خاتمة

قطعت الرواية الأفريقية مراحلَ مهمة في التعبير بلغة الآخر عن معاناة الإنسان الأفريقي وتطلُّعاته نحو المستقبل في بناء الذات، وتشكيل الهوية الجماعية. كانت البداية من الكتابة بلغة المستعمر للتعريف بكل ما يملك الروائي الأفريقي من وعيٍ اجتماعي، وخيال خصب في الإبداع والكتابة الروائية. هموم الروائي الأفريقي واقعية وملموسة، من القضايا الوجودية التي تعنى بالحقِّ الشرعي والأصيل في السيادة، وقيادة القارة نحو الأمن والحرية؛ فالرواية الأفريقية في مراحل تطورها بقيتْ على مستوى السرد لصيقةً بالاستعمار ومخلَّفاته النفسية والثقافية على بناء هوية موحدة، وذات مفعمة بروح العمل والنشاط في سبيل نهضة الكيانات المختلفة. أفريقيا عبارة عن عالم متعدِّد القوميات والهويات المتصارعة، إنها الحروب المتزايدة التي تغذيها قيم دخيلة على القارة، وعوامل داخلية محكومة بالمنفعة والاستقطاب السياسي، جاءت من الغرب والشرق معًا؛ بفعل القيم البديلة للتقاليد والعادات الأفريقية السابقة. جاء الرجل الأبيض محمَّلًا بالتعاليم والتبشير بالقِيَم المسيحية، وانقسمت أفريقيا بين الإسلام والمسيحية ومعتقدات أخرى.

رصدت الرواية الأفريقية اختلالًا في بنية المجتمع، والشرخ الذي أصاب لُحْمة الجماعة بفعل هذا الغزو الكاسح. أشياء تتداعى في المكان الذي يختزنُ تراث الإنسان الأفريقي بقيمه العميقة في اللاشعور، والظاهرة في الاحتفالات والأعياد، شخصيات تمرَّدت على الأوضاع الجديدة، وكانت بحقٍّ تمتلك طموحًا ووعيًا اجتماعيًّا، قاوَمتْ بكل السبل والوسائل تَداعيَ الجماعةِ واستسلامها للقيم الدخيلة بالقوة والتحايل، ملامح الانقسام والتصدع الذي أصاب الجماعة المتماسكة، أو هكذا توهَّم البعض هذا التماسك المزعوم، الذي سيتلاشى بمجرد حلول البعثات والمؤسسات، ورءُوس الأموال. تبدأ الاستراتيجية الغربية في إرسال القسيس ونشر القيم البديلة، بدعوى أنها غير ملائمة في نهضة العقول. ونشر الأنوار في أفريقيا لن يُفيد التمرد المسلح والمقاومة في طرد المستعمر منذ البداية. هكذا فشلت الإرادة في صد الاستعمار؛ فالروائي الأفريقي الذي درس في جامعات الغرب أدرك أن الاستعمار ترك بصمةً مستمرة على النخب السياسية والوعي الاجتماعي، بصمة في إقرار لغته ودينه. وعندما أراد الروائي الكتابة من عمق التاريخ والتراث الشفهي التمس لغة وأسلوب الآخر: الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية.

كانت اللغة بمثابة أداة في توصيل صوت أفريقيا للعالم. والقول بلغةٍ شاعرية وأسلوبٍ سلس «إن الذاكرة الجماعية تحمل صورًا وذكريات عن مرحلة معينة من تاريخ القارة» ينبغي أن يُستعاد ويُدوَّن بطريقة سردية، تجمع بين المتخيل والواقعي، بين صوت السارد وصوت الشخصيات المتخيلة، وأسلوب يميل للوصف والسرد. الأول للأمكنة والأزمنة والشخصيات الروائية، والثاني للواقع وتتالي الأحداث المتعاقبة. حوارات وأسئلة لا تنتهي في الرواية الحديثة والمعاصرة معًا. فنية الإبداع الروائي في هذا المجال سائدة عند أبي الرواية الأفريقي أتشيبي، وآخرين. فالنهاية محسومة بالغايات القصوى التي ترومها الرواية الحديثة في إبلاغ القارئ بمدى التَّضحيات الجسام، والبطولات الخاصة بالشخصية المحورية. وإن الإبداع الجديد يبتعد عن اليقين النهائي، ويشكِّك في الرسمي والأيديولوجي، ويفتح نافذة أخرى للإبداع. الشخصية النامية والنهاية المفتوحة أصبحت هذه الأعمال الروائية مثارَ نقد ونقاش من قِبَل النقاد. روايات متعددة، ينكسر الزمن في عملية السرد، وتبدأ الحكاية من العقدة وتنتهي للنهايات المفتوحة وغير المتوقَّعة. هذا النوع من العمل الروائي هو ما يطبعُ الرواية المعاصرة. وما يُؤخذ عليها طابع التشويق وتشابه القضايا المعالجة، وعدم التزام الروائي بقيم معينة، وترك المجال للقارئ أن يستوعب المتن الروائي، ويفكِّك الرواية من خلال قراءةٍ ذاتية تستلهم الخيال و«موت المؤلف»؛ حتى يتمكن القارئ من توسيع مجال الإدراك، والتخيل في العوالم الخفية والكامنة للمعنى المقصود، وما يتوارى في سطور النص الروائي من كلمات وسطور ذات مغزًى ومعنى للقارئ.

الأكيد أن القارئ النقدي مُطالَب أن يلمَّ بالنظريات الأدبية المعاصرة، وأن يعرف أكثر حيثيات الأسلوب واللغة، ومرامي وغايات الخطاب الروائي. دروب الرواية متاهة في بحر من الكلمات، والأساليب والجمل التي تعني أن الرواية من نسيج وعيٍ ذاتي يمتلك جرأة وقدرة في تبليغ الممكن في عالم السَّرد عن حكايات مستلهمة من التاريخ الأفريقي القريب والبعيد، ومن عودة الذات لذاتها في رغبة مُلِحَّة للقول والتعبير. إن قارة أفريقيا بتعدد مكوناتها وحضارتها غنية بالحكايات والوقائع؛ لذلك حاولت بالفعل تقديم صورة عن إمكانيات السرد الروائي من صميم المكان، وجمالية الفضاءات التي تروى منها الحكاية. فالقول إن المكان يوحي بدلالات وغِنى ما تزخر به أفريقيا من تراثٍ وجمالٍ أخَّاذٍ للطبيعة والثقافة الشفهية، من الصحراء الممتدة جمال لا تملكه حضارة أخرى، ومن السهول الخضراء أفريقيا منبع النيل والحقول الخضراء، ومن الغابات والأنهار والوديان. يعيش الأفريقي منسجمًا مع ذاته والطبيعة، فماذا تغيَّر في الإنسان والطبيعة؟ إنه الرجل الأبيض والقِيَم المستنبتة في البيئة الأفريقية بالقهر والإكراه؛ فالرواية الأفريقية قدَّمت نماذج روائية كتبها الأفريقي الأسود والأبيض. كلهم اعترفوا بتآكل العالم البورجوازي، واعترفوا بالحق الطبيعي والمدني، وحق الإنسان الأفريقي في السيادة والحكم.

إن الرواية الأفريقية صبَّت نار النقد والتعرية للنخب الحاكمة في أفريقيا، وعالجت أزمة الإنسان الأفريقي في عالم اليوم. هويات قاتلة تنخر الوَحْدة والتماسك، وتناقضات في ذاتية الأفريقي بين الفرار وطلَب اللجوء في بلدان أخرى، وغِنى المكان بكل النفائس والخيرات. لا زالت الرواية الأفريقية تنشد العالمية أكثرَ رغم نيل بعض الروائيين للجوائز العالمية المهمة. وتشق الرواية الأفريقية طريقًا مليئًا بالأشواك؛ لتطعيم الرواية بالمستجداتِ الجديدة في مجال التخيل والأسلوب والكتابة. والنقد البنَّاء للرواية كفيل بتقديم صورٍ ممكنة عن آفاق الرواية الأفريقية ما بعد المرحلة الاستعمارية، رواية مغايرة في البناء شكلًا ومضمونًا. ويستمر الإبداع الروائي بزخَم كثير، كرسالة حضارية تنتشل أفريقيا من مشاكلها المزمنة، وتضفي على المكان قيمةً جمالية وفنية، غنية بالمعاني والحكايات من التاريخ. حاولت في موضوع المكان الضائع في سرديات الرواية الأفريقية نقلَ صورة عن المكان المستباح والضائع من الحكاية، هذا المكان المستعاد في الحكاية غني بالرموز والقيم المحلية والأساطير والتقاليد التي عاش في ظلها الأفريقي منسجمًا ومتناغمًا، تحديد الطبائع والسمات الأساسية للإنسان وخصائص الطبيعة الغنية بكل مقومات الحياة، حتى سال لعاب الاستعمار الغربي في نهبها، واستغلال ذويها بالقوة والإكراه تارةً، والمكر والتحايل تارةً أخرى.

نصيب الروائي الأفريقي ألَّا يقتنع برسالة الغرب الحضارية في نشر الأنوار والعقلانية، والمشاركة في خيرات أفريقيا نصيب الإنسانية؛ لأنها وجدت للإنسان بشروط الأفارقة، ففي جماليةِ المكان وروعته أضفَى قيمة على الإنسان الأفريقي المنسجم أصلًا مع بيئته. لا يعاني نقصًا أو ميولات نحو حضارة مادية، ساهمت في استئصال الموروث الشعبي والثقافي عن طريق إدخال التبشير والمؤسسات، والقوة في إرغام الأفارقة على اعتناق القيم، وترك الأساطير والطقوس والمعتقدات الفاسدة من وجهةِ نظر الغرب. أدرك الروائي جمالية المكان في تشكيل الهوية الجماعية، وبناءِ الذات من وحدة الشعوب الأفريقية دون الإحساس بمركب النقص، أمام حضارة الآخر العابرة نحو أفريقيا بالتبشير والقوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤