مقدمة

يعتبر الأدب مرآةَ الشعوب، وذاكرة الإنسان في الحفاظ على التراث الشعبي، ولملمة الأجزاء المنسيَّة من التاريخ؛ فالأدب يصوِّر حركيةَ الشعوب وإيقاعات الأمم، بجميع الأبعاد والمكونات التي تنمُّ عن التاريخ وجذور الثقافة، وجماليات المكان واتصالية الزمن؛ وذلك ما يجسده السرد الروائي في نقل ثقافةٍ معيَّنة بالكلمة الرنانة، وعذوبة اللغة الشعرية الممزوجة بالوصف وتكسير الزمن الروائي، وبناء الحبكة في الالتفاف على التاريخ، واستنطاق الزمن؛ لأجل بناء الذات، واستعادة المكان كفضاءٍ للعيش والتجارب الحية للشعوب. وتلك غاياتُ الرِّوائي في العودة بالذاكرة للماضي البعيدِ والقريب. من عبق التاريخ والثقافة تشكلت الهوية والفكر لدى الإنسان في محيطه الجغرافي، وتراثه الشفهي والمكتوب الذي توارثته الأجيال اللاحقة.

بناء الذات والتمسك بالثقافة لا يشكلان عقدةً أو مركب نقص عند الإنسان الأفريقي، الذي ظلَّ منسجمًا مع ذاته وثقافته الشفهية، وميراثه الحضاري والفكري الذي يعود إلى أزمنةٍ غابرة؛ عالم الصحراء الساكن والغامض، وأدغال أفريقيا الشاسعة، والأرض التي حَباها الله بالنعم والخير العميم، وجمالية المكان الذي يفيض هدوءًا وسخاء. ويتميز المكان بالتنوع والغنى، حيث أضحى مجالًا للصِّراع والنزوح للتهجير والفرار؛ للمطالبة بالحرية ونبذ التسلط. أوطان ينخرُها الجهل، وتستفحل فيها الحروب، ويتنازع الناس بدوافع عرقية ودينية. يتوارى في طيَّاتها منطقُ السيطرة والهيمنة على كنوز أفريقيا؛ لأجل تشطير القارة إلى كيانات متنافرة، يعبر إليها الأجنبي المستعمر الدخيل، المحمل بالآليات المعرفية والتقنية، والمدجج بالسلاح وإشعال الصراعات هنا وهناك، تحت يافطةِ التغيير والعبور نحو التحديث، والتجاوز للعقلية البسيطة التقليدية التي تؤمن بالتقاليد والطقوس البدائية، وما شابه ذلك من الأسباب والدوافع. أفريقيا التي تكابد اليوم شراسة العولمة الاقتصادية، وتناضل من أجل الاستقلال والسيادة تجدُ نفسَها أمام أزمات جديدة، تنشد الوحدة والانفتاح على العالم الآخر دون انتقاص من سيادتها وكرامة أهلها، وضد التغريب وأشكال الاستلاب. تعبِّر الرواية الأفريقية عن شُجون الإنسان وطموحه في الحريَّة والتحرر، وتعير للمكان وجمالية الفضاء قيمةً للتعايش، وتشكل هوية الإنسان الأفريقي في بُعده المحلي والكوني. وعن الذات التي تحمل في أعماقها صورًا عن الأزمنة التي تشكَّلت فيها الثقافة والهوية بالانتماء للمكان. هكذا تعبر الرواية الأفريقية اليوم عَن الأفق الذي يعني ببساطةٍ الحرية والاستقلالية الذاتية عن كل القوى المتربصة بالقارة؛ أفق يترك أفريقيا لذاتها تنسجمُ مع قيمها، وتستعيد الهوية التي تلاشت بفعل الغزو الغربي، وإدخال قيم بديلة للمجتمع، تحت إغراء ما في القيم الغربية من نزعة تنويرية عقلانية، تقتلع الإنسان الأفريقي من ثقافته الشعبية، وتمنحه لمسةً جديدة للتفكير في ذاته والعالم.

نستشفُّ من الأعمال الروائية الأفريقية الحديثة بالخصوص تمزقَ الذات والهوية، وتتالي الإرساليات الغربية والبعثات التبشيرية، وبداية الاستعمار الاقتصادي والثقافي الذي اخترق الشعوب بالمال، وبناء الكنائس والمؤسسات، وزحف لغة الاستعمار وفرضها في مناحي الحياة. ومن الرواية المعاصرة نلمس التشتُّتَ والتصدع في الذات والدعوة للتجاوز، وعدم الاستكانة للرسمي والمكتوب في لغة السياسة والحياة الثقافية والاجتماعية. شكوك من الأقوال المتناثرة عن التغيير توازيه معطيات واقعية، وممارسة يومية من أزمات مستنبتة في المكان، أهدافها ظاهرة وكامنة في مرامي الزعيم وأصحاب النفوذ من نخبة ورِثَت عن الاستعمار ثقافة الاستعباد والاستغلال.

هذا ما يتراءَى في كتابات روائية ذات طبيعة ثورية محمَّلة بالعداء للأيديولوجية الليبرالية، وعن انتكاسة النهضة المعاقة، والذات المشلولة في تكريس الحريَّة والديمقراطية والاستقلالية الذاتية في المجال السياسي والاقتصادي. كما رسخت الدراسات فكرة أن الأفريقي في حاجة حتميَّة للتغيير وإدخال الأنوار، وتحريك الجمود الذي يسكنُ العقول، دراسات كولونيالية تمهيدية لاحتواء أفريقيا وتكبيلها. لقد نادى «فرانز فانون» بتحرير الأرض والعقول معًا، والكفاح ضد المستعمر أينما وُجِد في أفريقيا أو المارتينيك، وكفاح الشعوب بالكلمة والبندقية ضد التمييز والعنصرية، ضد سرقة العاج والذهب والكاكاو ونفائس أفريقيا. فالإنسان الأفريقي في سبات فكري عميق؛ من شدة رتابة الطقوس والعادات القديمة، وانقسام المجتمع إلى هويات متناحرة وقاتلة. فالأدب الأفريقي نشأ مرتبطًا بحركات التحرُّر الوطني في مناطق مختلفة من القارة؛ من قِبَل كتاب أفارقة، أو من المستفرقين غير الأفارقة المهتمِّين بالثقافة الأفريقية، دون النظر إلى التقسيمات الاستعمارية بين القسم الشمالي الذي يضمُّ الدولَ العربية الإسلامية، والقسم الجنوبي الذي يضمُّ دول أفريقيا جنوب الصحراء، أي أفريقيا السوداء.

تقطيع أوصالِ أفريقيا جغرافيًّا بين النفوذ الفرنسي والإنجليزي والبرتغالي ترك آثارًا على الروائي الأفريقي في كتابة الرواية بلغة الأم، ومنح هذا المعطى دفعة قوية للروائي للعودة للتاريخ والتراث والأسطورة، وكل ما يساهم في تغذية الذاكرة، والحفاظ على الهوية وتماسك المجتمعات الأفريقية. ببساطة، التمرُّد على المضمون الأيديولوجي للاستعمار؛ للبحث في الماضي واستعادة الأجزاء المنيرة في عملية البناء. وإن كتب الروائي الأفريقي بلغة موليير وشكسبير؛ فإن الأمرَ لا يعدو أن يكون أداةً لتوصيل الصوت الأفريقي وهموم الذات، وما ينتابها من هيمنة الآخر على خيراتها، وأحقِّيَّة القارة في بناء ذاتها دون هيمنة واستغلال. أصوات روائية من مشاربَ متباينةٍ مشغولة بالقيم الاجتماعية، وتنادي بالانفتاح على القيَم الكونية الحقيقية، وتمجيد الشخصية الأفريقية وماضيها الحضاري وإرثها القيمي، من نيجيريا: تشينوا أتشيبي، وول سوينكا؛ ومن السنغال: عثمان سمبيني؛ ومن كينيا: نغوجي، وأثيونغو؛ ومن السودان: الطيب صالح، وأمين تاج السر، وبثينة خضر مكي؛ ومن الصومال: نور الدين فارح … لا زال الروائي الأفريقي يتغذَّى من الواقع، ويصنع عالمًا من المتخيَّل. والمكان كيانٌ اجتماعي يلخص التفاعلات بين الإنسان وبيئته. هذا المكان الذي يستوعبه الروائي، ويتحول إلى عنصر من عناصر البناء الروائي، تتغذى منه ذاكرة المبدع، وتتحول الأمكنة إلى رموز وفضاء للتفاعل والتكامل بين الشخصيات الروائية. تنمو الذوات في واقع يشهدُ أحداثًا متتالية، وحكايات لا تنتهي عن الإنسان والطبيعة، والقيم التي تبدلتْ من معطيات جديدة، تَمثَّلها الروائي الأفريقي، وساوره القلق من هم التنمية، وإدراك الإنسان لذاته في عالم متغير يديره الأقوياء. كتب الروائي الأفريقي بالإنجليزية والفرنسية والعربية والبرتغالية، وتعالت الأصوات والتساؤلات المعقولة: لماذا لا يكتب الروائي الأفريقي بلغته؟ وهل اللغة الأوربية تعبير حقيقي عن الذات، وأداة في إيصال الصوت الأفريقي؟

يدرك الروائي الأفريقي هذا الأمر، وينقل للقارئ العالمي شجون المكان، وهموم الذات المثقلة بميراث الاستعمار، وإمكانية تجاوز المرحلة إلى تشكيل هوية الإنسان وانهمامه بالمكان، ومجابهة مخلفات الاستعمار الثقافي، والمشاكل الآنية التي تعيشها القارة السمراء؛ من ديكتاتورية وانقلابات عسكرية، وصراعات عرقية ودينية، والعنف والعنصرية، وكل أشكال الاستغلال والالتفاف على خيرات أفريقيا، وما تعانيه النخب من استبعاد، وتكبيل الأفواه، وشراء الضمائر الحية الغيورة على مستقبل أفريقيا، وإهدار الثروات. فالذات المنقسمة على ذاتها، في تنامي الميول نحو الانقسام والتشرذم، تقضي على الوحدة والانسجام داخلَ الأمكنة التي تمثل مجالًا للسَّرد والإبداع من جهة، ومجالًا خصبًا لبناء رؤية مستقبلية للإنسان الأفريقي التوَّاق للحرية والتنمية. فمن المكان تتبلور الشخصيات، وتتنوع الأدوار والصراع والاستقطاب والرحيل. المكان الضائع، بتعبير إبراهيم الكوني، فسحةٌ للتأمل والتغني، واستلهام روح الثقافة والوحدة والانفصال. يحتوي الفضاءُ على تاريخِ الجماعة وهويَّة الأمَّة، وجذورِ حضارةٍ ضاربة في القدم. من المستحيل محو الذاكرة الجماعية، واقتلاع الإنسان من أعماقه؛ حتى ولو ظلَّت الأيادي الممتدة لأفريقيا في سباقٍ حميم لاستيعابها، وانتشالها من أعراف وتقاليد المجتمعات الأفريقية، وإلحاق القارة بالغرب فكريًّا.

لقد كتب الروائي الأفريقي عمَّا يخالج الذات من قهر وتسلط وحرمان، عاد للتاريخ والتراث، وحافظ على ذاكرة الشعوب، واستنطق الآنيَّ في أفق بناء الذات وتشكيل هوية منسجمة، والإرث الحضاري لأفريقيا، كقارة لا زالتْ تكابد الصعوبات الجمَّة في مواجهة مخططات الاقتلاع والاستغلال. سيميائية المكانِ ودراسة الإطار الذي يحيط بالرواية، وسرديات القصة والحكاية تعيد القولَ إن الرواية الأفريقية حاضرة، وتخطو للأمام نحو العالمية. صوت الروائي الأفريقي ينادي بالتغييرِ والتمسُّك بالهوية الأفريقية، وتحصين الذات من مخطَّطات الاستعمار الجديد، في دفاع مستمرٍّ عن الحرية وحق أفريقيا في مجالها. أصوات من المستفرقين، وكل المدافعين عن الاختلاف والاستقلالية الذاتية يكشفون أيديولوجية الاستعمار الغربي عبر تعريته بالنقد، وخلخلة مسلَّماته ومرتكزاته القائمة على فلسفة الأنوار، والنظرة الدونية للآخر.

جمالية المكان في الرواية الأفريقية لا تقتصرُ بالضرورة على الطبيعة، وما تحويه من مناظر وتنوع في مجالها مناخًا وتضاريسَ وغاباتٍ وحيوانات. مكان العيش لم يشكِّل مركب نقص للأفريقي بدعوى التحديث، لكن الآخر وجدَ في الطبيعة العذراء سببًا في تحويلها إلى إنتاجاتٍ تحرِّك المصانع من مستلزمات المواد الأولية، واقتلاع الإنسان من جذوره وتهجيره إلى أمكنة بعيدة؛ للعمل في مزارع القطن والسكك الحديدية. مشهد صوره أليكس هيلي في رواية «جذور» عن تجارة النخاسة، ونزع الإنسان من مكانه الذي يحمل كلَّ ما في أعماقه من صور وذكريات وأحداث. فالهوية بذاتها والثقافة في عمقها، هكذا تعتبر الرواية سردًا في الزمان والمكان، جنسًا أدبيًّا يجمع بين الواقعية والخيال، الحبكة والبناء السردي الذي يرتوي من الواقع والتاريخ، وذاكرة الإنسان. ويخلق الروائي عوالم سردية تُعيد الألوان من جديد للتاريخ، وتنير القارئ بالمعطيات التي أغفلها المؤرخ أو سكت عنها قصدًا. تذكير القارئ وإحالته إلى رمزية المكان، ومجموعة من الرسائل والإشارات عن ماضي القارة التي جاءَها الأغراب من كلِّ مكان. في لحظةٍ كان يعيش الأفريقي منسجمًا مع ذاته دون نقص أو حاجة لبعثات ومبشرين بالقيم الجديدة للرجل الأبيض. من المكان التمس الروائي الأفريقي مخرجاتِ الحكاية، ونسج من الخيال شخصيات رمزية وخلَق عالمًا مستقلًّا دون الرجوع للواقع أو استنساخه، إلا أن في طياتِ الأحداث حكاياتٍ تروي محنةَ الإنسان في بُعده النفسي والاجتماعي والثقافي. المكان غير منفصل عن الحكايةِ بشكلٍ قطعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤