مدحت باشا (٢)

إن ضعف الدولة العثمانية الذي ذكرنا، وعدم كفاية السلاطين المتأخرين، صحبه مشاكل في منتهى التعقيد، فعناصر الدولة متعددة، ويكفي البلقان وحده — بما يشمل من البوسة والهرسك وسربيا وألبانيا واليونان وبلغاريا ورومانيا — وما يقطن فيه من أمم عديدة أن يقض مضجع أية دولة مهما بلغت من القوة، وخاصة بعد ما جاءت عدوى القومية فأثارت نوازع كل عنصر من هذه العناصر نحو الاستقلال، فكيف بالدولة العثمانية، وكيف ذلك مع ألاعيب الدول المختلفة وإثارتها لهذه العناصر؟ هذا إلى تعدد المذاهب الدينية النصرانية وما بين كنائسها من خلافات لا تنتهي. ونشأ عن هذا كله ما سمي «المسألة الشرقية» ويعنون بها «النزاع بين عناصر الأمم التركية من جهة، ودخول الدول العظمى في هذا النزاع لتحقيق آمالها المتناقضة من جهة أخرى».

وسوء الحالة الداخلية والحالة الخارجية يتمخض — عادة — عن عدد من المفكرين في هذه المشاكل، ويقترحون ما يرون من ضروب الإصلاح؛ ومن هذا نشأت أنواع من الإصلاح متسلسلة تسمى في عرف الأتراك «التنظيمات الخيرية»، ويريدون بها الإصلاحات التي يراد بها إنقاذ الدولة العثمانية من ضعفها، وعلاج مشاكلها في الداخل والخارج، من عهد السلطان محمود. وكان من أشهر هذه الإصلاحات أو التنظيمات القانون المعروف بخط «كلخانه» الذي صدر سنة ١٨٣٩ في عهد السلطان عبد المجيد، والذي سعى إليه محمد أمين عالي باشا، وكان أهم ما يتضمن هذا «الخط» حماية النفس والملكية، من غير تفرقة بين جنس أو دين، وإلغاء نظام الالتزام، ومساواة الرعايا مهما اختلف دينهم أمام القانون، وأن جميع المجرمين يجب أن يحاكموا محاكمة علنية، والمساواة في الفرص أمام الجميع لتولي الأعمال الحكومية، وتجنيد غير المسلمين، وإصلاح الإدارة والبوليس والضرائب والطرق، وإنشاء البنوك الخ.

ولكن هذه الإصلاحات كان يعترض تنفيذها صعوبات جمة أهمها السلطان — وأكثر السلاطين كان يرى أن هذه الإصلاحات تحدُّ من إرادته — ورجال الدين لغضبهم على التشريع المدني، وبعض الرعايا الأجانب لأن هذه المساواة تحرمهم من امتيازاتهم القديمة، وبعض الدول الأجنبية لأنها لا يسرها أن تصلُح الدولة. فكانت كل «التنظيمات» التي توضع لا تلبث أن تصبح حبرًا على ورق.

وفي هذا الوسط الشائك جدًا حاول مدحت باشا أن يضع إصلاحه، فرأى أن الإصلاح الذي يجب أن يسود المملكة العثمانية هو الحكم الديمقراطي على نمط ما رأى في انجلترا وفرنسا، ومظهر هذا الحكم هو الدستور، وإشاء المجالس النيابية، وتمثيل كل عنصر من عناصر الدولة وكل قطر من أقطارها في هذه المجالس؛ وبعبارة أخرى أن تحكم الأمة نفسها بنفسها لا أن يحكمها السلطان بإرادته ونوازعه والمقربين إليه الذين يخدمون أغراضه.

كان يرى أن كل الأمم الأوروبية مرت بهذا الدور الذي تمر به الدولة العثمانية، ولم ينقذها إلا الحرية، فهي التي تربي الأمم، وتحيي النفوس، وترد للمرء حقوقه وتشعره بشخصيته، وتضمن له العدل؛ والحرية هي التي تولد الدستور الذي يبث الطمأنينة بين أفراد الأمة، ويسوي بين الأفراد على اختلاف دينها وعناصرها، فيؤلِّف بين قلوبها، وهو الذي يفسح الفرص لكل كفء قادر، ويسد الطريق أمام كل دساس ماكر.

لقد عانت إنجلترا وفرنسا ما نعاني، ووقع على أفرادها الظلم كما يقع علينا، ولكنها نجت من ذلك كله بتحرير شعوبها، ووضع دساتيرها، والحزم في السير عليها؛ ذلك حال إنجلترا قبل دستورها وبعده، وحال فرنسا قبل ثورتها وبعدها، هدموا الاستبداد، وأحلوا محله حياة الحرية الصحيحة، فلو فعلنا ذلك وأعلن السلطان الدستور، وسرنا عليه في حزم لانتظمت إدارتنا وماليتنا، وشعرت عناصر الدولة المختلفة بالتساوي بينها ومشاركتها في الحكم وتحقيق العدل فاطمأنت، ولو فعلنا ذلك لم تجد الدول المختلفة وسيلة للتدخل في شؤوننا فكفت يدها، وإذا تدخلت ظهر تعنتها فلم تجد رأيًا عامًا يسندها — بهذا الدستور يصبح الحكام في كل ولاية مسئولين أمام البرلمان، وبعبارة أخرى أمام الأمة، فيفتح الحاكم عينه ويحد من شهوته، ويتحرى العدل وإلا طار من منصبه.

الدستور عِلْم ينشر بين الشعب، وغنى يسبب طمأنينة الشعب، وعدل بين أفراد الشعب، ويقظة للرأي العام، وتفتح للملكات، ونشاط للقدر التي كبتها الاستبداد.

فلا حياة للدولة العثمانية إلا بدراسة النظم الديمقراطية في الأمم الأوروبية، واختيار أنسبها مما يتفق وحالة الدولة وظروفها ومركزها، ثم سن تشريع لها، ثم إحاطته بسياج من القوة حتى لا نتلاعب به أيدي العابثين المفسدين.

إلى هذا انتهى مدحت بعد طول درسه وتفكيره وتقليبه وجوه الإصلاح المختلفة.

لم يكن مدحت باشا وحده هو الذي يفكر هذا التفكير، بل كان حوله شباب أحس إحساسه وشعر شعوره، وأنكر الاستبداد، وحاول الخلاص منه، وعكف على قراءة التاريخ والسياسة، والنظم الأوروبية، ووجدت جمعية في باريس على رأسها مصطفى باشا فاضل تنقد الدولة العثمانية، ونظام الحكم فيها، وتجاهد بطلب الإصلاح. ومصطفى فاضل هو صاحب الخطاب المفتوح المشهور الذي ترجمه فتحي زغلول باشا «من أمير إلى سلطان» والأمير هو مصطفى فاضل هذا، والسلطان هو السلطان عبد العزيز، والخطاب هو أول خطاب من نوعه يوجهه أمير عثماني إلى السلطان في مثل هذه الصراحة والقوة.

كان رأس هذه الحركة وعقلها المفكر وحكيمها الرزين هو مدحت باشا. وجاء دور التنفيذ، يريد مدحت باشا ورجاله وشبابه الحكم الديمقراطي والدستور والحرية ويصطدمون بالسلطان عبد العزيز وحاشيته وأعوانه، فهم لا يريدون ذلك — يرى مدحت أن لا أمل للحياة إلا بالشورى، ويرى عبد العزيز أن الشورى تسلبه سلطانه؛ يرى مدحت أن الدستور لا بد منه، فهو يعيد إلى الأمة حقها في الإشراف على الحكم، ويضمن العدل والمساواة، ويبعث الإخاء، ويحمي الأمة من شهوات الأمراء والسلاطين، ويوحد بين عناصر الأمة المختلفة؛ ويرى عبد العزيز وحاشيته وكثير من رجال الدين وبعض رجال السياسة أن الحكم النيابي لا يصلح للدولة العثمانية لاختلاف العناصر وعدم التجانس، وميل كثير من الطوائف المسيحية إلى ترويج مصالح الأمم التي ترتبط بها، وعدم بلوغ الأمة حدًا من العلم يهيئها لهذا الحكم وتفضيل مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية الخ.

إذ ذاك ظهر الصراع بأجلى مظاهره، وانجلى الغبار عن معسكرين متميزين بأعلامهما وجنودهما: هذا معسكر مدحت باشا على رأس حزب كبير من الكبراء والوزراء والأمراء وطائفة كبيرة من الشباب، وهذا معسكر على رأسه السلطان عبد العزيز، وحوله الحاشية ومحمود باشا نديم رئيس الوزارة، وهو يمد السلطان بكل ما يحتاج إليه من أموال الدولة، ينفق منه أقله في المصلحة العامة، وأكثره في شهواته، ثم يؤيده كثير من المعممين من رجال الدين قد اشتريت ذممهم بما أغدق عليهم من أموال الأمة، فهم يسمون كل حركة تدعو إلى الإصلاح فتنة، ويقولون: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم.

وكان لكل معسكرًا أيضًا أدباؤه وكُتابه وشعراؤه، فمع مدحت باشا كتاب من الطبعة الأولى يحررون في الصحف الفرنسية والتركية والعربية. وأبدع ناممق كمال أدبًا تركيًا يتغنى بالحرية في أسلوب جديد، جميل في بساطة، واضح في قوة؛ وأدب آخر رجعى يشيد بذكر السلطان ويهجو دعاة الحرية والإصلاح، ومنهم كتاب جريدة «الجوائب».

والدول الأوروبية نفسها تدخل في هذا المعترك؛ فانجلترا تعطف على مدحت لأنها بحكم نظامها تميل إلى الديمقراطية وإلى الدستور، ولأن في صلاح تركيا وهدوئها ما يعوق مطامع روسيا؛ وروسيا تؤيد السلطان ومحمود نديم، وسفيرها في تركيا «ايغناتيف» يثير الفتن والثورات حتى يحقق مطامع روسيا إذ ذاك.

ويركز مدحت برنامجه في كلمات فيقول: «إن التبذير في الدولة قد بلغ درجة لا تطاق، فالمالية ترسل الأموال إلى المابين، فيصرفها السلطان في ملذاته، والنظار يبيعون الوظائف بيع السلع؛ فالوالي يشتري وظيفة من الصدر الأعظم ويذهب إلى الولاية فيستغل أهلها بأنواع الظلم حتى خربت الولايات، ووقعت الدولة في أزمة شديدة، ولا سبيل إلى الخلاص منها إلا بتبديل الإدارة الحالية، وتبديلها يكون بإنشاء مجلس نيابي، وجعل النظار مسئولين أمامه، وأن يكون هذا المجلس قوميًا، فلا يفرق في انتخابه بين المذاهب والعناصر — وأن يوضع الولاة في الولايات تحت المراقبة الشديدة فلا يعبثون بمصالح الرعية».

كل هذه المعاني تركزت في كلمة واحدة اسمها «الدستور».

ها هي الدعوة تنتشر والنفوس تغلي، وأخطاء السلطان عبد العزيز المتتابعة تزيدها غليانًا.

تحت ضغط الحوادث أُبعد الصدر الأعظم محمود باشا نديم حبيب السلطان عبد العزيز لأنه يمده بما شاء من أموال الدولة، وحبيب الحاشية كذلك، وحبيب سفير روسيا في الآستانة، وحبيب ذوي المناصب من رجال الدين، وعُين مدحت باشا صدرا أعظم، وهو المكروه من كل هؤلاء، والمحبوب من الطائفة التي تغلى لطلب الإصلاح.

فما استقر على كرسيه حتى أعاد المنفيين الذين نفوا لاتهامهم بمشايعة حركة الإصلاح، وأعاد تأسيس ميزانية الدولة على أساس ثابت لا أساس صوري كما فعل محمود نديم، وضيق على السلطان عبد العزيز وحاشيته فلم يمدهم بالمال الذي يشتهون، وبت في المشاكل الخارجية بما أصلحها، وتوجه إلى الإصلاحات الداخلية فاهتم بربط البلاد البعيدة بالدولة، فوضع مشروع خط حديدي يربط العراق بالدولة بإنشاء خط بين بغداد وطرابلس الشام. واختار مهندسًا فرنسيًا لذلك كلفه وضع المشروع ورسمه وتخطيطه واكتشاف أقرب طريق إلى ذلك، ووضع الخرائط له في نظير مائتي ألف ليرة، ودبر المال لذلك المشروع بالاتفاق مع انجلترا على دفع ثلاثة ملايين من الليرات في نظير نقل بريد الهند على هذا الخط، كما وضع مشروع إنشاء الخطوط التلغرافية في بلاد الحجاز، وإنشاء طريق حديدي بين دمشق وبغداد، وامتداد الأسلاك التلغرافية بين دمشق والحجاز واليمن، وفعلًا أحضرت الأخشاب والأدوات لإنشاء خط بين القدس وجدة؛ ورأى أن ذلك لا يكلف الدولة كثيرًا، فتلغرافات الحجاج تعوض النفقات في سنين قلائل.

ووضع المكاييل والموازين على أساس عشري، ووحدها بين أجزاء الدولة، وعارض أشد المعارضة في منح الخديوي اسماعيل باشا فرمانًا يبيح له عقد قروض من الدول الأجنبية وقال: «إنه إذا أبيح له ذلك تدخل الأجانب في شؤون القطر المصري، وضاع استقلاله الإداري والسياسي معًا، وتدخل الأجانب يومًا ما في شؤون تلك البلاد بحجة حفظ أموالهم»، فعل هذا مع أن السلطان كان قد وعد اسماعيل باشا بإصدار هذا الفرمان.

نمط جديدة في الوزارة لم يألفه عبد العزيز، فقد ألِفّ أن طاعته غُنْم وإشارته حكم. ولذلك لم يلبث مدحت في الوزارة إلا خمسة وسبعين يومًا اعتزل العمل بعدها وضاعت كل مشروعاته، وخسرت الحكومة مائتي ألف ليرة للمهندس الفرنسي واضع مشروع خط بغداد من غير أن تستفيد شيئًا.

ثم رأيناه وزيرًا للعدل في وزارة أسعد باشا، ثم في وزارة شرواني زاده محمد رشدي باشا، فمكنته هذه الوزارة الأخيرة أن يعكف على وضع النظم واللوائح لإصلاح الدولة.

وكتب مدحت إلى عبد العزيز كتابًا لينًا في مظهره شديدًا في جوهره، قال فيه: «لقد صرحتم جلالتكم في خطاب العرش بأنكم تلتزمون خطة الإصلاح المنشود، ومع هذا فقد ساء الحال، وأنتجت كثرة تغيير موظفي الدولة القلقلة والاضطراب، وضل أكثرهم الطريق، ولم يسيروا وفق مقصدكم، بل خرجوا عن جادة الاستقامة وأفسدوا ما أحدثه الإصلاح، واختلت مالية البلاد، وحدا ذلك بالناس إلى نشر الأراجيف في داخل البلاد وخارجها، وخاف الناس أن ينتج هذا انقراض الدولة …

«قد اضطرتنا وطنيتنا إلى عدم السكوت والوقوع فيما لا تحمد عقباه، فلجأنا إلى أعتابكم الشاهانية … ولا يخفى على حكمة جلالتكم أن الدواء الشافي لهذا العلة هو اجتثاث أسبابها التي نعرفها حق المعرفة، فإذا أزيلت الأسباب زال المرض … فإذا أصدرتم خطًا همايونيًا جديدًا حتمتم به اتباع القوانين والنظم والمساواة بين الغني والفقير والكبير والصغير في نظر القانون، وأرجعتم المنشآت الخيرية إلى أصلها (وكان السلطان استولى عليها)، وصرفتم الأموال في سبيل ما خصصها له الواقفون، وأعدتم مرجع أمور الدولة إلى الباب العالي (الوزراء) فيقر قراراته ويعرضها على جلالتكم، ولم تستأثروا جلالتك بشيء من حقوق الدولة المالية والملكية ولم تصرف المالية قرشًا واحدًا إلا برأي الباب العالي، وحددت وظائف كبار الموظفين وأصاغرهم، وجعل الوزراء مسئولين عن نتائج أعمالهم، وحتمتم ذلك على خواصكم ورجال حاشيتكم — إذا تم ذلك كله حصلت النتيجة المطلوبة بعون الله تعالى، ووصلت الدولة إلى الطريق الذي ترجوه جلالتكم.

هذه الأقوال هي نتيجة أفكارنا، وربما أخطأنا … ونحن نطلب من جلالتكم تخليص الأمة — التي قد أصبحت مصالحها بين يديكم — من أزمتها الحاضرة وعلى كل حال فالرأي لكم».

في هذا الكتاب مجمل أفكار مدحت باشا ونظرته إلى الإصلاح.

أعد مدحت باشا هذا التقرير، وهو وزير عدل. وعرضه على الوزارة فاتفقت كلمتهم عليه، واتفقوا على أن يرفعه الرئيس إلى السلطان عبد العزيز، فقابله ولم يستطيع أن يفاجئه، فحدَّث السلطان أحاديث مختلفة ثم تدرج إلى ذكر هذا الكتاب، فلما سمع كلمة الإصلاح والشورى والدستور هاج هائجه وأصدر أمره في الحال بعزل مدحت باشا من الوزارة، وإبعاده بتعيينه واليًا لسلانيك؛ وبعد أيام عزل شرواني وعينه واليًا لحلب، وبذلك أبعد الاثنين اللذين يذكران الإصلاح. ولم يمكث مدحت طويلًا في سلانيك فعزل بعد ثلاثة أشهر، وأخذ يصلح في مزرعته، ويفكر في أمته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤