم العادي في المستقبل البعيد كغريزة في الإنسان، فيولد الطفل فاهمًا أمورًا كثيرة كما يُولد الآن وهو يفهم أن غذاءه في ثدي أمه فيرضعه بلا تعلم؟ ما أدرانا أنه في المستقبل البعيد يولد وهو يفهم مبادئ الرياضيات والطبيعيات كأن هذا الفهم شيء طبيعي في خليات دماغه سجيَّة من سجاياها؟ وما أدرانا أن شعوره الداخلي يرتقي إلى حد أن يفهم معنى الجاذبية بلا إرشاد ولا تعلم؟ وما أدرانا أنه في ذلك الزمان يفهم النسبية بالبديهة كما يفهم الآن أن القيمتين اللتين كل منهما تساوي قيمة ثالثة هما مُتساويتان؟

وما أدرانا أن يقوى التيار الكهربائي في أعصابه فيفهم التموج الكهرطيسي فهمًا طبيعيًّا، وحينذاك لا يبعد أن يُصبح التفاهم عن بُعد بلا واسطة ظاهرة — على نمط الرَّاديو — شيئًا طبيعيًّا في الناس؛ إذ تُصبح أدمغتهم شديدة الإحساس بالأمواج الكهرطيسية الصادرة من أدمغتهم، وحينئذٍ يبزغ عالم سادس من عوالم الكون لا نعرف الآن كيف نصفه؟

ما أدرانا أن الجهاز العصبي يقوى جدًّا في الإنسان إلى حد أن يتحوَّل الإنسان كله إلى كتلة أعصاب تكون مقامًا لهذا العالم السادس الذي نتكهن بحُدوثه، ولا ندري الآن كيف تكون ظاهراته؟

كل هذا ممكن كما أمكن صدور العقل العجيب من خليات الدماغ؛ فليس لسنة التطور الحيوي حدٌّ تقف عنده على نحو ما رأينا في درجاته الآنفة الذكر.

إن ما مرَّ من عُمر الحياة إلى الآن — أي: مُنذ صارت الأرضُ صالحة لها — ليس إلَّا دور الحداثة، وإنَّ ما بقي من عمرها — أي: إلى حين لا تعود الأرض صالحة لها — عدَّة أضعاف دور الحداثة، فإذا كانت الحياة في دور حداثتها قد أنتجت عقلًا فلسفيًّا واجتماعيًّا وأدبيةً وفنًّا أيضًا، فهل يمكن أن يتوقف تطوُّرها ويستقر على حاله الحاضرة في ما بقي من عمرها الطويل؟ ولماذا؟ وإذا كان لا بدَّ من استمرار التطوُّر بصورة لا ندري ماذا تكون، أفلا يسير هذا التطوُّر بحسب سنة التسارع؛ أي: إنَّه يكون أعجل فأعجل في المُستقبل؟ وإذا صدقت هذه النظريات فكم من العوالم ستتلو عوالم العقل والاجتماع والأدبية في الدهر الداهر؟ طوبى لمن يعيشون في دور كهولة الحياة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤