الملِكُ عَجِيبٌ

(١) هُبُوبُ الْعَاصِفَةِ

كَانَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» يُحِبُّ الْبَحْرَ مُنْذُ نَشْأَتِهِ.

فَلَمَّا وَلِيَ الْعَرْشَ أَكْثَرَ مِنَ الأَسْفارِ فِي الْبَحْرِ، وَنَسِيَ الاِهْتِمامَ بِرَعِيَّتِهِ، وَتَرَكَ الْعِنايَةَ بِأَمْرِ الْمُلْكِ وَإِقامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَكانَ كُلَّما عادَ مِنْ رِحْلَةٍ اشْتاقَ إِلَى غَيْرِها. وَفيِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَعَدَّ لِلسَّفَرِ سَفِينَةً كَبِيرَةً وَأَخَذ مَعَهُ كَثِيرًا مِنْ حاشِيَتِهِ.

وَسارَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ في عُرْضِ الْبَحْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً، وَالْبَحْرُ هادِئًا. ثُمَّ هَبَّتْ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيا وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ، وَظَلَّتِ الْأَمْواجُ تَلْعَبُ بِالسَّفِينَةِ وتُهَدِّدُها بِالْغَرَقِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ. وَمَرَّتْ بِهِمْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَهُمْ فِي أَشَدِّ الْقَلَقِ لِهيِاجِ الْبَحْرِ، ثُمَّ هَدَأَتِ الْعَاصِفَةُ.

وَقَامَ رُبَّانُ السَّفِينَةِ لِيَتَعَرَّفَ: أَيْنَ هُوَ.

وَما إِنْ تَحَقَّقَ الرُّبَّانُ الْأَمْرَ حَتَّى صَرَخَ وَبَكَى، وَلَطَمَ وَجْهَهُ مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ. فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ»: «ماذا حَدَثَ؟» فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ وَهُوَ يَبْكِي: «لَقَدْ هَلَكْنا. هَلَكْنا يا مَوْلايَ!»

(٢) جَبَلُ المَغْنَطِيسِ

فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «وَكَيْفَ هَلَكْنا وَقَدْ هَدَأَتِ الْعاصِفَةُ، وَزالَ عَنَّا الْخَطَرُ؟»

فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ: «انْظُرْ إِلى هذا السَّوادِ الَّذِي يَلُوحُ لَنا مِنْ بَعِيدٍ؛ إِنَّهُ جَبَلُ الْمَغْنَطِيسِ. وَسَتَدْفَعُنا الْأَمْواجُ إِلَيْهِ غَدًا، وَيَجْذِبُ الْمَغْنَطِيسُ كُلَّ ما فِي مَرْكَبِنا مِنَ الْمسَامِيرِ؛ فَتَتَفكَّكُ أَلْواحُهُ وَنَغْرَقُ جَمِيعًا في قَرارِ الْبَحْرِ.»

(٣) طِلَّسْمُ الْجَبَلِ

فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ: «أَلَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَبْعُدَ بِنا عَنْ هذا الْجَبَلِ؟»

فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ: «كَلاَّ يا مَوْلَايَ؛ فَإِنّ الْمَغْنَطِيسَ يَجْذِبُ مَرْكَبَنا إِلَيْهِ. وَلَمْ تَنْجُ سَفِينَةٌ واحِدَةٌ وَصَلَتْ إِلَى هذا الْمَكانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هذا الْجَبَلِ قُبَّةً عالِيَةً، وَفَوْقَها فارِسٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحاسٍ، وَفِي صَدْرِهِ لَوْحٌ مِنَ الرَّصاصِ، قَدْ نُقِشَتْ عَلَيْهِ طَلاسِمُ لا نَفْهَمُها. وَلا سَبيلَ إِلَى خَلاصِ السُّفُنِ مِنَ الْهَلاكِ إِلَّا إِذا وَقَعَ ذلِكَ الْفَارِسُ فِي الْبَحْرِ.»

(٤) غَرَقُ الْمَرْكَبِ

فَحَزِنَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَأَصْحابُهُ أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَلَمْ يَنامُوا طُولَ لَيْلِهِمْ. وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّاليِ ظَهَرَ لَهُمْ صِدْقُ كَلامِ الرُّبَّانِ؛ فَقَدْ رَأَوُا الْمَرْكَبَ يَنْدَفِعُ نَحْوَ الْجَبَلِ بِسُرْعَةٍ لا مَثِيلَ لَهَا؛ فَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ — لا مَحالَةَ — هالِكُونَ.

ومَا إنِ اقْتَرَبَ الْمَرْكَبُ مِنَ الْجَبَلِ حَتَّى جَذَبَ الْمَغْنَطِيسُ كُلَّ ما فِي الْمَرْكَبِ مِنْ مَسامِيرَ؛ فتَفَكَّكَتْ أَلْواحُهُ، وَغَرِقَ رَاكِبُوه.

ولكِنِ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَجَدَ لَوْحًا مِنَ الْخَشَبِ قَرِيبًا مِنْهُ، فتَعَلَّقَ بِهِ. ثُمَّ قَذَفَتْهُ أَمْواجُ الْبَحْر — بَعْدَ قَليلٍ — إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ، فَرَأَى — لِحُسْنِ حَظِّهِ — طَرِيقًا سَهْلَةً سارَ فِيها حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ مِنْ غَيْرِ عَنَاءٍ.

وَما إنْ رَأَى الملِكُ «عَجِيبٌ» أَنَّهُ قَدْ نَجا مِنَ الْهلاكِ حَتَّى حَمِدَ اللهَ عَلى نجَاتِهِ، وَصَلَّى شُكْرًا لَهُ عَلى سَلامَتِهِ.

(٥) حُلْمُ الْمَلِكِ «عَجِيبٍ»

ثُمَّ غَلَبَهُ الضَّعْفُ وَالتَّعَبُ فَنامَ لِلْحالِ. وَرَأَى فِي مَنامِهِ شَيْخًا مَهِيبَ الْطَّلْعَةِ يَقُولُ لَهُ: «قُمْ — يَا عَجيبُ — مِنْ نَوْمِكَ، وَاحْفِرْ تَحْتَ قَدَمَيْكَ قَلِيلًا: تَجِدْ قَوْسًا مِنَ النُّحاسِ وَثَلاثَ نِبالٍ مِنَ الرَّصاصِ، عَلَيْها طَلاسِمُ مَنْقُوشَةٌ، فَاضْرِبْ فارِسَ الْبَحْرِ بِتِلْكَ النِّبالِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي الْبَحْرِ وَيَبْطُلُ سِحَرُهُ، وَبِذلِكَ يَسْتَرِيحُ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَأَذاهُ. وَمَتَى تَمَّ لَكَ ذلِكَ فَادْفِنْ هذِهِ الْقَوْسَ فِي مَكانِ الطِّلَّسْمِ؛ فَإِنَّ الْبَحْرَ يَعْلُو حَتَّى يُساوِيَ الْجَبَلَ. فَيَخْرُجُ لَكَ مِنَ الْبَحْرِ زَوْرَقٌ فِيهِ تِمْثالٌ مَسْحُورٌ مِنَ النُّحاسِ، يُوصِلُكَ إِلَى بَلَدِكَ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ أَنْ تَذْكُرَ اسْمَ الله — وَأَنْتَ فِي ذلِكَ الزَّوْرَقِ الْمَسْحُورِ — لِئَلَّا يَذُوبَ التمْثالُ، وَيَبْطُلَ السِّحْرُ، وَيَغْرَقَ الزَّوْرَقُ لِساعَتِهِ.»

(٦) فِي الزَّوْرَقِ

فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَهُوَ فَرْحَانُ بِهذا الْحُلْمِ الَّذِي فَتَحَ لَهُ بابَ الْأَمَلِ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَائِسًا مِنْ ذلِكَ. وَبَحَثَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَرَأَى الْقَوْسَ وَالسِّهامَ الثَّلاثَةَ؛ فَضَربَ بِها طِلْسَمَ الْجَبَلِ، فَهَوَى الْفَارِسُ وَالْفَرَسُ فِي الْبَحْرِ، فَدَفَنَ الْقَوْسَ فِي مَوْضِعِ الطِّلَّسْمِ؛ فَارْتَفَعَ ماءُ الْبَحْرِ حَتَّى ساوَى الْجَبَلَ. وَخَرَجَ لَهُ زَوْرَقٌ مِنَ الْبَحْرِ، وَفِيهِ تِمْثالٌ مِنَ النُّحاسِ، فَرَكِبَ الزَّوْرَقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوهَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَحَرَّكَ التِّمْثالُ مِجْدَافَيْهِ، فَسارَ الزَّوْرَقُ بِهِما.

وَما زالَ مُسْرِعًا فِي سَيْرِهِ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنَ الْبَرِّ؛ فَفَرِحَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» بِذلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا؛ وَأَنْساهُ فَرَحُهُ — بِقُرْبِ الْعَوْدَةِ — نَصِيحَةَ الشَّيْخِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى سَلامَتِهِ.

وَما كاد يَذْكُرُ اسْمَ اللهِ حَتَّى اسْتَخْفَى الزَّوْرَقُ وَالتِّمْثالُ مَعًا وَغَاصا فِي قَرارِ الْبَحْرِ، وَبَعُدَ عَنْهُ الشَّاطِئُ.

فَسَبَحَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» طُولَ الْيَوْمِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ الْعَاجِلِ؛ فَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لله وَدَعاهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كَرْبٍ فَاسْتَجابَ الله دُعَاءَهُ وَقَذَفَتْهُ الأَمْواجُ إِلَى شاطِئِ جَزِيرَةٍ كبِيرَةٍ فَحَمِدَ الله عَلى نَجاتِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَصَلَّى لَهُ صَلاةَ الشُّكْرِ، ثُمَّ نامَ فَوْقَ شَجَرَةٍ عالِيَةٍ طُولَ اللَّيْلِ.

(٧) فِي الْجَزِيرَةِ

وَفيِ صَباحِ الْيَوْمِ التَّالِي رَأَى مَرْكَبًا كَبِيرًا يَقْتَرِبُ مِنَ الْجَزِيرَةِ، فَصَعِدَ إِلَى شَجَرَةٍ عالِيَةٍ حَتَّى لَا يَراهُ أَحَدٌ، فَرَأَى عَشرَة رِجَالٍ وَفَتى وَشَيْخًا يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَرْكَبِ. ثُمّ حَفَرُوا قَلِيلًا فِي الأَرْضِ وَنَزَلُوا فِي جَوْفِها، ثُمَّ عادُوا فَنَقَلُوا إِلَيْها كُلَّ ما فِي الْمَرْكَبِ مِنْ خُبْزٍ وَدَقِيقٍ وَسَمْنٍ وَفَاكِهَةٍ وَحَلْوَى، وَرَجَعُوا إِلَى الْمَرْكَبِ ولَمْ يَعُدْ مَعَهُمُ الْفَتى.

وسارَ الْمَرْكَبُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا وهُوَ يَعْجَبُ مِنْ أَمْرِهِمْ أَشَدَّ الْعَجَبِ.

(٨) تَحْتَ الْأَرْضِ

فَلَمَّا اسْتَخْفَى الْمَركَبُ عَنْ ناظِرهِ أَسْرَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كانُوا فِيهِ، فَرَأَى حَجَرًا مُسْتَدِيرًا فِي وَسَطِهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ. فَرَفَعَ الْحَجَرَ، فَرَأَى تَحْتَهُ سُلَّمًا. فَنَزَلَ — وهُوَ يَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ — فَوَجَدَ نَفْسَهُ فِي حُجْرَةٍ واسِعَةٍ مَفْرُوشَةٍ بِبِساطٍ ثَمِينٍ، ورَأَى فِي صَدْرِ الْمَكانِ أَرِيكَةً قَدْ جَلَسَ عَلَيْها ذلِكَ الْفتَى؛ فَزَادَ عَجَبُهُ مِمَّا رَأَى. وَفَزِعَ الْفَتَى حِينَ رَآهُ أَمامَهُ، فَطَمْأَنَ الْفَتَى. وَمَا زالَ يُحَادِثُهُ حَتَّى زَالَ خَوْفُهُ وتَبَدَّلَ رُعْبُهُ مِنْهُ فَرَحًا بِقُدُومِهِ وَسُرُورًا.

(٩) قِصَّةُ الْفَتَى

ثُمَّ قالَ لِلْفَتَى: «كَيْفَ حَضَرْتَ إِلَى هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْمُوحِشَةِ؟ وَلِمَاذا اخْتَرْتَ الْبَقاءَ تَحْتَ الأَرْضِ؟»

فَقالَ لَهُ: «إِنَّ أَبِي تاجِرٌ مِنْ كِبارِ تُجَّارِ اللُّؤْلُؤِ. وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يُرْزَقْ فِي حَياتِهِ أَوْلادًا غَيْرِي. وقَدْ رَأَى فِي مَنامِهِ — يَوْمَ وُلِدْتُ — حُلْمًا مُخِيفًا، فَجَمَعَ الْحُكَمَاءَ ومُفَسِّرِي الأَحْلامِ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ أَجَلِي قَصِيرٌ، وأَنَّ الْمَلِكَ «عَجِيبًا» سَيَقْتُلُنِي بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ طِلَّسْمَ الْجَبَلِ فِي البَحْرِ.

وَسَيَحْدُثُ ذلِكَ حِينَ تَبْلُغُ سِنِّي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ. وَمَتى مَرَّتْ بِي أَرْبَعُونَ يَوْمًا — بَعْدَ ذلِكَ — نَجَوْتُ مِنَ الْهَلاكِ. فَأَعَدَّ لِي أبِي هذَا الْمَكانَ في هذِهِ الْجَزِيرَةِ.

ولَمَّا عَلِمَ بِوُقُوعِ الطِّلَّسْمِ فِي الْبَحْرِ أَحْضَرَنِي إِلَى هُنا حَتَّى لَا يَهْتَدِيَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» إِلَى مَكَانِي فَيَقْتُلَنِي».

(١٠) مَصْرَعُ الْفَتَى

فَعَجِبَ مِنْ قِصَّةِ الْفَتَى أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَهَزِئَ بِما قالَهُ لَهُ، ولَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ حَتَّى لَا يَخَافَ.

ومَرّتِ الأَيَّامُ وهُمَا عَلَى أَسْعَدِ حالٍ وأَهْنَإِ بالٍ.

وكانَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» يَقُصُّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ويَرْوِي لَهُ أَمْتَعَ الأَحادِيثِ.

فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلْأَرْبَعِينَ نَهَضَ الْفَتَى فَاسْتَحَمّ ونامَ إِلَى الْعَصْرِ. ثُمّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَشُقَّ لَهُ بِطِّيخَةً، فَبَحَثَ عَنْ سِكِّينٍ فَلَمْ يَجِدْ، فَأَشارَ الْفتَى إِلَى مَكانِها — وكانَتْ مُعَلَّقَةً فَوْقَ رَأْسِهِ — فَأَسْرَعَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» إِلَيْها.

وَمَا إِنْ قَبَضَ عَلَيْها بِيَدِهِ، حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ لِسُوءِ حَظِّهِ عَلى الْفتَى — والسِّكِّينُ فِي يَدِهِ — فَنَفَذَتِ السِّكِّينُ إِلَى قَلْبِ الْفَتَى، فَقَتَلَتْهُ لِلْحالِ.

(١١) والِدُ الْفَتَى

ومَا إِنْ رَأَى الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» ما حَدَثَ مِنْهُ، حَتَّى اشْتَدَّ بهِ الْحُزْنُ والْجَزَعُ، وَلكِنَّهُ اسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ.

وخَشِيَ أَنْ يَحْضُرَ والِدُ الْفَتَى فَيَقْتُلَهُ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعَادَ الصَّخْرَةَ إِلَى مَكانِها.

وَما انْتَهَى مِنْ ذلِكَ حَتَّى رَأَى الْمَرْكَبَ قَادِمًا مِنْ بُعْدِ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الشَّجَرَةِ، فَاسْتَخْفَى بَيْنَ أَغْصانِها.

وَلَمَّا رَأَى الشَّيْخُ ما حَلَّ بِوَلَدِهِ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ. ولَمَّا أَفَاقَ أَمَرَ بِدَفْنِهِ، ثُمّ عادَ باكِيًا حَزِينًا. وبَعْدَ أَنِ اسْتَخْفَى المَرْكَبُ عَنْ نَظَرِ الْمَلِكِ «عَجِيبٍ»، أَخَذ يَبْحَثُ عَنْ وسِيلَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنَ الْخُرُوُجِ مِنَ هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْمَشْئُومَةِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا.

(١٢) قَصْرُ الْجَزِيرَةِ

فَسارَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» فِي الْجَزِيرَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيها أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ رَأَى فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ نارًا مُلْتَهِبَةً تلُوحُ لَهُ مِنْ بُعْدٍ. فَسارَ إِلَيْها مُسْرِعًا حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْها، فَرَأَى قَصْرًا فَخْمًا مِنَ النُّحاسِ. فَعَلِمَ أَنَّ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ قَدِ انْعكَسَتْ عَلَيْهِ فَخَيَّلَتْ إِلَى ناظِرِهِ أَنَّهُ يَرَى نارًا مُلْتَهِبَةً شَدِيدَةَ الْوَهَجِ.

ورَأَى — أَمامَ ذلِكَ الْقَصْرِ — عَشَرَةَ رِجالٍ مِنَ الْعُورِ قَدْ فَقَدُوا عُيُونَهُمُ الْيُمْنَى؛ فَعَجِبَ مِنْ ذلِكَ وحَيَّاهُمْ؛ فَرَدُّوا عَلَيْهِ التَّحِيَّةَ أَحْسَنَ رَدٍّ ورَحَّبُوا بِهِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ: مِنْ أَيْنَ جاءَ؟ فَقَصّ عَلَيْهِمْ قِصَّتَهُ، فَدَهِشُوا لَهَا. وأَرادَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ عَوَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ فِي ذلِكَ الْقَصْرِ الْمُنْفَرِدِ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْمُوْحِشَةِ. وَلكِنَّهُ قَرَأَ عَلَى بابِ الْقَصْرِ: «مَنْ دَخَلَ فِيما لا يَعْنِيهِ، لَقِيَ ما لا يُرْضِيهِ.» فَسَكَتَ عَنِ السُّؤَالِ.

وَلَمَّا جاءَ اللَّيْلُ أَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْمُرُونَ (يَتَحَدَّثُونَ) حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ. فَقالَ أَحَدُهُمْ لِرِفَاقِهِ: «لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ لِأَداءِ ما عَلَيْنا مِنْ واجِبٍ.»

فَقَامُوا جَمِيعًا إِلَى حُجْرَةٍ واسِعَةٍ وَلَبِسُوا مَلابِسَ سُودًا، ثُمَّ لَطَخُوا وُجُوهَهُمْ بِالسَّوادِ. وَظَلُّوا يَبْكُونَ وَيَلْطِمُونَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: «هذا جَزاءُ الْفُضُولِ. هذا جَزاءُ مَنْ يَدْخُلُ فِيما لا يَعْنِيهِ.»

وَما زالُوا كَذلِكَ سَاعَةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ كَفُّوا عَنِ الْبُكاءِ، وَغَسلُوا وُجُوهَهُمْ، وَلَبِسُوا مَلابِسَهُمُ الْأولَى، وَذَهَبُوا إِلَى مَضاجِعِهِمْ فَنَامُوا إِلَى الصَّباحِ.

أَمَّا الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» فَقَدْ قَضَى لَيْلَتَهُ ساهِرًا مُفَكِّرًا فِيما رَآهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنامَ لِشِدَّةِ ما اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَبِ وَالدَّهْشَةِ.

(١٣) بَيْنَ مِخْلَبَي الرُّخِّ

وَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ لَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى ما رَآهُ، فَسَأَلَهُمْ: «ما سَبَبُ عَوَرِكُمْ، أَيُّها الرِّفاقُ؟ وَلِماذا تَلْطِخُونَ وُجُوهَكُمْ بِالسَّوادِ؟»

فَقالُوا لَهُ ناصِحِينَ: «خَيْرٌ لَكَ أَلَّا تَدْخُلَ فِيما لا يَعْنِيكَ، فَتَلْقَى ما لا يُرْضِيكَ.»

فَلَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِهِمْ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِم بِالسُّؤَالِ.

فَقالُوا لَهُ: «إِذا شِئْتَ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْمَكانِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ، لِتَرَى بِنَفْسِكَ سَبَبَ عَوَرِنا. وَسَتَدْفَعُ ثَمَنَ هذا عَيْنَكَ الْيُمْنَى، وَتَعُودُ إِلَيْنا أَعْوَرَ مِثْلَنا. فَهَلْ يُرْضِيكَ ذلِكَ؟»

فَقالَ لَهُمْ: «نَعَمْ.» فَذَبَحُوْا كَبْشًا كَبِيرًا وسَلَخُوا مِنْهُ جِلْدَهُ وَخاطُوهُ حَوْلَ جِسْمِ الْمَلِكِ «عَجِيبٍ». ثُمَّ قالُوْا لَهُ: «سَيَأْتِي طَيْرُ الرُّخِّ فَيَحْمِلُكَ إِلَى قَصْرِ الْعَجائِبِ. فَإِذا وَصَلْتَ إِلَى ذلِكَ الْقَصْرِ، فَانْهَضْ عَلَى قَدَمَيْكَ وَاسْلَخْ جِلْدَ الْخَرُوفِ، فَإِنَّ الرُّخَّ يَخَافُ وَيَهْرُبُ مِنْكَ.»

وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ جاءَ طَيْرُ الرُّخِّ، فَحَسِبَهُ كَبْشًا، فَحَمَلَهُ إِلَى قَصْرِ الْعجائِبِ. فَلمَّا نَهَضَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَمَزَّقَ جِلْدَ الْكَبْشِ هَرَبَ مِنْهُ طَيْر الرُّخِّ.

ثُمَّ وَقَفَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» أَمامَ قَصْرِ الْعَجائِبِ، فَرَأَى حِجارَتَهُ مِنَ الذَّهَبِ، وَأَبْوابَهُ مُرَصَّعَةً بِالْماسِ.

(١٤) فِي قَصْرِ الْعَجائِبِ

ثُمَّ دَخَلَ الْقَصْرَ فَرَأَى فَيِه أَرْبعِينَ جارِيَةً، لابِساتٍ أَفْخَرَ الثِّيابِ الَّتِي لا تُوجَدُ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. فَرَحَّبْنَ بِهِ، وَحَيَّيْنَهُ فَرِحاتٍ بِقُدُومِهِ، وَأَكْرَمْنَهُ أَحْسَنَ إِكرامٍ. ثُمَّ قُلْنَ لَهُ: «نَحْنُ خَادِماتُكَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ الْقَصْرِ. وَسَنَظَلُّ فِي خِدْمَتِكَ شَهْرًا كامِلًا، ثُمَّ نَتْرُكُكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَعُودُ إِلَى خِدْمَتِكَ — بَعْدَ ذلِكَ — فَلَا نُفَارِقُكَ أَبَدًا، وَيُصْبِحُ هذا الْقَصْرُ وَما يَحْوِيهِ مِنْ كُنُوزٍ مِلْكًا لَكَ.» فَلَمَّا انْقَضَى الشَّهْرُ وَدَّعْنَهُ، وَأَظْهَرْنَ لَهُ الأَسَفَ عَلَى فِرَاقِهِ، وَأَعْطَيْنَهُ أَرْبَعِينَ مِفْتاحًا، وَقُلْنَ لهُ: «ادْخُلْ ما شِئْتَ مِنْ هذِهِ الْحُجُراتِ (الْغُرَفِ)، ولكِنِ احْذَرْ أَنْ تَدْخُلَ هذِهِ الْحُجْرَةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِلَّا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لمِا تَكْرَهُ.»

(١٥) عاقِبَةُ الْفُضُولِ

فَفَتَحَ الْحُجْرَةَ الْأُولى، فَرَأَى حَدِيقَةً جَمِيلَةً لَمْ يَرَ في حَياتِهِ مِثْلَها؛ فَقَضَى يَوْمَهُ بَيْنَ أَزْهارِها الْعَطِرَةِ، مُبْتَهِجًا مَسْرُورًا. وَفي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتَحَ الْحُجْرَةَ الثَّانِيَةَ، فَرَأَى مِنَ الطُّيُورِ الْمُغَرِّدَةِ أَشْكالًا وَأَلْوانًا لَمْ يَرَها، وَقَضَى يَوْمَهُ مَسْرُورًا بِغِنائِها السَّاحِرِ وَرَأَى فِي الثَّالِثَةِ كُنُوزًا مَمْلُوءَةً بِالذَّهَبِ، وفيِ الرَّابِعَةِ أَكْداسًا مِنَ اللَّآلِئِ، وفيِ الْخَامِسَةِ ما لا يُحْصَى مِنَ الْمَرْجانِ وَالْياقُوتِ، وهكَذا، حَتَّى جاءَ الْيَوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْحُجْرَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِى حَذَّرَتْهُ الْجَوَارِي مِنْ دُخُولِها.

فَوَقَفَ مُتَرَدِّدًا نَحْوَ ساعَةٍ، ثُمَّ دَفَعَهُ فُضُولُهُ إِلَى دُخُولِ هذِهِ الْحُجْرَةِ، ولَمْ يَكْتَفِ بِكُلِّ ما رَآهُ فِي ذلِكَ الْقَصْرِ مِنَ الْعَجائِب وَالْكُنُوزِ النَّادِرَةِ، ونَسِيَ نَصِيحَةَ الْجَوارِي، ونَصِيحَةَ الْعُورِ.

وما إِنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ حَتَّى وجَدَ حِصانًا جَمِيلَ الشَّكْلِ، مُعَدًّا لِلرُّكُوبِ؛ فَدَفَعَهُ الْفُضُولُ إِلَى رُكُوبِهِ. وَما إِنْ رَكِبَهُ حَتَّى طارَ بهِ الْحِصانُ فِي الْفَضاءِ، وكانَ هذا الْحِصانُ جِنِّيًّا، وما زالَ طائرًا بِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِ إِلَى الأَرْضِ، وأَلْقاهُ عَلَى ظَهْرِه، وضَرَبَهُ بِذَيْلِهِ فِي عَيْنِهِ الْيُمْنَى فَعَوَّرَها.

وَلَمَّا أَفاقَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» مِنْ ذهُولِهِ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي قَصْرِ الْجَزِيرَةِ بَيْنَ رِفاقِهِ الْعُورِ. فَأَسَّوْهُ (صَبَّرُوه) ورَحَّبُوا بِهِ وقالُوا لَهُ: «لَقَدْ دَفَعَكَ الْفُضُولُ إِلَى مِثْلِ ما دَفَعَنا إِلَيْهِ، ولَقِيتَ مِنَ الْجَزاءِ مِثْلَ ما لَقِينا. وهذِهِ عاقِبَةُ كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِيما لا يَعْنِيهِ!»

(١٦) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وبَقِيَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» عِدَّةَ أَيَّامٍ وهُوَ فِي ضِيافَةِ الْعُوران الْعَشَرَةِ؛ حَتَّى أَتاحَ الله لَهُ فُرصَةَ الذَّهابِ إِلَى بَلَدِهِ، فِي سَفِينَةٍ مَرّتْ عَلى تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، فَوَدَّعَ رِفاقَهُ الْعُورانَ.

ولَمَّا وصَلَ إِلَى بَلَدِهِ اسْتَقْبَلَهُ وَزِيرُهُ وأَهْلُهُ وشَعْبُهُ أَحْسَنَ اسْتِقْبالٍ، وَفَرِحُوا بِرُجُوعِهِ إلى مَمْلَكَتِهِ أَكْبَرَ الْفَرَحِ. ولَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُهُ عَنْ سَبَبِ غَيْبَتِهِ الطَّويلَةِ، قَصَّ عَلَيْهِم كُلَّ ما لَقِيَهُ فِي رِحْلَتِهِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وأَمَرَ وَزيرَهُ بِكِتابَةِ هذِهِ الْقِصَّةِ، لِتَكُونَ عِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ يَدْفَعُهُ الْفُضُولُ إِلى الدُّخُولِ فِيما لا يَعْنِيهِ.

وكَتَبَ عَلى بابِ قَصْرِهِ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْحَكِيمَةَ: «مَنْ دَخَلَ فِيما لا يَعْنِيهِ لَقِيَ ما لا يُرْضِيهِ.»

وعاشَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» بَقِيَّةَ عُمْرِهِ، يَحْكُمُ بَيْنَ رَعِيَّتِهِ بِالْعَدْلِ، وَلَمْ يَنْسَ — طُولَ حَياتِهِ — ما جَرَّهُ عَلَيْهِ الْفُضُولُ.

محفوظات

الوَقْتُ

قالَتِ الطَّيْرُ: «لَقَدْ حَلَّ الشِّتاءْ:
حَلَّ فَصْلُ الْبَرْدِ، واشْتَدَّ الصَّقِيعْ
فَوَداعًا — أَيُّها الْغُصْنُ — وَداعًا
سَوْفَ أَلْقاكَ إذا عادَ الرَّبِيعْ.»

•••

قالتِ الأَوْراقُ لِلْغُصْنِ: «وَداعًا
— أَيُّها الْغُصْنُ — فَقَدْ جاءَ الشِّتاءْ
سَوْفَ أَلْقاكَ، إذا ما الطَّيْرُ عادَتْ
فِي الرَّبِيعِ الطَّلْقِ، تَشْدُو بِالْغِناءْ.»

•••

ثُمَّ قالَ الْوَقْتُ لِلنّاسِ: «وَداعًا
إِنَّنِي أَنْفَسُ شَيْءٍ فِي الْوُجُودْ
تَرْجِعُ الْأَوْراقُ وَالطَّيْرُ جَمِيعًا
وَأَنا — مِنْ حَيْثُ أَمْضِي — لا أَعُودْ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤