الفصل الثاني

«كل إسرائيل» أو مملكة إسرائيل الموحدة

يزعم الكتاب المقدس (العهد القديم) أن إبراهيم أرومة العبريين، قد جاء إلى أرض كنعان/فلسطين، قادمًا من موطنٍ أطلقت عليه مرة «أور الكلدانيين» ومرة «بلاد حاران»،١ ليسكن جنوبي أرض فلسطين (النقب)، التي أطلقت عليه المأثورات اليهودية الكلاسيكية «أرض الأحبار»، أي أرض الأجداد الآباء البطاركة الأوائل إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط.

ويحكي المقدس التوراتي أنه قد حلت ببلاد كنعان سنواتٌ عجاف «وجوعٌ شديد في الأرض»، وكعادة البدو على حدود مصر، لجأ إبراهيم مع زوجته سارة إلى وادي النيل المصري، درءًا للموت جوعًا، وحصل من ملكها على خيرٍ جزيل وثروةٍ عظيمة، بعد أن زوَّج الفرعونَ سارة زوجته، بعد أن زعم أنها شقيقته وليست زوجته، وعاد بها بعد أن ردَّها إليه الفرعون مرةً أخرى، إلى أرض الأحبار.

وكرةً أخرى تعود كرة الجفاف والجوع، لتعم المنطقة بأسرها زمن الأسباط، لكن مصر تنجو من الجوع بحكمةٍ يوسفية، حيث تمكن ذلك البدوي المتجول حفيد إبراهيم بعد أن بيع عبدًا في مصر، أن يصل إلى أعلى المناصب بدهاءٍ إسرائيليٍّ متميز، وأن يفيض بحكمته على مصر وشعبها، بتخزين الحبوب للأعوام العجاف، وتنجو مصر وتفيء بخيرها على روادها من جيرانٍ جوعى.

لكن الظروف في مصر تتغير فجأة بالكلية، ويأتي طاقمٌ قياديٌّ جديد إلى سدة الحكم، ويتنكر السادة الجدد للأفضال الإسرائيلية، ويستعبدون بني إسرائيل في أعمال المعمار والإنشاء بقسوة.

وبعد مرور «٤٣٠ عامًا» فيما تزعم التوراة العبرية المازورية، أو «٢١٥ عامًا» كما تزعم التوراة السبعونية، خرجت سلالة الأسباط من مصر، تحت قيادة شخصيةٍ جبارة هي شخصية موسى، أول أنبياء بني إسرائيل، بعد أن دمر الرب يهوه مصر تمامًا، وتركها خرابًا يبابًا، وعبر الخارجون البحر المنشق بمعجزة العصا الثعبانية، إلى براري سيناء في طريقهم إلى فلسطين مرةً أخرى.

ويقضي الخارجون سنتين ارتحالًا، حتى يحلُّوا في مدينةٍ في أقصى شرقي سيناء على حدود النقب، باسم «قادش برنيع» أو «قادش عين مشفاط»، ويقضوا هناك ثمانية وثلاثين عامًا، حتى تمكنوا من غزو فلسطين من شرقها عبر نهر الأردن عند أريحا شمالي البحر الميت، وبذلك يكون قد انقضى منذ خروجهم من مصر إلى غزو أريحا حوالي أربعين عامًا، تُعرَف اصطلاحًا باسم سنوات التيه.

وعاش الخارجون على هامش الحياة الكنعانية في فلسطين، تحت حكم القضاة القبلي، حيث كان القاضي هو شيخ القبيلة. ويزعم المقدس أن زمن القضاة قد استمر حوالي أربعة قرونٍ أخرى، حتى قامت للإسرائيليين أول مملكة في فلسطين، تلك التي أسسها شاءول بعد أن اختاره للعرش الكاهن القاضي صموئيل، بضغطٍ من أفراد الشعب الذين طالبوا بالتحول عن نظام القضاة البدوي إلى النظام الملكي المركزي، أو كما قالوا لصموئيل في التوراة: «اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب» (صموئيل أول، ٨: ٥)، ليحكم شاءول على إسرائيل جميعًا أو على إسرائيل ويهوذا معًا (كل إسرائيل).

ويظهر شابٌّ وسيمٌ طموح باسم داود، يتمكن بعصابةٍ من شذاذ الآفاق وبمجموعةٍ من الحيل السياسية والمؤامرات المدروسة، يتمكن من إنهاء حكم أسرة شاءول ويقفز على العرش، وبعدها يصبح داود هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل الموحدة، بعد أن تم تفسير تلك الأحداث السياسية وفق رؤًى دينية، حيث ستفسر الملكية بعد ذلك باحتسابها عهدًا بين يهوه وبين داود وسلالته وأولاده، يمتد إلى العهد القديم مع البطاركة الأوائل.

وتوطدت سلطة داود المركزية، ثم من بعده سلطة ولده سليمان، الذي تمكن من تحجيم دور الكهنة ونفوذ الأنبياء الكثر، حتى إن داود بدأ يُعيِّن الكهنة بنفسه (انظر صموئيل الثاني، ٨: ١٧ و٢٠: ٢٥-٢٦)، ويؤدي بنفسه الوظائف الكهنوتية ليجمع بيديه السلطة الزمنية والسلطة الدينية في ديكتاتوريةٍ متكاملة، ورغم أن تقديم المحرقات أو الذبائح أو القرابين للإله، كانت قاصرة على الكهنة اللاويين بأوامر الرب يهوه في شرائع موسى، وكان العقاب صارمًا لمن يفعل ذلك من غير اللاويين وينتهي بالموت، وهو السيناريو الذي تم بموجبه تصفية بيت شاءول؛ لأنه أقدم بنفسه على كسر احتكار الكهنة، وتقديم القرابين بنفسه، لكن لأن للقوة منطقها فقد تمكن داود من أن يجمع السلطتَين في يده، دون أن يخشى أحدًا ولا حتى الرب يهوه نفسه، «وأصعد محرقات أمام يهوه وذبائح سلامة، ولما انتهى داود من إصعاد المحرقات وذبائح السلامة بارك الشعب باسم يهوه رب الجنود» (صموئيل الثاني، ٦: ١٧-١٨).

وعندما جاء ولده سليمان جازف أكثر، حتى إنه عندما اختلف مع الكاهن الأكبر أبيثار «طرد … أبيثار عن أن يكون كاهنًا ليهوه.» أي أنه استبعد الكاهن الأكبر ليهوه، والذي كان زمن داود كاهنًا أول لتابوت العهد في معبد يهوه المركزي، لكن كتابع لداود الملك (انظر ملوك أول، ٢: ٢٦-٢٧)، وهو ما دفع بالكهنة إلى تدبير مؤامرةٍ كبرى ضد سليمان، تزعَّمها النبي أخيا الشيلوني (أي أخيا الذي من قرية شيلوه)، بمشاركة أحد المقربين من الملك ويدعى يربعام. ويدين المحرر التوراتي يربعام، وكيف تجرَّأ ورفع يده على الملك (ملوك أول، ١١: ٢٦)، وتتضح المؤامرة من النص القائل:

وكان في ذلك الزمان لما خرج يربعام من أورشليم، أنه لاقاه أخيا الشيلوني النبي في الطريق، وهو لابس رداءً جديدًا وهما وحدهما في الحقل، فقبض أخيا على الرداء الجديد الذي عليه، ومزقه اثنتي عشرة قطعةً، وقال ليربعام خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: «ها أنا ذا أفرق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبطٌ واحد.» (ملوك أول، ١١: ٢٩–٣٢)

والنص هنا يصبح واضحًا، عندما نعلم أن يربعام هذا قد قام بثورة ضد رحبعام بن سليمان بعد موت سليمان، واستقل بعشرة أسباط «عُرفت في التاريخ باسم الأسباط الإسرائيلية»، وأقام مملكةً شمالية عُرفت باسم «إسرائيل»، وترك الجنوبية لرحبعام بن سليمان، وهي التي «عرفت بمملكة يهوذا الجنوبية»، وتفككت دولة إسرائيل المتحدة أو كل إسرائيل إلى دولتَين، غالبًا ما كانتا بعد ذلك متعاديتَين.

ولما كانت تلك مصيبةً كبرى قد حلَّت بالمملكة، وكان يجب الاعتراف بها، ولما كان يهوه ربًّا محبًّا لشعبه، يرجو له الخير؛ ولأن ما حدث لا بد كان قد حدث بإرادة يهوه؛ ولأن ما حدث كان شرًّا مستطيرًا؛ لذلك لجأ المحرر التوراتي لتبرئة يهوه، وإلقاء اللوم على شعبه، ولو سألنا يهوه لماذا فرقت مملكتك وشعبك؟ فإنه يرد ويقول:

لأنهم تركوني وسجدوا لعشتروت إلهة الصيدونيين ولكموش إله الموآبيين، ولملكولم إله بني عمون. (ملوك أول، ١١: ٣٣)

وعلينا هنا أن نلاحظ أمرًا له أهميته، وهو أن أمهات ملوك بني إسرائيل كن غير إسرائيليات، فداود يعود إلى جدةٍ موآبية باسم «راعوث»، وأبشالوم ابن داود من أمٍ «جشورية» اسمها معكة، وسليمان ابن بتشبع «الحيثية»، ورحبعام بن سليمان من أمٍّ «عمونية» (انظر صموئيل الثاني، ٣: ٢؛ وملوك أول، ١٤: ٢١).

وملحوظةٌ ثانيةٌ مهمة وهي أن الإسرائيليين، عندما قرروا إنشاء مملكة والتحول إلى المركزية، لم يكن لديهم مراسم تتويج معلومة، «ومن هنا أخذو مراسم التتويج عن مصر القديمة، وهو دهن المسحة أو المسح بالزيت»، ومن هذه المراسيم ظهرت أهم الأفكار الإسرائيلية؛ لأن منشأ كلمة «شيحا» العبرية، يعود إلى طقس المسح بالزيت المقدس، تتويجًا للملك على العرش، أو رسم منصب الكاهن الأكبر. وتمثل الطقس التتويجي بصبِّ الزيت، أو مسحه بالإصبع على رأس الممسوح أو جبهته، وبعد ذلك يتحول إلى شخصٍ مقدس لا يُمسُّ، آمرًا ناهيًا باسم الإله (انظر صموئيل الأول، ٢٦: ٩)، «وبعد مسح الملك يصبح مسيحًا مُقدسًا» (؟!).

fig2
شكل ٢-١: المسحة المصرية المقدسة بالدهن أو الزيت المقدس.

وحتى تقوم الدولة المركزية، وتتوحد مجموع القبائل المتناثرة، أرجع المحرر التوراتي ذلك التوحد إلى الزمن القديم، فاخترع قرابات دم بين الآباء البطاركة الأوائل، أسلاف تلك القبائل، وألقى بوحدة إسرائيل في مرآة التاريخ القديم إلى وحدة عنصر ودم قرابيةٍ تأسيسية، رغم أننا سنعلم مما سيظهره هذا البحث، أنهم «كانوا قبائل ضمن مجموعاتٍ قبليةٍ عديدة، لا ترتبط برابطة الدم، قدر ما ارتبطت بروابط المصالح المشتركة».

ورغم أن سيرة داود بالكتاب المقدس، تشير إلى شخصٍ نفعيٍّ داهية، يضحي بأي كمٍّ من الدماء لتحقيق مآربه، ويعقد التحالفات حتى مع أعداء شعبه، وكثيرًا ما أظهر ورعًا زائفًا، بينما كان يسعى لتحقيق مصالحَ دنيويةٍ بحتة، فإن المحرر اللاهوتي اللاحق رفع داود إلى موضع المختار من يهوه شخصيًّا، ووضعه في مصافِّ القديسين؛ «لأن يهوه قد غفر له كل خطاياه وآثامه، والسبب أنه كان شديد المَلاحة عظيم السمت جميل الطلعة.»

وفنان أيضًا ينشد المزامير على آلات الطرب، «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر … يُحسن الضرب بالعود» (صموئيل أول، ١٦: ١٢، ١٧).

وبشأن داود يقول «روجيه جارودي» في كتابه الذي كتبه بعد إشهار إسلامه، وترجمه له الداعية الإسلامي عبد الصبور شاهين:
حينئذٍ بدأ الصعود الرهيب لداود، الذي جعل من إسرائيل قوةً سياسية. كان داود في بداية أمره حامل سلاح لشاول (صموئيل أول، ١٦: ٢١)، ثم أبعده شاول لأنه كان يغار من انتصاراته ضد الفلسطينيين (٢٨: ٨)، بل حاول قتله (١٨: ١١ و١٩: ١٠)، فهرب داود في جبال الضفة الغربية لنهر الأردن، حيث كوَّن «عصابةً» مسلحةً قوية للغزو (٢٥: ١٣)، كما كان يفعل الخابيرو قديمًا، «وعمل داود مع مرتزقته في خدمة الفلسطينيين» الذين كانوا في حربٍ عنيفة ضد إسرائيل … ولم يكن الأمر في هذه الغارات أمر تحريم أو إبادة مقدسة، أمر بها يهوه الرب، كما كانت الحال على عهد يشوع، إنما كانت مجرد «عمليات سطو مسلح دنيويةٍ محضة وسياسية» قامت بها المملكة التي سوف يشيدها داود، لا مع الفرق المجندة من الأسباط، بل مع جنده المحترفين من كل جنس. ولما كان داود قد تزوج من ميكال ابنة شاول، فقد كان صهرًا للملك القديم (١٨: ٢٢–٢٧)، وهو ما جعله خليفته الشرعي، عند ذلك تدخل الفلسطينيون للمرة الأخيرة فهزمهم داود، لا بواسطة جيش الأسباط بل بالمرتزقة. (صموئيل الثاني، ٥ : ١٢)٢

ويزعم المقدس أن داود تمكن في سنواتٍ قلائل، من إقامة دولةٍ كبرى، أخضعت بلاد جيرانها مثل آدوم وموآب وعمون، بل وأجبر الأراميين في دمشق على دفع الجزية، وأخذ أورشليم من اليبوسيين واتخذها عاصمة لملكه، وجعل ليهوه مقرًّا واضحًا، بنقل التابوت المتجول، الذي ينام فيه يهوه، من حالة البداوة المرتحلة إلى حالة الاستقرار المدني في مدينة، ثم تقديسها لنزول الإله بها، وأعطى أورشليم قدسية لتصبح رمزًا لوحدة إسرائيل، رغم أن هذه القدسية كان يحوزها قبل ذلك جبل حوريب المقدس بسيناء، حيث كان يتجلَّى الرب المدمدم المزمجر العاصف الناري لموسى، وحيث صنع التابوت، وحيث التقى موسى بربه، وحيث تلقَّى موسى ألواح الشريعة، وحيث كان هناك مقر الإله وعلامات قوَّته في سيناء المصرية.

وقد تزامن تشكيل المملكة الإسرائيلية الموحدة في فلسطين مع فجر القرن العاشر قبل الميلاد، ومع بداية تمركز الأراميين في ممالك ببلاد الشام، ورغم أن البحوث الأركيولوجية لم تفدنا إطلاقًا بمثل هذا التوسع للدولة الإسرائيلية، فهو مما يوعز بشدة أن حكاية إخضاع داود للشعوب الأخرى، لم تكن سوى مبالغات من المحرر التوراتي، صاغها في حبكةٍ ملحمية، حيث لا دليل تاريخي، ولا آثاري يؤكدها أو حتى يشير إليها مجرد إشارة، لا في نصوص آثار فلسطين ذاتها، ولا في أي أثرٍ من آثار حضارات المحيط بالمنطقة جميعًا.

لكن ذلك لا يعني شطب القصة برمَّتها، وعدم اعتماد تاريخيتها، لأن أول تقاطع بين التوراة وبين التاريخ، كعلم نجده في حديث التوراة عن ملك حكم في دمشق باسم «بن حدد بن طبريمون الأرامي»، إبان حربٍ بين مملكتي يهوذا وإسرائيل، وهو ما جاء في النص:

وأخذ آسا (ملك يهوذا المملكة الجنوبية) جميع الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم الملك آسا إلى «بنهدد بن طبريمون بن حزيون، ملك أرام الساكن في دمشق» قائلًا: إن بيني وبينك وبين أبي وأبيك عهدًا، هو ذا قد أرسلت لك هدية من فضةٍ وذهب، فتعال انقض عهدك مع بعثا ملك إسرائيل فيصعد عني. فسمع بنهدد للملك آسا وأرسل رؤساء الجيوش التي له على مدن إسرائيل، وضرب عيون ودان وآبل بيت معكة وكل كنروت مع كل أرض نفتالي. (ملوك أول، ١٥: ١٨–٢٠)

وفي التاريخ كعلم تعطينا الوثائق اسم ملك أرامي هو «بن حدد الأول»، وقد عثر قرب مدينة حلب على نصب بازلتي نذره هذا الملك باسمه «بن حدد بن طبريمون بن حزيون» ملك أرام دمشق للإله ملقارت، ويرجع تاريخ النصب إلى حوالي عام ٨٦٠ق.م.

وعليه نقشٌ يقول: «النصب الذي أقامه بن حدد بن طبريمون بن حزيون ملك أرام لسيده ملكارت الذي نذر له فسمع قوله.» ويحفظ هذا النصب الآن بمتحف حلب بسوريا،٣ والمنطق التاريخي أيضًا يجب أن يفترض وجود معاركَ تنافسيةٍ حول المصالح والسيادات بين دولتَين، تنشآن في زمنٍ واحد حيث يعود تاريخ نصب بن حدد إلى السنوات الأخيرة من حكم آسا. ويصدق هنا المحرر التوراتي ويثبت أن التوراة ليس كتابًا للتلاوة الدينية والعظة الحكمية فقط، إنما هو أيضًا مصدرٌ تاريخيٌّ هام ووثيقةٌ عالية القيمة، رغم ما يشوبها طوال الوقت من تدخلات المحرر، بما لديه من أوهامٍ وأخيله وعواطف، وطموحات قادته إلى تمجيد ملوك إسرائيل تمجيدًا عظيمًا، يتناقض مع معلوماتٍ أخرى بذات المواضع بالكتاب المقدس، تشير إلى ضعفٍ شديد ووهن كان سمة لتلك المملكة وملوكها، كذلك لا يعرف علم التاريخ عظيمًا باسم داود فتح ممالك وهزم شعوبًا، ولا ملكًا كونيًّا وحكيمًا حاز شهرةً فلكية باسم سليمان، وكثيرًا ما حير هذا الأمر العلماء والباحثين فلا آثار مصر ولا العراق ولا تركيا ولا الشام ولا فلسطين ذاتها، تنطق ببنت شفة في هذا الأمر، بينما تقرر رواية سفري صموئيل الأول والثاني وسفر الملوك الأول، أن داود قد أقام إمبراطورية تمتد من النيل إلى الفرات، وعليها قامت أحلامٌ إسرائيليةٌ كبرى في قرننا هذا، تطلب عودة الإمبراطورية الكبرى، بحسبانها أمرًا ربانيًّا وقرارًا إلهيًّا، وتقول رواية هذه الأسفار إن تلك الإمبراطورية الكبرى قد ورثها سليمان عن أبيه داود بعد موته، لكن رغم الهوس الأركيولوجي في دولة إسرائيل اليوم، والذي دفع إلى نبش الأرض في كل موضعٍ محتمل للعثور على ما يؤيد هذه الرواية، فإن كل ذلك لم يفضِ إلى العثور على أي أثرٍ مباشر أو حتى غير مباشر، يشير إلى إمبراطورية داود وولده سليمان.

وكل ما يمكن قوله — بفرض وجود شخص اسمه داود — أنه ربما كان واحدًا من الملوك الصغار تمكن من رئاسة تحالف القبائل الإسرائيلية، التي كانت تسكن فلسطين آنذاك، وفقط في مناطق الهضاب؛ لأن المسح الأثري لم يكشف أي وجود لبني إسرائيل لا على الساحل الفلسطيني ولا شمالي فلسطين عند الجليل، ولا في صحراء النقب جنوبًا، فقط ربما امتد هذا التواجد بالمواقع الجبلية الوسطى الممتدة من دان (تل القاضي الآن شمالًا) حتى بئر سبع جنوبًا.

وقد تمكن أحمد عثمان بحق من اكتشافٍ مميز، حيث قام بعقد مقارنات، انتهى منها إلى أن محرري العهد القديم في بابل إبان القرن السادس قبل الميلاد، قد علموا بقصة الفرعون الفاتح العظيم تحتمس الثالث، التي كانت تتواتر حتى ذلك الزمن بحسبانه بطلًا تاريخيًّا كبيرًا، وأنه أقام إمبراطوريةً كبرى تمتد من النيل إلى الفرات، ولا زالت قصة فتوحاته كأكبر فتوحات، تمت في العالم القديم حتى زمانه، مدونة على جدران معبد الأقصر. ويرى عثمان أن الإسرائيليين قد بهرتهم تلك البطولات والأمجاد، ولما كانوا طوال الوقت يعلنون ارتباطهم الوثيق بمصر، فلم يجدوا بأسًا في «استعارة تلك القصة البطولية من المأثور المصري، وإدخالها كما هي دون تعديلاتٍ واسعة في وسط قصتهم الرئيسية عن داود».

والمتابع للقصة بالعهد القديم يجد أن داود كان معه، جيشًا مكونًا فقط من ٦٠٠ مسلح من رجال العصابات المرتزقة، وأنه دخل بهم معارك مع بني جلدته الإسرائيليين ومع الفلسطينيين، ثم فجأة تجد تفاصيل معركةٍ كبرى، وتتحول العصابة المأجورة إلى جيشٍ عظيم، يخوض معارك عظمى عند قلاعٍ محصنة متعددة في بلاد الشام، ويرى عثمان أن سفر صموئيل الثاني تحديدًا يحتوي على إصحاحَين هما رقم ٨ ورقم ١٠ «مقتبسان بالكامل من قصة حروب تحتمس الثالث الفاتح الأعظم»، كذلك يرى أن الإصحاح الخامس يحوي جزءًا آخر من القصة المصرية، وهو المتعلق باستيلاء داود على مدينة القدس، التي كانت ترديدًا لدخول تحتمس الثالث المظفر أورشليم.٤

ولو حذفنا من قصة داود المستعار المصري، لاقتصرت الرواية على صراع داود مع شاول، ثم مع ابنه، ثم مع شبع بكري من قبيلة بنيامين، وكان صراعًا على العرش وليس أكثر من ذلك، فكان داود بهذا الرأي مشغولًا طوال الوقت، بخلافات العائلة والثوار الذين ثاروا عليه.

هذا ناهيك عن كون ظروف بني إسرائيل، حسبما وردتنا بالعهد القديم، تتناقض تناقضًا شديدًا مع مسألة الإمبراطورية والتوسع والفتوحات، فهم يظهرون في حالةٍ دائمة من الدفاع عن وجودهم إزاء الفلسطينيين، وهي حالة تتناقض مع استعاراتٍ، كتلك التي تقول إن داود ضرب حدد عزر، وذهب يرد سلطته عند نهر الفرات، بينما «لا نجد قبل كورش الفارسي، أي ذكر لأي ملكٍ من ملوك العالم القديم، تمكن من مد حدوده ما بين النيل والفرات، سوى تحتمس الثالث».٥
ويرى عثمان أن محرري التوراة، قد اختاروا قصة تحتمس الثالث، لنسبتها إلى داود لأسبابٍ أهمها: أولًا أن تحتمس الثالث كان أول من أقام إمبراطورية تشمل العالم القديم المعروف في زمانه، وثانيًا أن اسمه «تحوت-موسى» يتطابق في شقه الأول «تحوت» مع اسم «داود»، وفي رأينا يجب نطق «تحوت» الإله المصري «ضحوت» أو «ضحوض» وهو الأقرب، ويتطابق مع اسم «داود» تمامًا والحاء تسقط بالتخفيف والإهمال، وسنقدم في الفصول المقبلة الكثير عن هذا الإله، وثالثًا، أن تحتمس الثالث هو الفرعون، الذي دخل إبراهيم في زمنه إلى مصر، وهو الذي تزوج من سارة،٦ «وهنا نختلف مع عثمان، ونتباعد تمامًا عن بقية ما يقوله حتى النهاية.»
ونترك عثمان يستمر في سرد رؤيته لنعود إلى بدايته، حيث يجد ثلاثة إصحاحات خارج سياق الرواية، وضمنها ما ورد في الإصحاح الخامس عن استيلاء داود على أورشليم، ويقول هذا الإصحاح: «ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم سكان الأرض، وأخذ داود حصن صهيون، هي مدينة داود.» وعاش داود في الحصن وزاد من تدعيمه، وبدلًا من القتال المستمر بينه وبين الفلسطينيين، نجد فجأة قصة حروبٍ عظيمة، خاضها داود ضد تحالفٍ أعظم، ضم ملوك كنعان وبلاد الشام، ويقوم داود هنا بدور البطل المغوار المهاجم، الذي يغزو كل الممالك الواقعة بين النيل والفرات، وتقول النصوص المقحمة على حكاية داود الأصلية، إن مركز اللقاء الحربي قد حدث عند مدينة ربة (بالعربية: ربطة/الرباط [المؤلف])، وكانت عاصمة بلاد عمون الواقعة شرقي نهر الأردن، ويحتمل أنها عمان الأردن الحالية، وتحكي القصة أن ملك هذه المدينة توقع مهاجمة داود له، فقام بجمع ملوك دويلات بلاد فلسطين والشام تحت قيادة هدد أو حدد عزر ملك واحدة من الممالك الآرامية، وتجمعت جيوش الأحلاف عند ربة بني عمون، وقسمت نفسها قسمَين: واحد داخل أسوار المدينة والآخر خارج المدينة على الأرض المكشوفة بالجوار منها، وفعل داود ذات الأمر، فقسم جيشه قسمين، وعند الالتحام العسكري هربت جيوش التحالف المتجمعة في الأرض المكشوفة، وأسرعت مع ملوكها بدخول المدينة المحصَّنة، وأغلقوا الأبواب؛ مما اضطر داود لفرض الحصار عليها، وترك جيوشه تحاصر مدينة ربة، وعاد إلى أورشليم ينتظر استسلامها، وبالفعل تمكنت جيوشه من فتح مدينة ربة، فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها وأخذ تاج ملكهم عن رأسه، ووزنه وزنة من الذهب مع حجرٍ كريم، وكان على رأس داود، وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جدًّا (صموئيل ثاني، ١٢: ٢٩، ٣٠).٧
ورغم الهزيمة التي مُني بها التحالف، نجد حدد عزر ملك صوبة الآرامية موجودًا، وينظم التمرد ضد داود؛ مما يشير إلى وجوب استنتاج أنه هرب بجلده من الهزيمة عند ربة عمون، لكن داود يتمكن مرةً أخرى من هزيمته، عندما سار إلى شمال سورية، حين ذهب «ليرد سلطته عند نهر الفرات.» ونصب داود تذكارًا (أقام لوحة/نصبًا تذكاريًّا) عند نهر الفرات، يخلد بها انتصاراته الكبرى، وبعد هذا النصر المؤزَّر، استسلمت لداود كل ممالك التحالف السوري الكنعاني، وأصبحوا من أتباعه «ولما رأى جميع الملوك عبيد هدد عزر، أنهم انكسروا أمام إسرائيل، صالحوا إسرائيل واستعبدوا لهم.» ومن ثم قام داود ينشر حامياته العسكرية في سورية وكنعان، ليضمن سيطرته عليها، ولضمان تدفق الجزية في مواعيدها.٨

ويرى عثمان أن كل ذلك السرد البطولي، لا علاقة له بداود الإسرائيلي بل بتحتمس/تحوت/ضحوت المصري، ويحكي: «وكان الملك أحمس قد بدأ حكم الأسرة ١٨ في مصر عام ١٥٧٥ق.م. عندما طرد ملوك «الهكسوس الكنعانيين» من مصر (مسألة أن الهكسوس كنعانيون بهذا القطع، نخالف فيها عثمان كما سيظهر من السير في بحثنا هذا [المؤلف]) … وجاء آمنحتب الأول فخرج إلى كنعان وجنوب سورية في مطاردةٍ لفلول الهكسوس … ولم يكن لآمنحتب الأول ولد فزوَّج ابنته إلى القائد العسكري تحتمس (الأول [المؤلف])، وتمكن هذا الملك — مع أن حكمه لم يتجاوز ١٨ سنة — من الوصول بجيشه إلى جنوب الأناضول عبر الفرات، وهناك أقام لوحةً سجَّل عليها أخبار انتصاراته، وكان لتحتمس ابنٌ من زوجةٍ أخرى غير زوجته الملكية، أراد أن يخلفه على العرش، فزوَّجه حتشبسوت ابنته الوريثة، لكن تحتمس الثاني (أي هذا الابن [المؤلف]) لم يكن مقاتلًا مثل أبيه، فهو لم يقم بأي معركةٍ حربية طوال عقدين من الزمان، جلس فيهما على عرش مصر، وواجه تحتمس الثاني المشكلة التي واجهها الأب من قبلُ، فهو لم ينجب ابنًا من الوريثة حتشبسوت، وكان له ابنٌ وحيد من محظيةٍ اسمها إيزيس، أراد أن يجعله وليًّا للعهد، ومع أن حتشبسوت أنجبت له بنتًا، إلا أنها لم توافق على زواجها من ابن المحظية، فحرمته من حق خلافة أبيه عن هذا الطريق (كان حق العرش في مصر القديمة، لمن يتزوج الأميرة الوريثة [المؤلف]).

وبسبب عدم وجود ولي عهد شرعي في البلاد، قام الكهنة في يوم احتفال العيد بحمل تمثال آمون في تابوت، وطافوا به حول قاعة الأعمدة الكبيرة بالكرنك، وتحرك التابوت وجاء عند ابن الملك — وكان ما زال طفلًا لا يتجاوز الخامسة من عمره، وقد التحق بالمعبد للدراسة — وقاده الكهنة وأوقفوه عند قدس الأقداس في المكان المخصص للملوك، وكان ذلك تعبيرًا عن أنه أصبح ابنًا لآمون بالتبنِّي، فضار له الحق بالتالي في خلافة أبيه في العرش، من دون حاجةٍ إلى الزواج من الوريثة، وخلف الطفل أباه على العرش باسم نفرو رع تحتمس الثالث، ومع ذلك وبسبب صغر سنه، أصبحت حتشبسوت زوجة أبيه وصية عليه، وسرعان ما أعلنت نفسها ملكة إلى جانبه، وطوال حياة حتشبسوت التي استمرت ٢٢ عامًا بعد وفاة زوجها، ظل تحتمس الثالث بعيدًا عن السلطة.

… وعندما تولى تحتمس الثالث الحكم بعد أبيه، كان قد مر حوالي أربعين عامًا خلال حكم أبيه وزوجة أبيه، لم يشن الجيش المصري أي حملاتٍ عسكرية، وكان ملك قادش الواقعة في منتصف الطريق بين دمشق وحمص في شمالي سورية، قد تزعم تحالفًا من ملوك سورية وكنعان في حركة تمرد على السلطة المصرية.»٩
ويقف عثمان يرصد مقارنًا فيرى القصتَين، تتفقان على مواجهة الملك لتحالف من ملوك كنعان وأرام، بقيادة ملكٍ أرامي عند مدينةٍ محصنة، وفي كلتا القصتَين نجد جيوش التحالف مقسمة إلى قسمَين، أحدهما داخل المدينة والآخر خارجها، وكذلك فعل الملك فقسم جيشه قسمَين، وفي كلتا القصتين تهزم جيوش الملك المتحالفين، الذين يهرعون إلى داخل أسوار المدينة، وأن الملك بطل القصة في القصتَين، قد حاصر المدينة وأقام في مدينةٍ أخرى، ثم ذهب ليتسلم المدينة بعد استسلامها، وفي كلتا القصتين نجد ملك التحالف المهزوم، يهرب ويعود إلى مملكته، ويجمع شتات المتحالفين المتمردين مرةً أخرى، لكن ليسير إليهم بطل القصة ويهزمهم، ثم يسترجع سلطته عند الفرات، ويقيم على الفرات نصبًا تذكاريًّا، ويعلن كل الملوك ولاءهم ويدفعوا الجزية، ويقيم الملك البطل حاميات في كل مكان، إعلانًا عن نفوذه أينما كان.١٠

وبعدها يعرج عثمان على القصة الأصلية، حيث دونت هناك في جنوب الوادي المصري، على جدران معبد الأقصر بعاصمة الإمبراطورية الكبرى ليحكي لنا: «وخرج تحتمس الثالث بجيشه من مدينة زارو الحربية عند القنطرة شرق، وسار في طريق حورس بشمال سينا متجهًا إلى كنعان، ووصل الملك إلى مدينة غزة، وكانت ما تزال خاضعة للنفوذ المصري، وهناك احتفل بعيد جلوسه الثالث والعشرين، وكانت المعلومات التي وصلت القيادة المصرية، تفيد بأن ملك قادش جمع عددًا كبيرًا من ملوك سورية وكنعان، عند مدينة مجدو بوسط كنعان، وكانت أكبر مدينةٍ محصنة، فسار تحتمس الثالث بجيشه على سلسلةٍ جبليةٍ وعرةٍ محاذية للبحر، وكانت هناك ثلاثة طرق تؤدي لهذه المدينة، طريق ينتهي غربي مجدو والثاني يؤدي إلى جنوبها الشرقي، بينما الثالث كان طريقًا أشد وعورة «مع ضيقٍ شديد»، لكن تحتمس الثالث قرر ركوب الصعب، فسلك الطريق الثالث رغم خطورته؛ لأنه الطريق الذي كان لا بد سيستبعد الأعداء مجيئه منه، وكانوا قد قسموا جيوشهم قسمَين، واحد داخل المدينة والآخر خارجها يقف عند نهاية الطريق الممهد ينتظرون مجيئه.

واختبأ تحتمس الثالث يومين في الجبال، حتى يسمح لجيشه «بعبور المضيق»، وقسم جيشه إلى وحدتَين، كان هو نفسه على رأسهما، فوق عربته الحربية المطهمة بالذهب، وخرج عليهم من عند المضيق مباغتًا؛ ليجدوه في القلب من صفوفهم، وكان لظهور المصريين المفاجئ أثره، فارتبك جيش الأحلاف، وأخذوا يولون الأدبار تاركين الخيول والعجلات والسلاح، فانهمك أفراد الجيش المصري في الغنيمة، دون متابعة العدو واحتلال المدينة؛ مما أعطى الفرصة للأحلاف للتحصن داخل أسوار مجدو وإغلاق أبوابها، واضطر تحتمس الثالث إلى فرض الحصار على المدينة، بينما تمكن ملك قادش الزعيم من الهرب، وذهب تحتمس الثالث ينتظر تسليم مجدو في مدينةٍ أخرى، فتحت له أبوابها دون قتال، وبعد سبعة أشهر استسلمت مجدو، وخرج أمراء التحالف يحملون الهدايا لتحتمس طالبين السلام، وسلموا كل أسلحتهم ومركباتهم، وعند حضور تحتمس لاستلام المدينة وقف أمامه ٣٥٠ ملكًا، يعلنون خضوعهم لسلطان مصر.

وعاد الفرعون المنتصر إلى عاصمته المصرية في طيبة، بينما كان ملك قادش يعيد تجميع الأحلاف مرةً أخرى، فخرج إليه تحتمس الثالث بعد سبع سنوات، ليستعيد نفوذه الذي سبق وأقامه جده عند نهر الفرات، وسقطت قادش وعبر تحتمس الثالث الفرات، «وأقام بجوار نصب جده التذكاري نصبًا جديدًا، يسجل أخبار انتصاراته»، وبذلك يكون تحتمس الثالث هو الشخص الذي تنطبق عليه عبارة العهد القديم، جملة وتفصيلًا وكلمةً كلمة، وهي التي تقول عن داود إنه: «ذهب ليرد سلطته عند الفرات، ونصب تذكارًا هناك.»١١
ولا يبقى سوى اختلافاتٍ طفيفة بين القصة التوراتية وبين القصة المصرية، وهي ما يبرره عثمان بقوله: «أما استخدام كتبة العهد القديم لأسماء أخرى مثل «ربة» بدلًا من «مجدو»، و«صوبة» بدلًا من (قادش)، فهذا شيءٌ متوقع منهم لمحاولة إخفاء الأصل الحقيقي للقصة، فمدينة ربة هي عمان الحالية عاصمة الأردن، ولم تكن سوى قريةٍ صغيرة غير محصنة في عصر داود، «أما صوبة فلم يتم العثور على موقع بهذا الاسم، في أيٍّ من المصادر التاريخية القديمة»، ومجدو (تل المتسلم حاليًّا حسبما يرى بعض الباحثين)، التي كانت أهم المدن الحربية في كنعان، موجودة داخل الإمبراطورية، التي يقول سفر أخبار الملوك الأول، إن داود أورثها لسليمان، وجاءت نتيجة الحفريات الحديثة لتنكر كل ما نسبه كتبة العهد القديم لداود من انتصاراتٍ مزعومة. ومع أنه تم العثور على ما يؤكد دمار المدن، التي تقول القصة بدمارها على يد داود، إلا أن تاريخ هذا الدمار ثبت أنه يرجع إلى عصر تحتمس الثالث في النصف الأول من القرن ١٥ق.م. وليس إلى عصر داود بعد ذلك بخمسة قرون.»١٢

ولنا هنا ملحوظة، وهي أن المعلومات التي خالفت بها التوراة القصة المصرية، ربما لم تكن مخالفة، لو نظرنا إليها من وجهة نظر أخرى، ستأتي في حينها في ثنايا عملنا هذا، «حيث سنفترض لمملكة صوبة مكانًا آخر تقع فيه، ووفق هذا الفرض سنكتشف أن مجدو كانت تقع في الجوار منها فعلًا، وأن قادش في النصوص المصرية كانت تقع بدورها في الجوار من صوبة، كما أشارت النصوص التوراتية.»

ويتابع عثمان مقارناته فيقرأ بالعهد القديم، أن داود بعدما صار ملكًا على كل إسرائيل (يهوذا وإسرائيل)، قام بالاستيلاء على مدينة أورشليم «ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض، وأخذ داود حصن صهيون وهي مدينة داود.» وتعبير الملك ورجاله لا يشير إلى جيوشٍ جرارة، تفتح البلاد وتهزم الملوك، إنما يشير إلى عصابةٍ تتكون بحدٍ أقصى من ٦٠٠ مقاتل، وقد اعتمد داود خطةً ذكية لدخول مدينة أورشليم المحصَّنة، فقد كانت المدينة تقوم على هضبةٍ مرتفعة، وكانت تحصل على المياه من نبع في أسفل الوادي بأسفل المدينة، عبر ممرٍّ محفور تحت أسوار المدينة يصل إلى عين الماء، وكان يمكن الحصول على الماء أثناء الحصار بهذا الشكل، دون أن يخرجوا من المدينة المرتفعة، وكان داود يعرف هذا الأمر، فأعلن أنه سيكافئ الرجل الذي يمكنه أن يتسلق البئر إلى داخل المدينة، ويفتح أبوابها، بتعيينه رئيسًا على رجاله. وهكذا تمكن داود من الاستيلاء على أورشليم، لكن عثمان يعقب بأنه قد «عجز الأثريون عن العثور على بقايا تدعم هذه الرواية.»١٣ لكن في واقع الأمر أن عثمان لا يعرف أنه قد تم العثور على ذلك الموقع جميعه، وبتفاصيله الدقيقة مع الأثر الأركيولوجي المدوَّن، الذي يحكي قصة حفر النفق بين المدينة العالية، وبين مصدر المياه البعيد المنخفض.

معروف أن أورشليم التي كانت تُعرَف بمدينة اليبوسيين، نسبة إلى قبيلة يبوس التي سكنتها، واتخذتها مدينةً منيعة وقلعةً حصينة، كانت تقع بكاملها إلى الجنوب من أورشليم الحالية، على سلسلة تلال القدس الشرقية، «وقد تطابقت جغرافية المدينة وطبوغرافيتها المكتشفة، مع عرض العهد القديم بشأنها»، فقد بُنيت المدينة على الجزء الجنوبي من السلسلة الشرقية، وبني الهيكل على الجزء الأوسط منها، أما الجزء الشمالي فلم يكن ضمن المدينة القديمة، ويقع حاليًّا ضمن مدينة القدس، وتحيط بأورشليم التلال من جوانب ثلاثة، كما هو واقع وكما هو وارد في «مزامير، ١٢٥: ٢»، فإلى الشمال الشرقي يقع جبل المشهد أو جبل المشارف، ويسمى أيضًا جبل سكوبس، وإلى الشرق يقع جبل الزيتون، وفي الجنوب جبل المكبر.

وأما الوديان فيقع وادي قدرون شرق أورشليم بين المدينة وبين جبل الزيتون، وكان يسمى وادي يهو شافاط أيضًا (يوئيل، ٣: ١٢)، ويسميه العرب الآن وادي الست مريم، وفي الغرب بين سلسلة التلال الشرقية والغربية، يقطع المسافة وادي تيبريون، ويسميه العرب اليوم «الوادي» فقط، وإلى الغرب من التلال الغربية يقع وادي هنوم، الذي يسميه العرب الآن وادي الربابة.

وقد أثبتت التنقيبات أن المدينة تعود إلى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد زمن عصر البرونز الأول، ويبدو أنها كانت مدينةً صغيرة بدون أسوار، ومع مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، تظهر دلالات انقطاعٍ حضاري وسكني، يبدو أنه قد حدث إبان الموجة الهكسوسية، التي احتلت مصر حوالي ذلك الزمان. ومع مطلع عصر البرونز الوسيط يلاحظ انتعاشًا جديدًا، وتظهر المدينة اليبوسية، التي تم العثور على سورها وتزمين بنائه بحوالي عام ١٨٠٠ق.م. «وهي الفترة التي ظهر فيها لأول مرة اسم أورشليم في نصوص مصر.»١٤

وكان موضع المدينة محاصرًا بنبع جيحون في وادي قدرون، وكان المصدر الرئيسي لمياه الشرب، ومن ثَمَّ تم بناء السور قرب النبع لحمايته أثناء الحصار، لكنه من جانبٍ آخر بُني بحيث لا يهبط نحو الوادي، فيكشف المدينة والمدافعين عنها، ومن هنا «تم حفر نفق تحت الأرض بين المدينة والنبع، يمر أسفل السور وتم الكشف عنه»، وهو قناة سلوام المذكورة في الرواية التوراتية، والتي نفذ منها القائد يوآب ومجموعته، لاقتحام المدينة بطلب الملك داود، كما في سفر صموئيل الثاني (٥: ٨) وأخبار أيام أول (١١: ٦، ٧).

ومن أهم أعمال الملك اليهوذي حزقيا الباقية للآن، هو سحبه مياه نبع جيحون، إلى قناةٍ تمرُّ تحت مدينة أورشليم، حتى وادي تبريون لتصب في بركة سلوام في موقع محصن، لمنع الآشوريين من السيطرة على مصدر المياه الوحيد، الذي يغذي المدينة بالمياه، «وحزقيا هذا سد مخرج مياه جيحون الأعلى، وأجراها تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود، وأفلح حزقيا في كل عمله» (أخبار أيام ثاني، ٢٢: ٣، ٤، ٣٠)، ولم تزل بركة سلوام موجودة وتعرف اليوم باسم بركة سلوان، ويعرف نبع جيحون باسم نبع العذراء، وقد اكتشف المنقب وارن Warren القناة في ١٨٦٧م، ونظَّفها المنقب باركر Parker في ١٩١١م، وتابع العمل بها بعثة الأركيولوجية كاثلين كينيون ١٩٦١–١٩٦٧م، ويتطابق مجرى القناة المكتشفة الآن مع وصف سفر أخبار الأيام الثاني.١٥
وقد تم العثور على نقشٍ حجري، يصف اللحظة الأولى لانتهاء حفر القناة اليبوسية تحت المدينة، وكيف التقى فريقا الحفر القادم كلٌّ منهما من الاتجاه المعاكس، ويقول النقش: «بينما النحاتون يرفعون فأس الحفر كلٌّ تجاه رفيقه، وبينما بقي ثلاث أذرع للنحت، سُمع صوت رجل ينادي أخاه؛ لأنه وجد ثقبًا في الصخر من ناحية اليمين، وفي يوم انتقابه ضرب النحاتون رجل أمام رجل، وفأس على فأس، وسالت المياه من النبع إلى البركة، مسافة مائتين وألف ذراع ومائة ذراع، وكانت قمة الجبل فوق رأس النحاتين.»١٦
ولأن أحمد عثمان فيما يبدو، لم يتابع تلك الكشوف، فقد أنكر قصة أولئك الجنود، الذين دخلوا المدينة عبر النفق والقناة، واحتسب أورشليم هي المدينة التي استراح فيها الملك الفاتح داود أو تحتمس الثالث سبعة أشهر، كانت هي مدة حصار ربة كما في قصة داود، أو حصار مجدو كما في قصة تحتمس، وأنها كانت مدينةً صديقة للفاتح، فتحت له أبوابها دون قتال ورحبت به؛ لذلك أطلق عليها منذ ذلك الحين اسم مدينة السلام أو أورشليم.١٧
هذا رغم أنه كان بإمكان عثمان المتابعة، وافتراض أن قصة دخول المدينة عبر النبع والقناة، قد حدثت بأمرٍ من تحتمس الثالث، وليس داود، خاصة وأن أورشليم لم تكتسب اسمها زمن تحتمس الثالث، كما يذهب عثمان، إنما أبعد من ذلك بكثير، وقد سبقت إشارتنا إلى أن أول ظهور لهذا الاسم، كان في النصوص المصرية حوالي ١٨٠٠ق.م. «أي قبل زمن تحتمس الثالث بحوالي أربعة قرون كاملة»، ورغم ذلك يصر عثمان ويتابع القول، إن «هذه المدينة التي انفردت بإعلان السلام مع الملك المصري في تلك المعركة، أصبح السلام جزءًا من اسمها منذ ذلك التاريخ، فهي صارت معروفة على أنها مدينة السلام أو أورشليم، والمدينة التي يسميها العرب قدس أو بيت المقدس، لم تعرف في أيٍ من المصادر القديمة باسم أورشليم، إلا بعد عصر تحتمس الثالث.»١٨

ويرى عثمان أن تحتمس الثالث، لم يذكر في قائمة المدن الكنعانية، التي أخضعها مدينة باسم أورشليم؛ لذلك افترض أنها تلك التي جاءت في نصوصه باسم قادش، الذي هو اسم القدس الحالية، هذا «بينما سنفترض نحن لقادش افتراضًا آخر سيأتي في حينه».

وكما قدم عثمان قراءته الجديدة لأهم السجلات المقدسة، حول المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل الموحدة أو كل إسرائيل المعروف باسم داود، وأبان عن ميلٍ شديد من المحرر التوراتي، إلى نسبة الأعمال العظيمة لبني إسرائيل، كما حدث مع تحتمس الثالث وداود، فإنه يعرج على مبالغات المحرر التوراتي بشأن مملكة سليمان الأسطورية، ليكشف لنا أنها لم تكن سوى تسجيل لصدى أيام حكم الفرعون المصري آمنحتب الثالث، هارون رشيد العالم القديم، لكنه يقول لنا هذه المرة، إن هناك مصادرَ أساسية لتلك المقارنة، ثم لا يذكرها لنا، فهو يؤكد أنه قد «لاحظ كثيرٌ من المؤرخين الشبه الشديد بين قصة سليمان كما وردت في سفر الملوك الأول، وتفاصيل حياة آمنحتب الثالث تاسع ملوك الأسرة ١٨ المصرية، والذي حكم لمدة ٣٩ عامًا عند بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد.»١٩

وعن هؤلاء المؤرخين الذين «لاحظوا» يأخذ عثمان ثم يحكي، «كان آمنحتب الثالث يسيطر على معظم أرجاء العالم المعروف في زمانه، وعندما توفي والده تحتمس الرابع، كانت الأمور استقرت للملك الصغير، الذي تولى الحكم وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. وعمد آمنحتب الثالث إلى الزواج من أميرات ممالك الإمبراطورية، وتبادل الهدايا مع الملوك خصوصًا الذهب، الذي كانت مصر تحصل عليه بكثرةٍ من مناجم أفريقيا. وفي العام العاشر لحكمه «تزوج آمنحتب، الأميرة جيلوخيبة ابنة شورتانا ملك ميتاني بشمال ما بين النهرين»، وجاءت العروس إلى مصر في موكبٍ كبير، ومعها ٣١٧ امرأةً من الوصيفات للانضمام إلى حريم الملك.»

«… وعاد آمنحتب فتزوج أميرةً أخرى من مياني وأميرتين من بابل، وأميرة من سوريا إلى جانب زوجاته المصريات.»٢٠
ثم يتابع: «عندما جلس آمنحتب الثالث على عرش مصر، كان الثراء قد وصل درجةً لم يصل إليها من قبلُ، ولا وصل إليها في أي عصرٍ لاحق، واستطاع الملك الذي ساد السلام في عصره، أن يستخدم هذا الثراء في البناء، سواء في مصر أو في بلاد سورية وكنعان، فشيد المعابد والقصور والمدن المحصنة، وكان لوجود عددٍ كبير من أسرى الحرب في ذلك الزمان أثرٌ فعال.»٢١
ثم يعقد المقارنات مع قصة العهد القديم، التي تتحدث عن ثروة سليمان، التي كانت تأتيه من الممالك الخاضعة له «وكان وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنةٍ واحدة ستمائة وستين وزنة ذهب.» وكانت فترة حكم سليمان فترة سلام، فلم يقم بأي حروب طوال سني حكمه الأربعين؛ لذلك استعمل تلك الثروات في المعمار والإنشاء، كبناء قصر الملك وبناء المعبد والهيكل، استخدم فيه جيشًا من البنَّائين، جمعه من بين الشعوب التي خضعت له، كما امتلأ قصره بالغيد الحسان من زوجات وجوارٍ، وصل عددهم إلى ما يربو على الألف امرأة، ويلاحظ عثمان أن «كل النسوة لم يكن بينهن ولو واحدة فقط من بني إسرائيل»!٢٢
ثم يقول: «وبينما لم يتم العثور على أية بقايا لكل هذه الإنشاءات، ترجع إلى القرن العاشر ق.م. الذي عاش فيه سليمان، نجد الأدلة كلها تؤكد أن هذه الأعمال نفسها تمت من أربعة قرون، قبل ذلك في عهد آمنحتب الثالث. والبعثة الأمريكية التي قامت بالكشف عن القصر الذي بناه آمنحتب الثالث غرب الأقصر، أكدت أنه كان مكونًا من البيوت نفسها، التي ورد ذكرها في قصة سليمان، وما زال خشب الأرز اللبناني قائمًا هناك.»٢٣ … وإن هذه الإمبراطورية الإسرائيلية الوهمية، اختفت تمامًا كالسراب في قصص العهد القديم نفسه، «بمجرد أن وارى التراب جثة سليمان، فلا قصور ولا حصون ولا جيش جرارًا، ولا سفن تجوب البحر إلى أوفير، ولا خشب من صور، ولا جزية من أرام سورية أو من موآب وآدوم في الجنوب»، وعادت القصة إلى الصورة الأصلية لقبائل بني إسرائيل المنتشرة على سفوح الهضاب الفلسطينية، في حالةٍ مستمرة من الدفاع عن النفس أمام قوًى كانت دائمًا أكبر منها بكثير.»٢٤
والمعلوم أنه بعد موت سليمان، انقسمت المملكة إلى يهوذا في الجنوب، وإسرائيل في الشمال، بينما قام الفرعون شيشنق المصري، بمهاجمة مملكة يهوذا، ولم تسجل نصوصه شيئًا عن مملكةٍ قوية في فلسطين، ولم يذكر شخصًا باسم سليمان ولا بالإشارة، بينما كان العهد القديم يشير إلى مملكةٍ وصل نفوذها إلى الفرات، وطبقت شهرة ملكها سليمان الآفاق، ومن ثم يعقب فراس السواح بالقول: «فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم يقم لها قائمة، إلا في خيال المحرر التوراتي؛ فلم يتم العثور على بنيةٍ واحدة من بُناها، وعلم الآثار كما تقول السيدة كينون، لا يستطيع تقديم أية فكرة عن مدينة العصر الذهبي وثرائها، وقصور سليمان التي بناها له ولزوجاته.»٢٥
ويتابع: «وفي قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون، يقع المحرر في تناقضٍ يظهر الطابع الخيالي لنفوذ سليمان الداخلي والخارجي، فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين وأخذ مدينة جازر، وهذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات. وهكذا نعرف مدى النفوذ الفعلي للملك سليمان، الذي وصلت سلطته إلى الفرات، وكان عاجزًا عن ضم مدينةٍ كنعانيةٍ قوية، لا تبعد إلا رمية حجر من عاصمته.»٢٦
ثم يتساءل السواح: «وإذا كانت سلطة داود قد وصلت الفرات، فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتي من أي ذكر لهم ولتواجدهم في عبر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود في الوثائق الأرامية، التي اكتشفت في عواصم ومدن ممالك أرام عبر النهر؟ … هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نصٍّ تاريخيٍّ موثق عن حرب داود، بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمي بأخبار حروب، جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة.»٢٧
أما «زياد منى» فيقول بشأن ما جاء عن سليمان وملكه وحكمته في العهد القديم: «إن المحرر اتخذ موقفًا منحازًا لسليمان بن داود، ولا يمل من كيل المدح له، لكن المتابعة الدقيقة لعهد سليمان التوراة، تبين أنه «كان أبعد ما يكون عن الحكمة، فولعه غير العادي بالنساء، جعله يستحق صفة زير نساء من الطراز الأول»، أما ضعف مقاومته لكافة أنواع البذخ والترف ومتع الحياة الدنيا، فجعله أبعد ما يكون عن الحكمة، وأقرب للولد العاق، الذي أضاع الثروة التي قضى الأب عمره في جمعها. فالتوراة تسجل في سفر ملوك أول (٩: ١٠–١٣) بصريح العبارة أن سليمان اضطر للتنازل عن بعض أقاليم مملكته، وإجراء تعديلاتٍ حدودية، لرد بعض الديون التي استحقت عليه من قبل بعض الممالك المجاورة، كما أن اهتمامه وبطانته ببذخ الحياة، هي التي أدت بلا شك إلى تراخي جيشه، التي عبر عنه بفقدان بعض أقاليم مملكة داود سفر ملوك أول (١٤: ١١–٢٢)، فأية حكمة هذه التي تؤدي إلى انهيار المملكة فور موت ملكها؟! إن انقسام مملكة داود إلى إسرائيل ويهوذا بعد وفاة سليمان، كانت النتيجة الحتمية لسياسة الأخير «التي يمكن نعتها بأي صفةٍ باستثناء الحكمة»، أما الأحاديث التوراتية المطوَّلة عن إنجازات عهده، فلا يمكن أخذها جديًّا لأنها تدخل ضمن التراث الأدبي الشعري العام، هذا عدا أنها لا تنقل لنا أي عمل مادي محدد، وفيما يتعلق بمسألة الهيكل فمن الضروري الإشارة إلى أن «علماء التوراة — كثيرًا في الخفية وقليلًا علنًا — لا يقبلون الادعاء بأن سليمان التوراة قام ببناء أي معبد»، بل إنهم مقتنعون بأن الهيكل لم يكن أكثر من قاعة أو غرفة في القصر الملكي. إن سياسة سليمان التي قامت على استعباد الشعوب الأخرى المقيمة بالمملكة، واستثنائها من المشاركة في السلطة شكلت القاعدة الوحيدة لموقف المحرر الإيجابي تجاهه، وهذا هو منبع مديح الكهنة لسليمان وعهده، كما أن سليمان على عكس أبيه داود شارك المحرر الكهنوتي في وجهة نظره القائمة على حصر إسرائيل في مجموعةٍ معينة، وعمل على تطبيق ذلك نصًّا وروحًا.»٢٨
fig3
شكل ٢-٢: خريطة لمواقع الأحداث القديمة حسبما رأى المؤرخون.
(انظر أيضًا شكل رقم ٢-٣.)
fig29
شكل ٢-٣: خريطة لموقع الأحداث بالأقمار الصناعية.
١  للمزيد انظر كتابنا: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول.
٢  جارودي: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة د. عبد الصبور شاهين، دار التراث، القاهرة د.ت، ص١٢٠ (لاحظ أن ذلك النسق الشرعي في وراثة العرش، بزواج داود من ميكال ابنة الملك السابق شاول، هو نسقٌ مصري بحت، فكانت شرعية الملك للحكم، بزواجه من ابنة الملك السابق، فهي صاحبة العرش أو الوريثة الملكية [المؤلف]).
٣  فراس السواح: الحدث التوراتي، سبق ذكره، ص٢٨٢.
٤  أحمد عثمان: تاريخ اليهود، دار الشروق، القاهرة، ١٩٩٤م، ج١، ص١٣٦، ١٣٧.
٥  نفسه: ج١، ص١٤٣، ١٤٤.
٦  نفسه: ج١ ص١٤٤، ١٤٥.
٧  نفسه، ج١ ص١٤٩.
٨  نفسه: ج١ ص١٥٠.
٩  نفسه، ج١، ص١٥٠، ١٥٢، ١٥٣.
١٠  نفسه، ج١، ص١٥٥.
١١  نفسه: ج١، ص١٥٣–١٥٥.
١٢  نفسه: ج١، ص١٥٦-١٥٧.
١٣  نفسه: ج١، ص١٦١.
١٤  KathLeen Kenyon, Digging Up Jerusalem, Ernest Ben, London, 1974, pp. 76–83.
١٥  فراس السواح: الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، دار علاء الدين، دمشق، ط٢، ١٩٩٣م، ص١٤٣، ١٤٤، ١٥٠، ١٥١.
١٦  إسرائيل ولفنستون: تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت، ١٩٨٠م، ص٨٣.
١٧  أحمد عثمان: تاريخ اليهود، سبق ذكره، ج١، ص١٦٢، ١٦٣.
١٨  نفسه: ج١، ص١٦٣.
١٩  نفسه: ج١، ص١٧٢.
٢٠  نفسه: ج١، ص١٧٢-١٧٣.
٢١  نفسه، ج١، ص١٧٢.
٢٢  نفسه: ج١، ص١٦٩-١٧٠.
٢٣  نفسه: ج١، ص١٧٤.
٢٤  نفسه: ج١، ص١٧٧.
٢٥  فراس السواح: أرام دمشق، سبق ذكره، ص١٤٩-١٥٠.
٢٦  نفسه: ص١٤٧.
٢٧  نفسه: ص١٣٢.
٢٨  زياد منى: بنو إسرائيل، جغرافية الجذور، الأهالي، دمشق، ١٩٩٥م، ص١١٨، ١١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤