فصل في تراجم الأمراء

وأما من مات في هذه الأعوام من الأمراء المشاهير، فلنقتصر على ذكر بعض المشهورين، مما يحسن إيراده في التبيين، إذ الأمر أعظم مما يحيط به المجيد، فلنقتصر من الحلي على ما حسن بالجيد، ما وصل علمه إلىّ، وثبت خبره لديّ، إذ التفصيل في أحوالهم متعذر، والدواء من غير حمية غير متيسر، ولم أخترع شيئًا من تلقاء نفسي، والله مطلع على أمري وحدْسي.

ومات الأمير ذو الفقار بك تابع الأمير حسن بك الفقاري، تولى الصنجقية وإمارة الحج في يوم واحد، وطلع بالحج إحدى عشرة مرة، وتوفي سنة اثنتين ومائة وألف.

ومات ابنه الأمير إبراهيم بك، تولى الإمارة بعد أبيه، وطلع أميرًا على الحج سنة ثلاث ومائة وألف، (١٦٩١م)، وتحارب مع العرب تلك السنة في مضيق الشُرْفة، فكانت معركة عظيمة، وامتنع العرب من حمل غلال الحرمين فركب عليهم هو ودرويش بك، وكبس عليهم آخر الليل عند الجبل الأحمر، وساقوا منهم نحو ألف بعير، ونهب بيوتهم، وأحضر الجمال إلى قراميدان، وأحضر أيضًا بدَنَة أخرى، شالوا معهم الغلال والقافلة، وولَّى من طرفه إبراهيم أغا الصعيدي زعيم مصر، أخاف الناس وصار له سمعة وهيبة، وطلع بالحج بعد ذلك ثلاث مرار في أمن وأمان، وتاقت نفسه للرياسة ولا يتم له ذلك إلا بملك باب مستحفظان، وكان بيد القاسمية، فأعمل حيلة بمعاضدة حسن أغا بلغيه، وإغراء علي باشا والي مصر حين ذاك، فقلَّد رجب كتخدا مستحفظان وسليم أفندي صناجق.

ثم عملوا دعوة على سليم بك المذكور، انحط فيها الأمر على حبسه وقتله، فلما رأى ذلك رجب بك ذهب إلى إبراهيم بك واستعفى من الإمارة فقلدوه سردار جداوي، وسافر من القُلزُم، وتوفي بمكة وخلَّف ولدًا اسمه باكير، حضر إلى مصر بعد ذلك، ولما قتل سليم بك المذكور لا عن وارث ضبط مخلفاته الباشا لبيت المال، وأخذوا جميع ما في بيته الذي بالأزبكية المجاور لبيت الدادة أبي قاسم الشرايبي، وهو الذي اشتراه القاضي مواهب أبو مدين جربجي عزبان في سنة أربع ومائة وألف، وقتلوا أيضًا خليل كتخدا المعروف بالجلب، وقلدوا كجك محمد باش أوده باشا، وصار له كلمة وسمعة، ونفى مصطفى كتخدا القازدغلي إلى أرض الحجاز، وصفا الوقت لإبراهيم بك وكجك محمد من طرفة في باب مستحفظان، فعزم على قطع بيت القاسمية، فأخرج إيواظ بك إلى إقليم البحيرة وقاسم بك إلى جهة بني سويف وأحمد بك إلى المنوفية، وخلا له الجو وانفرد بالكلمة في مصر، وصار منزله بدرب الجماميز مفتوحًا ليلًا ونهارًا لقضاء الحوائج مع مشاركة الأمير حسن أغا بلغيه، ثم إنه عزم على قتل إبراهيم بك أبي شنب، واتفق مع الباشا على ذلك بحجة المال والغلال التي عليه، فلم يتم ذلك، ولم يزل المترجم أميرًا على الحج إلى أن مات في فصل الشحاتين سنة سبع ومائة وألف، وطلع بالحج خمس مرات.

ومات الأمير إسماعيل بك الكبير الفقاري تابع حسن بك الفقاري وصهر حسن أغا بلغيه، تولى الدفتردارية ثلاث سنين وسبعة أشهر ثم عزل، وسافر أميرًا على عسكر السفر إلى الروم، ورجع إلى مصر، وأُعيد إلى الدفتردارية ثانيًا، ولم يزل حتى مات سنة تسع عشرة ومائة وألف فجأة ليلة السبت تاسع عشري المحرم، وكانت جنازته حافلة، وخلَّف ولده محمد بك، تولى بعده الإمارة وطلع بالحج سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ١٧٢٤م.

ومات الأمير حسن أغا بلغيه الفقاري أغات ككلويان، وأصله رومي الجنس تابع محمد جاويش قياله، تولى أغاوية العزب سنة خمس وثمانين وألف ١٦٧٤م ثم عمل متفرقة باشا سنة تسع وثمانين وألف، ثم عزل عنها وتقلد أغات ككلويان سنة ثلاث وتسعين وألف، وكان أميرًا جليلًا ذا دهاء ورأي وكلمة مسموعة نافذة بأرض مصر، صاحب سطوة وشهامة وحسن تدبير، ولا يكاد يتم أمر من الأمور الكلية والجزئية إلَّا بعد مراجعته ومشورته، وكل من انفرد بالكلمة في مصر يكون مشاركًا له، وتزوج بابنة إسماعيل بك الكبير المذكورآنفًا، وولد له منها ابنه محمد بك الآتي ذكره الذي تولى إمارة الحج في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، ومصطفى كتخدا القازدغلي جد القازدغلية كان أصله سرَّاجًا عنده، وهو الذي رقاه حتى صار إلى ما صار إليه، وتفرعت عنه شجرة القازدغلية، وغالب أمراء مصر وحكامها يرجعون في النسبة إلى أحد البيتين، وهم بيت بلغيه وبيت رضوان بك صاحب العمارة المتوفي سنة خمس وستين وألف (١٦٥٤م)، ولم يترك أولادًا بل ترك حسن بك أمير الحاج المتقدم ذكره، ولاجين بك حاكم الغربية، وهو صاحب السويقة المنسوبة إليه، وأحمد بك أباظه، وشعبان بك أبا سنة، وقيطاس بك جركس، وقانصوه بك، وعلي بك الصغير، وحمزة بك، هؤلاء قُتلوا بعده في فتنة القاسمية بالطرانة.

وأما أمراؤه الذين لم يقتلوا واستمروا أمراء بمصر مدة طويلة فهم: محمد بك حاكم جرجا، وذو الفقار بك الماحي الكبير، وكان رضوان بك هذا وافر الحرمة مسموع الكلمة تولى إمارة الحج عدة سنين، وكان رجلًا صالحًا ملازمًا للصوم والعبادة والذكر، وهو الذي عَمَّرَ القصبة المعروفة به خارج باب زويلة عند بيته، ووقف وقفًا على عتقائه وعلى جهات «برّ» «وخيرات»، وكان من الفقارية، وأما رضوان بك أبو الشوارب القاسمي وهو سيد إيواظ بك فظهر بعد موت رضوان بك المذكور، وانفرد بالكلمة بمصر مع مشاركة قاسم بك جركس وأحمد بك بشناق الذي كان بقناطر السباع، وهو قاتل الفقارية بالطرانة، وهو أيضًا عم إبراهيم بك بشناق المعروف بأبي شنب، سيد محمد جركس الآتي ذكره، ومات قاسم بك هذا سنة اثنتين وسبعين وألف ١٦٦١م وهو دفتردار، بعد عزله من إمارة الحج.

وانفرد بعد رضوان بك أبي الشوارب أحمد بك، ثم مات رضوان بك عن ولده أزبك بك، وانفرد أحمد بك بشناق بإمارة مصر نحو سبعة أشهر، فطلع يوم عرفة يهني شيطان إبراهيم باشا بالعيد فغدره، وقتلوه بالخناجر أواخر سنة اثنتين وسبعين وألف، ولم يزل حسن أغا بلغيه المترجم حتى توفي سنة خمس عشرة ومائة وألف على فراشه وعمره نحو تسعين سنة، ولما مات حسن أغا انفرد بالكلمة بعده صهره إسماعيل بك، وخضعت له الرقاب مع مشاركة إبراهيم بك أبي شنب بضعف.

ومات الأمير مصطفى كتخدا القازدغلي تابع الأمير حسن أغا بلغيه، أصله رومي الجنس، حضر إلى مصر وخدم عند حسن أغا المذكور، ورقاه ولم يزل حتى تقلد كتخدا مستحفظان، فلما حصل ما تقدم وتقلد محمد باش أوده باشه بالباب خمل ذكر مصطفى كتخدا وخمدت شهرته، ثم نفاه كجك محمد إلى الحجاز فأقام بها سنتين إلى أن ترجى حسن أغا عند إبراهيم بك أمير الحاج وكجك محمد في رجوعه إلى مصر، فأقام مع كجك محمد خاملًا، فأغرى به رجلًا سجماني كان عنده بناحية طلخا يضرب نشانًا. فضرب كجك محمد من شباك الجامع بالمحجر فأصابه، وملك مصطفى كتخدا باب مستحفظان ذلك اليوم، ونفى وقتل وفرق من يخشى طرفه، وصفا له الوقت إلى أن مات على فراشه سنة خمس عشرة ومائة وألف.

ومات كجك محمد المذكور باش أوده باشه، وكان له سمعة وشهرة وحسن سياسة، ولما أقصر مدُّ النيل في سنة ست ومائة وألف (١٦٩٤م) وشرقت البلاد، وكان القمح بستين نصفًا فضة الإردب فزاد سعره وبيع باثنتين وسبعين فضة، نزل كجك محمد إلى بولاق وجلس بالتكية وأحضر الأمناء، ومنعهم من الزيادة عن الستين، وخَوّفهم وحذَّرهم وأجلس بالحملة اثنين من القابجية، ويرسل حماره كل يومين أو ثلاثة مع الحمَّار يمشي به جهة الساحل ويرجع فيظنون أن كجك محمد ببولاق فلا يمكنهم زيادة في ثمن الغلة، فلما قُتل كما ذكر بيع القمح في ذلك اليوم بماية نصف فضة، ولم يزل يزيد حتى بلغ ستماية نصف فضة.

ومما اتفق له أن بعض التجار بسوق الصاغة أراد الحج، فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات واللؤلؤ والجواهر ومصاغ حريمه، ووضعه في صندوق، وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوش يسمى الخواجا علي الفيومي، بموجب قائمة أخذها معه مع مفتاح الصندوق، وسافر إلى الحجاز، وجاور هناك سنة ورجع، ورجع مع الحُجاج، وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه، وانتظر صاحبه الحاج علي الفيومي فلم يأتِه، فسأل عنه فقيل له: إنه طيب بخير، فأخذ شيئًا من التمر واللبان والليف ووضعه في منديل وذهب إليه، ودخل عليه ووضع بين يديه ذلك المنديل، فقال له: «من أنت؟ فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني!!» فقال له: «أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة» فجحد معرفته وأنكر ذلك بالكلية، ولم يكن بينه وبينه بيِّنة تشهد بذلك، فطار عقل الجوهري، وتحيَّر في أمره، وضاق صدره، فأخبر بعض أصحابه فقال له: اذهب إلى كجك محمد أوده باشه، فذهب إليه وأخبره بالقصة فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل، ولا يأتي إليه حتى يطلبه، وأرسل إلى علي الفيومي، فلما حضر إليه بشَّ في وجهه ورحَّب به وآنسه بالكلام الحلو، ورأى في يده سُبحة مَرْجان فأخذها من يده يقلبها ويلعب بها، ثم قام كأنه يزيل ضرورة، وأعطاها لخادمه، وقال له: خذ خادم الخواجا صحبتك، واترك دابته هنا عند بعض الخدم، واذهب صحبة الخادم إلى بيته، وقِف عند باب الحريم وأعطهم السبحة أمارة، وقل لهم: إنه اعترف بالصندوق والأمانة، فلما رأوا الأمارة والخادم لم يشكُ في صحة ذلك.

وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه قال للخواجا: «بلغني أن رجلًا جواهرجي أودع عندك صندوقًا أمانة، ثم طلبه فأنكرته» فقال: «لا وحياة رأسك ليس له أصل، وكأني اشتبهت عليه أو أنه خرفان وذهلان، ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني» ثم سكتوا وإذا بتابع الأوده باشا والخادم داخلين بالصندوق على حمار فوضعوه بين أيديهما، فانتقع وجه الفيومي واصفرَّ لونه، فطلب الأوده باشه صاحب الصندوق فحضر، فقال له: هذا صندوقك؟ قال له: نعم، قال له: عندك قائمة بما فيه؟ قال: معي، وأخرجها من جيبه مع المفتاح، فتناولها الكاتب، وفتحوا الصندوق وقابلوا ما فيه على موجب القائمة فوجده بالتمام، فقال له: «خذ متاعك واذهب» فأخذه وذهب إلى داره وهو يدعو له، ثم التفت إلى الخواجا علي الفيومي وهو ميت في جلده ينتظر ما يفعل به، فقال له: «صاحب الأمانة أخذها وإيش جلوسك؟» فقام وهو ينفض غبار الموت وذهب.

واتفق أن أحمد البغدادلي أقام مدة يرصد المترجَم يمر من عطفة النقيب ليضربه ويقتله، إلى أن صادفه فضربه بالبندقية من الشباك فلم تصبه، وكسرت زاوية حجر، وأخبروه أنها من يد البغدادلي فأعرض عن ذلك، وقال: «الرصاص مرصود، والحي ما له قاتل»، وتقلد أوده باشه سنة خمس وثمانين وألف، فتحركت عليه طائفته وأرادوا قتله، فخرج من وجاقه إلى وجاق آخر، وعمل شغله في قتل كبار المتعصبين عليه، وهم: ذو الفقار كتخدا وشريف أحمد باشجاويش باتفاق مع عابدي باشا المتولي إذ ذاك خفية، فقتل الباشا الشريف أحمد جاويش في يوم الخميس خامس الحجة سنة تسع وثمانين وألف ١٦٧٨م، وهرب ذو الفقار إلى طندتا فأرسلوا خلفه فرمانًا خطابًا لإسماعيل كاشف الغربية بقتله، فركب إلى طندتا وقتله وأرسل دماغه، وذلك بعد موت أحمد جاويش بعشرة أيام، ورجع كجك محمد إلى مكانه كما كان، واستمر مسموع الكلمة ببابه إلى أن ملك الباب جربجي سليمان كتخدا مستحفظان في سنة أربع وتسعين وألف ١٦٨٣م، ونفي كجك محمد إلى بلاد الروم، ثم رجع في سنة خمس وتسعين وألف ١٦٨٤م بسعاية بعض أكابر البلكات بشرط أن يرجع إلى لبس الضلمة ولا يقارش في شيء، فاستمر خامل الذكر إلى أن مات جربجي سليمان على فراشه، فعند ذلك ظهر أمر المترجَم وعمل باش أوده باشه كما كان، ولم يزل إلى سنة سبع وتسعين وألف ١٦٨٥م، فاستوحش من سليم أفندي كاتب كبير مستحفظان ورجب كتخدا، فانتقل إلى وجاق جمليان وعمل جربجي، وسافر هجان باشا، ثم رجع إلى بابه سنة تسع وتسعين وألف، ١٦٨٧م، كما كان، بمعاضدة إبراهيم بك الفقاري، واتفق معه على هلاك سليم أفندي ورجب كتخدا فولوهما الصنجقية وقتلوهما كما ذكر، وكان سليم أفندي المذكور قاسمي النسبة، واستمر كجك محمد مسموع الكلمة نافذ الحرمة إلى أن قُتل غيلة — كما ذكر — في طريق المحجر في يوم الخميس سابع المحرم سنة ست وماية وألف ١٦٩٤م.

ومات الأمير عبد الله بك بشناق الدفتردار تولى الدفتردارية سنة ثلاث ومائة وألف ١٦٩١م، ثم عُزل عنها بعد خمسة أشهر وعشرين يومًا، وسافر أميرًا على العسكر إلى الروم، ورجع إلى مصر، وتولى قائمقام عندما عزل حسن باشا السلحدار في سنة اثنتين وذلك قبل سفره، وحضر أحمد باشا، ثم عزل بعد ذلك المترجم من الدفتردارية واستمر أميرًا إلى أن مات سنة خمس عشرة وماية وألف على فراشه.

ومات الأمير سليمان بك الأرمني المعروف ببارم ذيله، تولى الصنجقية سنة اثنتين ومائة وألف، وكان وجيهًا ذا مال وخدم ومماليك، وتولى كشوفيات المنوفية والغربية مرارًا عديدة، ولم يزل في إمارته إلى أن توفي على فراشه سنة إحدى وعشرين وماية وألف ١٧٠٩م، وخلَّف ولدًا يسمى عثمان جلبي تقلد إمارة والده بعده، وكان جميلًا وجيهًا حاذقًا يحب مطالعة الكتب ونشد الأشعار، وتقلد كشوفية المنوفية والغربية والبحيرة وكان فارسًا شجاعًا، ولم يزل حتى هرب مع من هرب في واقعة محمد بك قطامش سنة سبع وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م، فاختفى بمصر ونهب بيته واستمر مخفيًّا إلى أن مات بالطاعون سنة ثلاثين وماية وألف، وخرجوا بمشهده جهارًا، ومات وعمره سبع وثلاثون سنة.

ومات الأمير حمزة بك تابع يوسف بك جلب القرد، تَأمّر بعد سيده سنة عشر ومائة وألف ١٦٩٨م، فمكث خمس سنوات أميرًا ثم سافر بالخزينة، ومات بالطريق سنة ست عشرة ومائة وألف.

ومات قبله سيده الأمير يوسف بك القرد، تولى الصنجقية سنة ثلاث وسبعين وألف ١٦٦٢م، وتولى إمارة الحج، ولم يزل حتى توفي سنة عشرة ومائة وألف.

ومات الأمير رمضان بك، تولى الإمارة سنة سبع وسبعين وألف ١٦٦٦م، وعمل قائمقام عندما عزل أحمد باشا الدفتردار، وسبب ذلك: أنه لما ورد أحمد باشا المذكور واليًا على مصر في سنة ست وثمانين وألف ١٦٧٥م، وأشيع عنه بأن قصده إحداث مظالم على البيوت والدكاكين والطواحين مثل الشام، ويفتش عن الجوامك وغيرها، فاجتمع العسكر في خامس الحجة بالرميلة، وقاموا قومةً واحدةً، وقطَّعوا عبد الفتاح أفندي الشعراوي كاتب مقاطعة الغلال وهو نازل من الديوان، وكان قبل تاريخه ذهب إلى الديار الرومية وحضر صحبة أحمد باشا، فاتهموه بأنه هو الذي أغرى الباشا على ذلك، ولما نزل الأمراء وأرباب الديوان قام عليهم العسكر والعامة وقالوا لهم: «لا بد من نزول الباشا وإلَّا طلعنا إليه وقطَّعناه قِطَعًا قطعًا» فطلعوا إلى الباشا فعرضوا عليه ذلك فامتنع، وتكرر مراجعته، والعسكر والناس يزيد اجتماعهم إلى قريب العصر، فلم يسعه إلا النزول بالقهر عنه إلى بيت حاجي باشا بالصليبية، وولوا رمضان بك هذا قائمقام، فلم يزل حتى ورد عبد الرحمن باشا سادس جمادى الآخرة من سنة سبع وثلاثين وألف ١٦٧٦م، ولم يزل المترجم أميرًا حتى مرض ومات سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.

مات الأمير درويش بك الفلاح، تولى الإمارة سنة خمس وتسعين وألفًا ١٦٨٣م ومات سنة ثمانٍ وماية وألف.

ومات الأمير أحمد بك تابع يوسف أغا دار السعادة، تولى الإمارة سنة ستٍّ وتسعين وألف ١٦٨٤م، ومات بجدة سنة ثمانٍ ومائة وألف.

ومات الأمير درويش بك جركس الفقاري وهو سيد أيوب بك، تولى الإمارة سنة ثمانٍ وتسعين وألف ١٦٨٦م، ومات سنة خمس وماية وألف.

ومات الأمير محمد كتخدا عزبان البيرقدار، وكان صاحب صولة وعزّ في بابه، وكلمة وشهرة مع مشاركة محمد كتخدا البيقلي، وكان المترجَم شهير الذكر وبيته مفتوح، وتسعى إليه الأمراء والأعيان، ويقضي حوائج الناس، ويسعى في أشغالهم، وظهر في أيامه أحمد أوده باشه القيومجي، وظالم علي جاويش عزبان. مات المترجَم ثالث عشري رمضان سنة سبع وماية وألف على فراشه بمنزله ناحية المظفر.

ومات أيضًا محمد كتخدا البيقلي في ثالث عشري رمضان سنة خمس وماية وألف ١٦٩٣م بمنزله بسوق السلاح، وعمَّره ولده بعد موته — وهو يوسف كتخدا عزبان — وكالة سنة ست عشرة وماية وألف.

ومات الأمير أحمد جربجي عزبان المعروف بالقيومجي، وسبب تسميته بالقيومجي: أن سيده حسن جربجي كان أصله صايغًا، ويقال له باللغة التركية قيومجي فاشتهر بذلك، وكان سيده في باب مستحفظان، وأحمد هذا عزبان، وكان المشارك لأحمد جربجي في الكلمة علي جاويش المعروف بظالم علي، إلى أن لبس ظالم علي كتخدا الباب سنة ثمانٍ ومائة وألف ١٦٩٦م، ومضى عليه نحو سبعة أشهر، فانتبذ أحمد جربجي وملك الباب على حين غفلة وأنزل علي كتخدا إلى الكشيدة، فخاف على نفسه ظالم علي، فالتجا إلى وجاق تفكجيان، فسعى إليه جماعة منهم ومن أعيان مستحفظان، وردوه إلى بابه بأن يكون اختياريًّا، وضمنوه فيما يحدث منه، فاستمر مع أحمد كتخدا معززًا إلى أن مات ظالم علي عَلَى فراشه بمنزله بالحبانية الملاصق للحمام سنة خمس عشرة ومائة وألف ١٧٠٣م وانفرد بالكلمة أحمد كتخدا، ولم يزل إلى أن مات على فراشه بمنزله ببولاق سنة عشرين ومائة وألف، وكان سخيًّا يُضرب بكرمه المثل، وكان به بعض عرج بفخذه الأيسر بسبب سقطة سقطها من على الحمار وهو أوده باشه.

ومات الأمير الكبير المقدام إيواظ بك والد الأمير إسماعيل بك، وأصل اسمه: عوض، فحرفت باعوجاج التركية إلى إيواظ، فإن اللغة التركية ليس فيها الضاد، فأُبدلت وحُرفت بما سهل على لسانهم حتى صارت إيواظ، وهو جركسي الجنس قاسمي تابع مراد بك الدفتردار القاسمي الشهيد بالغَزَاة، ومراد بك تابع أزبك بك أمير الحاج سابقًا ابن رضوان بك أبي الشوارب المشهور المتقدم ذكره.

تولى الإمارة عوضًا عن سيده مراد بك الشهيد بالغَزَاة في سنة سبع وماية وألف ١٦٩٥م، وفي سنة عشر وماية وألف ١٦٩٨م ورد مرسوم من الدولة خطابًا لحسين باشا والي مصر إذ ذاك بالأمر بالركوب على المتغلب عبد الله وافي المغربي بجهة قبلي ومن معه من العربان، وإجلائهم عن البلاد.

وحضرت جماعة من الملتزمين والفلاحين يشكون ويتظلمون من المذكورين، فجمع حسين باشا الأمراء والأغوات وأمرهم بالتهيؤ للسفر صحبته، فقالوا: نحن نتوجه جميعًا، وأما أنت فتقيم بالقلعة لأجل تحصيل الأموال السلطانية؛ ثم وقع الاتفاق على إخراج تجريدة وأميرها إيواظ بك وصحبته ألف نفر من الوجاقات، ويقرروا له على كل بلد كبير ثلاثة آلاف نصف فضة والصغيرة ألفًا وخمسمائة فأجابهم إلى ذلك، وجعلوا لكل نفر ثلاثة آلاف فضة وللأمير عشرة أكياس، وخلع عليه الباشا قفطانًا، وخرج في يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة بموكب عظيم، ونزل بدير الطين فبات به وأصبح متوجهًا إلى قبلي، ثم ورد منه في حادي عشر رجب خطاب يذكر كثرة الجموع ويطلب الإمداد، فعمل الباشا ديوانًا، وجمع الأمراء، واتفقوا على إرسال خمسة من الأمراء الصناجق، وهم: أيوب بك أمير الحاج حالًا، وإسماعيل بك الدفتردار، وإبراهيم بك أبو شنب، وسليمان بك قيطاس، وأحمد بك ياقوت زادة، وأغوات الإسباهية الثلاثة وأتباعهم وأنفارهم.

فتهيأوا وسافروا ونزلوا بالجيزة وأقاموا بها أيامًا فورد الخبر أن إيواظ بك تحارب مع العربان وهزمهم، وفروا إلى الوجه البحري من طريق الجبل، ورجع الأمراء إلى مصر، وفي شوال نزلت جماعة من العربان بكرداسة فكبسهم ذو الفقار كاشف الجيزة وقتل منهم أربعة وسبعين رجلًا وطلع بروسهم إلى الديوان، ثم ورد الخبر بأنَّ جَمْع أبي زيد بن وافي نزل بوادي الطرانة، فاحتاط به قائمقام البحيرة وقتل من معه من الرجال، واحتاط بالأموال والمواشي، ولما بلغ بقية العربان ما حصل لأبي زيد ضاقت بهم الأرض ففروا إلى الواحات وأقاموا بها مدة حتى أخربوها وأغلوها وانقطعت السيارة، فألجأتهم الضرورة إلى أن هبطوا في صعيد مصر بمحاجر الجعافرة بالقرب من إسنا وصحبتهم علي أبو شاهين شيخ النجمة، وحصل منهم الضرر، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن بك أغرى بهم عربان هوارة فاحتاطوا بهم ونهبوهم، وأخذوا منهم جملة كبيرة من الجمال وغيرها، ففروا فتبعهم خيل هوارة إلى حاجر منفلوط، فتبعهم عبد الرحمن بك ومن معه من الكشاف فأثخنوهم قتلًا ونهبًا، وأخذوا منهم ألفًا وسبعماية جمل بأحمالها، وهرب من بقي، وما زالوا كلما هبطوا أرضًا قاتلهم أهلها إلى أن نزلوا الفيوم بالغرق، وافترق منهم أبو شاهين بطايفة إلى ولاية الجيزة، فعين لهم الباشا تجريدة ذهبوا خلفهم إلى الجسر الأسود، فوجدوهم عدُّوا إلى المنوفية.

وأما إيواظ بك فإنه من حين نزوله إلى الصعيد وهو يجاهد ويحارب في العربان حتى شتت شملهم وفرّق جمعهم، فتلقّاهم عبد الرحمن بك فأذاقهم أضعاف ذلك، وحضر إيواظ بك إلى مصر، ودخل في موكب عظيم والروس محمولة معه، وطلعوا إلى القلعة وخلع عليه الباشا وعلى السدادرة الخلع السنية، ونزلوا إلى منازلهم في أبهة عظيمة، وتولى كشوفية الأقاليم الثلاثة على ثلاث سنوات، ورجع إلى مصر، وحضر مرسوم بسفر عسكر إلى البلاد الحجازية وعزل الشريف سعد وتولية الشريف عبد الله وأميرها إيواظ بك، فخلع عليه الباشا وشهَّل له جميع احتياجاته، وبرز إلى العادلية وصحبته السدادرة، وسار برًّا في غير أوان الحج، ولما وصل إلى مكة جمع السدادرة القدُم والجدُد وحاربوا الشريف سعدًا وهزموه وملك دار السعادة، وأجلس الشريف عبد الله عوضه، وقتل في الحرابة رضوان أغا ولده وكان خازنداره، وأقام بمكة إلى أيام الحج، أتى إليه مرسوم بأنه يكون حاكم جدة، وكانت إمارة جدة لأمراء مصر. أقام بجدة سنين وحاز منها شيئًا كثيرًا، وكان الوكيل عنه بمصر يوسف جربجي الجزار عزبان، ويرسل له الذخيرة وما يحتاجه من مصر.

وتولى المترجم إمارة الحج سنة اثنتين وعشرين ١٧١٠م ورجع سنة ثلاث وعشرين، وقتل في تلك السنة في الفتنة وهو أمير على الحج، وذلك أنه لما اشتدت الفتنة بين العزب والينكجرية وحضر محمد بك حاكم الصعيد مُعينًا للينكجرية وصحبته السواد الأعظم من العسكر والعرب والمغاربة والهوارة، فنزل بالبساتين ثم دخل إلى مصر بجموعه، نزل ببيت آقبردي وحارب المتترسين بجامع السلطان حسن، وكان به محمد بك الصغير وهو تابع قيطاس بك مع من انضم إليه من أتباع إبراهيم بك وإيواظ بك ومماليكه، فكانت النصرة لمحمد بك الصغير بعد أمور وحروب.

وانتقل محمد بك جرجا إلى جهة الصليبة ووقعت أمور يطول شرحها مشهورة من قتلٍ ونهب وخراب أماكن وطال الأمر، ثم إن الأمراء اجتمعوا بجامع بشتاك وحضر معهم طائفة من العلماء والأشراف، واتفقوا على عزل خليل باشا وإقامة قانصوه بك قائمقام، وولوا مناصب وأغوات ووالي، ووصل الخبر إلى الباشا ومن معه فحرض الينكجرية وفيهم إفرنج أحمد ومحمد بك جرجا ومن معه على الحرب، ووقعت حروب عظيمة بين الفريقين عدة أيام، وصار قانصوه بك يرسل بيورلديات وتنابيه، وأرسل إلى محمد بك جرجا يأمره بالتوجه إلى ولايته، ويجتهد في تحصيل المال والغلال السلطانية، فعندما وصل إليه البيورلدي قام وقعد واحتد واشتد بينهم الجلاد والقتال، واجتمع الأمراء الصناجق والأغوات عند قائمقام ورتبوا أمورهم، وذهبت طائفة لمحاربة منزل أيوب بك إلى أن ملكوه بعد وقائع ونهبوه، وخرج أيوب بك هاربًا، وكذلك منزل أحمد أغا التفكجية بعد قتله، وخرج أيضًا محمد أغا الشاطر وعلي جلبي الترجمان وعبد الله الوالي ولحقوا بأيوب بك، وفروا إلى جهة الشام، وخرج محمد بك الكبير إلى جهة قبلي، وانتهبت جميع بيوت الخارجين وبيت محمد بك الكبير وأحمد جربجي القينالي، وأحرقوا بيت أيوب بك وما لاصقه من البيوت والحوانيت والرباع.

وفي أثناء ذلك قبل خروج من ذكر أيام اشتداد الحرب خرج محمد بك بمن معه إلى جهة قصر العيني، فوصل الخبر إلى إيواظ بك فركب مع من معه ورفع القوَّاس المزراق أمام الصنجق، فانشبك في سكفة الباب وانكسر، فقالوا للصنجق: كسر المزراق فَأْلٌ، وتطيروا من ذلك؛ فقال: لعل بموتي ينصلح الحال، وطلب مزراقًا آخر، وسار إلى جهة القبر الطويل فظهر محمد بك والهوارة فتحاربوا معهم فانهزم رجال محمد بك، وفر هو ومن معه إلى السواقي، فطمع فيهم إيواظ بك ورمح خلفهم، وكان محمد بك أجلس جماعة سجمانية على السواقي لمنع من يطرد خلفهم عند الانهزام، فرموا عليهم رصاصًا فأصيب إيواظ بك وسقط من على جواده، وحصل بعد ذلك ما حصل من الحروب ونصرة القاسمية والعزب، وهروب المذكورين، وعزل الباشا، ودفن إيواظ بك بتربة أبي الشوارب، وكان أميرًا خيِّرًا شهمًا حزن عليه كثير من الناس، وخلف والده السعيد الشهيد إسماعيل بك الشهير السابق ذكره، والآتي ترجمته، وما وقع له ولأخيه محمد بك المعروف بالمجنون ومصطفى بك، وخلف عدَّة من المماليك والأمراء ومنهم يوسف بك الجزار غيره، وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:

أيها الشخص لا يكن منك متعِب
إن إيذاء خلق ربك معطب
ما ترى ما جرى لأحمد الإفرنج
ومن تابعوه من شؤم مكرب
وبأيوب بيك ثم محمد
الصعيدي بك إذ جاء يحرب
وعلينا مدافع نصبوها
في أعالي الأبراج ترمي بلهب
وبيوتًا عديدة حرقوها
مع نهب الأموال من غير موجب
وأحاطوا بنا وقد منعونا
استقاء من نيلنا أو نصوَّب
فعطشنا وماء ملح شربنا
ورمونا بكل ما كان يرعب
مدة مستطيلة ثم باءوا
بعقاب لم يبقَ منهم معقب
قطعوا إفرنج ثم من شايعوه
ورموهم بمزبل وقت مغرب
والبرايا عليهم قد أكبوا
فيهم شامتين الأمثال تضرب
وبليل فر الصعيدي وأيوب
والأتباع واكتفوا شر مرهب
فالصعيدى للصعيد وأيوب
لشام والاغترار يغرب
وخليل الباشا الردي سجنوه
بعد خلع له وقد كا يشغب
واستراحت منهم أماكن مصر
واستنار الزمان والعيش مخصب
وتعدوا بقتل إيواظ بيك
فرماهم مبيد عاد بمنكب
والذى قد ذكرته مجمل لو
قد بسطناه ضاق تعبير معرب
حسن ذو الحجاز ذلك أرخ
شرُّ مكرِ مكرٌ لأيوب محدب

وقال أيضًا:

خليل باشا خاب مصرنا أتى
ماكر سوء حائق بنفسه
أثار في عسكرنا نائرة
تاريخها أضرها بطمسه
أعني على أفكارهم ألقى عمى
كلٌ غدا منه رهين عكسه
فليتهم تفطنوا لمكره
وقَّطعوه قبل سكنى رمسه
وأتبعوه لعنةً وافرة
عدة طاهر الورى ورجسه
إيواظ بيك الفحل ظلمًا قتلوه
ونال عند الله دار قدسه
وآخر يوم في الخماسين قضى
نحبًا ضحى حين اشتداد شمسه
ونال شر خيبة قاتله
تغشاه من أسفله لرأسه
لا تنكرن من ذلك الباشا الردى
خبيث فعله وسوء حدسه
لأنه أعورُ إقليط كذا
أعرجُ نكرٌ شائع في جنسه
فربنا من مصر لا يخرجه
إلا قتيلًا ذاهبًا كأمسه
كذاك أيوب والإفرنج ومَن
شابه في إبلاسه ولبسه
ويسأل الله الحجازي حسن
وقاية الباغى وشوم نحسه

وقال أيضًا:

بليةٌ جاءت مصرًا
فأكثرت فيها الهالك
بالنار والسيف الباتر
والجوع من قطع السالك
وخذ لهذا تاريخًا
خليل باشا في حالك
ويسأل الله البدري
حسن نجاة من ذلك

ومات الأمير أيوب بك تابع درويش بك، وهو كان ممن تسبب في إثارة الفتنة المذكورة وتولى كبرها مع إفرنج أحمد، وأرسل إلى محمد بك جرجا فحضر إليه مُعينًا ومعهم من أخلاط العالم وحصل ما حصل، وأصله جركسي الجنس ومن الفقارية، تولى إمارة الحج بعد موت إبراهيم بك ذى القعدة سنة سبع ومائة وألف ١٦٩٥م وطلع بالحج عشر مرات وعُزل سنة سبع عشرة ومائة وألف ١٧٠٥م وتولى الدفتردارية، ثم عُزل عنها، ثم وقعت الفتنة وقُهر فيها، وخرج من مصر هاربًا مع من هرب إلى جهة الشام، وذهب إلى إسلامبول ولم يزل بها حتى مات سنة أربع وعشرين ومائة وألف طريدًا غريبًا وحيدًا بعد الذي رآه من العز والجاه بمصر، وخلف من الأولاد الذكور والإناث اثني عشر لم ينتج منهم أحد، عاشوا وماتوا فقراء؛ لأن ماله انتُهب في الفتنة.

ومات الأمير قيطاس بك، وهو مملوك إبراهيم بك ذي الفقار كردلي الجنس، تولى إمارة الحج سنة عشرة ومائة وألف ١٧٠٥م واستمر فيها إلى سنة إحدى وعشرين ومائة وألف، طلع بالحج خمس مرات، ثم عزل عنها وتولى الدفتردارية واستمر فيها إلى سنة أربع وعشرين ومائة وألف ١٧١٢م، ثم عُزل عنها وتولى إمارة الحج سنة تاريخه، ثم عُزل وتلبس بالدفتردارية، واستمر فيها إلى أن قُتل في سنة ست وعشرين ومائة وألف، قتله عابدي باشا، وذلك أنه لما حضر عابدي باشا إلى مصر وقدَّم له الأمراء التقادم، وقدم له إسماعيل بك ابن إيواظ تقدمة عظيمة وكان إذ ذاك أمين السماط، فأحبه الباشا وسأل عمن تسبب في قتل أبيه، فقالوا: هذه قضية ليس لأحد فيها جنية، وإنما قيطاس بك وأيوب بك من بيت واحد وكان أيوب بك أعظم، فالتجأ قيطاس بك إلى المرحوم إيواظ بك إلى أن قُتل بسببه، وقتل أيضًا كثير من رجاله، وبعدما بلغ مراده سعى في هلاكنا وأراد قتلنا عند أم إخنان، وسلط ابن حبيب على خيولنا في المربع وجم أذنابها، فقال الباشا يكون خيرًا، ولما استقر الباشا وتقلد إسماعيل بك إمارة الحج وقلدوا مناصب الأقاليم للقاسمية، وتقلد عبد الله بك خازندار إيواظ بك الصنجقية، وأرسلوا بقتل الأمير حسن كاشف إخميم.

ثم إن قيطاس أرسل كور عبد الله سرًّا إلى الباشا وكلمه في إدارة الكشوفيات على الفقارية وعمل رشوة، فقال له: «هذه السنة مضت وفي العام القابل نعطيكم جميع الكشوفيات» فاطمأن بذلك، وشرع في عمل عزومة للباشا بقصر العيني، فأجاب لذلك وذهب مع القاضي وإبراهيم بك والدفتردار وأرباب الخدم، وقدَّم لهم تقادم وخلع عليه الباشا فروة سمور، وركبوا أواخر النهار، وذهبوا إلى منازلهم، ومضى على ذلك أيام.

وكان محمد بك قطامش تابع قيطاس بك في الخفر بسبيل علام فحضر في بعض الأيام إلى الديوان لحاجة، ودخل عند الباشا فقال له: «أين كنت ولم تحضر معنا عزومة سيدك؟» فقال: «أنا في الخفر بسبيل علام» فقال الباشا: «وسبيل علام هذا بلد وإلا قلعة؟» فعرفه أنه مثل القلعة وحوله قصور لنزول الأمراء، فقال الباشا: «أحب أن أرى ذلك» فقال: «حبًّا وكرامة تشرفونا يوم السبت»، فقال: «كذلك شَهِّل روحك ونأتي صحبة سيدك والقاضي من غير زيادة، وادع أنت من شئت»، وقال الباشا لقيطاس بك: «تنزل في صبح يوم السبت إلى قراميدان فتأتيني هناك ونركب صحبة»، فقال: كذلك، فأرسل إبراهيم أبو شنب تلك الليلة تذكرة لقيطاس بك: «اقبل النصيحة ولا تذهب إلى قراميدان» فلما قرأ التذكرة وعرضها على كتخدا محمد أغا الكور، فقال: «هذا عدو فلا تأخذ منه نصيحة، فإنه لا يحب قربك من الباشا» وفي الصباح ركب في قلةٍ وذهب إلى قراميدان، فوجد الباشا نزل وجلس بالكشك وأوقف أتباعه وعسكره، فلما حضر قيطاس بك قال له الباشا من الشباك: «اطلع حتى يأتي القاضي ونركب سوَّية، وخلِّ الطوايف راكبين» فنزل وطلع وجلس، فهجم عليه أتباع الباشا وقتلوه بالخناجر، وقطعوا رأسه ورموه لطايفته من الشباك، وركب الباشا في الحال وطلع إلى القلعة فشاله أتباعه وذهبوا به إلى بيته.

وذهبت طايفة إلى سبيل علَّام، أخبروا محمد بك بقتل سيده، فركب من ساعته وصحبته عثمان بك فأتوا صيوان قيطاس بك الأعور وكان طالعًا بالخزينة، فعرفوه أن سيده قتله القاسمية بيد الباشا، وطلبوه يركب معهم يأخذون بثأره، فأبى وقال: «إنه قُتل بأمر سلطاني، والخزنة في تسليمي، وأنتم فيكم البركة» فساروا إلى بيت أستاذهم، فوجدوا هناك حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا القازدغلي وكور عبد الله جاويش، وأحضروا رأس الصنجق مسلوخة وغسّلوه وكفنوه، وصلّوا عليه بسبيل المؤمن، ودفنوه بالقرافة، وكرنك محمد بك قطامش تابعه هو وعثمان بك ابن سليمان بك بارم ديله، ولم يتم له أمر، وهرب محمد بك إلى بلاد الروم، وسيأتي خبره في ترجمته، واختفى عثمان بك في بيت رجل مغربي حتى مات، وكان إبراهيم بك أبو شنب يعرف مكانه ويُرسل له مصروفًا.

وثارت فتنة عظيمة بعد قيطاس بك بين الينكجرية والعزب، وهو أن حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله جاويش أغراض قيطاس بك ملكوا باب مستحفظان في ذلك اليوم في شهر رجب، وقتلوا كتخدا الوقت شريف حسين وإبراهيم باش أوده باشه المعروف بكدك، وكانوا يتهمونه في قتل قيطاس بك، ثم في أواخر رمضان ملك باب مستحفظان محمد كتخدا كدك على حين غفلة ليأخذ ثار أخيه حسين، وقتل حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا القازدغلي، وأنزلوا رممهما في صبحها إلى بيوتهم، وهرب كور عبد الله، ثم قبضوا عليه بعد ستة أيام وأحضروه وهو راكب على حصان وفي عنقه جنزير وعلى رأسه ملاية، فطلع به محمد بك جركس إلى الباشا فأمر به إلى محمد كدك بالباب فقتله، وأرسل رمته إلى بيته بسوق السلاح، وذلك في غاية رمضان سنة سبع وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م.

ومات الأمير عبد الرحمن بك، وكان أصله كاشف الشرقية، وكان مشهورًا بالفروسية والشجاعة، قلده الإمارة إسماعيل باشا والي مصر سنة سبع ومائة وألف هو ويوسف بك المسلماني، فإنه لما وصل الفصل في تلك السنة، وغنم الباشا أموالًا عظيمة من حلوان المحاليل والمصالحات، فلما انقضى الفصل عمل عُرْسًا عظيمًا لختان أولاده في سنة ثمانٍ ومائة وألف ١٦٩٦م، وهادته الأعيان والأمراء والتجار بالهدايا والتقادم، وكان مهمًا عظيمًا استمر عدة أيام لم يتفق نظيره لأحد من ولاة مصر، نصبوا في ديوان الغوري وقايتباي الأحمال والقناديل، وفرشوهما بالفرش الفاخرة، والوسائد والطنافس وأنواع الزينة، ونصبوا الخيام على حوش الديوان وحوش السراية، وعلقوا التعاليق بها وخيام تركية، واتصل ذلك بأبواب القلعة التحتانية إلى الرميلة والمحجر، ووقف أرباب العكاكيز وكتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة للخدمة وملاقاة المدعوين، وفي أوساطهم المحازم الزردخان، وأبو اليسر الجنكي ملازم بديوان الغوري ليلًا ونهارًا، وجنك اليهود بديوان قايتباي وأرباب الملاعيب والبهلوانيين والخيالة بالحيشان، وأبواب القلعة مفتوحة ليلًا ونهارًا، وأصناف الناس على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم؛ أمراء وأعيان وتجار وأولاد بلد طالعين نازلين للفرجة ليلًا ونهارًا.

وختن مع أولاده عند انقضاء المهم مائتي غلام من أولاد الفقرا، ورسم لكل غلام بكسوة ودراهم، ودعوا في أول يوم المشايخ والعلما، وثاني يوم أرباب السجاجيد والخرق، وثالث يوم الأمراء والصناجق، ثم الأغوات والوجاقلية والاختيارية والجربجية وواجب رعايات الأبواب، كل طايفة يوم مخصوص بهم، ثم التجار وخواجات الشرب والغورية، ثم القاوقجية والعقادين والقوافين ومغاربة طيلون وأرباب الحرف ومجاوري الأزهر والعميان بوسط حوش الديوان غدوًّا وعشيًّا، ثم خلع الخلع والفراوي، وأنعم بحصص وعتامنة على أرباب الديوان والخدم، وكذلك كساوي للجنك وأرباب الملاهي والبهلوانيين والطباخين والمزينين، وإنعامات وبقاشيش.

ولما تمَّ وانقضى المهم قال الباشا لإبراهيم بك وحسن أفندي — وكانا خصيصين به — «أريد أقلد إمارة صنجقين لشخصين يكونان إشراقين ويكونان شجاعين قادرين» فوقع الاتفاق على يوسف أغا المسلماني وعبد الرحمن أغا كاشف الشرقية، هذا وكان ضَرَبَ هلباسويد قبل تاريخه واشتهر بالشجاعة، فخلع عليهما في يوم واحد، وعملوا لهما رنك وسعاة، ونزلت لهما الأطواغ والبيارق والنوبة، وحضرت لهما التقادم والهدايا ولبسا الخلع.

ثم إنّ الباشا أنشأ له تكية في قراميدان، ووقف سبع بلاد من التي أخذها من المحاليل في إقليم البحيرة، وهي: أمانة البدرشين، وناحية الشنباب، وناحية سقارة، وناحية ميت رهينة، وناحية أبي صير الصدر، وناحية شبرامنت بالجيزة، وناحية ترسا وجعلها للتكية، وسحابة بطريق الحجاز، وجعل الناظر على ذلك خازنداره، وأرخى لحيته وأعطاه فايظ وعتامنة في دفتر العَزَب وقلَّده جربجي تحت نظر أحمد كتخدا القيومجي، وأرسل كتخداه قرا محمد أغا إلى إسلامبول لتنفيذ ذلك، وسافر على الفور، وعندما وصل إلى إسلامبول أرسل مقررًا لمخدومه على سنة تسع ومائة وألف ١٦٩٧م صحبة أمير آخور، فوصل إلى بولاق ونزلت له الملاقية وحضر إلى الديوان، وبعد انفضاض الديوان دخل الأمراء الكبار، وهم: إبراهيم بك أبو شنب، وإيواظ بك، وقانصوه بك، وإسماعيل بك الدفتردار للتهنئة.

ولم يدخل حسن أغا بلغيه والأغوات وعبد الرحمن بك ويوسف بك وسليمان بارم ديله وقيطاس بك وحسين بك أبو يدك وكامل الفقارية، فسأل الباشا عنهم فرآهم نزلوا فانقبض خاطره من الفقارية، وقال لإبراهيم بك: «أنا أكثر عتابي على إشراقي عبد الرحمن بك ويوسف بك، حيث إنهما فعلا ذلك، أنا أطلب منهما حلوان الصنجقية ثمانية وأربعين كيسًا» فلاطفه إبراهيم بك وحسن أفندي فلم يرجع، وأمر بكتابة فرمانين وأرسلهما إلى الأميرين المذكورين بطلب أربعة وعشرين كيسًا من كل أمير، فقال عبد الرحمن بك: «أنا لم أطلب هذه البلية حتى يأخذ مني عليها هذا القدر» ولما حضر الأغا المعين ليوسف بك تركه في منزله، وركب إلى عبد الرحمن بك وركبا معًا إلى حسن أغا بلغيه، وعملوا شغلهم، وعزلوا الباشا، وكانوا تخيلوا منه الغدر بهم، ونزل الباشا إلى بيت كان اشتراه من عتقى عثمان جربجي مطل على بركة الفيل بحدرة طولون بجوار حمام السكران، ثم باع المنزل والبلاد التي وقفها على التكية والسحابة، وغلق الذي تأخر في طرفه من المال والغلال لحسين باشا المتولي بعده، وخرج إلى العادلية وسافر إلى بغداد، وتولى عبد الرحمن بك على ولاية جرجا، وحصل له أمور مع عربان هوارة وعصيانهم عن دفع المال والغلال، ووقايعه معهم ومع ابن وافي كما ذكر بعضه في ترجمة إيواظ بك، وانفصل عبد الرحمن بك من ولاية الصعيد، وحضر إلى مصر، ونزل عند الآثار، وأرسل إلى الباشا المتولي تقادم وعبيدًا وأغوات.

ونزل الباشا في ثاني يوم إلى قراميدان، وحضر عبد الرحمن بك بأتباعه ومماليكه وخلفه النوبة التركي، فسلم على الباشا وخلع عليه فروة سمور، وركب إلى البيت الذي نزل فيه وهو بيت رضوان بك بالقصبة المعروفة بالقوافين، وكان ذلك الباشا هو قرا محمد كتخدا إسماعيل باشا المنفصل المتقدم ذكره، وفي نفسه من المترجم ما فيها بسبب مخدومه، فإنه هو الذي سعى في عزله وإبطال وقفه، وانسلخ من الفقارية وتنافس معهم وصار يقول: أنا قاسمي، فحقدوا عليه ذلك وسعوا في عزله من جرجا، ولما حضر إلى مصر تعصبوا عليه، ووافق ذلك غرض الباشا لكراهته له بسبب أستاذه.

ولما استقر عبد الرحمن بك بمنزله حضرت إليه الأمراء للسلام عليه ما عدا حسن أغا بلغيه ومصطفى كتخدا القازدغلي، ثم بعد انقضاء ذلك ورجوع الهوَّارة إلى بلادهم وعمارهم كتبوا بما ذهب لهم من خيول وجِمال وعبيد وجوار وغلال وأخشاب وفرش ونحاس، وثمنوها بثلثمائة كيس، وجعلوا الآخذ لذلك جميعه عبد الرحمن بك، وأرسلوا القوايم إلى ابن الحصري، ووكلوا وجاق الينكجرية في خلاص ذلك من عبد الرحمن بك، فعرض ذلك ابن الحصري على أستاذه القازدغلي وحسن أغا بلغيه، وكتبوا بذلك عرضحال وقدموه للباشا بعدما وضَّبوا ما أرادوا من الرابطة والتعصيب، فأرسل إليه الباشا يطلبه فامتنع من الطلوع، وقال للأغا المعين: «سلم على حضرة الباشا وسوف أطلع بعد الديوان أقابله» فنزل إليه كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة، وتكلموا معه بسبب ما تقدم فقال: «أنا لم أكن وحدي، كان معي غزسيمانية وعرب هوارة بحري وكشاف الأمير حسن الإخميمي لموم كثيرة، وكل من طال شيئًا أخذه، وسوف أتوجه للدولة بالخزينة، وأعرفهم بفعل أيوب بك وحسن أغا بلغيه قازدغلي، وأضمن لهم فتوح مصر وقطع الجبابرة» فلاطفوه وعالجوه على الطلوع، فامتنع من الطلوع مع الجمهور، وقال: «أروح معهم إلى بيت القاضي ويقيمون بينتهم وإثباتهم، وأنا قادر ومليء، وما أنا محتاج ولا مفلس» فرجعوا وعرّفوا الجمع بما قاله بالحرف الواحد.

فقال الباشا للقاضي: «اكتب له مراسلة بالحضور والمرافعة» فكتب له مراسلة، وأرسلها القاضي صحبة جوخدار من طرفه، فلما وصل إليه قال: «أنا لست بعاصي الشرع، ولا أترافع معهم إلا في بيت القاضي ولا أطلع في الجمهور» فرجع الجوخدار بالجواب وكان فرغ النهار، فعند ذلك بيَّتوا أمرهم واتفقوا على محاربته، واجتمع عند عبد الرحمن بك أغراضه وأحمد أوده باشا البغدادلي، ووصله الخبر بركوبهم عليه، فضاق صدره وخرج من منزله ماشيًا، وأراد أن يذهب إلى الجامع الأزهر يقع على العلماء، فلما وصل إلى باب زويلة لحقه أحمد البغدادلي وحسن الخازندار فردَّاه، وقالا له: «اجلس في بيتك ونحاربهم وعندنا العُدة والعدَد».

وعند الصباح احتاطوا بداره ونزلت البيارق والمدافع والعسكر من كل جانب، ورموا عليه من جميع الجهات، ودخلت طائفة من العسكر إلى الجامع المواجه للبيت، وصعدوا إلى المنارة، ورموا بالرصاص فأصيب أحمد البغدادلي وحسن الخازندار وماتا، وكان الصنجق والطائفة عند النقيب بالإصطبل فأخبروه بموت حسن الخازندار وكان يحبه، فطلع إلى المقعد فأصيب أيضًا ومات، فعند ذلك انحلت عزائم الطائفة وأولاد الخزنة فخرجوا من البيت مشاة بما عليهم من الثياب، ظنوهم من طوائف الصناجق.

ولما رأى الذين في النقب بطلان الرمي دخلوا وطلعوا إلى المقعد، فوجدوا الصنجق ميتًا فأخذوا رأسه ورأس البغدادلي وطلعوا بهم للباشا، وعبرت العساكر إلى البيت نهبوه وأخذوا منه أموالًا وذخاير عظيمة، وسَبَوْا الحريم، وأخذوا كامل ما في الحريم من الجواري البيض وذخائر عظيمة، ومن جملتهم بنت الصنجق يظنوها جارية فخرجت أمها تصرخ من خلفها فخلصها مصطفى جاويش القيصرلي وطلع بها إلى الباشا، فأنعم عليها بخمسة وثلاثين عثماني ومائتين ذهب، أخذها وأمها من مصطفى جاويش وزوَّجها لبعض مماليك أبيها، وكان قتل عبد الرحمن بك في ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ومائة وألف، وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:

وعبد الرحمن بك
بما يداه جنته
حلت به نقماتٌ
تاريخها أذهبته
ربيع الأول دارت
عليه ما أفلتته
الجند قد حاصروه
وبيته أخربته
من المدافع نار
ترمي به أحرقته
ببيت رضوان أعني
به الفقاري دهته
جداره نقبوه
والجند قد سلكته
وبعد ذا قتلوه
وفرقة عاونته
واجتث عن مصر كربٌ
والأرض قد فقدته
وقاله حسن منْ
أرض الحجاز حوته

وأما يوسف بك فإنه توفي بالسفر ببلاد الروم.

ومات الأمير علي أغا مستحفظان المشهور، تولى أغاوية مستحفظان في سنة ثمانٍ ومائة وألف ١٦٩٦م، وفي سنة اثنتي عشرة وثلاث عشرة وأربع عشرة فشا أمر الفضة المقاصيص والزيوف، وقلَّ وجود الديواني، وإن وجد اشتراه اليهود بسعر زائد وقصُّوه، فتلف بسبب ذلك أموال الناس، فاجتمع أهل الأسواق ودخلوا الجامع الأزهر، وشكوا أمرهم للعلماء, وألزموهم بالركوب إلى الديوان في شأن ذلك، فكتبوا عرضحال وقدموه إلى محمد باشا، فقرأه كاتب الديوان على رءوس الأشهاد.

فأمر الباشا بعمل جمعية في بيت حسن أغا بإبطال الفضة المقصوصة وظهور الجدد وإدارة دار الضرب، وعمل تسعيرة وضرب فضة وجدد نحاس، ويكون ذلك بحضور كتخدايه، وكامل الأمراء الصناجق والقاضي والأغوات ونقيب الأشراف وكبار العلماء، وطلب جوابًا كافيًا وأعطاه ليد كتخدا الجاويشية، فأرسل التنابيه مع الجاويشية تلك الليلة، واجتمع الجميع في صبحها بمنزل حسن أغا بلغيه، واتفقوا على إبطال المقاصيص، وضرب فضة جديدة تُوزع على الصيارف، وأنَّ صرف الكلب بثلاثة وأربعين نصفًا والريال بخمسين والأشرفي بتسعين والطرلي بمائة، وقيَّدوا بتنفيذ ذلك علي أغا المذكور، وكذلك الأسعار، وشرط عليهم إبطال الحمايات، وعدم معارضته في شيء، وكل من مسك ميزانًا فهو تحت حكمي، وكذلك الحصَّاصة وتجار البن والصابون، ويركب بالملازمين، ويكون معه من كل وجاق جاويش بسبب أنفار الأبواب، وأخبروا الباشا بما حصل، وكتب القاضي حجة بذلك، وكتب المشايخ عليها، وكذلك الباشا وأعطوها لعلي أغا.

فطلع إلى الباب وأحضر شيخ الخبازين وباقي مشايخ الحرف، وأحضر إردب قمح وطحنه وعمل معدَّله على الفضة الديواني خمسة أواق بجديدين، والبن باثني عشر فضة الرطل، والصابون بثلاثة، والسكر النبات باثني عشر الرطل، والخام بخمسة، والمنعاد بستة وأربعة جدد، والمكرر الشفاف بثمانية فضة وأربعة جدد، والشمع السكندري بأربعة عشر فضة، والعسل الشهد بستة أنصاف، والسقر بثلاثة وأربعة جدد والسائل بنصفين، والمرسل الحر بنصف فضة، والقطر المنعاد بنصفين والقطر القناني بثلاثة، والسمن البقري بثلاثة فضة وأربعة جدد، والمزهر بنصفين وستة جدد، والجاموسي بنصفين جديدين، والزبد البقري بنصفين وأربعة جدد، والزبد الجاموسي بنصفين وجديدين، واللحم الضاني بنصفين، والماعز بنصف وأربعة جدد، والجاموسي بنصف وجديدين، والزيت الطيب بنصفين وستة جدد، والشيرج بنصفين، والزيت الحار بنصف وستة جدد، والجبن الكشكبان بثلاثة أنصاف فضة، والوادي بنصفين وأربعة جدد، والجاموسي الطري بنصف وأربعة جدد، والجبن المنصوري المغسول بنصف وستة جدد، والحالوم الطري بنصف وجديدين الرطل، والجبن المصلوق بنصف وأربعة جدد، والشلفوطي والقريش بستة جدد الرطل، والعيش العلامة خمسة أواق بجديدين، والكشكار ستة أواق بجديدين.

وحصل ذلك بحضرة مشايخ الحرف والمغاربة، وأرسل الأغا بقفل الصاغة ومسبك النحاس، وأمر بإحضار الذهب والفضة المبتاعة والنحاس لدار الضرب، وأحضر شيخ الصيارفة وأمرهم بإحضار الذهب والريالات وقروش الكلاب يصرفونها بفضة وجدد نحاس، وأعلمهم أنه يركب ثالث يوم العيد ويشق بالمدينة، وكل من وجد حانوته خاليًا من الفضة والجدد قتل صاحبه أو سمَّره، وكتب القائمة بالأسعار وطلع بها للباشا علَّم عليها، وركب ثالث يوم من شهر شوال سنة أربع عشرة ومائة وألف ١٧٠٢م وعلى رأسه العمامة الديوانية المعروفة بالبيرشانة، وأمامه القابجية والملازمون والوالي وأمين الاحتساب، وأوده باشه البوابة بطائفته، والسبعة جاويشية خلفه، ونائب القاضي في مقدمته وكيس جوخ مملوء عكاكيز شوم على كتف قواس، والمشاعلي بيده القائمة، وهو ينادي على رأس كل حارة ويقف مقدار نصف ساعة، وضرب في اليوم اثنين قبَّانية وثلاثة زيَّاتين وجزار لحم خشن، ومات الستة من الضرب، ورسم على شيخ القبانية بأن لا أحد يزن في بيت زيات سمنًا ولا جبنًا.

وصار يتفقد الدراهم، ويحرر الأرطال والصنج، ويسأل عن أسعار المبيعات، ولا يقبل رشوة، وكل من وجده على خلاف الشرط سواء كان فلاحًا أو تاجرًا أو قبانيًّا بطحه وضربه بالمساوق الشوم حتى يتلف أو يموت، وغالبهم لم يعِش بذلك، وصار له هيبة عظيمة ووقار زائد، ولم يقف أحد في طريقه سواء كان خيّالًا أو حمَّارًا أو قرَّابًا إلّا ويخشاه، حتى النساء في البيوت وهو فايت لم تستطع امرأة أن تطل من طاقة.

واتفق أن إسماعيل بك الدفتردار صادفه بالصليبة فلما رأى المقادم دخل درب الميضاة حتى مرَّ الأغا، فقيل له: «أنت صنجق ودفتردار وكيف أنك تذهب من طريقه؟» فقال: «كذا كتبنا على أنفسنا حتى يعتبر خلافنا» وأقام في هذه التولية ستة أشهر، ثم عزل وولي رضوان أغا كتخدا الجاويشية سابقًا، وذلك أواخر سنة ثماني عشرة، وعزل رضوان أغا في جمادى الأولى سنة تسع عشرة ومائة وألف ١٧٠٧م وتولى أحمد أغا ابن باكير أفندي، ثم تولى في أيامه الواقعة الكبيرة في أواخر ربيع الثاني سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ١٧١١م، ولم يزل حتى مات في يوم الجمعة ثاني شهر شوال بجامع القلعة، وذلك أنه صلى الجمعة والسنن بعدها وسجد في ثاني ركعة، فلم يرفع رأسه من السجود، فلما أبطأ حرَّكوه فإذا هو ميت، فغَّسلوه وكفَّنوه، ودفنوه بترب باب الوزير، وذلك سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف.

وتولى بعده في أغاوية مستحفظان محمد أفندي كاتب جُمليان سابقًا الشهير بابن طسلق، وركب بالبيرشانة والهيئة، وذلك عقيب الفتنة الكبيرة بنحو خمسة أشهر، ولما مات علي أغا وتولى هذا الأغا عملوا تسعيرةً أيضًا، وجعلوا صرف الذهب البندقي بمائة وخمسة عشر نصف فضة، والطرلي بمائة، والريال بستين، والكلب بخمسة وأربعين، ونودي بذلك، ومنع التجار وأولاد البلد من ركوب البغال والأكاديش، ومَنَعَ من بيع الفضة بسوق الصاغة ولا تباع إلّا بدار الضرب، وقفل دكاكين الصوَّاغين، وفي موت علي أغا يقول الشيخ حسن الحجازي، عُفي عنه:

ألا قل لمن في موت حاكم مصرنا
غدا فرحًا عشت حلَّ بك الغمُ
لقد كنت منه في رخاء ونعمة
وأمن بحكم لا يقاومه حكم
أحل البلايا والرزايا وما دهى
وما كان قماعًا بمن دأبه الظلم
من السوقة الأشرار الأنجاس من لهم
من البخس والخسران عزم له عزمُ
فأرجح ميزانًا وأوفى مكايلًا
وأخمد نيرانًا وقام به سلمُ
وليس له من مبغض غير معرض
عن الحق أو مَنْ في عقيدته سقم
وظن بليد الطبع سوء فعاله
فقلت له اكفف فاتك العلم والفهم
فما زاجر عن عاكر غير صارم
وما حاكم إلا الفتى البطل الشهمُ
وقد كان مفقودًا إلى أن بدا لنا
إمامٌ همامٌ دأبه العزم والحزم
على أغاتُ الينكجرية الذي
توفي ثاني عيد فطر له غنم
فقام يصلي جمعة قد تحتمت
فمات بثاني ركعة حقه الرُّحم
عليه دمًا كم مقلة قد بكت إلى
أن انعدمت حتى بكى الحجر الصمُّ
وحلَّت على أقطار مصر كآبةٌ
وداهمةٌ تاريخها كَلِبَ الغم
وكنا نقمنا فعله في حياته
فمذ مات بان العكس انتقم النقم
فهيهات إتيان الزمان بمثله
وهيهات جبر بعد ما حصل القصم
وليس لهذا الدهر إلا تفجعٌ
وليس لنا إلا نوائبه قسمُ
لعمرك مانلنا مدى العمر راحة
ولا في منام لا خيالٌ ولا همُ
ولكن صبر المرء يكتم ضرّه
ومع ذا فمهما زاد لا يمكن الكتم
فهب حسن البدري الحجازي ربنا
ختامًا بخير منك يا حبذا الختم

ومات الأمير الكبير إبراهيم بك المعروف بأبي شنب، وأصله مملوك مراد بك القاسمي وخشداش إيواظ بك، تقلد الإمارة والصنجقية مع إيواظ بك، وكان من الأمراء الكبار المعدودين، تولى إمارة الحج سنة تسع وتسعين وألف ١٦٨٧م وطلع بالحج مرتين، ثم عزل عنها باستعفائه لأمور وقعت له مع العرب بإغراء بعض أمراء مصر، وسافر أميرًا على العسكر المعين في فتح كريد في غرة المحرم سنة أربع وماية وألف.

ولما ركب بالموكب خرج أمامه شيخ الشحاتين وجملة من طوائفه؛ لأنه كان محسنًا لهم ويعرفهم بالواحد، وكان إذا أعطى بعضهم نصفًا في جهة ولاقاه في طريقه من جهة أخرى يقول له: «أخذت نصيبك في المحل الفلاني» ثم رجع إلى مصر في شهر ذي الحجة، وطلع إلى الإسكندرية، ووصل خبر قدومه إلى مصر فجمع الشحاتون من بعضهم دراهم واشتروا حصانًا أزرق، وعملوا له سرجًا مفرَّقًا ورَخْتًا وركابًا مطليًّا وعباء زركش ورشمة، كلفة ذلك اثنان وعشرون ألف فضة، ولما وصل إلى الحليِّ قدموه له فقبله منهم وركبه إلى داره، وذهبت إليه الأمرا والأعيان وسلموا عليه وهنوه بالسلامة، وخلع على شيخ الشحاتين ونقيبهم كل واحد جوخة، وكل فقير جُبة وطاقية وشملة، ولكل امرأة قميص وملاية فيومي، وأغدق عليهم إغداقًا زائدًا، وعمل لهم سماطًا.

وكان المتعين بالرياسة في الوقت إبراهيم بك ذو الفقار، وفي عزمه قطع بيت القاسمية، فأخرج إيواظ بك إلى إقليم البحيرة، وقانصوه بك إلى بني سويف، وأحمد بك إلى المنوفية، ولما حضر إبراهيم بك أبو شنب واستقر بمصر اتفق إبراهيم بك ذو الفقار مع علي باشا المتولي إذ ذاك على قتله بحجة المال والغلال المنكسرة عليه في غيبته، وقدرها اثنا عشر ألف إردب وأربعون كيسًا صيفي وشتوي، فأرسل إليه الباشا معيَّن بفرمان يطلبه، وكان أتاه شخص من أتباع الباشا أنذره من الطلوع، فقال للمعين: «سلم على الباشا وبعد الديوان أطلعُ أقابله» ففاتَ العصر ولم يطلع، فأرسل الباشا إلى درويش بك وكان غفيرًا بمصر القديمة وأمره بالجلوس عند باب السر الذي يطلع على زين العابدين وإلى الوالي والعسس وأوده باشه البوابة يجلس عند بيت إبراهيم أبي شنب.

وأشيع ذلك، وضاق خناق إبراهيم بك أبي شنب، واغتم جيرانه وأهل حارته لإحسانه في حقهم، وحضر إليه بعض أصحابه يؤانسه مثل إبراهيم جربجي الداودية وشعبان أفندي كاتب مستحفظان سابقًا وأحمد أفندي روزنامجي سابقًا، فهم على ذلك وإذا بسليمان الساعي داخل على الصنجق بعد العشاء فأخبره أن مسلم إسماعيل باشا أمير الحاج الشامي ورد إلى العادلية، وأرسل جماعة جوخدارية بقايمقامية إلى إبراهيم بك، فأمر بدخولهم عليه فدخلوا وأعطوه التذكرة، فقرأها وعرف ما فيها، فسري عنه الغم وفي التذكرة «إنْ كان غدًا أول توت ندخل وإلا بعد غد»، وكانت سنة تداخل سنة ست في سنة سبع.

وكان الباشا أتى له مقرر من السلطان أحمد وتوفي، وتولى السلطان مصطفى فعزل علي باشا عن مصر وولَّى إسماعيل باشا حاكم الشام وأرسل مسلّمه بقايمقامية إلى إبراهيم بك، فسأل الصنجق أحمد أفندي عن أول توت فأخبره أن غدًا أول توت، فقال لأحمد كاشف الأعسر: «خذ الحصان الفلاني وعشرة طايفة والجوخدارية ومشعلين، واذهبوا إلى العادلية واحضروا بالأغا قبل الفجر» ففعلوا وحضروا به قبل الفجر بساعتين، فخلع عليه فروة سمور، وقال للمهتار دقوا النوبة (قاصد مفرح) فلما ضُربت النوبة سمعت الجيران قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، إن الصنجق اختل عقله عارف أنه ميت ويدق النوبة، ولما طلع النهار وأكلوا الفطور وشربوا القهوة ركب الصنجق بكامل طوائفه، وصحبته الأغا، وطلع إلى القلعة، وجلس معه بديوان الغوري، وحضر إليهم كتخدا الباشا فأطلعوه على المرسوم فدخل الكتخدا فأخبر مخدومه بذلك، فقال: لا إله إلا الله، وتعجَّب في صنع الله، ثم قال: «هذا الرجل يأكل رءوس الجميع» دخلوا إليه فخلع عليه وعلى المسلَّم ونزل إلى داره.

ووصل الخبر إلى إسماعيل بك الدفتردار فركب إسماعيل بك إلى إبراهيم ذي الفقار أمير الحاج فركب معه بباقي الأمراء، وذهبوا إلى إبراهيم بك يهنوه، وكذلك بقية الأعيان، وخلع على محمد بك أباظة، وجعله أمين السماط، وتولى المترجم الدفتردارية سنة تسع عشرة ومائة وألف، واستمر بها إلى سنة إحدى وعشرين ومائة وألف ١٧٠٩م، ثم عزل وتقلد إمارة الحج، ثم أعيد إلى الدفتردارية في سنة سبع وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م، ولم يزل إلى أن مات بالطاعون سنة ثلاثين ومائة وألف، وعمره اثنان وتسعون سنة، وخلف ولده محمد بك أميرًا يأتي ذكره.

ومات إفرنج أحمد أوده باشه مستحفظان الذي تسببت عنه الفتنة الكبيرة، والحروب العظيمة التي استمرت المدة الطويلة والليالي العديدة، وحاصلها على سبيل الاختصار: هو أن إفرنج أحمد أوده باشه المذكور لما ظهر أمره بعد موت مصطفى كتخدا القازدغلي مع مشاركة مراد كتخدا وحسن كتخدا، فلما مات مراد كتخدا في سنة عشرة ومائة وألف زاد ظهور أمر المترجم، ونفذت كلمته على أقرانه، وكان جبارًا عنيدًا فتعصب عليه طائفة، وقبضوا عليه على حين غفلة وسجنوه بالقلعة، وكان ممن تعصب عليه: حسن كتخدا النجدلي، وناصف كتخدا ابن أخت القازدغلي، وكور عبد الله، ثم أخرجوه من مصر منفيًّا فغاب أيامًا، ورجع بنفسه ودخل إلى مصر، والتجأ إلى وجاق الجملية، وطلب غرضه من باب مستحفظان فلم يرضوا بذلك، وقالوا: «لا بد من خروجه إلى محل ما كان» ووقع بينهم التشاجر، واتفقوا بعد جهد على عدم نفيه، وأن يجعلوه صنجقًا، فقلدوه ذلك على كره منه.

واستمر مدة فلم يهنأ له عيش، وخمل ذكره، وأنفق ما جمعه قبل ذلك، فاتفق مع أيوب بك الفقاري وعصَّب الوجاقات، ونفوا حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله باش أوده باشه، وقرا إسماعيل كتخدا ومصطفى كتخدا الشريف وأحمد جربجي تابع باكير أفندي وإبراهيم أوده باشه الأكنجي وحسين أوده باشه العنترلي، الجميع من باب مستحفظان، فأخرجوهم إلى قرى الأرياف.

ورمى المترجم الصنجقية، ورجع إلى بابه، وركب الحمار ثانيًا، وصار أوده باشه كما كان، وهذا لم يتفق نظيره أبدًا، وكان يقول عند ما استقر صنجقًا «الذي جمعه الحمار أكله الحصان» ولما فعل ذلك زادت كلمته وعظمت شوكته، ثم إن المنفيين المتقدم ذكرهم حضروا إلى مصر باتفاق الوجاقات الستة، ولم يتمكنوا من الرجوع إلى بابهم، وذلك أن الوجاقات الستة وبعض الأمراء الصناجق أرادوا رجوع المذكورين إلى باب مستحفظان، وأن إفرنج أحمد يلبس حكم قانونهم أو يعمل جربجي، وأن كور عبد الله أوده باشه يرجع إلى بابه ويلبس باش أوده باشه كما كان، فعاند إفرنج أحمد، وعضَّده أيوب بك، وانضم إليهم من انضم من الاختيارية والصناجق والأغوات، ووقع التفاقم والعناد، وافترقت عساكر مصر وأمراؤها فرقتين، وجرى ما لم يقع مثله في الحروب والكروب، وخراب الدور، وطالت مدة ذلك قريبًا من ثلاثة أشهر، وانجلت عن ظهور العزب على الينكجرية، وقتل في أثنائها الأمير إيواظ بك.

ثم كان ما ذكر بعضه آنفًا في ترجمة المرحوم إيواظ بك وغيره، وهرب أيوب بك ومحمد بك الصعيدي ومن تبعهم، ونهبت دور الجميع وأحزابهم، وانتصر القاسمية، ثم أنزلوا الباشا بأمان، وهجمت العساكر على باب مستحفظان وملكوه، وقبضوا على المترجم، وقطعوا رأسه، ورءوس من معه، وفيهم: حسن كتخدا وإسماعيل أفندي وعمر أغات الجراكسة، وذهبوا برءوسهم إلى بيت قانصوه بك قائمقام، ثم طافوا بها على بيوت الأمراء، ثم وضعوها على أجسادهم بالرميلة، ثم أرسلوها عند الغروب إلى منازلهم، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ١٧١١م، وهو صاحب القصر والغَيْط المعروف به الذي كان بطريق بولاق، ونهبه في أيام الفتنة يوسف الجزار، وكان به شيء كثير من الغلال والأبقار والأغنام والأرز والخيل والجاموس والدجاج والإوز والحمام، حتى قلع أشجاره، وهدم حيطانه.

ولما بلغ محمد بك الكبير ما فعله يوسف الجزار في غيط إفرنج أحمد، عمد هو أيضًا إلى غيط حسن كتخدا النجدلي وفعل به مثل ما فعل يوسف بك بغيط إفرنج أحمد، ووقع غير ذلك أمور يطول شرحها، ورأيت مؤلفًا للشيخ علي الشاذلي في خصوص هذه الواقعة، وما حصل فيها مفصلًا، وعمل فيها الشعراء أشعارًا، وتواريخ منظومة، فمِن ذلك قول الشيخ حسن الحجازي، عُفي عنه:

بلية عظيمة مصرًا أتت
ما وجدت قط وقد لا توجد
دامت عليها مدة مديدة
في كل وقت هولها يجدد
أيوب والإفرنج والباشا كذا
محمد الصعيدى بيك إلا فسد
قد فعلوا مناكرًا شنيعة
بأهلها تفتُّ منها الأكبدُ
ضرب مدافع ودور حرقت
وسادة قد قتلت وأعبد
وفي الرعايا القتل والنهب فش
والجوع والظما وما لا يعهد
وجملة القول عن الذى جرى
لا تسألن فشرحه لا ينفذ
والعلما أهل الضلال والردى
لهم أباحوا كل ما لا يحمد
وبعد ذا أيوب والصعيدى مع
من صحبا فروا بليل لا هُدُوا
ودار أيوب جميعًا نهبوا
نهبا ذريعًا ما عليه أزيد
ودور من ناصره حتى غدا
للبوم فيها مقعد ومرقد
فأصبحوا لست ترى إلا السكن
كذاك يجزي المجرمون المرَّد
وبعده الإفرنج جهرًا قطعوا
وكل من شايعه قد أخْمدُوا
والباشة المعكوس قهرًا أنزلوا
من قلعة ولعنة قد زودا
وقطعوا فيها ابن عاشور الردى
خلفة الدسوقى وهو يفتد
وكُفِّرت بقتله ذنوبهم
وجنة الخلد بذاك أوردوا
إذ كان زنديقًا إباحيًّا له
في المنكرات القدمُ المشيد
وانتصرت إذ ذاك أجناد العزب
على انكجريتها وسُوِّدوا
واتل إذا ما شئتَ آيَةَ الهُدى
ينضر من يشاء منها ترشد
وابتهجت مصر وسر أهلها
وانشرحوا وانبسطوا وعيدوا
تبارك الله مبيد من طغى
ومن بغى ومن نكيرًا يقصد
نعوذ بالله من أهل ذا الزمن
فإنهم في الظلم شخص أوحد
أعدلهم من على صواب عادل
ومن على العدل لديهم أحْيَد
تلك البلايا والرزايا أرخت
خليل باشا في هباب يلهد
ويسأل الله الحجازي حسن
وقاية من فتن توقد

وكانت كل فرقة أخذت فتوى على جواز قتال الأخرى، ولما انتصرت فرقة العزب رسموا بنفي جماعة من الفقهاء إلى بلاد الأرياف، ثم رجعوا بعد أيام، وقال أيضًا في ذلك:

إن رمت ألا تنال قهرَا
فلا ترُم للأنام شرَّا
ألا ترى من بغوا وجاروا
كيف لهم جورهم تجرَّا
أيوب وافرنج والصعيدي
محمد ثم باش مصرَا
أعنى خليلًا مَن اختلالا
حوى وللسوء قد تحرَّى
وكان أيوب في البرايا
رأس البلايا أشد مكرَا
أرسل إذ ضاق للصعيدي
كيما به أن ينال نصرَا
فجاءه مسرعًا بجيش
لم يُحص في العالمين قدرَا
فجاهدوا جهدهم إلى أن
قد قتلوا الصنجق الإبرَّا
إيواظ وقت الضحى شهيدًا
ونال عند الإله قدرَا
وقاتلوه باءوا بشرٍّ
في هذه الدار ثم الأخرى
قد نصبوا فوقنا المدافع
ترمي بأعلى البروج جمرَا
فأحرقونا وأحصرونا
وأعطشونا بالمنع قسرَا
عن نيلنا ثم قد شربنا
ملحًا فزاد الكبود حرَّا
وبعد هذا النكال ذاقوا
ذوقًا يفوق النكير نكرَا
فإفرنج قد قطوا ومن قد
تابعه وارتموا بغبرَا
وفر أيوب والصعيدي
ليلًا وأتباع ذَين خسرَا
سكرى حيارى باءوا بكسر
وكسرهم ما أصاب جبرَا
والباشة النحس أنزلوه
وأرهقوه بالسجن عسرَا
وابتهجت مصر واستراحت
لفقدهم والسرور قرَّا
ثلاثة أشهرًا تباعًا
جهادهم في الورى استمرَّا
وعامهم ذا الخبيث أرخ
خاب الصعيدى حزبًا وفرَّا
والحسن الأزهري الحجازي
يرجوا لما قد جناه غفرَا
من عالم الجهر والخفايا
فهو غني ونحن فقرَا

ومات محمد بك المعروف بالدالي، وقد كان سافر بالخزينة سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، ومات ببلاد الروم، ووصل خبر موته إلى مصر، فقلدوا ابنه إسماعيل بك في الإمارة عوضًا عنه بعد انقضاء الفتنة سنة أربع وعشرين ومائة وألف ١٧١٢م، وكان جركسي الجنس، وعمل أغات متفرقة، ثم أغات جمليان سنة ثلاث عشرة ومائة وألف ١٧٠١م، ثم تقلد الصنجقية، وسافر بالخزينة، ومات بالديار الرومية كما ذكر.

ومات الأمير حسن كتخدا عزبان الجلفي، وكان أنسانًا خيرًا له بر ومعروف وصدقات وإحسان للفقراء، ومن مآثره: أنه وسَّع المشهد الحسيني، واشترى عدة أماكن بماله وأضافها إليه ووسعه، وصنع له تابوتًا من آبنوس مطعمًا بالصدف مضببًا بالفضة، وجعل عليه سترًا من الحرير المزركش بالمخيش، ولما تمموا صناعته وضعه على قفص من جريد وحمله أربع رجال، وعلى جوانبه أربعة عساكر من الفضة مطليات بالذهب، ومشت أمامه طائفة الرفاعية بطبولهم وأعلامهم، وبين أيديهم المباخر الفضة، وبخور العود والعنبر، وقماقم ماء الورد يرشون منها على الناس، وساروا بهذه الهيئة حتى وصلوا المشهد، ووضعوا ذلك الستر على المقام.

توفي يوم الأربعاء تاسع شوال سنة أربع وعشرين ومائة وألف، وخرجوا بجنازته من بيته بمشهد عظيم حافل، وصلي عليه بسبيل المؤمنين بالرميلة، واجتمع بمشهده زيادة عن عشرة آلاف إنسان، وكان حسن الاعتقاد محسنًا للفقراء والمساكين رحمه الله.

ومات الأمير إبراهيم جربجي الصابونجي عزبان، وكان أسدًا ضرغامًا، وبطلًا مقدامًا، كان ظهوره في سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، وشارك في الكلمة أحمد كتخدا عزبان أمين البحرين وحسن جربجي عزبان الجلفي وعمل أكنجي أوده باشه، فلما لبس حسن جربجي الجلفي كتخدائية عزبان لبس المترجم باش أوده باشه، وذلك في سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف، فزادت حُرْمته ونفذت بمصر كلمته، ولما قُتل قيطاس بك الفقاري في سنة سبع وعشرين ومائة وألف، خمدت بموته كلمة أحمد كتخدا أمين البحرين، فانفرد بالكلمة في بابه إبراهيم جربجي الصابونجي المذكور، وصار ركنًا من أركان مصر العظيمة، ومن أرباب الحل والعقد والمشورة، وخصوصًا في دولة إسماعيل بك ابن إيواظ، وأدرك من العز والجاه ونفاذ الكلمة وبُعد الصيت والهيبة عند الأكابر والأصاغر الغاية، وكان يخشاه أمراء مصر وصناجقها ووجاقاتها، ولم يتقلد الكتخدائية مع جلالة قدره.

وسبب تسميته بالصابونجي: أنه كان متزوجًا بابنه الحاج عبد الله الشامي الصابونجي؛ لكونه كان ملتزمًا بوكالة الصابون، وكان له عزوة عظيمة ومماليك وأتباع، ومنهم عثمان كتخدا الذي اشتهر ذكره بعده، ولم يزل في سيادته إلى أن مات على فراشه خامس شهر شوال سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وخلف ولدًا يسمى محمدًا قلَّدوه بعده جربجيًا سيأتي ذكره، وسعى له عثمان كاشف مملوك والده، وخلَّص له البلاد من غير حلوان، وكان عثمان إذ ذاك جربجيًّا بباب عزبان.

ومات الأمير الجليل يوسف بك المعروف بالجزار تابع الأمير الكبير إيواظ بك، تقلد الإمارة والصنجقية — في سنة ثلاث وعشرين وماية وألف أيام الواقعة الكبيرة بعد موت أستاذه — من قانصوه بك قائمقام إذ ذاك، وكانت له اليد البيضاء في الهمة والاجتهاد والسعي لأخذ ثأر سيده، والقيام الكلي في خذلان المعاندين، وجمع الناس ورتب الأمور، وركب في اليوم الثاني من قتل سيده، وصحبته إسماعيل بن أستاذه وأتباعهم، وطلع إلى باب العزب، وفرق فيهم عشرة آلاف دينار، وأرسل إلى البلكات الخمسة مثل ذلك، وجرَّ المدافع، وخرج بمن انضم إليه إلى ميدان الحرب بقصر العينى، وحارب محمد بك الصعيدي وطايفته، ومن بصحبته من الهوَّارة حتى هزمهم وأجلاهم عن الميدان إلى السواقي، واستمر يخرج إلى الميدان في كل يوم، ويكر ويفر، ويدبر الأمور، وينفق الأموال، وينقب النقوب، ويدبر الحروب، حتى تم لهم الأمر بعد وقائع وأمور ذكرنا بعضها في ولاية خليل باشا، وفي بعض التراجم، وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي، رحمه الله:

أيها الإنسان دع عنك الدَّعش
لا تكن ممن عباد الله غش
كم أناسٍ مكرهم قد غرهم
فيهم قد حاق واستغشوا الوغش
ثم راموا بعده أن يخلصوا
من تباريح البلايا والباش
فأبى ذاك عليهم قاهر
لا يقاوي بطشه مهما بطش
أصبحوا لست ترى إلا السكن
موحشًا قفرًا به البوم عرش
منهم خذ عبرة لا سيما
بيك أيوب الذى المكر افترش
مع خليل باش مصر وكذا
الصعيدي بيك وإفرنج الأخش
فعلوا في مصر أنواع الردى
بعباد الله مما قد دهش
من أعالي السور نارًا أرسلوا
في البرايا كي يحشوا أي حش
واستمروا مدة طالت وقد
عمنا خوف وجوع وعطش
فرمى كيدهمو في نحرهم
قاهر نعمته عنه قطش
بيد الجزار يدعى يوسفا
بيك فاستمكن منهم ونهش
بعد ما أن قتلوا سيده
بيك إيواظ الفتى الشهم الأجش
قطع الإفرنج مع أصحابه
ورماهم بالثرى رمي الكرش
بعد ما أيوب مع أتباعه
من جنود البغي فروا بعبش
وخليلُ الباشة النحس الردي
أسكنوه السجن قهرًا وانكمش
واستراح الناس منهم والزمن
بعد ما كان عبوس الوجه هش
والحجازي حسن قد أرخه
يوسف الجزار كأس قد قرش

وتقلد المترجم إمارة الحج، وطلع به في تلك السنة، وتقلد قائمقامية في سنة ست وعشرين ومائة وألف ١٧١٤م عن عابدي باشا، ولما حقدوا على إسماعيل بك ابن سيده، ودبروا على إزالته في أيام رجب باشا، وظهر جركس من اختفائه بعد أن أخرجوا المترجم ومن معه بحجة وقوف العرب، وقتلوا من كان منهم بمصر، وأخرجوا لهم تجريدة.

قام المترجم في تدبير الأمر، واختفى إسماعيل بك، ودخل منهم من دخل إلى مصر سرًّا، ووزع المماليك والأمتعة على أرباب المناصب والسدادرة، وأشاع ذهابهم إلى الشام مع الشريف يحيى، وتصدر هو للأمر وكتم أموره، ولم يزل يدبر على إظهار ابن سيده، واستمال أرباب الحل والعقد، وأنفق الأموال سرًّا، وضم إليه من الأخصام أعاظمهم وعقلاءهم مثل أحمد بك الأعسر وقاسم بك الكبير، واتفق معهم على إظهار إسماعيل بك وأخيه إسماعيل بك جرجا، وعمل وليمة في بيته جمع فيها محمد بك جركس، وباقي أرباب الحل والعقد، وأبرز لهم إسماعيل بك ومن معه بعد المذاكرة والحديث والتوطئة، وظهر أمره كما كان.

وتولى الدفتردارية في سنة سبع وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م بعد انفصاله من إمارة الحج، ثم عُزل عنها، واستمر أميرًا مسموع الكلمة وافر الحرمة إلى أن مات في سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ١٧٢١م، ووقع له مع العرب عدة وقائع، وقتل منهم ألوفًا فلذلك يسمى بالجزار، ولما مات قلدوا مملوكه إبراهيم أغا الصنجقية عوضًا عنه.

ومات الأمير الجليل قانصوه بك القاسمي تابع قيطاس بك الكبير الدفتردار الذي كان بقناطر السباع، رَبَّاه سيده، وأرخى لحيته وجعله كتخداه، وسافر معه إلى سفر الجهاد في سنة ست وتسعين وألف ١٦٨٤م، ومات سيده بالسفر فقلدوه الإمارة والصنجقية بالديار الرومية عوضًا عن سيده، وحضر إلى مصر وتقلد كشوفية بني سويف خمس مرات، وكشوفية البحيرة ثلاث مرات، ولما حصلت الفتنة في أيام خليل باشا كعب الشوم الكوسة — سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ١٧١١م كما تقدم غير مرة — كان هو أحد الأعيان الرؤساء المشار إليهم من فرقة القاسمية، فاجتمعوا وقلدوا المترجم قايمقام، وعملوا ديوانهم وجمعيتهم في بيته حتى انقضت الفتنة ونزل الباشا، واستمر وهو يتعاطى الأحكام أحدًا وتسعين يومًا حتى حضر والي باشا إلى مصر فعُزلَ وكُفَّ بصره، ومكث بمنزله حتى توفي على فراشه سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وقلدوا إمرته وصنجقيته لتابعه الأمير ذي الفقار أغا، وتزوج بابنته وفتح بيت سيده، وأحيا مآثره من بعده.

ومات الأمير إسماعيل بك المنفصل من كتخدائية الجاويشية، وأصله جلبي ابن كتخدا أبري بك، وهو من إشراقات إسماعيل بك ابن إيواظ، وقلده الصنجقية سنة ثمانٍ وعشرين ومائة وألف ١٧١٢م، وتولى الدفتردارية سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ١٧١٨م، واستمر فيها سنتين وخمسة أشهر، وقتله رجب باشا هو وإسماعيل أغا كتخدا الجاويشية في وقت واحد عندما دبَّروا على قتل إسماعيل بك ابن إيواظ وهو راجع من الحج، فاحتجوا بالعرب، وأرسلوا يوسف بك الجزار ومحمد بك ابن إيواظ وإسماعيل بك ولجة لمحاربة العرب، فلما بعدوا عن مصر طلع المترجم وصحبته إسماعيل أغا كتخدا الجاويشية، وكان أصله كتخدا إيواظ بك الكبير فقتلوهما في سلالم ديوان الغوري غدرًا بإغراء محمد بك جركس، وفي ذلك الوقت ظهر جركس وركب حصان إسماعيل بك المذكور ونزل إلى بيته، وكان قتلهما في أوائل سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، وقُتلا ظلمًا وعدوانًا رحمهما الله.

ومات الأمير حسين بك المعروف بأبي يدك، وأصله جرجي الجنس، تقلد الإمارة والصنجقية سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف ١٦٩١م، وكان مصاهرًا لسليمان بك بارم ديله وكان متزوجًا بابنته، وكان معدودًا من الفرسان والشجعان إلا أنه كان قليل المال، ولما قتل قيطاس بك الفقاري وهرب محمد بك تابعه المعروف بقطامش إلى الديار الرومية، اختفى المترجم بمصر وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة وألف بعد ما أقام في الإمارة أربعًا وعشرين سنة، ثم ظهر مع من ظهر في الفتنة التي حصلت بين محمد بك جركس وبين إسماعيل بك ابن إيواظ، وكان المترجم من أغراض جركس، فلما هرب جركس هرب هو أيضًا فلحقه عبد الله بك صهر ابن إيواظ، وقتله بالريف، وقطع رأسه، فكان ظهوره سببًا لقتله، وذلك في سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف.

ومات الأمير حسين بك أرنؤد المعروف بأبي يدك، وكان أصله أغات جراكسة، ثم تقلد الصنجقية وكشوفيات الأقاليم مرارًا عديدة، وسافر إلى الروم أميرًا على السفر في سنة أربع وعشرين ومائة وألف، فلما رجعت في سنة تسع وعشرين ومائة وألف اسْتَعَفْى من الصنجقية، وسافر إلى الحجاز، وجاور بالمدينة المنورة، فكانت مدة إمارته ثلاثًا وعشرين سنة، واستمر مجاورًا بالمدينة أربع سنوات، ومات هناك سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ودُفن بالبقيع.

ومات الأمير يوسف بك المسلماني، وكان أصله إسرائيليًّا وأسلم وحسن إسلامه، ولبس أغات جراكسة، ثم تقلد كتخدا الجاويشية، وانفصل عنها، وتقلد الصنجقية سنة سبع ومائة وألف ١٦٩٥م وتلبس كشوفية المنوفية، ثم إمارة جدَّة ومشيخة الحرم، وجاور بالحجاز عامين، ثم رجع وسافر بالعسكر إلى الروم ورجع سالمًا، وأخذ جمرك دمياط وذهب إليها، وأقام بها إلى أن مات سنة عشرين وماية وألف، وأقام في الصنجقية اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر، وترك ولدًا يُسمى محمد كتخدا عزبان.

ومات الأمير حمزة بك تابع يوسف بك جلب القرد، تقلد الإمارة عوضًا عن سيده سنة عشرة وماية وألف، ثم سافر بالخزينة، ومات بالطريق سنة ست عشرة وماية وألف.

ومات الأمير محمد بك الكبير الفقاري، تقلد الإمارة بعد سيده سنة سبع وعشرة ومائة وألف ١٧٠٥م، وتولى إمارة جرجا وحكم الصعيد مرتين، وكان من أخصاء أيوب بك المتقدم ذكره في الواقعة الكبيرة، وأرسل إليه أيوب بك يستنصر به فأجاب دعوته، وحضر إلى مصر ومعه الجم الغفير من العُربان والهوارة والمغاربة وأجناس البوادي، وحارب وقاتل داخل المدينة وخارجها كما تقدم ذكر ذلك غير مرة، وكان بطلًا همامًا ضرغامًا، ولم يزل حتى هرب مع إيواظ بك إلى بلاد الروم فقلدوه الباشوية، وعين في سفر الجهاد، ومات سنة ثلاث وثلاثين وماية وألف.

ومات الأمير مصطفى بك المعروف بالشريف، وهو بن إيواظ بك الجرجي مملوك حسين أغا، وكان والده إيواظ بك المذكور تولى أغاوية العزب سنة سبعين وألف ١٦٥٩م وتزوج ببنت النقيب برهان الدين أفندي فولد له منها المترجم، فلذلك عُرف بالشريف، وتقلد والده كتخدا الجاويشية سنة تسع وسبعين وألف ١٦٦٨م ثم عُزل عنها، وتقلد الصنجقية سنة إحدى وثمانين وألف ١٦٧٠م، وتولى كشوفية الغربية، وتقلد قائمقام مصر وعزل، ولم يزل أميرًا حتى مات على فراشه، وترك ولده هذا المترجم، وكان سنه حين مات والده اثنتي عشرة سنة، فربَّاه ريحان أغا تابع والده، ثم مات ريحان أغا فعند ذلك أسرف مصطفى جلبي وأتلف أموال أبيه وكانت كثيرة جدًّا، وكان المترجم في وجاق المتفرقة، وصار فيهم اختيارًا إلى أن لبس سردارية المتفرقة في سفر الخزينة سنة تسع ومائة وألف ١٦٩٧م، فمات صنجق الخزينة درويش بك الفلاح في السفر بالروم فلبس صنجقية المذكور حكم القانون، ورجع إلى مصر أميرًا، واستمر في إمارته حتى مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، وكان قليل المال.

ومات الأمير أحمد بك الدالي تابع إيواظ بك الكبير القاسمي، تقلد الصنجقية يوم الخميس سابع جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائة وألف، ولبس في يومها قفطان الإمارة على العسكر المسافر إلى بلاد مورة بالروم عوضًا عن خشداشة يوسف بك الجزار، وسافر بعد ستين يومًا، ومات هناك، وتقلد عوضه مملوكه علي بك، ورجع إلى مصر صنجقًا وهو علي بك المعروف بالهندي.

ومات كل من الأمير حسين كتخدا الينكجرية المعروف بحسين الشريف وإبراهيم باش أوده باشه المعروف بكدك، وذلك أنه لما قتل قيطاس بك الفقاري بقراميدان، على يد عابدي باشا في شهر رجب سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وثارت بعد ذلك الفتنة بين باب الينكجرية والعزب، وذلك أن حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله كانوا من عصبة قيطاس بك فلما قتل خافوا على أنفسهم فملكوا باب مستحفظان على حين غفلة، وقتلوا المذكورَيْن، وكانوا يتهمونهما بأنهما تسببا في قتل قيطاس بك.

ومات أيضًا كل من الأمير حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا القازدغلي وكور عبد الله، وذلك أنه لما ملك المذكورون الباب، وقتلوا حسين كتخدا الشريف وإبراهيم الباش — كما تقدم — وذلك في أواخر رجب وسكن الحال، انتدب محمد كتخدا كدك؛ لأخذ ثأر أخيه، وملك الباب على حين غفلة، وذلك ليلة الثلاثاء ثالث عشري رمضان، وتعصب معه طائفة من أهل بابه وطائفة من باب العزب، وقُتل في تلك الليلة حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا، وأنزلوهما إلى بيوتهما في صبح تلك الليلة في توابيت؛ وهرب كور عبد الله؛ فقبض عليه محمد بك جركس بعد ستة أيام، وحضر به وهو راكب على الحصان، وفي عنقه الحديد ومغطى الرأس، وطلع به إلى عابدي باشا، فلما مثل بين يديه سبَّه ووبَّخه، وأمر بأخذه إلى بابه، فأمر محمد كتخدا كدك بحبسه بالقلعة وقُتل في ذلك اليوم، وأنزلوه إلى بيته بسوق السلاح.

ومات أيضًا محمد كتخدا كدك المذكور فإنه اشتهر صيته بعد هذه الحوادث، ونفذت كلمته ببابه، ولم يزل حتى مات على فراشه في شهر القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف.

ومات الأمير أحمد بك المسلماني، ويعرف أيضًا بأشكى نازي، وكان أصله كاتب جراكسة، وكان يُسمى بأحمد أفندي، ثم عمل باش اختيار جراكسة، وحصل له عز عظيم وثروة وكثرة مال، وكان أغنى الناس في زمانه، وكان بينه وبين إسماعيل بك ابن إيواظ وحشة، وكان ابن إيواظ يكرهه ويريد قتله، فالتجأ إلى محمد بك جركس، فلما هرب جركس في المرة الأولى اختفى أحمد أفندي المترجم، وبيعت بلاده ومتاعه، فلما ظهر جركس ثانيًا ظهر أحمد أفندي، وعمل صنجقًا سنة ثلاثين ومائة وألف؛ وصار صنجقًا فقيرًا.

ثم ورد مرسوم بأن يتوجه المترجم إلى مكة لإجراء الصلح بين الأشراف، فتوجه ومكث هناك سنة، ثم رجع إلى مصر ومكث بها مدة إلى سنة ستٍّ وثلاثين ١٧٢٣م فأرسلوه إلى ولاية جرجا ليشهل غلال الميري، وكان ذلك حيلة عليه، فلما توجه إلى جرجا أرسل محمد باشا فرمانًا إلى سليمان كاشف خُفية بقتله، فذهب سليمان كاشف ليسلم عليه فغمز عليه بعض أتباعه فضربوه وقتلوه عند العُرْمة، وقطعوا رأسه في حادي عشري شهر القعدة سنة ست وثلاثين وماية وألف.

ومات الأمير علي كتخدا المعروف بالداودية مستحفظان، وكان من أعيان باب الينكجرية، وأصحاب الكلمة مع مشاركة مصطفى كتخدا الشريف، وكان من الأعيان المعدودين بمصر، ولم يزل نافذ الكلمة وافر الحرمة إلى أن مات على فراشه في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وماية وألف.

ومات الأمير إبراهيم أفندي كبير الشهير بشهر أو غلان مستحفظان، وكان أيضًا من الأعيان المشهورين ببابهم مع مشاركة عثمان كتخدا الجربجي تابع شاهين جربجي، وانفرد معه بالكلمة بعد مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا بشناق لما أخرجهما إسماعيل بك ابن إيواظ إلى الكشيدة — كما تقدم الإشارة إلى ذلك — فلما قُتل إسماعيل بك رجع مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا ثانيًا إلى الباب، وانحطت كلمة المترجم وعثمان كتخدا، ثم عزل إبراهيم أفندي المذكور إلى دمياط وأهين، ومكث هناك أشهرًا، ثم أحضروه وجعلوه سردار جداوي، وتوجه مع الحج، ومات هناك في سنة سبع وثلاثين وماية وألف.

ومات الأمير النبيه الفطن الذكي حسن أفندي الروزنامجي الدمرداشي، وكان باش قلفة الروزنامة، فلما حضر إسماعيل باشا واليًا على مصر في سنة ستٍّ وماية وألف، وكانت سنة تداخل، فتكلم الباشا مع إبراهيم بك أبي شنب في كسر الخزينة، وعرض عليه المرسوم السلطاني بتعويض كسر الخزينة من أشغال العشرين ألف عثماني التي كانت عليهم شراقى السلطان محمد بأي وجه كان، إما بالشطب عليها وإما رجوع التنازيل من أيام السلطان سليم، وإما مضاف على المقاطعات، وقال له: «كيف يكون العمل فى ذلك؟» فقال له إبراهيم بك: «لا يحسنه إلّا حسن أفندي باش قلفة الروزنامة، فإن الروزنامجى الآن كاتب توزيع فلا يدري في ذلك» فطلب الباشا المترجم، وخلع عليه منصب الروزنامة قهرًا عنه، وأمره بالتوجه إلى إبراهيم بك، كان إذ ذاك قائمقامه ليعرفه المطلوب، فذهب إليه وعرفه بالمراد، فدبَّر ذلك على أتم وجه وأحسنه، بعد أن عملوا جمعية في بيت حسن أغا بلغيه.

وكان له ميل للعلوم والمعارف، وخصوصًا الرياضيات والفلكيات، ويوسف الكلارجي الفلكي الماهر هو تابع المذكور ومملوكه، وقرأ على رضوان أفندي صاحب الأزياج والمعارف، وكان كثير العناية برضوان أفندي المذكور، ورسم باسمه عدة آلات وكرات من نحاس مطلية بالذهب، وأحضر المتقنين من أرباب الصنايع صنعوا له ما أراد بمباشرة وإرشاد رضوان أفندي، وصرف على ذلك أموالًا عظيمة، وباقي أثر ذلك إلى اليوم بمصر وغيرها، ونقش عليها اسمه واسم رضوان أفندي، وذلك سنة ثلاث عشرة وماية وألف، وقبل ذلك وبعدها، ولم يزل في سيادته حتى توفي.

ومات الأمير مصطفى بك القزلار المعروف بالخطاط تابع يوسف أغا القزلار دار السعادة، تولى الإمارة والصنجقية في سنة أربع وتسعين وألف ١٦٨٣م، وتقلد قايمقامية بعد عزل إسماعيل باشا، وذلك سنة تسع ومائة وألف ١٦٩٧م قهرًا عنه، وتقلد مناصب عديدة مثل كشوفية جرجا وغيرها، ثم تقلد الدفتردارية سنة ثلاث وثلاثين ١٧٢٠م، فكان بين لبسه الدفتردارية والقائمقامية أربع وعشرون سنة، وبعد عزله من الدفتردارية مكث في منزله صنجقًا بطَّالًا إلى أن توفي سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف.

ومات الأمير المعظم والملاذ المفخم إسماعيل بك ابن الأمير الكبير إيواظ بك القاسمي، من بيت العز والسيادة والإمارة، نشأ في حجر والده في صيانة ورفاهية، وكان جميل الذات والصفات، وتقلد الإمارة والصنجقية بعد موت والده الشهيد في الفتنة الكبيرة — كما تقدم — وكان لها أهلًا ومحلًا، وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة، وقد دبَّ عذاره وسمته النساء: قشطة بك.

فإنه لما أصيب والده في المعركة بالرميلة تجاه الروضة، وقُتل في ذلك اليوم من الغز والأجناد خاصة نحو السبعماية ودُفن والده، فلما أصبحوا ركب يوسف بك الجزار تابع إيواظ بك وأحمد كاشف، وأخذوا معهم المترجم وذهبوا إلى بيت قانصوه بك قائمقام فوجدوا عنده إبراهيم بك أبا شنب وأحمد بك تابعه وقيطاس بك الفقاري وعثمان بك بارم ديله ومحمد بك قطامش، وهم جلوس عليهم الكآبة والحزن، وصاروا مثل الغنم بلا راعٍ متحيرين في أمرهم وما يئول إليه حالهم، فلما استقر بهم الجلوس نظر يوسف الجزار إلى قيطاس بك فرآه يبكي، فقال له: «لأي شيء تبكي؟ هذه القضية ليس لنا فيها ذنب ولا علاقة، وأصل الدعوى فيكم معشر الفقارية، والآن انجرحنا وقُتل منا واحد، وخلَّف مالًا ورجالًا، قلدوني الصنجقية وأمير الحاج وسَر عسكر، وكذلك قلدوا ابن سيدي هذا صنجقية والده، فيكون عوضًا عنه ويفتح بيته، وأعطونا فرمانًا وحجة من الذي جعلتموه نائب شرع بالمعافاة من الحلوان، ونحن نصرف الحلوان على المقاتلين، والله يعطي النصر لمن يشاء».

ففعلوا ذلك، ورجع يوسف بك وصحبته إسماعيل بك ومن معهم إلى بيت المرحوم إيواظ بك، وقضوا أشغالهم، ورتبوا أمورهم، وركبوا في صبحها إلى باب العزب، وأخذوا معهم الأموال فأنفقوا في الست بلكات، وغيرهم من المقاتلين، ونظموا أحوالهم في الثلاثة أيام الهدنة التي كانوا اتفقوا على رفع الحرب فيها بعد موت إيواظ بك، وكان الفاعل لذلك أيوب بك، وقصده حتى يرتب أموره في الثلاثة أيام، ثم يركب على بيت قانصوه بك، ويهجم على من فيه، ولو فعل ذلك في اليوم الذي قُتل فيه إيواظ بك لتم لهم الأمر، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولم يرد الله لهم بذلك.

وأخذوا في الجد والاجتهاد، وبرزوا للحرب في داخل المدينة وخارجها، وعملوا المكايد ونصبوا شباك المصايد، وأنفقوا الأموال، ونقبوا النقوب حتى نصرهم الله على الفرقة الأخرى، وهم: أيوب بك ومحمد بك الصعيدي وإفرنج أحمد وباب الينكجرية ومن تبعهم، وقُتل من قُتل وفَرَّ من فرَّ، ونهبت دورهم، وشرِّدوا في البلاد، وتشتتوا في البلاد البعيدة كما ذكر مرة واستقر الحال.

وسافر أميرًا بالحج في تلك السنة يوسف بك الجزار، واستقر المترجم بمصر وافر الحرمة محتشم المكانة مشاركًا لإبراهيم بك أبي شنب وقيطاس بك في الأمر والرأي، وفي نفس قيطاس بك ما فيها من حقد العصبية، فصار يناكدهما سرًّا، وسلط حبيب وابنه سالم على خيول إسماعيل بك فطم أذنابها ومعارفها كما ذكر، ثم نصب لهما ولمن والاهما شباكًا ومكايد، ولمُ يظفره الله بهما.

ولم يزل على ذلك، وهما يتغافلان ويغضيان عن مساويه الخفية إلى أن حضر عابدي باشا وأرسل: «قلِّد يوسف بك الجزار قايمقام» وخلع يوسف بك علي ابن سيده إسماعيل بك، وجعله أمين السماط، ولما وصل الباشا إلى العادلية وقدَّمت له الأمراء التقادم، وقدَّم له إسماعيل بك المترجم تقدمة عظيمة، وتقيد بخدمة السماط أحبَّه عابدي باشا ومال بكليته إليه، ثم إنه اختلى معه ومع يوسف بك، وسألهما عن سبب موت والده، فأخبراه أن مصر من قديم الزمان فرقتان قاسمية وفقارية، وعرَّفاه حقيقة الحال، وأن قيطاس بك وأيوب بك بيت واحد، ووقعت بينهما خصومة، وأيوب بك أكثر عزوة وجندًا، فوقع قيطاس بك على إيواظ بك والتجأ إليه فقام بنصرته وفاداه، وأنفق بسببه أموالًا، وتجندلت من رجاله أبطال إلى أن مات وقُتل، وبلغ قيطاس بك بنا ما بلغ، فلم يراعِ معنا جميلًا، وفي كل وقت ينصب لنا الحبايل ويحفر فينا الغوايل، ونحن بالله نستعين، فقال الباشا: «يكون خيرًا» وأضمر لقيطاس بك السوء، ولم يزل حتى قتله — كما ذكر — بقراميدان، وورد أمر بتقليد المترجم على الحج أميرًا، وتقليد إبراهيم بك الدفتردارية، وألبسهما عابدي باشا الخلع، وتسلم أدوات الحج والجمال، وأرسل غلال الحرمين، وبعث القومانية والغلال إلى البنادر، وأرسل أناسًا وعينهم لحفر الآبار المردومة وتنقية الأحجار من طريق الحجاج، وقلد المناصب، وأمر عدة صناجق وهم: محمد أخوه المعروف بالمجنون، وعبد الله كاشف صهره، وصاري علي، وعلي الأرمني، وإسماعيل كاشف، وعلي الهندي، وكتخدا أبيه إسماعيل أغا تقلد كتخدا جاويشيه، وعبد الرحمن ولجه أغات جُملين، وكذلك إبراهيم بك أبى شنب قلد من طرفه خمسة صناجق، وهم: قاسم الكبير، وقاسم الصغير، وإبراهيم فارسكور، ومحمد جبلي ابن إبراهيم بك، ومحمد جركس الصغير.

وأخذ إسماعيل بك لأمرائه كشوفيات الأقاليم، وطلع بالحج سنين، آخرها سنة ثمانٍ وعشرين ١٧١٥م في أمنٍ وأمان وسخاء ورخاء، ونظم الوجاقات السبعة، وصير أعيانها أغراضه مثل كدك محمد كتخدا مستحفظان، وإبراهيم كتخدا الصابونجي عزبان، وعبد الرحمن أغا ملتزم الولجا أغات جميلة.

وأظهر شأن حسن جاويش القازدغلي في بابه، وهو والد عبد الرحمن كتخدا، وقلد مملوكه عثمان أوده باشه وهو الذى تقلد بعد ذلك كتخدا مستحفظان، وقلد أيضًا حسن كتخدا سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي أوده باشه، وسليمان هذا هو سيد إبراهيم كتخدا الآتى ذكره.

ثم توفي إبراهيم بك أبو شنب سنة ثلاثين ١٧١٧م كما تقدم، فسكن محمد بك ولده في منزله، وحضر محمد بك جركس تابعه من السفر فوجد سيده توفي فتاقت نفسه للرياسة وضم إليه جماعة من الفقارية مثل حسين بك أبي يدك وذي الفقار معتوق عمر أغا بلغيه وأصلان وقيلان وأمثالهم، وأخذوا يحفرون للمترجم وينصبون له الغوايل، واتفقوا على غدره وخيانته، ووقف له طائفة منهم بطريق الرميلة وهو طالع إلى الديوان، وصحبته يوسف بك الجزار وإسماعيل بك جرجا وصاري علي بك فرموْا عليهم الرصاص فلم يصب منهم سوى رجل قَوَّاس، ورمح إسماعيل بك وأمراؤه إلى باب القلعة، ونزل بباب العزب، وكتب عرضحال وأرسله إلى علي باشا صحبة يوسف بك الجزار مضمونه الشكوى من محمد بك جركس، وإنه جامع عنده المفاسيد، ويريدون إثارة الفتن في البلد.

فكتب الباشا فرمانات إلى الوجاقات بإحضار محمد بك جركس، وإن أبى فحاربوه، وركب جركس بالمنضمين إليه وهم قاسمية وفقارية، وذلك بعد إبائه وعصيانه فصادف المتوجهين إليه فحاربهم بالرميلة، وآل الأمر إلى انهزامه، وتفرق مَنْ حوله، ولم يتمكن من الوصول إلى داره، وخرج هاربًا من مصر، وقبض عليه العربان، وأحضروه إلى إسماعيل بك أسيرًا عريانًا في أسوأ حال، فكساه وأكرمه ألبسه فروة سمّور، وأشار عليه أحمد كتخدا أمين البحرين وعلي كتخدا الجلفي بقتله، فلم يوافقهما على ذلك، وقال: «إنه دخل بيتي وحلّ في ذمامي فلا يصح أن أقتله» ثم إنه نفاه إلى قبرص.

ولما سافر محمد بك ابن أبي شنب إلى إسلامبول بالخزينة في تلك السنة أوصى قاسم بك بالإرسال إلى جركس وإحضاره إلى مصر ففعل، وحضر إلى مصر سرًّا واختفى عنده، ولما وصل محمد بك بالخزينة واجتمع بالوزير الأعظم دسَّ إليه كلامًا في حق المترجم، وقال له: إن أهملتم أمره استولى على الممالك المصرية، وطرد الولاة، ومنع الخزينة، فإن الأمراء والدفتردارية وكبار الأمراء والوجاقات صاروا كلهم أتباعه وممايلكه ومماليك أبيه، والذي ليس كذلك فهم صناعه، وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل ما يأمر به، وأخرج من مصر وأقصى كل ناصح في خدمة الدولة مثل محمد بك جركس ومن يلوذ به، وعمل للوزير أربعة آلاف كيس على إزالة إسماعيل بك والباشا وتولية خلافه، ويكون صاحب شهامة وتدبير، وكان ذلك في دولة السلطان أحمد.

فأجابوه إلى ذلك، وعينوا رجب باشا أمير الحاج الشامي، ورسموا له رسومًا بإملاء محمد بك أبي شنب ملخصها: قتل الباشا وإسماعيل بك وعشيرته، ما عدا علي بك الهندي، ولما حضر رجب باشا إلى مصر وقد كان قاسم بك أحضر محمد جركس وأخفاه، وكان إسماعيل بك ابن إيواظ طالعًا بالحج سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ١٧١٨م، فاليوم الذي وصل فيه رجب باشا إلى العريش، ووصل المسلّم إلى مصر كان خروج إسماعيل بك بالحج من مصر، وأرسل رجب باشا مرسومًا إلى أحمد بك الأعسر وجعله قائمقام، وأمره بإنزال علي باشا إلى قصر يوسف والاحتفاظ به ففعلوا ذلك، ووصل رجب باشا فأحضر علي باشا وخازنداره وكاتب خزينته والروزنامجي وأمرهم بعمل حسابه، ثم أمر بقتله فقتلوه ظلمًا، وسلخوا رأسه وأرسلها إلى الروم، وضبط مخلفاته، ودَّبر معه أمر ابن إيواظ فقال له: «التدبير في ذلك أن نرسل إلى العرب يقفوا في طريق الوشَّاشة فإنهم يرسلون يعرفونكم» فأرسلوا لهم عبد الله بك، وبعد عشرة أيام أرسلوا يوسف بك الجزار ومحمد بك ابن إيواظ وإسماعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغاولجه، فعندما يرتحلون من البركة أقتل إسماعيل بك الدفتردار وكتخدا الجاويشية. فعند ذلك أنا أظهر ثم نُقلد محمد بك ابن إسماعيل بك إمارة الحج، ونرسله بتجريدة إلى ابن إيواظ يقتلونه مع عبد الله وإسماعيل بك جرجا، وهذا هو التدبير، وأرسلوا إلى العرب كما ذكر، وسافرت الوشاشة مثل العادة القديمة ثاني عشري الحجة سنة إحدى وثلاثين ١٧١٨م فوجدوا العرب قاطعين الطريق، فأرسلوا الخبر بذلك، فأظهر الباشا الغيظ والحدة، وقال: «أنا أسافر بالعقابة، وأخرج من حق هؤلاء المفاسيد» فقال يوسف بك الجزار: «ونحن أي شيء صناعتنا، وأقل ما فينا يخرج من حقهم؟» فقال عبد الله بك: «أنا الذي أذهب للوشاشة، ويوسف بك يأتي بعدي مع العقابة» فخلع الباشا على عبد الله بك وسافر في ذلك اليوم، فلما وصل إلى العقبة هرب العرب، فلما رحل الحج من قلعة الوِش سمعوا نوبة عبد الله بك من بعيد، فلما وصلوا إليهم نزل عبد الله بك وسلم على الصنجق وحكى له القصة، فانشغل خاطره.

وأما ما كان من أمر الباشا وجركس ومن بمصر فإنه لما سافر يوسف بك الجزار ومن معه على الرسم المتقدم عملوا شغلهم وقتلوا إسماعيل بك الدفتردار وإسماعيل أغا كتخدا الجاويشية، وظهر محمد بك جركس، ونزل من القلعة إلى بيته وهو راكب ركوبة الدفتردار، واستقر الباشا بأحمد بك الأعسر دفتردار.

ولما وصل المتوجهون إلى سطح العقبة نزل يوسف بك الجزار، وترك محمد بك ابن إيواظ وإسماعيل بك جرجا في السطح، فلما دخل على الصنجق وسلَّم عليه اشتغل خاطره، وقال له: «لأي شيء جئت؟» فقال: «أنا لست وحدي، بل صحبتي أخوك محمد بك وإسماعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغا ولجة» فقال: «لا إله إلا الله!! كيف أنكم تتركون البلد وتأتون؟ أما تعلموا أن لنا أعداء؟ والعثمانية ليس لهم أمان ولا صاحب، ويصيدون الأرنب بالعجلة، ولكن لا يقع في ملكه إلا ما يريد».

ثم إنهم أقاموا الأيام المعلومة، وساروا إلى نخل ونزلوا هناك، وإذا برجل بدوي أرسله علي كتخدا عزبان الجلفي بمكتوب يخبر الأمير إسماعيل بك بما وقع بمصر، فلما قرأه بكى واسترجع، فقال يوسف بك: «إيش الخبر؟» قال له: «الذى كنت أظنه قد حصل!!» وأعطاه المكتوب فقرأه وبكى أيضًا، وكان بصحبة الصنجق الشريف يحيى بركات مطرودًا من مكة، تولى عوضه مبارك بن أحمد فأشار على الصنجق بالاختفاء، ولا يحارب فإن العرب ينهبون الحجاج، وودعه وسار إلى غزة فأحضر الصنجق ثلاث هجن، وأركب عبد الله بك وإسماعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغا ولجة، فأخذوا معهم ما يحتاجون إليه من فرش ومأكول، وأنعم عَلى البدوى الذى أحضر له المكتوب، وأمره أن يسافر مع المذكورين من الطريق التى حضر منها، ويدخلهم من الدرب المحروق وقت الغروب، ويأخذ حلاوته الثلاث هجن وما عليها، ففعلوا ذلك ودخلوا إلى مصر واختفوا.

وأما محمد بك جركس فإنه أرسل فرمانًا ومكاتبات إلى سالم بن حبيب يأمره بالركوب بخيوله ويأخذ صحبته عرب الجيزة، ويذهبون صحبة سر عسكر وأمير الحاج محمد بك إسماعيل لَقتل ابن إيواظ، فاجتمع الجميع بالبركة، وركبوا وساروا إلى أجرود فنزل محمد بك والعسكر وأغات التفكجية وأغات الباشا والسدادرة، وعملوا متاريس، وركبوا المدافع، وانتظروا وصول الحجاج، وإذا بالحجاج قادمون ومعهم يوسف بك الجزار، والمحمل، والنوبة، ولم يجدوا الصنجق، فتسلم المحمل والجمال محمد بك، وتسلم الخزينة والسحاحير والخيام والهجن والذخيرة أغات الباشا.

وكان يوسف بك وزع تعلقات الصناجق الذين اختفوا على كتخدا الحاج والدويدار والسدادرة، وسأل الواصلون على الصنجق والأمراء ومماليكهم، فقال لهم يوسف بك: «إنهم ذهبوا إلى غزة صحبة الشريف يحيى بركات» ثم إنهم أقاموا في أجرود يومًا زائدًا وهم يفتشون على الصنجق في الأحمال والمواهي إلى أن وصلوا إلى البركة فلم يقعوا له على خبر، وستر عليه الستار، وقيل: إنه لما اختفى دخل في حجاج المغاربة، وكان أول قادم فيهم في صورة امرأة مغربية عليها طرحة صوف قديمة في شقدف على جمل ضعيف، وقيل: ركب مع زوجة المقدم في الحمل بزي امرأة، ولم يخرج الناس مثل العادة لملاقاة الحجاج، ودخل أمير الحاج الجديد والحجاج عليهم برود. فلما حصل ذلك أحضر الباشا محمد بك جركس، وألزمه بقوايم بحضرة نائب الشرع، وأودعوه في خزانة الجاويشية.

واشتغل محمد بك جركس بالفحص والتفتيش على الأمراء الهاربين، ويوسف بك الجزار يشتغل مع السبع بلكات حتى طيب خواطر الجميع، وأنفق الأموال سرًّا وضم إليه أحمد بك الأعسر وقاسم بك على ظهور إسماعيل بك ابن إيواظ وباقى المختفين، فلما استوثق منهم عمل لهم وليمة في بيته، ثم جمع الجميع وركب قاسم بك وأحمد بك وذهبوا إلى محمد بك جركس فطلبوه للدعوة فركب صحبتهم إلى أن دخلوا منزل يوسف بك فرأى فيه ازدحامًا عظيمًا وخيولًا كثيرة، فأراد الرجوع، فقال له أحمد بك: «عيب، تدخل ثم ترجع؟» فدخلوا وطلعوا عند يوسف بك فوجدوا عنده علي بك الهندي وعلي بك أبا العدب وصاري علي بك وخلافهم، فلما استقر بهم الجلوس، قال أحمد كتخدا أمين البحرين: «ما أحسن هذا المجلس لو كان معنا إسماعيل بك ابن إيواظ!!» فقال يوسف بك: «كان أخونا محمد بك يغتاظ» فقال جركس: «الله يجازي من كان السبب!! أنا إيش فعل معي؟ إسماعيل بك رجل قدر على قتلي وأشار عليه الناس فلم يفعل، وأكرمني وكساني وأعطاني دراهم ونفاني لأجل تمهيد الفتنة» وإذا بإسماعيل بك خارج عليهم من خلف الستارة وصحبته إسماعيل بك جرجا وأخوه محمد بك ابن إيواظ، فقام الجميع وسلموا عليه وجلس فى صدر المكان، وهنوه بالسلامة، وتحدثوا ساعة، ثم انتقلوا إلى التدبير في ظهور المشار إليه، فكل منهم يرى رأيه في ذلك وينقضه خلافه، فقال إسماعيل بك: «يا إخوانى إن كان مرادكم وخاطركم طيبًا على ظهوري فاسمعوا ما أقول» فقالوا: «إننا لم نجتمع إلا لذلك» قال: «الرأي عندي أننا نركب نحن الجميع في الصباح، ونذهب إلى بيت أحمد بك الدفتردار فنأخذه، ونذهب إلى بيت محمد بك أمير الحاج، ثم نذهب جميعًا إلى الرميلة، ونأمر الباشا بالنزول إلى بيت مصطفى كتخدا عزبان، ويتقلد أحمد بك قائمقام، ونأخذ منه فرمانًا بتسليم متاعي وخيولي بموجب القوائم المكتوبة، ونعمل بعد ذلك جمعية، واكتبوا عرض محضر بما يخلصكم من الله في حقنا، وبنزول الباشا وننتظر الجواب» فاستحسن الجميع رأيه وقروا الفاتحة على ذلك، وفي الصباح اجتمعوا على ذلك الاتفاق، وأنزلوا الباشا، فاجتمعت عليه الأولاد الصغار تحت شباك المكان، وصاروا يقولون:

باشا يا باشا يا عين القمله
من قال لك تعمل دي العمله؟
باشا يا باشا يا عين الصيره
من قال لك تدبر دي التدبيره؟

فضاق منهم فأرسل إلى أحمد بك الأعسر فنقله إلى بيت إبراهيم جربجي الداودية، واستلم إسماعيل بك ماله وخيوله وجماله، وكتبوا عرض محضر كما ذكر وأرسلوه، وبعد أيام وصل مرسوم بالأمان والرضا لإسماعيل بك وجماعته، وولوْا على مصر محمد باشا النشانجي، وسافر رجب باشا من حيث أتى بعد ما دفع المائة وعشرين كيسًا التي أخذها من دار الضرب وصرفها على تجريدة أجرود.

ولم يزل محمد بك جركس ومحمد بك ابن سيده ومن يلوذ بهم مصرين على حقدهم وعداوتهم للمترجم، وهو يتغافل عنهم، ويغضي عن مساويهم، ويسامح زلاتهم حتى غدروا به وقتلوه بالقلعة على حين غفلة، وذلك أنه لم يزل ذو الفقار تابع عمر أغا يطالب بفايظ حصته في قمن العروس، ويكلم جركس يشفع له عند إسماعيل بك فيقول له: «اطرد الصيفي من عندك وأرسل لي بعد ذلك ذو الفقار، ويأخذ الذي يطلع له عندي». إلى أن ضاق خناق ذي الفقار من القشل والإعدام فطلع إلى كتخدا الباشا، وشكا إليه حاله فقال له: «وما الذي تريد نفعله؟» قال: «أريد أن أقتل ابن إيواظ عندما يأتي إلى هنا وأعطوني صنجقية وعشرين كيسًا فايظًا من بلاده، وكشوفية المنوفية» فدخل الكتخدا، وأخبر مخدومه بذلك فأجابه إلى مطلوبه على شرط أن لا يدخلنا في دمه، فنزل ذو الفقار، وأخبر جركس بما حصل، وطلب أن يكون ذلك بحضوره هو وإبراهيم بك فارسكور، فأجابه إلى ذلك، ولما اجتمعوا في ثاني يوم عند كتخدا الباشا دخل ذو الفقار وقدم له عرضحال إلى إسماعيل بك فأخذه وشرع يقرأ فيه، وإذا بذي الفقار سحب الخنجر وضرب الصنجق به في مدوده، وكان معه قاسم بك الصغير وأصلان وقبلان وخلافهم مستعدين لذلك، فعندما رأوه ضرب إسماعيل بك سحبوا سيوفهم وضربوا أيضًا إسماعيل بك جرجا فقتلوه، فهرب صاري علي وكتخدا الجاويشية مشاة إلى باب الينكجرية، وقطعوا رأس الأميرين، وشالوا جثثهما إلى بيوتهما فغسلوهما وكفنوهما ودفنوهما بمدفن أبي الشوارب الذي بطريق الأزبكية عند غيط الطواشي، وذلك في سنة ستٍّ وثلاثين ومائة وألف، ثم أرسلوا رأسيهما مسلوختين فدفنوهما أيضًا.

وانقضت دولة إسماعيل بك ابن إيواظ، وكانت أيامه سعيدة، وأفعاله حميدة، والإقليم في أمن وأمان من قطاع الطريق وأولاد الحرام، وله وقائع مع حبيب وأولاده يطول شرحها، وسيأتي استطراد بعضها في ترجمة سويلم، وكان صاحب عقل وتدبير وسياسة في الأحكام وفطانة ورياسة وفراسة في الأمور، (فمن ذلك) ما يحكى عنه أن امرأة من الشرقية تعدى عليها بعض الحرامية وسرق بقرتها ومعها عجلتها، فاستيقظت من نومها وصرخت، وأصبحت خرجت من دارها وهي تقول: «لا بد من ذهابي إلى ابن إيواظ، وكيف يأخذون بقرتي في أيامه!» ولم تزل حتى وصلت إليه، وكان لا يحجب أحدًا يأتي إليه في شكوى أو تظلم، فقال لها: «من أي بلد أنت؟» قالت «من تلبانة» قال «اكتبوا لقايمقام يفحص لها عن بقرتها» وختم الورقة وأعطاها لرجل قوَّاس وأمره بالذهاب معها، وقال له: «اذهب وإذا وصلت إلى القرية أول من يلاقيكما ويسألكما فاقبض عليه، واذهب به إلى قائمقام يقرره فإن البقرة عنده، فلما وصل إلى القرية وإذا برجل هابط من فوق التل وهو يسأل المرأة، ويقول لها: إيش فعل معك ابن إيواظ؟ فقبض عليه القواس، وأخذه إلى قايمقام فأمر بعقوبته وضربه فأقر بالبقرة أنها عنده في القاعة، فأرسل من أتى بها وأعطاها لصاحبتها فأخذتها وذهبت وهي فرحانة.

(ومنها) أنه حضر بين يديه جماعة متهمون، وسألهم فأنكروا، فأمرهم بالخروج من بين يديه، وأحضرهم مرة أخرى كذلك فأنكروا، وكرر إحضارهم وإخراجهم، ثم عوق منهم شخصًا وأمر بتقريره فأقر بأدنى عقوبة فتعجب من شاهدَ ذلك، وسئل عن سر معرفة ذلك الشخص من دون الجماعة فقال: «إنى لما أطلبهم يكون هو آخرهم في الدخول، وعندما آمرهم بالانصراف يكون هو أولهم في الخروج؛ فعلمت من ذلك أنه صاحب العملة».

وله عدة عمائر ومآثر (منها) أنه جدد سقف الجامع الأزهر وكان قد آل إلى السقوط، وأنشأ مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق، وكذلك أنشأ مسجد سيدي علي المليجي على الصفة التي هما عليها الآن، ولما تمم بناء المسجد المليجي سافر إليه ليراه، وذلك في منتصف شهر شعبان سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، ثم ذهب إلى طندتا وزار ضريح سيدي أحمد البدوي، وتعجب الناس من قوة جنانه، وخروجه من مصر وبها أخصامه والكارهون له ويريدون له الغوايل وهو يعلم ذلك مع أن محمد بك جركس مع شهرته بالشجاعة ما خرج إلى العادلية من يوم ظهوره، وأكثر أيامه ملازم لبيته.

(ومن أفاعيله) الجميلة أنه كان يرسل غلال الحرمين في أوانها، ويرسل القومانية إلى البنادر، ويجعل في بندر السويس والمويلح والينبع غلال سنة قابلة في الشون تشحن بالسفاين، وتسافر في أوانها، ويرسل خلافها على هذا النسق، ولما بلغ خبر موته لأهل الحرمين حزنوا عليه، وصلوا عليه صلاة الغيبة عند الكعبة، وكذلك أهل المدينة صلوا عليه بين المنبر والمقام، ومات وله من العمر ثمانٍ وعشرون سنة، وطلع أميرًا بالحج ست مرات آخرها سنة ثلاث وثلاثين ١٧٢٠م، ورثاه الشعراء بمراثٍ كثيرة لم أظفَر بشيء منها سوى أبيات من قصيدة طويلة، وهى:

وما هذه الدنيا سوى دار غِرة
فنعماؤها بؤس وفي نفعها ضررْ
ورفعتها خفض وراحتها عنا
وعزتها ذل وفي صفوها كدرْ
تريك شرورًا في سرور وغبطة
كجان أصاب الأَيْم في يانع الثمر
ألم ترَ ما أردت عزيزًا وملكت
ذليلًا ودلت بالغرور وبالغررْ
فلا تغترر ذا اللب يومًا بها وكن
على حذر فالعارفون على حذر
ترى بؤس إسماعيل بيك بمصرنا
إلى أن له دانت رقاب ذوي الخطر
وكان جديرًا بالرآسة والعلا
فقد سار فينا سيرة سارها عمر
وكان له حزم ورأي ومنعة
ولكن إذا جاء القضا عمي البصر
به غدر الجبار جركس ماكرًا
فعما قليل سوف يجزى بما مكر
أسر له كيدًا به كان حتفه
بديوان مصر بئس والله ما أسر
فقطعه إرْبًا وسيق لجنةٍ
وقاتله ظلمًا يُسلق إلى سَقَر
وجُندل من أتباعه كل صنجق
كبير عظيم الشأن أربعة غرر
فتبَّت يداه أو فشلَّت يمينه
وألا رماه الله بالعجز والقصر

(ومنها):

فمن بعده الأذناب فوق الروس قد
علت وعلى الأشراف قد جاء محتقر
تقدمت الأنذال لما تأخرت
صناديدها هذا لعمري من الكبر
ألا في سبيل الله قامت قرودها
ونامت سراحين المعارك في الحفر
فأين جبان القلب من أسد الشرى؟
وهيهات أم أين الذوات من الصور؟

(ومنها):

فكل مصاب عنه مصطبري سوى
مصابٍ أتانا فيه ما عنه مصطبر
فسبحان من عز الملوك بعزه
ومَن بعده للخلق بالموت قد قُهر
إلهي فأمطر سحب عفوك دائمًا
لتهمي عليه في الماء وفي السحر
وكن رب عن تقصيره متجاوزًا
وعامله بالغفران يا خير من غفر

(ثم ظفرت) بأبيات في أوراق مدشتة بخط الإمام الشيخ محمد الغمري وهي:

أفي أمان وسيف الأمن قد غمدا
وبدر أفق سماء العدل قد فقدا
وشمس نصر عباد الله قد كُشفت
ودولة العز ماتت بالذى لُحدا
يا عين جودي بدمع هاطل ندمًا
على الذي كان في مصر لنا سندا
يا أهل مصر بكاءً واندبوا رجلًا
مهذبًا مثله في العز ما وجدا
كم قد أغاث فقيرًا من ظلامته
وأبدل الجور عدلًا والفسوق هدى
فالآن حق لكم ذوب الفؤاد أسى
فقد فقدتم وحق الله كل ندى
وقد فقدتم أميرًا لا نظير له
في دولة المجد ما خلى ولا ولدا
نجل لإيواظ إسماعيل فاق على
أقرانه ولجمع الخير انفرادا
فالله يرحمه فضلًا ويلهم مَن
بقى من الدولة الإصلاح والرشدا
تاريخ ذاك قُري في آية تُليت
في الروم قد ذكرت هذا الذي وردا

وهي قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.

(وأيضًا):

ألا إن إسماعيل قُدس سرُّه
بحورٍ حسان في الجنان تنازله
سيلقى نعيما دائمًا عند ربه
وجنات عدن أزلفت ومنازله
ولا بد أن الله يأخذ من سطا
عليه بتاريخ سيُقتل قاتله

وكان منزله هو بيت يوسف بك بدرب الجماميز المجاور لجامع بشتاك المطل على بركة الفيل، وقد عمَّره وزخرفه بأنواع الرخام الملوّن، وصرف عليه أموالًا عظيمة، وقد خرب وصار حيشانًا ومساكن للفقراء، وطريقًا يَسلك منها المارة إلى البركة، ويسمونها الخرابة، ولما مات لم يخلّف سوى ابنة صغيرة ماتت بعده بمدة يسيرة، وحَمْلين في سريتين ولدت إحداهن ولدًا وسموه إيواظ عاش نحو سبعة أشهر ومات، وولدت الأخرى بنتًا ماتت في فصل كوْ دون البلوغ، فسبحان الحي الذي لا يموت.

ومات الأمير إسماعيل بك جرجا، وكان أصله خازندار إيواظ بك الكبير، وأمَّره إسماعيل بك، وقلده صنجقًا ومنصب جرجا فلذلك لقب بذلك، ولم يزل حتى قُتل مع ابن سيده في ساعة واحدة، ودُفن معه في مدفن رضوان بك أبي الشوارب.

ومات كل من الأمير عبد الله بك والأمير محمد بك ابن إيواظ والأمير إبراهيم بك تابع الجزار، قُتل الثلاثة المذكورون في ليلة واحدة، وذلك أنه لما قُتل إسماعيل بك ابن إيواظ بالقلعة بيد ذي الفقار بممالآة محمد بك جركس في الباطن، وعبد الله بك لم يكن حاضرًا انضمت طوايف الأمراء المقتولين ومماليكهم إلى عبد الله؛ لكونه زوج أخت المرحوم إسماعيل بك، ومن خاصة مماليك إيواظ بك الكبير، وكان كتخدا في حياته، وقلده إسماعيل بك الإمارة والصنجقية، وطلع أميرًا للحج في السنة الماضية التي هي سنة خمس وثلاثين ١٧٢٢م ورجع سنة ست وثلاثين، فلما وقع ذلك انضموا إليه لكوْنه أرأس الموجودين وأعقلهم، وأقبلت عليه الناس يعزونه في ابن سيده إسماعيل بك، وازدحم بيته بالناس، وتحقق المبغضون أنه إن استمر موجودًا ظهر شأنه وانتقم منهم، فأعملوا الحيلة في قتله وقتل أمرائهم.

وطلع في ثاني يوم ذو الفقار قاتل المرحوم إسماعيل بك إلى القلعة فخلع عليه الباشا، وقلده الأمرية والصنجقية وكاشف إقليم المنوفية، ونزل إلى بيت جركس ومعه تذكرة من كتخدا الباشا مضمونها أنه يجمع عنده عبد الله بك ومحمد بك ابن إيواظ وإبراهيم بك الجزار، ويعمل الحيلة في قتلهم.

فكتب جركس تذكرة إلى عبد الله بك وأرسلها صحبة كتخداه يطلبه للحضور عنده؛ ليعمل معه تدبيرًا في قتل قاتل المرحومين؛ فلما حضر كتخدا جركس إلى بيت عبد الله بك بالتذكرة وجد البيت مملوءًا بالناس والعساكر والاختيارية والجربجية وواجب رعاياه، وعنده علي كتخدا الجلفي عزبان، وحسن كتخدا حبانيَّة تابع يوسف كتخدا تابع محمد كتخدا البيوقلي … وغيرهم نفر وطوايف كثيرة، فأعطاه التذكرة فقرأها، ثم قال لعلي بك الهندي: «خذ محمد بك وإبراهيم بك واذهبوا إلى بيت محمد بك جركس، وانظروا كلامه، وارجعوا فأخبروني بما يقول» فركبوا وذهبوا عند جركس فدخلوا عليه فوجدوا عنده ذا الفقار بك وهو يتناجى معه سرًّا فأدخلهم إلى تنهة المجلس، وأرسل في الحال إلى كتخدا الباشا يخبره بحضور المذكورين عنده، ويقول له: «أرسل إلى عبد الله بك واطلبه فإن طلع إليكم وعوقتموه ملكنا غرضنا في باقي الجماعة» فأرسل الكتخدا يقول لجركس ألا يتعرض لعلي بك الهندي؛ لأن السلطان أوصى عليه، وكذلك صاري علي أوصى عليه الباشا؛ لأنه أمين العنبر، وناصح في الخدمة، وأرسل في الحال تذكرة إلى عبد الله بك يأخذ خاطره، ويعزيه في العزيز ابن سيده، ويطلبه للحضور عنده ليدبر معه أمر هذه القضية، وقتل قاتل المرحوم، فراج عليه ذلك الكلام والتمويه؛ ويقول له أيضًا: إنه يحضر صحبة مصطفى جلبي ابن إيواظ يلبسونه صنجقية أخيه يفتح بيت أخيه؛ لأنه عاقل عن أخيه محمد، وأرسلها صحبة جوخدار من طرفه فلما دخل إلى بيت عبد الله بك وجده مزدحمًا بالناس فدخل إليه وأعطاه التذكرة، فقرأها وأعطاها لعلي كتخدا الجلفي فقرأها أيضًا فأشار عليه بعدم الذهاب فلم يقبل، وركب في الحال لأجل نفاذ المقدور، وقال لعلي كتخدا: «اجلس هنا ولا تفارق حتى أرجع» وطلع إلى القلعة ومعه عشرة من الطائفة ومملوكان والسعادة فقط، ودخل علي كتخدا الباشا فتلقاه بالبشاشة، ورحب به، وشاغله بالكلام إلى العصر، وعندما بلغ محمد بك جركس ركوب عبد الله وطلوعه إلى القلعة صرف علي بك الهندي، ووضع القبض على محمد بك ابن إيواظ وإبراهيم بك الجزار، وربط خيولهما بالإسطبل، وطردوا جماعتهم وطوائفهم وسرّاجينهم.

ولم يزل كتخدا الباشا يُشاغل عبد الله بك ويحادثه ويلاهيه إلى قبيل الغروب، حتى قلق عبد الله بك وأراد الانصراف، فقال له كتخدا الباشا: «لا بد من ملاقاتك الباشا ومحادثتك معه» وقام يستأذن له ودخل ورجع إليه، وقال له: «إن الباشا لا يخرج من الحريم إلّا بعد الغروب، وأنت ضيفي في هذه الليلة لأجل ما نتحادث مع الباشا في الليل» وحسَّن له ذلك، فعند ذلك قال لأتباعه وطوائفه: «انزلوا وطمنوا أهل البيت وأتونى في الصباح» فنزلوا، ثم إن الكتخدا قام وأخذ صحبته الصنجق ودخل به إلى أودة الخازندار، وقام وتركه إلى الصباح فطلع محمد بك جركس وابن سيده محمد بك ابن أبي شنب وذو الفقار بك وقاسم بك وإبراهيم بك فارسكور وأحمد بك الأعسر الدفتردار، فخلع الباشا على محمد بك إسماعيل وقلده أمير الحاج، وقلد عمر أغا كتخدا جاويشية عوضًا عن عبد الله أغا، وقلد محمد أغا لهلوبة والي، ونزلوا إلى بيوتهم وطلعت طوائف عبد الله بك وأتباعه، وانتظروه حتى انقضى أمر الديوان ولم ينزل، فاستمروا في انتظار إلى بعد العصر، ثم سألوا عنه فقالوا لهم: «إنه جالس مع الباشا في التنهة، وروحوا وتعالوا في الصباح» فنزلوا، وأرسل محمد بك جركس لهلوبة الوالي إلى بيت كتخدا الباشا فقعد به إلى بعد العشاء فدخلت الجوخدارية إلى عبد الله بك فأخذوا ثيابه وما في جيوبه، وأنزلوه وسلموه إلى الوالي فأركبه على ظهر كديش، ونزل به من باب الميدان، وساروا به إلى بيت جركس، فأوقفوه عند الحوض المرصود، ونزلوا بمحمد بك ابن إيواظ وإبراهيم بك الجزار فأركبوهما حمارين، وسار بهم إبراهيم بك فارسكور والوالي على جزيرة الخيوطية وأنزلوهم في المركب، وصحبتهم المشاعل؛ فقتلوهم وسلخوا رءوسهم، ورموهم إلى البحر، ورجعوا، وانقضى أمرهم، وتغيب حالهم وما فعل بهم أيامًا.

ومما اتفق أن بعض الأتباع الحاضرين قتلهم أخذ خاتم عبد الله بك من إصبعه، وكتب تذكرة بعد أيام عن لسان المرحوم عبد الله بك خطابًا لزوجته هانم بنت إيواظ بك يقول فيها: «إننا طيبون بخير غير أننا لا نظهر فى أيام محمد بك جركس، والفروة التي علينا تربى فيها القمل والصيبان، والمراد ترسلوا لنا الجبة السمُّور التى وجهها الجوخ الأخضر، وبدلة حوائج، ومحزم، ومنشفة وضوء، وماية جنزرلي من الأمانة» فلما قرأتها تحققت حياته، وصدقت ذلك الرجل، ورأت ختمه، وصادف قوله من الأمانة، وكان أعطاها كيسًا، وقال لها: احفظيه فإنه أمانة، فأعطت الرجل ما في التذكرة وانسرت بحياة زوجها، ثم إن والدة محمد بك زوجة أبي شنب وكانت محظية علي باشا، أتت إليها مع نسوة يعزينها في إخوتها وزوجها. فقالت: «أما أخوتي فعليهم رحمة الله، وأما زوجي فإنه حي!!» فقالت لها أم محمد بك: «والله يابنتي مات ليلة نزوله من القلعة وساوى من له سنين، ومروا بهم من على بيتي، وسألت ابني فقال: رحمة الله عليهم» فأخبرتها بالتذكرة والأمارة، فقالت لها: «هذه مصادفة حصلت للرجل حتى أخذ نصيبه، وسوف يرجع إليك مرة أخرى ويطلب أشياء أخر بتذكرة أخرى، فإذا أتى فقولي له عرفني بمكانه حتى أذهب إليه سرًّا وأراه، ثم أعطيك المطلوب» فكان كذلك وحضر الرجل في شكل غير الأول، ومعه تذكرة وفيها مطلوبات، فأجابته بذلك؛ فحاورها وتحيل بما أمكنه، فلم تعطه شيئًا، وذهب فلم يرجع بعد ذلك.

ومحمد بك ابن إيواظ الذى قُتل مع عبد الله بك هو أخو المرحوم إسماعيل بك ابن إيواظ، وكان يُعرف بالمجنون؛ لقلة عقله ورعونته، وعمر له بيتًا بمصر القديمة تجاه المقياس، ويُعاشر رجلًا مشهورًا يسمى أحد المنشلي، وله مشاديد واصطلاح فيما بينهم وبين أمثالهم، وكان ينزل في الليل ويلعب الكرة مع الأولاد تحت قصره بمصر القديمة، ولما دار الدور عليه في السفر علم أخوه أنه لا يصلح لذلك، فقلد الصنجقية لبعض مماليك أبيه وهو أحمد بك سيد علي بك الهندي كما تقدم ومات الروم، وابراهيم بك الجزار، وهو مملوك يوسف بك الجزار تابع إيواظ بك، وكانت قتلتهم في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين ومائة وألف ١٧٢٣م.

ومات عبد الله بك، وهو متقلد إمارة الحج، وعمره ست وثلاثون سنة، وكان حليمًا سموح النفس صافي الباطن.

ومات محمد بك ابن إيواظ بك، وسنه ست وعشرون سنة، وكان أصغر من أخيه المرحوم.

ومات الأمير قاسم بك الكبير، وهو مملوك إبراهيم بك أبي شنب، وخشداش محمد بك جركس، تقلد الإمارة والصنجقية بعد قتل قيطاس بك في سنة ست وعشرين ومائة وألف في أيام عابدي باشا، ولما هرب جركس وقبض عليه العربان وأحضروه إلى إسماعيل بك ونفاه إلى قبرص، اتفق محمد بك ابن أبي شنب مع قاسم بك سرًّا على إحضاره إلى مصر، وسافر محمد بك إلى الروم بالخزينة، واشتغل شغله هناك على قتل إسماعيل بك، وأرسل في الخفية، وأحضره إلى مصر، وأخفاه حتى حضر رجب باشا وفعلوا ما تقدم ذكره.

ولم يزل أميرًا ومتكلمًا بمصر حتى وقعت حادثة ظهور ذي الفقار بك والمحاربة الكبيرة التي خرج فيها جركس من مصر، فقُتل قاسم بك المذكور في بيته، أصيب برصاصة من منارة الجامع كما تقدم، وعندما علم جركس بموته حضر إليه والحرب قايم وكشف وجهه فرآه ميتًا فقال: «لم يبقَ لنا عيش بمصر» وخرج في الحال من مصر، وذلك سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف.

ومات الأمير قاسم بك الصغير، وهو أيضًا من أتباع إبراهيم بك أبي شنب، وكان فرعون هذه الطائفة في دولة محمد بك جركس، وهو من جملة المتعصبين مع ذي الفقار على قتل إسماعيل بك ابن إيواظ الضارب فيه أيضًا وفي إسماعيل بك جرجا، ولم يزل حتى مات في رمضان بولاية البهنسا سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، يقال: إنه ضرب رجلًا من المجاذيب وهو راكب في طائفته، وفي الحال انحنى على قربوص السرج وخرج الدم من أنفه وفمه ومات ودفنوه هناك، ولما بلغ خبر موته محمد بك جركس حزن عليه واغتم غمًّا شديدًا، وقلد علي أغا مملوك ابن أخيه صنجقًا عوضًا عن سيده.

ومات محمد أغا متفرقة سنبلاوين، وكان أغات وجاق المتفرقة، وصاحب وجاهة، ومات مقتولًا بإغراء من محمد بك جركس، وسبب ذلك: أنه لما اختفى ذو الفقار بك كان المترجم يعرف محله، ويجتمع به في بعض الأحيان، فاتفق أن إبراهيم أفندي كتخدا العزب انحرفت نفسه من جركس بسبب دعوى بيد الصيفي سراج جركس شفع فيها إبراهيم كتخدا فرده الصيفى، وشتم القابجي الذى أرسله إليه، فانحرف مزاج إبراهيم كتخدا، وعزم على نقض دولة جركس، وكان متزوجًا بزوجة عمر أغا أستاذ ذي الفقار بك، وكان ساكنًا في بيته، فأرسل إلى محمد أغا فحضر إليه، وكلمه في ظهور ذي الفقار ويكون معهم، وتحالف معه وواعده على الاجتماع بذي الفقار.

فبلغ جركس اجتماعها، فتحيل من ذلك لعلمه أن محمد أغا سنبلاوين يعرف محل ذي الفقار وإبراهيم كتخدا متكلم باب العزب فخرج على عادته إلى مصر القديمة، ومر في طريقه على بيت ابن أستاذه محمد بك، وقال له: «ابعث إلى محمد أغا فإذا حضر إليك فأرسله عندي صحبة كتخداك من طريق زين العابدين» وأوصاه على ما يفعله، فلما حضر محمد أغا قال له: «أخوك محمد بك جركس يطلبك بمصر القديمة، اذهب إليه صحبة حسين أغا» وقال لحسين أغا: «عندما تصلون إلى هناك اذهب إلى علي بك أبي العدب، وكلمه على عليق خيول الباشا».

وكان جركس أكمن له جماعة سرَّاجين في الجنينة، ووقف منهم اثنان عند بيت النجدلي فلما وصل إليهما محمد أغا قالا له: «الصنجق في الروضة، ويطلبك هناك» فقال له حسين كتخدا محمد بك: «اذهب معهما حتى أصل إلى أبي العدب وأكلمه على العليق» فذهب معهما فدخلوا به جنينة جركس وقتلوه، وأخذوا فروته وثيابه، وما في جيوبه، وهرب سراجه وأتباعه إلى منزله، ثم أخذوا تابوتًا، وذهبوا ليأتوا به فلم يجدوه، وبقي دمه على البلاط مدة طويلة بعد ذلك، وكان رجلًا خيِّرًا محسنًا قليل الأذى، ورجعت السرَّاجون فأخبروا سيدهم بإتمام ما أُمروا به، فأقام ببيت ابن إيواظ بمصر القديمة إلى بعد العصر، ورجع إلى مصر، وأخذ في طريقه أحمد بك وقاسم بك فذهبوا إلى إبراهيم أفندي كتخدا، وصالحوه بعد الغروب، وراحت على من راح، وكان ذلك في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف.

ومات الأمير إبراهيم أفندي كتخدا العزب المذكور، قتله سليمان أغا أبو دِفِّيَّة وسليمان كاشف وخازندار ابن إيواظ بالرميلة في حادثة ظهور ذي الفقار كما تقدم ذكر ذلك في أيام علي باشا، وملكوا في ذلك الوقت باب العزب، وحضر محمد باشا وعلي باشا، ووقعت الحروب مع محمد بك جركس حتى خرج من مصر، وذلك سنة ثمانٍ وثلاثين ١٧٢٥م وسيأتي تتمة ذلك في ترجمة جركس.

ومات الأمير عبد الرحمن بك ملتزم الولجة، وهو من أتباع إيواظ بك الكبير القاسمي، وأمّره ابنه إسماعيل بك ابن إيواظ وقلده الصنجقية، وسافر بالخزينة سنة خمس وثلاثين ومائة وألف ١٧٢٢م، وقتل إسماعيل بك في غيابه، فلما حضر إلى مصر خلع عليه محمد بك ابن أبي شنب الدفتردار قائمقام قفطان ولاية جرجا، واستعجله في الذهاب والسفر إلى قبلي، فقضى أشغاله، وبرَّز خيامه إلى ناحية الآثار، وخرجت الأمراء والأغوات والاختيارية والوجاقات، ومشوا في موكبه على العادة، ونزلوا بصيوانه، وشربوا القهوة والشربات، وودَّعوه ورجعوا إلى منازلهم.

ثم إنه قال للطوايف والأتباع: «اذهبوا إلى منازلكم واحضروا بعد غد بمتاعكم وانزلوا بالمراكب، ونسير على بركة الله تعالى» ثم إنه تعشى هو ومماليكه وخواصه، وعلق على الخيول والجمال، وركب وسار راجعًا من خلف القلعة إلى جهة سبيل علَّام إلى الشرقية، ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى بلاد الشام ومنها إلى بلاد الروم، هذا ما كان من أمره.

وأما جركس فإنه أحضر علي بك وقاسم بك وعمر بك أمير الحاج، وأمرهم بالركوب بعد العشاء بالطوائف، ويأخذوا لهم راحة عند السواقي، ثم يركبوا بعد نصف الليل، ويهجموا وطاق عبد الرحمن بك ولجه على حين غفلة، ويقتلوه، ويأخذوا جميع ما معه، ففعلوا ذلك، وساروا قرَّابة فلم يجدوا غير الخيام فأخذوها ورجعوا، ولم يزل المترجم حتى وصل إلى إسلامبول، واجتمع برجال الدولة فأسكنوه في مكان، وأخذ مكتوبًا من أغات دار السعادة خطابًا إلى وكيله بمصر يتصرف له في حصصه بموجب دفتر المستوفي، ويرسل له الفائظ كل سنة، واستمر هناك إلى أن مات.

ومات الأمير الشهير محمد بك جركس، وأصله من مماليك يوسف بك القرد، وكان معروفًا بالفروسية بين مماليك المذكور، فلما مات يوسف بك في سنة سبع ومائة وألف ١٦٩٥م أخذه إبراهيم بك أبو شنب، وأرخى لحيته، وعمله قايمقام الطرانة، وتولى كشوفية البحيرة عدة مرار، ثم إمارة جرجا، وسافر إلى الروم سَرْ عسكر على السفر سنة ثمانٍ وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م، ولما لبس القفطان على ذلك، ونزل إلى داره طوى القفطان، وأرسله إلى سيده، وقال له: «انظر خلافي فإني قشلان» فرضَّاه بعشرين كيسًا فاستقلها، فكتب له وصولًا على الطرانة بعشرة أكياس أخرى؛ فبرز إلى الحلِّي، وأحضر إليه حريمه، وأقام في حظٍّ وكيف مدة أيام، والباشا يستعجله بالسفر، وهو لا يسمع لذلك ولا يبالى، فكلم الباشا إبراهيم بك في ذلك، فلما نزل أرسل إليه فقال: لا أسافر حتى يعطيني العشرة أكياس نقدًا، ورد له الوصول، فلم يسع أستاذه إلا إرسال العشرة أكياس، وقال: «سوف هذا يخرب بيتي بعناده» وكان كذلك.

ولما رجع في سنة ثلاثين وجد أستاذه إبراهيم بك توفي، وتقلد ابنه محمد إمارة أبيه، وسكن داره، والكلمة والرئاسة للأمير اسماعيل بك ابن إيواظ، فتاقت نفس المترجم للشهرة ونفاذ الكلمة، واستولى عليه وعلى ابن أستاذه الحسد والحقد لإسماعيل بك، فضم إليه المبغضين له من الفقارية وغيرهم، وتوافقوا على اغتياله، ورصد له طائفة منهم، ووقفوا له بالرميلة، وضربوا عليه بالرصاص، فنجاه الله من شرهم، وطلع إسماعيل بك وصناجقه إلى باب العزب، وطلب جركس إلى الديوان ليتداعى معه، فعصى وامتنع، وتهيَّأ للحرب والقتال، فقوتل وهُزم وخرج هاربًا من مصر، فقبض عليه العربان، وأحضروه أسيرًا إلى إسماعيل بك فأشاروا عليه بقتله فأبى، وقال: «إنه دخل حيًّا إلى بيتي فلا سبيل إلى قتله» وأنزله بمكان وأحضر له الطبيب فداوى جراحته، وأكرمه وأعطاه ملابس، وخلع عليه فروة سمور وألف دينار، ونفاه إلى قبرص حسمًا للشر.

واستمر الحقد في نفوس خشداشينه ومحمد بك ابن أبي شنب ابن أستاذهم، واتفقوا على إحضار جركس سرًّا إلى مصر، وسافر ابن أبي شنب بالخزينة إلى دار السلطنة، فأغرى رجال الدولة ورشاهم، وجعل لهم أربعة آلاف كيس على إزالة إسماعيل بك وعشيرته، ووقع ما تقدم ذكره في ولاية رجب باشا، وحضر جركس إلى مصر في صورة درويش عجمي، واختفى عند قاسم بك، ودبروا بعد ذلك ما دبروه من قتل الباشا، وما تقدم ذكره في ترجمة إسماعيل بك.

ونجا إسماعيل بك أيضًا من مكرهم، وظهر عليهم وسامحهم في كل ما صدر منهم مع قدرته على إزالتهم، ولم يزالوا مضمرين له السوء حتى توافقوا على قتله غدرًا، وخانوه وقتلوه بالديوان، وأزالوا دولته، وصفا عند ذلك الوقت لمحمد بك جركس وعشيرته، فلم يحسن السير، وطغى وتجبر، وسار في الناس بالعسف والجور، واتخذ له سرَّاجًا من أقبح خلق الله وأظلمهم، وهو الذي يقال له الصيفي، ورضخ له فيما يفعله ولا يقبل فيه قول أحد، واتخذ له أعوانًا من جنسه وخدمًا، وكلهم على طريقته في الظلم والتعدي، فكانوا يأخذون الأشياء من الباعة ولا يدفعون لها ثمنًا، ومن امتنع عليهم ضربوه بل وقتلوه، وصاروا يخطَفون النساء والأولاد.

ومن جملة أفاعيلهم: أن الطايفة من سرَّاجينه صاروا يدخلون بيوت التجار في رمضان بالليل، فلا ينصرفون حتى يأخذ كل شخص منهم أطلسية وشاشًا وخمسة زنجرلي، فكان أعيان الناس والتجار يدخلون بيوتهم من العصر، ويغلقون أبوابها فلا يفتحونها إلى الصباح.

ومما وقع من أفاعيلهم الخبيثة مع الخواجة لطفي النطروني، وكان من مياسير التجار ومشهورًا بكثرة المال والثروة وقد كفَّ بصره، فبينما هو جالس بمنزله بالسبع قاعات بالقرب من مسجد شرف الدين، والناس في صلاة التراويح، فدخل عليه شخصان من السراجين، ووقف منهم أربعة على باب الدرب، وقتلوه بالخناجر، وأخذوا ما أخذوه وساروا، وحضر بعد ذلك الصيفى فأخذ ما في البيت من نقد ومتاع وتمسكات وحجج وتقاسيط … وغير ذلك من أفاعيلهم القبيحة والشنيعة، والوالى في وقته أحمد أغا المعروف بلهلوبة على مثل ذلك، ويشيع عنهم في كل يوم قبائح متعددة.

وزاد تجبر جركس وأتباعه في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ١٧٢٤م وخرم نظام الأمور، وامتنع من طلوع الديوان ومن صلاة الجمعة، وكذلك الدفتردار الذى هو محمد بك ابن أستاذه، فكان الروزنامجى وبعض الكتبة القلفاوات وبعض الوجاقلية والجاويشية يطلعون، ويقيمون مقدار عشر درجات ثم ينزلون، فضاق صدر الباشا وأبرز مرسومًا من الدولة برفع صنجقية محمد بك جركس، وكتب فرمانات وأرسلها إلى الوجاقات ومشايخ العلم والبكري وشيخ السادات ونقيب الأشراف بالإخبار بذلك، وبالمنع من الاجتماع عليه أو دخول منزله، ووصل الخبر إلى محمد بك جركس فكتب في الحال تذاكر وأرسلها إلى اختيارية الوجاقات والمشايخ بالحضور ساعة تاريخه لسؤال وجواب، فاجتمعوا مع بعضهم وتشاوروا في ذلك، ثم قالوا: «نذهب إليه، ثم نرجع ولا نعود إليه بعد ذلك» فذهب إليه الاختيارية فأكرمهم وأجلهم وأجلسهم، ثم حضر المشايخ فلما تكامل المجلس أوقف طوائفه ومماليكه بالأسلحة، ثم قال لهم: «تدرون لأي شيء جمعتكم؟» قالوا له جميعًا: «نحن معك على ما تريد» فقال: «أريد عزل الباشا ونزوله» فقالوا: «نحن معك على ما تختار».

ثم إنهم كتبوا فتوى مضمونها: «ما قولكم في نائب السلطان أراد الإفساد في المملكة، وتسليط البعض على البعض، وتحريك الفتن لأجل قتلهم وأخذ أموالهم، فماذا يلزم في ذلك؟» فكتب المشايخ بوجوب إزالته وعزله قمعًا للفساد وحقنًا للدماء، فأخذ الفتوى منهم وقام، وأخذ معه رجب كتخدا ومصطفى كتخدا وإبراهيم كتخدا عزبان ودخل إلى داخل وترك الجماعة في المقعد والحوش وعليهم الحرس، وباتوا على ذلك من غير عشاء ولا دثار، فالذي أحضر شيئًا من داره أو من السوق أكله وإلا طوى على الجوع، فلما أصبح صباح يوم الجمعة عاشر القعدة أرسل أحمد بك الأعسر إلى الباشا يقول له: أنت تنزل أو تحارب، وكان أرسل قاسم بك الكبير إلى ناحية الجبل بنحو خمسمائة خيال، فقال: «بل أنزلُ، وانظروا لى مكانًا أَنزلُ فيه» ونزل في ذلك اليوم قبل الصلاة إلى بيت محمد أغا الدالي بقوصون، ولم يخرج جركس من بيته ولا أحد من المعوقين سوى قاسم بك وأحمد بك.

ثم إنه كتب عرضًا على موجب الفتوى، وختم عليه المشايخ والوجاقات، وكتبوا فيه أنه باع غلال الحرمين وغلال الأنبار، وباع من غلال الدشايش والخواسك ثمانية وعشرين ألف إردب، وختم عليه القاضي أيضًا، وأرسله صحبة ستة أنفار من الوجاقلية في غرة الحجة سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، ولما فعل ذلك أقام محمد بك الدفتردار ابن أستاذه قائمقام، فصار يعمل الدواوين في منزله، ولم يطلع إلى القلعة إلا في يوم نزول الجامكية.

ولما فعل جركس ذلك صَفَا له الوقت، وعزل مملوكه محمد أغا الوالي وقلَّده الصنجقية، وسماه جركس الصغير، وألبس علي أغا مملوكه ابن أخي قاسم بك الصغير صنجقية عمه، وأعطاه بلاده وماله وجواره، وقلد علي المحرمجي مملوكه الصنجقية أيضًا، وكذلك أحمد الخازندار مملوك أحمد بك الأعسر وسليمان أغا جميزة تابع أحمد أغا الوكيل صناجق، ألبسهم الجميع قائمقام في بيته، ولم يتفق نظير ذلك، وحضر جن علي باشا وطلع إلى القلعة، فلم يقابله جركس إلّا في قصر الحلي، وكمل له من الأمراء ثلاثة عشر صنجقًا، واستولوا على جميع المناصب والكشوفيات، ولما تأمَّر ذو الفقار بعد قتل إسماعيل بك انضم إليه كثير من الفقارية، وسافر إلى المنوفية فأراد أن يُجَرِّدَ عليه، وطلب من الباشا فرمانًا بذاك فامتنع، فتغير خاطره من الباشا، واستوحش كل من الآخر، وحصل ما تقدم ذكره من عزل الباشا، ثم جرَّد علي ذي الفقار، فاختفى ذو الفقار وتغيب بمصر إلى أن حضر علي باشا والي كريت، واستقر بالقلعة، ودبروا في ظهور ذي الفقار كما تقدم في خبر محمد باشا، وخرج محمد بك جركس هاربًا من مصر فنهبوا بيته وبيوت أتباعه وعشيرته، فأخرجوا من بيته شيئًا لا يحد ولا يوصف، حتى إنه وجد به من صنف الحديد أكثر من ألف قنطار، ومن الغنم أزيد من الألف خروف، وبعد ما أحاطوا بما فيه من المواشي والأمتعة ونهبوها هدموه، وأخذوا أخشابه وشبابيكه وأبوابه، ولم يمضِ ذلك النهار حتى خرب عن آخره، ولم يبقَ به مكان قائم الأركان، وقد أقام يعمر فيه نحو أربع سنوات فخرب جميعه من الظهر إلى قبيل المغرب، وقتلوا كل من وجدوه من أتباعه، واختفى منهم من اختفى، ومن ظهر بعد ذلك قتلوه أيضًا ونهبوا دياره.

وأخرج خلفه ذو الفقار تجريدة فلم يدركوه، وذهب من خلف الجبل الأخضر إلى درنه، فصادف مركبًا من مراكب الإفرنج فنزل فيها مع بعض مماليكه، وتفرق من كان معه من الأمراء بالبلاد القبلية، وسافر المترجم إلى بلاد الإفرنج فأكرموه، وتشفعوا فيه عند العثماني بواسطة الألچي فقبلوا شفاعتهم فيه، وأخذوا له مرسومًا بالعود إلى مصر وأخذها إن قدر على ذلك بعد أن عرضوا عليه الولاية والباشوية ببعض الممالك فلم يقبل، ولم يرضَ إلّا بالعود إلى مصر، فوصل إلى مالطة، وأنشأ له سفينة وشحنها بالجبخانة والآلات والمدافع ورجع إلى درنه، فطلع من هناك وأمر الرؤساء بالذهاب بالسفينة إلى ثغر إسكندرية، وحضر إليه بعض أمرائه وأتباعه المتفرقين فركب معهم وذهب إلى ناحية البحيرة فصادف حسين بك الخشاب، فهرب من وجهه فنهب حملته وخيامه وذهب إلى الإسكندرية، وكانت سفينته قد وصلت إلى مينتها فأخذ ما فيها من المتاع والجبخانة والآلات، ورجع إلى قبلي على حوش ابن عيسى، واجتمع عليه الكثير من العربان، وسار إلى الفيوم فهجم على دار السعادة، وهربت الصيارف فأخذ ما وجده من المال، ونزل على بني سويف، وكان هناك علي بك المعروف بالوزير فنزل إليه وقابله، ثم سار إلى القطيعة بالقرب من جرجا.

ثم عرج جهة الغرب قبلي جرجا، وأرسل إلى سليمان بك وطلبه للحضور إليه بمن عنده من القاسمية، فعدى إليه سليمان بك ومن معه، وقابله وأطلعه على ما بيده من المرسوم والأمان والعفو، وحضر إليه أحمد بك الأعسر وجركس الصغير، فركب بصحبة الجميع وانحدر إلى جهة بحري، فتعرض لهم حسن بك والسدادرة وعسكر جرجا وحاربوهم، فقتل حسن بك وطائفته، ولم ينجُ منهم إلا من دخل تحت بيارق العسكر، ونزل جركس بصيوان حسن بك، وأنزلوا مطابخهم وعازقهم في المراكب، وسار بمن معه طالبين مصر.

ووصلت أخبارهم إلى ذي الفقار بك فعمل جمعية، وأخذ فرمانًا بسفر تجريدة وأميرها عثمان بك تابع ذي الفقار وعلي بك قطامش وعساكر إسباهية … وغيرهم، فقضوا أشغالهم، وعدوا إلى أم خنان، وصحبتهم الخبيري، وساروا إلى وادي البهنسا فتلاقوا مع محمد بك جركس فتحاربوا معه يومًا وليلة، وكان مع جركس طائفة من الزيدية والهوارة وعرب نصف حرام، فكانت الهزيمة على التجريدة، واستولى محمد جركس ومن معه على عرضيهم وخيامهم، وقتل منهم نحو مائة وسبعين جنديًّا، وحال بينهم الليل، ورجع المهزومون لمصر، وقالوا لذي الفقار بك: «إن لم تتداركوا أمركم وإلا دخلوا عليكم البيوت».

فجمع ذو الفقار بك الأمراء، واتفقوا على تشهيل تجريدة أخرى، واحتاجوا إلى مصروف فطلبوا من الباشا فرمانًا بمبلغ ثلثمائة كيس من الميري أو من مال البهار على السنة القابلة، فامتنع الباشا فركبوا عليه وعزلوه وأنزلوه، ولبَّسوا محمد بك قطامش قائمقام، وأخذوا منه فرمانًا، وجهزوا أمر التجريدة، فأخرجوا فيها مدافع كبارًا، وأحضروا سالم بن حبيب ومعه نصف سعد، وخرجوا من جهة الشيمي، ونزل عثمان جاويش القازدغلي بجماعة جهة البدرشين وصحبته علي كتخدا الجلفي بالمراكب، ورتبوا أمورهم وأشغالهم، ووصل جركس ومن معه ناحية دهشور والمنشية، ووقعت بينهم حروب ووقعت الهزيمة على جركس، وقتل سليمان بك ونزلت القرَّابة المراكب، وسارت الخيالة صحبة العرب مقبلين، وسار عثمان جاويش القازدغلي خلف قرا مصطفى جاويش ليلًا ونهارًا حتى أدركه عند أبي جرج، فقبض عليه ومعه ثلاثة، وأخذ ما وجده معه، وأنزلهم في المركب، وأتى بهم إلى مصر فقطعوا رءوسهم.

وأرسلوا فرمانًا برجوع التجريدة ولحوق الصنجقيين وأغات البلك والإسباهية وسالم بن حبيب بجركس أينما توجه، فسافروا خلفه أيامًا، ثم عدى إلى جهة الشرق ومعه عرب خويلد، وأقام هناك ينتظر حركة القاسمية بمصر، وكانوا قد تواعدوا معه سرًّا على قتل ذي الفقار بك فعدى إليه علي بك قطامش والعسكر وسالم بن حبيب فتلاقوا معه، ووقع بينهم مقتلة عظيمة انجلت عن انهزام جركس ومن معه حتى ألقوا بأنفسهم في البحر، وأما جركس فإنه خلع لجام الحصان، وأراد أن يعدي به بمفرده إلى البر الآخر فانغرز الحصان في روبة وتحتها الماء عميق، فنزل من على ظهره ليخلصه فزلقت رجله وغرق بجانبه، وكان بالقرب منه شادوف وعليه رجلان من الفلاحين ينقلان الماء إلى المزرعة، فنزلا إليه فوجدا الحصان ميتًا وهو غاطس بجانبه ولم يعلما من هو، فجراه من رجله وأخذا سلاحه وزرده وثيابه وما في جيوبه ودفناه بالجزيرة، ومر بهما قارب صياد فطلباه ووضعاه فيه.

وكان علي بك جالسًا بجنب البحر ومعه سالم بن حبيب، فنظر سالم إلى القارب وهو مقبل فقال: «ما هذا إلا سمكة عظيمة واصلة إلينا» فأوقفوا القارب في ناحية من البر، وتقدم أحد الشدافين إلى الصنجق وباس يده، فقال له: «ما خبرك؟» قال: «وجدنا جنديًّا من المهزومين وهو غرقان بحصانه فلعله من المطلوبين وإلا رميناه البحر» فقال لمملوك سليمان بك: «انزل إليه وانظره فلعلك تعرفه!!» فلما رآه عرفه ورجع إلى الصنجق وقال له: «البشارة، هو محمد بك جركس الكبير، وهذا خاتمه» فأمر بإخراجه من القارب ووضع أحد الرجلين في الحديد، وقال للثاني: «اذهب فأتِ بكامل ما أخذتماه، وأنا أطلق لك رفيقك».

وأمر بسلخ رأسه وغسلوه وكفنوه ودفنوه ناحية شرونة، وارتحلوا وساروا إلى مصر، وكان القاسمية الذين بمصر فعلوا فعلهم وقتلوا ذا الفقار بك، وذلك في أواخر رمضان، والبلد في كرب، والقاسمية منتظرون قدوم جركس، وأبواب المدينة مقفلة وعلى كل باب أمير من الصناجق والوجاقلية دائرون بالطوف في الشوارع وبأيديهم الأسلحة، فلما وصل علي بك قطامش إلى الآثار النبوية وأرسل عرفهم بما حصل، خرج إليه عثمان بك ودخل صحبته بموكب، والرأس أمامهم محمولة في صينية، فكان ذلك اليوم يوم سرور عند الفقارية وحزن عظيم عند القاسمية. فطلعوا بالرأس إلى القلعة فخلع عليهم الباشا الخلع السمور ونزلوا إلى منازلهم، وأتتهم التقادم والهدايا، فكان بين موت جركس وذي الفقار خمسة أيام، ولم يشعر أحدهما بموت الآخر.

ثم تتبعوا القاسمية وقتلوا منهم ألوفًا، وبهذه الحوادث انقطعت دولة القاسمية، والسبب في دمارهم: محمد بك جركس المترجم، وابن أستاذه محمد بك ابن أبي شنب، وسوء أفعالهما وخبث نياتهما، فإن جركس هذا كان من أظلم خلق الله، وأتباعه كذلك، وخصوصًا سرَّاجه المعروف بالصيفي وطائفته، وكانت أيامه أشر الأيام، وحصل منهم من أنواع الفساد والإفساد ما لا يمكن ضبطه. فمن جملة ذلك: أن سرَّاجينه خطفوا النحاس من النحاسين، وأخذوا من الصاغة الفضة والذهب، وكذلك أنواع الأقمشة من خان الخليلى والغورية، وكذلك السكر من السكرية، وهجموا على النساء في الحمامات وأخذوا ثيابهن، فعلوا ذلك بحمام القاضي وحمام أمير حسين وحمام الموسكي، وشلحوا كثيرًا من الناس بوسط الأسواق ومنهم الخواجا حسن مرزوق وكان في جيبه أربعمائة وعشرون جنزرلي، وقتلوا أنفارًا من أعيان الناس بطريق بولاق وبوسط المدينة، ومنهم علي جلبي قتل بعد العصر بالخراطين، وسليمان جلبي بحارة الروم بعد الظهر، وأيوب كاشف تابع إبراهيم جربجي الصابونجي في رأس الخيمية في يوم الجمعة بعد الظهر، وقتل شخص من الأجناد بالصليبة ليلًا ووجد فى الصباح مقطعًا أربع قطع، وصار على رءوس الناس الطير.

واجتمع الناس إلى العلماء بالأزهر، والتمسوا منهم الذهاب إلى الباشا في شأن هذه الأحوال فاعتذروا إليهم بأنهم ممنوعون من الطلوع من القلعة.

(ومما اتفق) أن الشيخ عبد الرحيم السلموني مباشر وقف السلطان الغوري صنع مهمًا لزواج ابنته في أيام جركس، ودعا بعض الأمراء من الصناجق والاختيارية، وبعد ما أكل الأعيان مدوا سماطًا ودعوا السراجي للأكل فأبوا، وقالوا: «لا نأكل حتى نأخذ عوائدنا من صاحب الفرح كما هو شأن أتباع الحكام في البلاد الرومية، ويقولون لذلك: (ديش كراسي) أي كراء الأسنان» فلم يسع الرجل إلا أنه أعطى كل شخص منهم ريالًا وكانوا خمسة وأربعين سراجًا، وذلك بحضور كتخدا الينكجرية والعزب والمقادم، فلم يتكلم منهم أحد … وقس على ذلك ما لم يقل. وكان موت محمد بك جركس وهلاكه في أواخر رمضان سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف.

ومات الأمير علي بك المعروف بالهندي، وهو مملوك أحمد بك تابع إيواظ بك الكبير، جرجي الجنس، تقلد الإمارة والصنجقية بالديار الرومية، وذلك أنه لما قلد إسماعيل بك ابن إيواظ أستاذه أحمد بك الصنجقية والإمارة على السفر إلى بلاد مورة في سنة سبع وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م عوضًا عن يوسف بك الجزار، جعل عليًّا هذا كتخداه، فلما توجهوا إلى هناك وتلاقوا في مصاف الحرب هجم المصريون على طابور العدو بعد انهزام الروميين فكسروا الطابور وانهزم العدو، واستشهد أحمد بك أمير العسكر المصري، فلما رجعوا إلى إسلامبول ذكروا ذلك وحكوه لرجال الدولة، فأنعموا عَلَى علي الهندي، وأعطوه صنجقية أستاذه أحمد بك، وأعطوه مرسومًا بنظر الخاصكية قيد حياته زيادة على ذلك ورجع إلى مصر.

ولم يزل معدودًا في الأمراء الكبار مدة دولة إسماعيل بك ابن سيد أستاذه حتى قُتل إسماعيل بك، وأراد قتله محمد بك جركس هو وعلي بك الأرمني المعروف بأبي العدبات، فدافع عنهما محمد باشا وقال: «إن الهندي منظور مولانا السلطان والأرمني أمين العنبر وناصح في خدمته، وضمن عائلتهما الباشا، فاستمرا في إمارتهما، فلما استوحش جركس من ذي الفقار وجرد عليه وهو في كشوفية المنوفية هرب وحضر إلى مصر، ودخل عند علي بك الهندي المذكور فأخفاه عنده خمسة وستين يومًا، ثم انتقل إلى مكان آخر والمترجم يكتم أمره فيه، وجركس وأتباعه يتجسسون ويفحصون عليه ليلًا ونهارًا، وعزل جركس محمد باشا وحضر علي باشا، ودبروا أمر ظهور ذي الفقار مع عثمان كتخدا القازدغلي، وأحضروا إليهم المترجم، وصدروه لذلك، وأعانوه بالمال، وفتح بيته وجمع إليه الإيواظية والخاملين من عشيرتهم، وكتموا أمرهم، وثاروا ثورة واحدة، وأزالوا دولة جركس كما تقدم.

وظهر أمر ذي الفقار، وتقلد علي بك الهندي الدفتردارية بموجب الشرط المتقدم، وحضر محمد بك قطامش من الديار الرومية باستدعاء المصريين بتقليد الدفتردارية من الدولة فلم يمكِّنه المترجم منها حتى ضاقت نفسه منه، ووجه عزمه إلى ذي الفقار بك وألح عليه، وهو يعده ويمنيه، ويأمره بالصبر والتأني إلى أن حضر المملوك الواشي، وأخبر علي بك باجتماع مصطفى بك ابن إيواظ وأبي العدب ومن معهم، وذكر له ما قالوه في حال نشوتهم فلم يتغافل عن ذلك، وقال لذلك المملوك: «اذهب إلى ذي الفقار بك فأخبره» فذهب إليه فعرفه صورة الحال؛ فأوقع بهم ما تقدم ذكره من قتلهم بيد الباشا، وكان يظن مصافاة ذي الفقار له ويعتقد مراعاة حقه له، وبهذه النكتة صار علي بك وحيدًا فطمع فيه العدو، واختلى محمد بك قطامش بذي الفقار بك وتذاكر معه أمر الدفتردارية وعدم نزول علي بك عنها، وقال «لا بد من قتلي إياه!!» فقال له ذو الفقار: «لا أدخل معك في دمه، فإن له في عنقي جميلًا، فإن كنت ولا بد فاعلًا فاذهب إلى يوسف كتخدا البركاوي ورضوان أغا وعثمان جاويش القازدغلي ودبر معهم ما تريد، ولكن إن قتلتم الهندي فلازم من قتل محمد بك الجزار وذي الفقار قانصوه» فقال محمد بك قطامش: «إن ابن الجزار له في عنقي جميل؛ فإنه صان بيتي وحريمي في غيابي كوالده من قبل» فقال ذو الفقار بك: «وأنا كذلك أقمت في الاختفاء بمنزل علي بك وبغيره باطلاعه».

وانحط الأمر بينهم على الخيانة والغدر، وذهب محمد بك فاجتمع بيوسف البركاوي ومن ذكر، وتوافقوا على ذلك، فأحضر يوسف كتخدا البركاوي باشَ سرَّاجينه وكلَّمه على قتل الهندي، ووعده بالإكرام، فأخذ معه في صبحها خمسة أنفار ووقف بهم عند باب العزب، فلما أقبل علي بك في طائفته ابتكر ذلك السرَّاج مشاجرة مع بعض السَّراجين وتساببوا، فقيل لهم: «أما تستحوا من الصنجق؟» فأخرج ذلك السرَّاج الطبنجة وضربها في صدر الصنجق فنفذت الرصاصة من كمه، وساق علي بك جواده إلى جهة المحجر، وسار على باب زويلة، وذهب إلى داره بحارة عابدين، وحضر إليه طوائفه وأغراضه وأصحابه، ومنهم: علي كتخدا عزبان الجلفي، وعلي كتخدا مملوك يوسف كتخدا حبَّانية، ومحمد جربجي بشناق عزبان، ومصطفى جاويش كدك … وغيرهم، وامتلأ البيت والشارع، وباتوا تلك الليلة، وعند الفجر ركب محمد بك قطامش وحضر عند ذي الفقار بك فركب معه إلى جامع السلطان حسن، وحضر عندهم رضوان أغا وعثمان جاويش القازدغلي ويوسف كتخدا البركاوي وباقي الأغوات، فأرسلوا من طرفهم جاسوسًا إلى بيت الهندي فرجع وعرَّفهم بمن عنده.

فقال رضوان أغا: «أنا أذهب إليه وأحضره بحيلة إلى بيت ذي الفقار بك، ويأتي أغات مستحفظان فيأخذه إليكم» فركب رضوان أغا، وأرسلوا إلى ذي الفقار بك قانصوه آتي عندهم أيضًا، فلما دخل رضوان أغا على علي بك الهندي وجده شعلة نار، فجلس معه وحادثه وخادعه، وقال له: «بلغني أن ذا الفقار بك أقام في بيتك خمسة وستين يومًا، وبينك وبينه عهد وميثاق، فقم بنا إلى بيته وهو ينظر السرَّاج الذي ضرب عليك الطبنجة وينتقم منه، ودع الجماعة ينتظرونا إلى أن نعود إليهم».

فطلب الحصان؛ فأشار عليه علي كتخدا الجلفي بعدم الذهاب فلم يسمع، وركب في قلة من أتباعه وصحبه مملوكان فقط، وذهب مع رضوان أغا فدخل معه بيت ذي الفقار بك، وتركه وسار؛ ليأتي إليه بذي الفقار بك، وذهب إليهم وعرفهم حصوله في بيت ذي الفقار، فأرسلوا إليه أغات مستحفظان في جماعة كثيرة فدخلوا بيت ذي الفقار بك، وأخذوا الحصان والكرك من عليه، وقدَّموا له إكديشًا عريانًا، فقام عثمان تابع صالح كتخدا عزبان الرزاز، وأخذ كليمًا قديمًا فوضعه فوق الإكديش وميَّل عليه، وقال له: «هذا جزاء من يقصّ جناحه بيده!!» وأركبوه عليه وذهبوا به إلى السلطان حسن، فلما رآه ذو الفقار بك قال: «خذوا هذا أيضًا» وأشار إلى ذي الفقار قانصوه، وكان رجلًا وجيهًا ولحيته بيضاء عظيمة وعليه هيبة ووقار، فقال: «خذوا عني البلاد والصنجقية ولا تقتلوني» فسحبوهما مشاةً على أقدامهما إلى سبيل المؤمنين، وقطعوا رءوسهما ووضعوهما في تابوتين، وذهبوا بهما إلى بيوتهما فما شعر الجماعة الجالسون في بيت الهندي إلّا وهم داخلون عليهم برمته، فغسلوه وكفنوه ومشوا في جنازته، وذهبوا إلى منازلهم، وانفض الجمع، وركب ذو الفقار ومن معه، وطلعوا إلى القلعة، وتمموا أغراضهم.

وكان المترجم سليم الصدر، وعنده الحلم والعفة وسماحة النفس، وتولى كشوفية الغربية والمنوفية وبنى سويف ونظر الخاصكية بأمرٍ سلطانيٍّ قيد حياة، فلما ترأس محمد بك جركس وابن أستاذه محمد بك ابن أبي شنب الدفتردارية نزعها منه، فورد بذلك مرسوم من الدولة بالتمكين للمترجم بنظر الخاصكية، وألبسه محمد باشا قفطانًا بذلك فلم يمتثل محمد بك ابن أبي شنب ولم يمكنه منها، فورد بعد ذلك مرسوم كذلك بتمكين علي بك، فلبَّسه علي باشا قفطانًا، فقال له علي بك: «أنت تلبسني وهم لا يمكنوني ولم يسلموني المفاتيح، وقد تقدم مثل ذلك مرتين» فقال له الباشا: «أنا آتيك بها وأرسلها إليك» وبعث إلى محمد بك يطلب منه المفاتيح، فوعده بذلك، ثم أحضروها له بسعي رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية، فأعطاها إلى علي بك فركب بصحبة الأغا المعين ونائب القاضي ومن كل بلك واحد، وفتحوا الخاصكية فلم يجدوا فيها شيئًا، فأخذ حجةً بذلك، وكان موت المترجم في أوائل سنة أربعين ومائة وألف.

ومات الأمير ذو الفقار بك قانصوه، وهو تابع قانصوه بك الكبير الإيواظي القاسمي، تقلد الإمارة والصنجقية في سابع شعبان سنة ثمانٍ وعشرين ومائة وألف ١٧١٥م ولبس عدة مناصب كثيرة مثل كشوفية بني سويف والبحيرة، ولما حصلت الحوادث وقُتل إسماعيل بك ابن إيواظ — اعتكف في بيته، ولازم داره، ولم يتداخل معهم في شيء من الأمور، فلما تعصب ذو الفقار بك ومحمد بك قطامش ومن معهم على قتل علي بك الهندي وإخماد فرقة القاسمية، عزم على قتل ذي الفقار قانصوه أيضًا، وأرسل إليه وأحضره إلى جامع السلطان حسن، وهو لم يخطر بباله أنهم يغدرونه؛ لانجماعه عنهم، فلما أحضروا علي بك الهندي على الصورة المتقدمة وسحبوه إلى القتل، فقال ذو الفقار بك: «خذوا هذا أيضًا» وأشار إلى المترجَم لحزازة قديمة بينهما، أو لعلمه بأنه من رؤساء القاسمية وقاعدة من قواعدهم، فقال لهم: «وما ذنبي؟ خذوا عني الإمرية والبلاد، ولا تقتلوني ظلمًا» فلم يمهلوه ولم يسمعوا لقوله، فسحبوه ماشيًّا مع الهندي وقتلوهما تحت سبيل المؤمنين بالرميلة، وكان إنسانًا عظيمًا وجيهًا منور الشيبة عظيم اللحية، رحمه الله تعالى.

ومات الأمير محمد بك ابن يوسف بك الجزار، تقلد الإمارة والصنجقية في شعبان سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف بعد واقعة محمد بك جركس وخروجه من مصر، ولما قُتل علي بك الهندي وذو الفقار بك قانصوه كان هو في كشوفية المنوفية، فعينوا له تجريدة وعليها إسماعيل بك قيطاس، وأخذ صحبته عربان نصف سعد، وكان قد وصل إليه الخبر، فأخذ ما يعز عليه، وترك الوطاق، وارتحل إلى جسر سديمة، فلحقوه هناك، واحتاطوا به وحاربوه وحاربهم، وقتل بينهم أجناد وعرب وحمى نفسه إلى الليل، ثم أحضر مركبًا فنزل فيها وصحبته مملوكان لا غير وفراش وأخراج وذهب إلى رشيد، وترك أربعة وعشرين مملوكًا خلاف المقتولين فأخذوا الهجن، وساروا ليلًا متحيرين حتى جاوزوا وطاق إسماعيل بك، وتخلف منهم شخص فحضر إلى وطاق إسماعيل بك قيطاس فأخبره فارتحل كتخداه بطايفته فردوهم، وأخذهم عنده فخدموه إلى أَن مات.

ودخل محمد بك الجزار ثغر رشيد فاختفى في وكالة، فنمى خبره إلى حسين جربجي الخشاب السردار، فحضر إليه وقبض عليه وسجنه مع أحد المملوكين، وكان الثاني غائبًا بالسوق فتغيب ولم يظهر إلّا بعد مدة، وأرخى لحيته، وفتح له دكانًا يبيع ويشتري ولم يعرفه أحد، وأرسل حسين جربجي الخبر إلى مصر مع المساعي إلى ذي الفقار بك، ويستأذن في أمره بشرط أن يجعلوه صنجقًا، ويعطوه كشوفية البحيرة عن سنة أربعين ومائة وألف فأجيب إلى ذلك، وأرسلوا له فرمانًا بقتل محمد بك الجزار وقتل مملوكه، وأن يأتي هو إلى مصر ويعطوه مراده ومطلوبه، ومع الفرمان أغا معيّن من طرف الباشا، فقتلوا محمد بك ومعه مملوكه وسلخوا رءوسهما، ورجع بهما الأغا المعين إلى مصر.

ومات الأمير محمد بك ابن إبراهيم بك أبي شنب القاسمي، تقلد الإمارة والصنجقية في حياة والده في سنة سبع وعشرين ومائة وألف، ولما توفي والده انتقل إلى بيته الذي بالقرب من جامع إينال بالقرب من قناطر السباع، وتولى عدة كشوفيات بالإقاليم في أيام المرحوم إسماعيل بك ابن إيواظ، وكان يحقده ويحسده ويكرهه باطنًا هو ومماليك أبيه وخصوصًا محمد بك جركس، وأرادوا اغتياله، وأوقفوا له في طريقه من يقتله، ونجَّاه الله منهم فظفر بهم، وأخرج جركس منفيًّا إلى قبرص كما تقدم.

وسافر محمد بك المترجم بالخزينة فأغرى به رجال الدولة، وأوشى في حقه، وحصل ما تقدم ذكره، وأيده الله عليهم أيضًا في تلك المرة، ولما قُتل إسماعيل بك واستقل محمد جركس فتقلد المترجم دفتردار، وصار أميرًا كبيرًا يشار إليه ويرجع إليه في جميع الأمور، ولما عزلوا محمد باشا النشنجي تقلد المترجم أيضًا قائمقام، وعمل الدواوين في بيته ولم يطلع إلى القلعة كعادة الوكلاء والنواب، وقلد المناصب والإمريات في منزله، وصار كأنه سلطان، وكان على نسق مملوك أبيه محمد جركس في العسف وسوء التدبير، ولا يخرج أحدهما عن مراد الآخر، ولم يزل على ذلك حتى وقعت حادثة ظهور ذي الفقار، وخرج محمد بك جركس ومن معه هاربين واختفى المترجم، ثم إن جماعة من العامة وجدوه ميتًا بالجامع الأزهر، فأخبروا سليمان أغا أبا دفية أغات مستحفظان، فأخذه في تابوت وطلع به إلى القلعة ووضعه بديوان قايتباى.

وحضرت والدته خلفه وهي تبكي، وخرج محمد باشا فكشف وجهه ورآه، وقال: «لو كان عليك شطارة كنت قطعت رأسك، أخربت البيتين بفتنتك» ثم التفت إلى أمه، وقال لها: «هذا ابنك؟» قالت نعم. قال «ليتك ولدت حجرًا ولا هذا، خذيه وادفنيه» فأخذته وغسلته وكفنته، ودفنته بباب الوزير، ونهبوا بيته، وانقضى أمره.

ومات أيضًا عمر بك أمير الحاج تابع عبد الرحمن بك جرجا المتقدم ذكره انطوى إلى محمد بك جركس وأمَّره، وجعله أمير الحاج في أيامه، وكان غنيًّا وصاحب فائظ كثير، ومات في واقعة جركس.

ومات رضوان بك، وهو من مماليك محمد بك جركس، ويقال له: رضوان الخازندار، قلده الصنجقية، وأخذ نظر الخاصكية من علي بك الهندي وأعطاها له، وتنافس بسببها مع جركس، وانجمع كل منهما عن الآخر مدة طويلة، ولما وقع لجركس ما وقع اختفى رضوان بك المذكور عند يوسف بك زوج هانم، فأخبر عنه، وأخذه سليمان أغا وقتله، فسمي لذلك يوسف الخائن.

ومات الأمير علي بك المعروف بالأرمني، ويُعرف أيضًا بالشامي، وهو من أتباع ابن إيواظ، وكان أمين العنبر، ويُعرف أيضًا بأبي العدب، تقلد الصنجقية في عشري شهر القعدة سنة خمسٍ وثلاثين ومائة وألف ١٧٢٢م، ولما أراد إسماعيل بك تأميره لم يجدوا له إمرية في المحلول، فأنعم عليه الباشا بصنجقية كتخداه رعاية لخاطر ابن إيواظ، ونزل حاكمًا بجرجا، وكان يجعل لعمامته عدبة، فسموه في الصعيد بأبى العدب.

وتقلد أمين العنبر في سنة ست وثلاثين ١٧٢٣م، وحفظ الغلال وصرفها للمستحقين ومرتبات الحرمين والأوقاف وغلال الباشا والعليق، وارتاح الباشا والناس في أيامه، فلما قُتل إسماعيل بك أراد جركس البطش به وبالهندي فدافع عنهما الباشا، وقال: «إن علي بك الهندي منظور مولانا السلطان وأبو العدب منظوري وعليَّ ضمانهما» فلما زالت دولة جركس بظهور ذي الفقار وطائفة الفقارية ثقل عليهم وجودهما، فأخذوا يدبرون في الإيقاع بهما، وذو الفقار مظهر الصداقة والمؤاخاة للهندي، ويرعى حق جميله معه أيام اختفائه، والهندي يعتقد خلوصه له إلى أن اجتمع أبو العدب ومصطفى بك ابن إيواظ ومن معهم في مجلس أنسهم ووقع منهم ما تقدم ذكره، وذهب المملوك فأخبر الهندي فلم يتلافَ الهندي أمر ذلك ولم يتدبره بل أرسله إلى ذي الفقار بك، فعند ذلك لاحت له الفرصة وأرسله إلى الباشا وأخبره بمجلسهم وقولهم، وأن أبا العدب قال: «أنا أقتل الباشا يوم كسر الخليج» فاحتد الباشا، وأمره بإحضار المترجم، فلما مثل بين يديه قال له: «أنت تريد قتلي يا خاين، وأنا الذى دافعت عنك وحميتك من القتل؟» فحلف له أنه افتراء ونميمة من الأعداء، فلم يصدقه وأمر بقتله في الحال، فنزلوا به إلى حوش الديوان، وقطعوا رأسه تحت ديوان قايتباي، ونهبوا بيته وأخذوا منه أشياءً كثيرة.

ومات أيضًا مصطفى بك ابن إيواظ، وهو أخو إسماعيل بك، تقلد الإمارة والصنجقية أيام ظهور ذي الفقار كما تقدم، وصار من الأمراء القاسمية المعدودين. فلما أحضر الباشا علي بك الأرمني وقتله وأمر بالقبض على باقي الجماعة، فقبضوا على مصطفى بك المذكور، وأحضروه على حمار وصحبته المقدم تابعه فقتلوهما تحت ديوان قايتباي بعد قتل علي بك بيومين.

ومات الأمير صاري علي بك، ويقال له: علي بك الأصفر؛ لأن صاري بمعنى الأصفر، وهو من أتباع إيواظ بك، تقلد الإمارة والصنجقية غاية شعبان سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ١٧٢١م، ولبس كشوفية الغربية، ولما قُتل ابن أستاذه إسماعيل بك استعفى من الصنجقية، وعمل جربجيًّا بباب العزب واعتكف ببيته، ولم يتداخل في أمر من الأمور، ثم أعيد وسافر أميرًا بالعسكر إلى الروم، وتوفي بدار السلطنة سنة إحدى وأربعين ومائة وألف.

ومات الأمير أحمد كتخدا عزبان المعروف بأمين البحرين، وكان من الأعيان المشهورين نافذ الكلمة وافر الحرمة، وكان بينه وبين الأمير إسماعيل بك ابن إيواظ وحشة وكان يكرهه. فلما ظهر إسماعيل بك خمدت كلمة المترجم واستمر في خموله، ثم انضم إلى إسماعيل بك وتحابب له، وصار من أكبر أصدقائه، وعمل باش أوده باشه، ثم تولى الكتخدائية، وعمل أمين البحرين ثالث مرة، وسُمعت كلمته ونمى صيته.

فلما قُتل إسماعيل بك رجع إلى خموله، ثم نفي إلى أبي قير بمعرفة اختيارية الباب، وتعصب إبراهيم كتخدا أفندي عليه، وكان إذ ذاك ضعيف المزاج فأرسلوا له الفرمان صحبة كمشك جاويش ومعه نحو المائتين نفر، فدخلوا عليه منزله بدرب السادات مطل على بركة الفيل على حين غفلة، وأركبوه من ساعته وهم حوله إلى بولاق، وأرسلوه إلى أبي قير، ثم أرسلوا له فرمانًا بالسفر إلى سفر العجم مع صاري علي، وجعلوه سردار العزب، ومع الفرمان القفطان وفيه الأمر له بأن يجهز نفسه ويسافر من أبي قير إلى الإسكندرية، ولا يأتي مصر بل ينتظر بالأسكندرية وصول العساكر المسافرين. فذهب إلى إسكندرية واستمر بها حتى وصلت العسكر وسافر معهم إلى إسلامبول. فلما وصل هناك استأذن في المقام بها إلى أن تسافر العسكر وتعود، فأُذن له، فأقام هناك إلى أن توفي في سنة إحدى وأربعين ومائة وألف.

ومات الأمير علي بك قاسم وهو ابن أخي قاسم بك الصغير ويلقب بالملفق، ولما مات قاسم بك بالبهنسا كما تقدم قلد محمد جركس عليًّا هذه الصنجقية عوضًا عن قاسم بك، ونزل في منصبه وأعطاه فايظه، ولم يزل أميرًا حتى خرج محمد بك جركس من مصر هاربًا، وخرج معه مَن خرج، واختفى المترجم فيمن اختفى ببيت امرأة دلالة في كوم الشيخ سلامة، ومات به، وزوجها أجير عند بعض التجار بخان الخليلي، فأخرجوه مثل بعض الطوائف، فبلغ الخبر سليمان أغا أبا دفية أغات مستحفظان، فهجم على بيت المرأة فلم يجدها ووجد زوجها فخوزقه على باب الكوم؛ لكونه كتم أمره، ولم يدل عليه.

ومات الأمير رجب كتخدا و سليمان الأقواسي، وذلك أنه لمَّا انقضى أمر جركس قلَّدوا رجب كتخدا سردار جداوي، وجعلوا الأقواسي يمق، وجهزا أمورهما وأحمالهما، وخرجا إلى البركة ليذهبا إلى السويس، فخرج إليهما صنجق من الأمراء وصحبته جاويش من الباب، فأتياهما آخر الليل وقتلاهما وقطعا رءوسهما، وضبطا ما وجداه من متاعهما، وسلماه لبيت المال بالباب.

ومات الأمير أحمد أفندي كاتب الروزنامه ابن محمد أفندي التذكرجي، خنقه محمد باشا النشنجي في واقعة جركس وظهور ذي الفقار بك، ولما خرج جركس من مصر هاربًا خرج معه إلى وردان وكان جسيمًا فانقطع مع بعض المنقطعين وأخذت ثيابهم العرب، وقبضوا على من قبضوا عليه وفيهم أحمد أفندي الروزنامجي، وأتوا بهم إلى مصطفى تابع رضوان أغا، وكان في الطرانة قايمقام فأخذهم وقتل منهم أناسًا، وأرسل رءوسهم، وأرسل أحمد أفندي بالحياة فحضروا به إلى بيت الدفتردار وهو راكب على ظهر حمار سوقي فأرسله، علي بك الهندي الدفتردار إلى ذي الفقار، فقال لعلي بك: «ركبني جوادًا وأخرج عني هذا الحديد من رجلي». فقال له علي بك: «لو رحمتمونا كنا رحمناكم» فلما أحضروه إلى ذي الفقار وهو على هذه الصورة لم يلتفت إليه ولم يخاطبه وأرسله إلى الباشا، فمثل بين يديه، وكان يوم ديوان، وذلك بعد الواقعة بخمسة أيام، فأرسله الباشا إلى كتخداه فبات عنده تلك الليلة، ثم أرسله إلى كتخدا مستخفظان، فحبسه بالقلعة وخنقوه تلك الليلة، وأنزلوه إلى بيته، فغسلوه وكفنوه ودفنوه.

وبيته هو بيت لاجين بك الذى هو بقرب الداودية تجاه جامع الحين، وبه السويقة المعروفة بسويقة لاجين، وهو بيت عبد الرحمن أغا مستحفظان، وهو آخر من سكنه، ورأيته مكتوبًا في وقف أحمد أفندي المذكور، وتولى بعده في كتابة الروزنامه عبد الله أفندي فحرر حساب الروزنامه فعجزت ثمانين كيسًا فضبطوا موجودات أحمد أفندي فبلغت أربعين كيسًا فقعد الباشا بالباقي، ولما انقضى أمر ذلك ومضى عليه نحو السنة حضرت جارية من جواري المترجم إلى ذي الفقار بك وشكت إليه من أخي، أحمد أفندي، وأنه أعطى لكل جارية من الجواري البيض والسود اسم جامكية ولم يعطِها شيئًا مع أنها من جواريه القديمة، وأخبرته أنها تعلم مخبأةً فيها مال سيدها وذخائره، فأرسلها ذو الفقار بك إلى كتخدا الباشا فأخبرته وعرف مخدومه، فقال له: خد كاتب الخزينة ونائب القاضي وشاهدان وانزلوا معها وانظروا ذلك وحروره، فنزلوا إلى بيت أحمد أفندي والجارية معهم فهرب أخوه وطلعوا إلى الحريم، فأدخلتهم الجارية إلى قاعة، ورفعت البساط والحصير، وأطلعتهم على بلاط المخبأة؛ فكشفوه فظهر طابق، وفتحوه وأوقدوا شمعة، وأخرجوا من تلك المخبأة أشياء كثيرة من مصاغ وذهبيات وفضيات ولؤلؤ وعنبر وعود وسروج وعبي مزركشة وبقج أقمشة هندية وأمتعة نفيسة وأواني صيني وبابا غوري، وعشرين كيسًا نقودًا. فضبطوا جميع ذلك وأمر الباشا ببيع الأعيان الموجودة، وأعطى الجارية مائة فندقلي واسمين جامكية، وأمر عبد الله أفندي الروزنامجي أن يجهزها ويزوجها، ففعل ذلك وزوجها لبعض أتباعه.

ومات محمد جربجي المرابي، وكان ذا مال عريض، وضبط موجوده ألفي كيس، ولم يعقب أولادًا إلا أولاد سيده، وزوجته بنت أستاذه، وأوصى لشخص يقال له عمر أغا بثلاثين كيسًا، ولآخر بألفي دينار، ولآخر بألف، ولكل مملوك من مماليكه ألف دينار، ولمجاوري الأزهر خمسمائة دينار. توفي في عشرين رمضان سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف.

ومات المعلم داود صاحب عيار، خنقه محمد باشا النشجي بعد خروج محمد بك جركس، فقبضوا عليه وحبسوه بالعرقانة وخنقوه، وهو الذي ينسب إليه الجدد الداودية. ففي سنة سبع وثلاثين وماية وألف ١٧٢٤م الماضية حضر من الديار الرومية أمين ضربخانة وصاحب عيار وصناع دار الضرب، وصحبتهم سكة الفندقلي والنصف فندقلي، وأن يكون عياره ثلاثة وعشرين قيراطًا، وصرف الفندقلي ماية وأربعة وثلاثون نصفًا، والنصف سبعة وستون، فأحضر الباشا المعلم داود، وطلب منه سكة الجنزرلي وأعطاه سكة الفندقلي، وختم على سكة الجنزرلي في كيس وأودعها في خزانة الديوان، وعندما سمع داود بهذه الأخبار قبل حضورهم إلى مصر تدارك أمره، وفرق على الباشا وكتخدا الباشا ومحمد بك جركس والمتكلمين عشرين ألف دينار. فلما قرا المرسوم بالديوان قالوا: سمعنا وأطعنا في أمر السكة، وأما صاحب عيار فإنه لا يتغير. فقال الباشا: «كذلك، لكن يكون الأغا ناظرًا على الضربخانة لأجل إجراء المرسوم» وتم الأمر على ذلك.

فلما عُزل الباشا اجتمع الموردون للذهب عند المعلم داود وكلموه في إخراج سكة الجنزرلي؛ لأنهم هابوا سكة الفندقلي، وامتنعوا من جلب الذهب وتعطل الشغل، فرشا قائمقام وأخرج له سكة الجنزرلي وسلمها لداود فأخذها إلى داره بالجيزة، وعمل له فرنًا للذهب وأحضر الصناع والذهب من التجار، وضرب في ستين يومًا وليلة تسعمائة وثمانين ألف جنزرلي، ونقص عياره قيراطًا، ودفع المصلحة، وسدد ما عليه من ثمن الذهب، وقضى ديونه وكشوفية دار الضرب، فصارت الصيارف تتوقف فيه ويقولون: «ضرب الجيزة يعجز خمسة أنصاف فضة»، فنقمها محمد باشا عَلى داود؛ فلما عاد إلى المنصب في واقعة جركس وذي الفقار قبض عليه وقتله، وذلك في أواخر جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف.

ومات الأمير أحمد بك الأعسر، وهو من مماليك إبراهيم بك أبي شنب القاسمي، تقلد الإمارة والصنجقية في عشرين شهر شوال سنة ثلاث وعشرين وماية وألف، وتلبس بعده مناصب مثل جرجا والبحيرة والدفتردارية وعزل عنها، وهو خشداش جركس وعضده، وخرج معه من مصر، ولما ذهب جركس إلى بلاد الإفرنج تخلف عنه وأقام عند العرب، ونزل عند ابن غازي بناحية درنة. فلما وصل الحاج المغربي أرسل معهم ثلاثة من مماليكه وأرسل معهم مكاتيب ومفاتيح إلى ولده، وذكر له أنه يتوجه إلى رجل سماه له، فلما وصلت السفينة التي نزلوا بها أعلم القبطان سردار مستحفظان، فقبض عليهم وأرسل بخبرهم إلى باب مستحفظان فأخبروا الباشا فأحضر والي الشرطة، وأمره بإحضار ابن أحمد بك الأعسر فأحضره فأمر بحبسه بالعرقانة فحبسوه وعاقبوه، فأقر بأن المال عند ابن درويش المزين، وهو كان مزين إبراهيم بك أبي شنب، فأرسلوا إليه وهجموا عليه ليلًا، وأخذوا كل ما في داره، ووجدوا عنده ثلاثة صناديق للأعسر، ثم نفوا بعد ذلك ابن أحمد بك إلى دمياط، ولم يزل أحمد بك ينتقل مرة عند عرب درنة، ومرة عند الهوارة بالصعيد، وكذلك باقي جماعة جركس وخشداشينه حتى رجع إليهم جركس، وخرجت إليهم التجاريد، وقُتل في الحرب سنة اثنتين وأربعين وماية وألف ١٧٢٩م في واقعة البهنسا، ودُفن عند قبور الشهداء.

ومات الأمير مصطفى بك الدمياطي، قلده الصنجقية ذو الفقار بك بعد هروب محمد بك جركس، وولاه جرجا، وكان يقال له: مصطفى الهندي. فلما نزل إلى جرجا وكان بها سليمان بك القاسمي عدى سليمان بك إلى البر الشرقي تجاهه، وصار كل يوم يعمل نشانًا ويضرب الجرة، فلم يتجاسر مصطفى بك على التعدية، وكان غالب أتباع مصطفى بك وطوايفه قاسمية من أتباع المقتولين فراسلهم سليمان بك وراسلوه سرًّا، ثم اتفقوا على قتل مصطفى بك فقتلوه وغدروه ليلًا، وأخذوا خزانته وما أمكنهم من متاعه، وعدوا إلى سليمان بك وانضموا إليه، فلما أصبح مماليكه وخاصته وجدوا سيدهم مقتولًا فغسلوه وكفنوه ودفنوه، وكتب كتخداه بذلك إلى ذي الفقار بك، فلما وصل إليه الجواب أرسل إليه بالحضور بمخلفاته ومماليكه المشتروات، ففعل ذلك، وقلد عوضه حسن كاشف من أتباعه الصنجقية وولاية جرجا، فأرسل قايمقامه، ثم جهز أموره ونزل إلى منصبه.

ومات حسن بك المذكور، وهو أنه لما نزل إلى جرجا، واستمر بها إلى أن رجع محمد بك جركس من غيبته، وسار إلى ناحية جرجا — كما تقدم — جَيَّش عليه حسن بك، وجمع إليه السدادرة، وحكام النواحي، وبرز لمحاربة جركس وحاربه، فوقعت عليه الهزيمة، واستولى جركس ومن معه على خيامه ووطاقه، وقتل المترجم في الحرب، وذلك في أوائل سنة أربعين ١٧٢٧م.

ومات سليمان بك القاسمي المذكور آنفًا، وذلك أنه لما رجع محمد بك جركس، وسار إلى ناحية القطيعة، ثم انتقل إلى جهة الغرب قبلي جرجا، فأرسل إلى المترجم يطلبه للحضور إليه بمن معه من القاسمية، فعدّى إليه بمن ذكر وصحبته قرا مصطفى أوده باشه، فقابلوه وارتحل معهم إلى بحري، فبرز إليهم حسن بك وقُتل كما ذكر، واستولى جركس على صيوانه ومطابخه وعازقه، وارتحل جركس ومن معه إلى بحري، وخرجت إليهم التجاريد وأميرها عثمان بك وعلي بك قطامش، فتلاقوا معهم بوادي البهنسا، ووقعت بينهم الحروب، وكان مع جركس طوايف الزيدية وخلافهم، وانجلت الحرب عن هزيمة المصريين، واستولى جركس ومن معه على خيامهم، ونزل جركس في وطاق عثمان بك، وسليمان بك المترجَم في وطاق علي بك، ورجع المنهزمون إلى مصر، وزحف جركس ومن معه إلى ناحية دهشور، وخرجت لهم التجريدة ونصبوا تجاههم، فأصبح سليمان بك وتهيأ للركوب والمحاربة، فمنعه جركس وقال له: «هذا اليوم ليس لنا فيه حظ». فقال له: «كيف أصبر على القعاد والراية البيضاء أمامي؟».

ثم ركب وهجم على التجريدة وقتل أُناسًا كثيرًا وشتتهم، وانحازوا خلف المتاريس وردوه بالمدافع، وبرزوا إليه مرتين وهزمهم، وفي الثالثة أصيب جواده برصاصة في فخذه، فسقط إلى الأرض، فتحلقت به طوائفه ومماليكه، وذهب بعض الخدم ليأتي إليه بمركوب آخر، وتابع الأخصام الرمي حتى تفرق مَنْ حوله، ولم يبقَ معه سوى مملوك وآخر من الطوايف، فأصيب هو والطايفة فوقعا، فهجم عليه سالم بن حبيب وأخذوهما إلى الصيوان، وقطعوا دماغهما، ودفنوهما عند الشيمي، فلما وقع لسليمان بك ما وقع ارتحل جركس وسار نحو الجبل.

وكان المترجَم صاحب خيرات وله مآثر بجرجا، وأنشأ بها زاوية، وعمل بها ميضأة وحنفية، وأنشأ ساقية وحوضًا لشرب الدواب، وهدم البوظة خارج البلد، وأبطل موقف الخواطي والمنكرات، غفر الله له.

ومات قرا مصطفى جاويش، وكان أوده باشه فلبَّسه جركس الضلمة في أيام رجب كتخدا مستحفظان سابقًا، ثم عمل كجك جاويش، ونزل يجمع عوايد الباب من الوجه القبلي فوقع بمصر ما وقع من حروب جركس وقتل رجب كتخدا والأقواسي، فالتجأ إلى سليمان بك المذكور، وعدى صحبته الشرق. فلما وقعت الحروب وقتل سليمان بك اجتمع إليه الطوائف القرَّابة، ونزل بهم المراكب، وساروا إلى قبلي فتبعه عثمان جاويش القازدغلي ليلًا ونهارًا حتى لحقه وهو راسي تحت أبي جرج، وكانت الأجناد الذين بصحبته طلعوا جهة الشرق قرابة أي مشاة من عدم القومانية أي الركايب فقبضوا على مصطفى جاويش المذكور ومعه ثلاثة من الغز، ونهب عثمان جاويش ما وجده في المراكب، وحضر إلى مصر فقطعوا رأس مصطفى جاويش المذكور ومن معه.

ومات الأمير ذو الفقار بك الفقاري، وهو مملوك عمر أغا من أتباع بلغيه، قُتل سيده المذكور بعد انقضاء الفتنة الكبيرة، ولما طلع الأمير إسماعيل بك إثر ذلك إلى باب العزب، وقتل حسن كتخدا برمق سر، وأمر بقتل عمر أغا المذكور فقتلوه عند باب القلعة، وأمر بقتل المترجم أيضًا، وكان إذ ذاك خازنداره فالتجأ إلى علي خازندار حسن كتخدا الجلفي، وكان من بلده فحماه وخاصم أستاذه من أجله، وخلص له نصف قمن العروس، وكانت لأستاذه فأخرج له تقسيطها، وأخذ النصف الثاني إسماعيل بك من المحلول، وتصرف في كامل البلد، ومات حسن الجلفي فانطوى المترجم إلى محمد بك جركس وترجاه في استخلاص فايظه من إسماعيل بك وكلمه بسببه مرارًا فلم ينجح، وكلما خاطبه في أمره قطب وجهه وقال له: «أما يكفيك أني تاركه حياء لأجل خاطرك؟ فإن أردت قبول شفاعتك فيه اطرد الصيفي من بيتك، وأرسل إليَّ بعد ذلك المذكور يحاسبني وأعطيه الذي له» فيسكت جركس.

وضاق الحال بالمترجم من القشل والإعدام فاستأذن جركس في غدر ابن إيواظ، فقال: افعل ما تريد، فوقف له مع نظرايه بالرميلة، وضربوا عليه بالرصاص فلم يصيبوه، ووقع بسبب ذلك ما وقع لجركس، وأُخرج من مصر، ونُفي إلى قبرص كما تقدم، وتغيب المترجم فلم يظهر حتى رجع جركس، وظهر أمره ثانيًا، وعاد إلى طلب فايظه والإلحاح على جركس بذلك، وهو يسوفه ويعده ويمنيه ويعتذر له إلى أن ضاق خناقه، وعاد إلى حالة الغدر الأولى، وفعل ما تقدم من المخاطرة بنفسه وقتله لابن إيواظ بمجلس كتخدا الباشا، وكان إذ ذاك من آحاد الأجناد، ولم يتقدم له إمارة ولا منصب، فعندها قلدوه الصنجقية وكشوفية المنوفية، وأخذ من فايظ إسماعيل بك عشرين كيسًا، وانضم إليه الكثير من فرقة الفقارية، وحقد عليه القاسمية.

وحضر رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية عند جركس، وتذاكروا أمر ذي الفقار، وأنهم نظروه وهو خارج بالموكب إلى كشوفية المنوفية ومعه عصبة الفقارية وأمراوهم راكبين في موكبه مثل مصطفى بك بلغيه ومحمد بك أمير الحاج وإسماعيل بك الدالي وقيطاس بك الأعور وإسماعيل بك ابن سيده ومصطفى بك قزلار … وغيرهم، وقالا له: «إن غفلنا عن هذا الحال قتلنا الفقارية» فحركا فيه حَمّية الجاهلية، وقتل أصلان وقبلان بيد الصيفي، وطلب من محمد باشا فرمانًا بالتجريد على ذي الفقار، فامتنع الباشا من ذلك، وقال: «رجل خاطر بنفسه وفعل ما فعله باطلاعكم فكيف أعطيكم فرمانًا بقتله؟».

فتحامل جركس على الباشا وعزله، وقلد محمد بك ابن أستاذه قايمقام، وأخذ منه فرمانًا، وجهز التجريدة إلى ذي الفقار، وكتب بذلك مصطفى بك بلغيه إلى ذي الفقار يخبره بما حصل ويأمره بالاختفاء، ففعل ذلك، وحضر إلى مصر، واختفى عنه أحمد أوده باشه المطرباز أيامًا، وعند علي بك الهندي زيادة عن شهرين، وحصل له ما تقدم ذكره من حضور علي باشا والقبطان وقيام الإيواظية والفقارية وظهور ذي الفقار، ووقوع الحرب بينهم وبين محمد بك جركس، وخروجه من مصر وذهابه إلى بلاد الإفرنج، ورجوعه وتجهيز ذي الفقار بك التجاريد إليه وهزمها وزحفه على مصر، وقد كان أوقع بالإيواظية في غيبة جركس ما أوقعه من القتل والتشريد ما ذكرناه.

فلما قرب جركس من أرض مصر راسل القاسمية سرًّا، ومنهم سليمان أغا أبو دفية، وهم إذ ذاك خاملون ومتغيبون ومختفون، وذو الفقار بك يفحص عنهم ويأمر الوالي والأغا والأوده باشه البوابة بالتجسس والتفتيش على كل من كان من القاسمية، وخصوصًا يعسوبهم سليمان أغا المذكور، وقرب ركاب جركس من مصر بعدما كسر التجاريد وعدى إلى جهة الشرق، واشتد الكرب بذي الفقار، واجتهد في تحصين المدينة، وأجلس أُمَرَاه وصناجقه على الأبواب وفي النواحي والجهات، ولازم أرباب الدرك والمقادم الطواف والحرس وخصوصًا بالليل، وفتايل البندق مشعلة بالنار في الأزقة والشوارع، والقاسمية منتظرون الفرصة والوثوب من داخل البلدة. فلما راسل جركس سليمان أغا أبا دفية في الوثوب وإعمال الحيلة على قتل ذي الفقار بك بأي وجه أمكن، فتوافقوا فيما بينهم على وقت معين، واجتمع أبو دفية وخليل أغا تابع محمد بك قطامش، وجمعوا إليهم ثلاثين أوده باشه من القاسمية، وأعطاهم ألفًا ومائتي جنزرلي، وأن يضم كل واحد منهم إليه عشرة أنفار، ويقفوا متفرقين جهة باب الخرق وجامع الحين وقت آذان العشاء.

وجمع إليه خليل أغا نحو سبعين نفرًا من القاسمية ولبسوا كملابس أتباع أوده باشه البوابة، ومن داخل ثيابهم الأسلحة وبأيديهم النبابيت، ولبس خليل أغا هيئة الأوده باشه وزيه، وكان شبيهًا به في الصورة، وأخذوا معهم سليمان أغا أبا دفية وهو مغطى الرأس وبيده القرابينة، ودخلوا إلى بيت ذي الفقار بك في كبكبة، وهو يقولون قبضنا على أبي دفية، وكان المترجم جالسًا بالمقعد ومعه الحاج قاسم الشرايبي وآخرون، وهو مشمر ذراعيه يريد الوضوء لصلاة العشاء. فلما وقفوا بين يديه وقف على أقدامه وقال: «أين هو؟» فقال خليل أغا: «ها هو» وكشفوا رأسه، فأراد أن يكلمه ويوبخه، فأطلق أبو دفية القرابينة في بطن الصنجق، وأطلق باقي الجماعة ما معهم من الطبنجات، فانعقدت الدخنة بالمقعد، فنط قاسم الشرايبي ومن معه من المقعد إلى الحوش، ونزلوا على الفور فوجدوا سراجه المسمى بالشتوي فقتلوه في سلالم المقعد، وعلي بك المعروف بالوزير قتلوه أيضًا وهو داخل يظنوه مصطفى بك بلغيه، وإذا بعلي الخازندار يقول بأعلى صوته: «الصنجق طيب، هاتوا السلاح» وسمعه الجماعة. فكانت هذه الكلمة سببًا لظهور الفقارية وانقراض القاسمية إلى آخر الدهر، ولم يقُم لهم بعدها قائم أبدًا. فإنهم لما سمعوا قول الخازندار ذلك اعتقدوا صحته، وتحققوا فساد طبختهم، وخرجوا على وجوههم، وتفرق جمعهم، فذهب أبو دفية ويوسف بك الشرايبي وخليل أغا، فاختفوا بمكان يوسف بك زوج هانم بنت إيواظ الذي هو مختفٍ فيه، وأربعة من أعيانهم اختفوا في دار عند مطبخ الأزهر.

وأما الجماعة المجتمعون بباب الخرق في انتظار أذان العشاء فما يشعرون إلا بالكَرشة في الناس، فتفرقوا واختفوا، فلو قدَّر الله أنه اجتمع الواصلون والمجتمعون بباب الخرق وهم مُحرِمون في صلاة التراويح لتم غرضهم وظهر شأن القاسمية، ولكن لم يرد الله بذلك.

ثم إن علي الخازندار أرسل إلى مصطفى بك بلغيه فحضر إليه بجمعه، وإذا برجل سراج من العصبة المتقدمة حضر إليهم وعرفهم بصورة الواقع؛ ليأخذ بذلك وجاهة عندهم، فحبسوه إلى طلوع النهار، فحضر عثمان جاويش القازدغلي ويوسف كتخدا البركاوي وعلي كتخدا الجلفي ومحمد بك قطامش وخليل أفندي جراكسة، فقرروا علي الخازندار، فقال علي الخازندار لمحمد بك قطامش: «دم الصنجق عندك، فإن القاتل لأستاذنا مملوكك خليل أغا» فقال: «أنا طارده من يوم عزل من أغاوية العزب ووقت ما تجدوه اقتلوه» ثم أحضروا ذلك السراج بين أيديهم، وسأله عثمان جاويش فعرفه أنه ينكجري، فأرسلوه إلى البواب ليقرروه على أسماء المجتمعين، ثم غسلوا الصنجق وكفنوه، وصلوا عليه في مصلى المؤمنين، ودفنوه بالقرافة، وطلعوا إلى القلعة وقلدوه الصنجقية، وقلدوا أيضًا صالح كاشف تابع محمد بك قطامش، وعزلوا محمد بك من إمارة الحج باستعفائه لعدم قدرته.

وأرسلوا إلى خشداشة عثمان بك فحضر من التجريدة، وسكن ببيت أستاذه، وسكن علي بك في بيت محمد أغا تابع إسماعيل باشا في الشيخ الظلام، وتزوج بزوجة سيده بعد ذلك، وقطعوا فرمانًا في اليوم الذي تقلد فيه علي بك الصنجقية بقتل القاسمية، ومات محمد بك جركس بعد موت ذي الفقار كما ذُكر، وحضر برأسه علي بك قطامش وذلك بعد موت ذي الفقار بك بخمسة أيام، وانقضت دولة القاسمية، وتتبعهم الفقارية بالقتل حتى أفنوهم.

وكان موت ذي الفقار وجركس في أواخر شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وكان الأمير ذو الفقار بك أميرًا جليلًا شجاعًا بطلًا مهيبًا كريم الأخلاق مع قلة إيراده، وعدم ظلمه، وكان يرسل اليلكات والكساوي في شهر رمضان لجميع الأمراء والأعيان والوجاقات، ويرسل لأهل العلم بالأزهر ستين كسوة ودراهم تُفرق على الفقراء المجاورين بالأزهر، ومن إنشائه الجنينة والحوض ببركة الحاج والوكالة التي برأس الجودرية ولم يتمها.

ومات الأمير يوسف بك زوج هانم بنت إيواظ بك، وتزوج بها بعد موت عبد الله بك، وأوصل يوسف بك من مماليك إيواظ بك، وقلده الإمارة والصنجقية إسماعيل بك، وعُرف بالخاين؛ لأنه لما هرب عنده رضوان بك خازندار جركس أخبر عنه وخفر ذمة نفسه وسلمه إليهم فقتلوه، فسماه أهل مصر الخاين، ولما حصل ما تقدم ذكره من قصة اجتماعهم وحديثهم في حال نشوتهم بمنزل علي بك الأرمني، ونقل عنهم المملوك مجلسهم إلى علي بك الهندي، وأرسله علي بك إلى الأمير ذي الفقار والباشا فنقل لهما ذلك، وقتل الباشا علي بك الأرمني ومصطفى بك ابن إيواظ، فاختفى المترجم وباقي الجماعة، ولم يزل في اختفائه إلى أن حضر رجل عطار إلى أغات مستحفظان وأخبره عن رجل من الفقهاء يأتي إلى الجزار بجواره ويأخذ منه كل يوم زيادة عن عشرة أرطال من اللحم الضاني، وكان من عادته ألا يأخذ سوى رطلين ونصف في يومين، ولا بد لذلك من سبب بأن يكون عنده أناس من المطلوبين، فركب الأغا والوالي إلى ذلك البيت فوجدوا به امرأتين عجوزتين وعندهم حلل وقصاع ومعالق، وليس بالبيت فراش ولا متاع، فطلعوا إلى أعلى المكان ونزلوا أسفله فلم يجدوا شيئًا، فنزل الأغا وهو يشتم العطار وأراد ضربه، وإذا بشخص من الأجناد أراد أن يزيل ضرورة في ناحية فلاح له رأس إنسان في مكان متسفل مظلم، فلما رأى ذلك الجندي فخبأ رأسه وانزوى إلى داخل، فأخبر الأغا فأوقدوا الطلق، وإذا بشخص صاعد من المحل وبيده سيف مسلول وهو يقول «طريق» فتكاثروا عليه وقتلوه، ونزلوا بالطلق إلى أسفل فوجدوا يوسف بك المترجم ومعه شخصان، فقبضوا عليهم، وأنعم الأغا على العطار، وأخذهم إلى الباشا فأرسلهم إلى عثمان بك ذي الفقار، فضربوا رقابهم تحت المقعد.

ومات كل من الأمير محمد بك جركس الصغير وأخي محمد بك الكبير، وذلك أنه لما انقضى أمر محمد بك جركس الكبير اختفى المذكوران، ودخلا إلى مصر متنكرين، واختفيا في بيت رجل من أتباعهما بخطة القبر الطويل ومعهما مملوكان، فأخلى لهم البيت وباع الخيل وشال العدد، وأتى إلى أغات الينكجرية فأخبره، فأرسل الأغا والوالي والأوده باشه وحضروا إليهم، فرموا عليهم بالرصاص من الجانبين، وكامنوهم إلى الليل، وحضر علي بك ومصطفى بك بلغيه، فنقب عليهم مصطفى بك من بيت إلى بيت حتى وصل إليهم، وأوقد نارًا من أسفل المكان الذي هم فيه، فأحسوا بذلك، ففر أحد المملوكين وهرب، وقُتل الثاني برصاصة، وقبضوا على الاثنين وقتلوهما ودفنوهما.

ومات الأمير خليل أغا تابع محمد بك قطامش أغات العزب سابقًا، وهو الذي انتدب للعمل المتصف المتقدم ذكره، وتزيا بزي أوده باشه البوابة، ودخل إلى بيت الأمير ذي الفقار وقت أذان العشاء ومعه سليمان أبو دفية، وقتلوا ذا الفقار بك كما تقدم، ثم كانت الدائرة عليهم، واختفوا، ثم وقعوا بخازنداره بالخليج فقبضوا عليه وسجنوه وقرروه، فأقر على سيده وغيره، فقبضوا على خليل أغا من المكان الذي كان مختفيًا فيه، وكان بصحبته يوسف بك الشرايبي وسليمان أغا أبو دفية، ففي ذلك الوقت قال أبو دفية: «قوموا بنا من هذا المكان فإن قلبي يختلج» فقال يوسف الشرايبي: «وأنا كذلك!!» فتقنعا وخرجا، واستمر خليل أغا في محله حتى وصلوا إليه في ذلك اليوم، وقتل كما ذكر، وأخذه الأغا إلى بيت علي بك ذي الفقار، فأرسله إلى الباشا، وأرسله الباشا إلى عثمان بك، فرمى دماغه تحت المقعد، وكذلك عثمان أغا الرزاز وغيره.

وأما أبو دفية فإنه لما تقنع هو ويوسف الشرايبي وخرجا، فركب كل واحد منهما حمارًا وتفرقا، فذهب أبو دفية إلى بيت مقدمه ولبس زي بعض القواسة، وركب فرسه، ووضع له أوراقًا في عمامته، وخرج في وقت الفجر إلى جهة الشرقية، وذهب مع القافلة إلى غزة، ثم إلى الشام وسافر منها إلى إسلامبول، وخرج في السفر وذهب إلى عند التترخان فأعطاه منصبًا وعمله مرزة، وتزوج بقونية، ولم يزل هناك حتى مات، وأما يوسف بك الشرايبي فذهب إلى دار بالأزبكية، وخفي أمره، ومات بعد مدة ولم يعلم له خبر.

ومات عبد الغفار أغا ابن حسن أفندي، وقد تقدم أنه تقلد في أيام ابن إيواظ أغاوية المتفرقة بموجب مرسوم ورد من الدولة بذلك، وسببه: أن حسن أفندي والده كان له يد وشهرة في رجال الدولة، وكان مَن يأتي منهم إلى مصر يترددون إليه في منزله ويهادونه ويهاديهم، فاتفق أنه أهدى إلى السلطنة عبدًا طواشيًّا فترقى هناك، وأرسل إلى ابن سيده مرسومًا بأغاوية المتفرقة، وذلك في سنة خمس وثلاثين وماية وألف بعد موت والده، وألبسه الباشا قفطانًا بذلك، وعُدَّ ذلك من النوادر التي لم يسبق نظيرها، ووقع بذلك فتنة في البلكات تقدم الإلماع بذكر بعضها، والتجأ المترجم إلى ابن إيواظ وهرب من الباب.

ولحديث قتله نبأ غريب؛ وذلك أنه في أثناء تتبع القاسمية وقتلهم ورد مكتوب من كتخدا الوزير إلى عبد الله باشا الكبورلي بالوصية على عبد الغفار أغا، فقال الباشا لكتخدا الجاويشية: «عندكم إنسان يُسمى عبد الغفار أغا؟» قال له: «نعم، كان أغات متفرقة، ثم عمل أغات عزب وعُزل» فقال: «أرسل إليه بالحضور» فخرج كتخدا الجاويشية وأخبر محمد بك قطامش الدفتردار، فقال: «أرسل إليه واطلبه للحضور» وطلب الوالي فقال له: «إذا انقضى أمر الديوان فانزل إلى باب العزب واجلس هناك، وانتظر عبد الغفار أغا وهو نازل من عند الباشا، فاركب وسر خلفه حتى يدخل إلى بيته، فاعبر عليه واقطع رأسه» فلما أحضر المترجم صحبة الجاويش، ودخل إلى الباشا وصحبته كتخدا الجاويشية، وعرف الباشا عنه وتركه وخرج، وانقضى الديوان، وحضر الغداء فأشار إلى عبد الغفار أغا فجلس، وأكل صحبته وحادثه الباشا، فقال له: «أنت لك صاحب في الدولة؟» قال: «نعم، كان لأبي صديق من أغوات عابدي باشا، وكان شهر حوالة، وبلغني أنه الآن كتخدا الوزير، وكان اشترى جارية ووضعها عندنا في مكان، فكان ينزل ويبيت عندنا، ولما عزل عابدي باشا أخذها وسافر. فهو إلى الآن يودنا ويراسلنا بالسلام». فقال له الباشا: «إنه أرسل يوصينا عليك، فانظر ما تريد من الحوائج أو المناصب» فقال: «لا أريد شيئًا ويكفيني نظركم ودعاؤكم» وأخذ خاطر الباشا ونزل إلى داره.

فلما مرَّ بباب العزب ركب الوالي ومشى في إثره، ولم يزل سائرًا خلفه حتى دخل إلى البيت، ونزل من على الحصان بسلم الركوبة، وكان بيته بالناصرية، فعند ذلك قبضوا عليه، وأخذوا عمامته وفروته وثيابه، وسحبوه إلى باب الإسطبل فقطعوا رأسه وأخذها الوالي مع الحصان، وأتى بهما إلى بيت محمد بك قطامش، فصرخت والدته وزوجته وجواريه، وتقنعن وطلعن إلى القلعة صارخات، فقال الباشا: «ما خبر هذا الحريم؟» فسألوهن، فقالت والدته: «حيث إن الباشا أراد قتله كان يفعل به ذلك بعيدًا عنا» فتعجب الباشا وقام من مجلسه وخرج إلى ديوان قايتباي واستخبرهن، فأخبرته بما حصل، فاغتم غمًّا شديدًا، وطلب الوالي وأمر برجوع الحوائج والرأس، وأعطاهن كفنًا ودراهم، وأعطى والدته فرمانًا بكامل ما كان تحت تصرفه من غير حلوان، ونزلت الأغوات والنساء فأخذوا الرأس والثياب، وغسَّلوه وكفَّنوه وصلوا عليه ودفنوه.

ولما طلع محمد بك قطامش إلى الديوان قال له الباشا: «تقتلون الأغوات في بيوتها مِن غير فرمان؟» فقال: «لم نقتله إلا بفرمان، فإنه كان من جملة الثلثمائة المتعصبين على قتل أخينا ذي الفقار بك» وعزل الباشا الوالي وقلد خلافه في الزعامة.

وكان المترجم آخر من قُتل من القاسمية المعروفين رحمه الله وكان عند المترجم سبعة مماليك من مماليك محمد بك ابن أبي شنب فبلغ خبرهم محمد بك قطامش، فأرسل مَن أخذهم من عنده قبل كائنته بنحو ثمانية أيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤