قافية القاف

وقال:

أما والذي قد زيَّن المرءَ بالنطقِ
لقد قلَّ مَن في الناسِ ينطق بالحقِ
فما أشرفَ الإنسانَ إن كان صادقًا!
فلا شرفٌ يعلو على شرف الصدقِ
لسانُ الفتى في فيهِ أصغرُهُ فإن
وفى حقَّه أضحى بهِ أكبرَ الخلقِ
وما الكبرُ في هزِّ الخصور تبخترًا
بل الكبرُ في هزِّ اليراع على الرَّقِ
فَذَلَّ دنيٌّ بالتكبُّر يرتقي
وعَزَّ شريفٌ بالتواضع قد رُقي
وليتَ دخانَ الأرض لم يصعَدِ العلا
ولم يهبطِ الجريالُ طوعًا إلى العمقِ
يُصغِّرُ قدرَ المرءِ تعظيمُ نفسهِ
فذا خُلُقٌ يأَباهُ كلُّ أخي حذقِ
ألم ترَ أنَّ البدرَ يصغرُ كلَّما
ترقَّى العلا وهو الكبيرُ على الأُفقِ!
فعالُ الفتى تعلو بهِ أو تحطُّهُ
فكم بينَ فعل الخيرِ والشرِّ من فرقِ
إذا لم يبنْ فضلٌ فلم يشدُ مادحٌ
وهل لعلعت يومًا رعودٌ بلا برق؟
وكلُّ أخي فضلٍ يجودُ بفضلهِ
بلا طلبٍ فالسحبُ من طبعها تسقي

حوادث

ما لاح برقُ الغور في الآفاق
إلَّا وهام القلبُ بالأشواقِ
والورقُ ما صدحت على أفنانها
إلَّا وسالَ دمي من الآماق
أبكي على زمنٍ نعمتُ بهِ فقد
ولَّى وجرَّعني أمرَّ فراقِ
ومن المحالِ دوامُ حالٍ للفتى
فاليومَ بينٌ والغداةَ تلاقِ
بَعُدَ الحبيبُ فلا رقادٌ بعدَهُ
إنَّ السهادَ دَلالةُ العشَّاقِ
بالله يا ذاتَ الدلالِ إلى متى
هذا النوى! عطفًا على المشتاقِ
تركتني البرحاءُ بعدَكِ رافلًا
بجنونِ «قيس» وحرقةِ «البرَّاقِ»
لم يطفِ ما في القلبِ من حرَقٍ سوى
رشفِ اللمى وتوسُّدٍ وعناقِ
وبغير وصلك لا تطيبُ جوارحي
والوصلُ للعشاقِ كالدرياقِ
لكِ طلعةٌ تُسبي النهى وتبسُّمٌ
يزري وميضَ البارقِ الأَلَّاقِ
فبنور وجهكِ قد هُديتُ إلى الهوى
وبنار خدِّكِ رحتُ في إحراقِ
ولقد سكرتُ بمقلتيكِ وطالما
كان الهوى خمرًا وطرفُكِ ساقي
فإذا نظرتِ إليَّ همتُ صبابةً
والحبُّ مصدرُهُ من الأحداقِ
وإذا انثنيتِ تمزَّقت كبدي فمن
خطِّيِّ ذاكَ القدِّ أين الواقي؟
قد بعتُ في سوقِ الهوى عقلي وما
عاينتُ عقلًا بيعَ في الأسواقِ
ولقد مددتُ يدي إليكِ بذلةٍ
أرجو النوالَ، ولستُ ذا إملاقِ
فتعطَّفي يا نورَ عيني واذكري
عهدَ الولاءِ وذمةَ الميثاقِ

وقال ملغزًا بثلاثة ألغاز:

قالت وقد أطلتُ قبض يدها:
خلِّ يدًا أبكيتها كالحَدَقِ
فقلتُ: ما هذي يدٌ بل زنبقٌ
وها أنا أشقُّ عطر الزنبقِ
قالت: دعِ الهزوَ فإن رقَّيتهُ
أغفلتني، قلتُ: إذن لم تعشقي
فإن للمعشوقِ عينًا طُبقت
وكلَّ عينِ عاشقٍ لم تُطَبقِ

وقال:

قصِّرْ نواك فقد أودى البراحُ بنا
واسعفْ معاشرَ كادَ الشوقُ يمحَقهُم
أنزلت صاعقةَ البينِ الملمِّ بهم
كمثل آنيةِ الفخار تسحقهم

وقال موشحًا:

أيها الظبيُ المفدَّى
أنتَ للبدر شقيقْ
لك عيسُ الحبِّ تُحدَى
وعلى قلبي الطريق

دور

خدُّك القاني أراني
ماء وردٍ في لهيبْ
ومُحيَّاكَ سباني
بسنا الحسن العجيبْ
أنتَ ما بين الحسانِ
بدرُ تمٍ لا يغيبْ
وغزالٌ راحَ عمدًا
لدم الأُسْدِ يريق
ثغرك الباسمُ أبدى
لؤلؤًا بين عقيق

دور

بالذي أنشا قوامك
فتنةً بينَ الأراك
زُرْ أخا الشوقِ غلامك
لا تَخَفْ عينًا تراك
حمل الصبح أمامك
وحمى الليلُ وراك
وغدا العنبرُ عبدًا
لك، والمسكُ رفيق
والمُعَنَّى لك مدَّا
يَدَ ميثاقٍ وثيق

دور

ليِّنَ الأعطاف رفقا
لمتى عنِّي تميلْ؟
أتلف الأحشاء رشقا
طرفك الرامي الكحيلْ
وسبى القلبَ وأشقى
ناعمُ الخدِّ الأسيلْ
فجرى دمعي وجدا
من لظى العشق المحيقْ
مَن لِصَبٍّ قد تصدَّى
لغريقٍ وحريق؟

دور

لستُ لا واللهِ أسلو
عن هوًى فيَّ استقر
فالهوى يندو ويحلو
كُلَّما جفَّ ومر
ورخيصُ السعر يغلو
فيهِ والغالي استمر
بئس من لم يهوَ قدًّا
لَدِنَ العطفِ رشيق
فهو غاوٍ ليس يُهدَى
ونَئومٌ لا يُفيق

غواية الدعوى

قليلٌ بذا الدهرِ الكلامُ المحقَّقُ
ومذ كثر الكذَّابُ قلَّ المُصَدِّقُ
يقولُ: أردُّ الأُسْدَ، من يدَّعى القوى
ولكن إذا ما شاهدَ الغابَ يخفقُ
وكم من كليلٍ يدَّعى خوضَ أبحُرٍ!
وإن خاضَ في ماءِ الجداول يغرقُ
وفي السِّلْم سيف الجبنِ قولٌ وفي الوغى
فرارٌ وعندَ الخبرِ كلٌ يُحَقَّقُ
ومن لا يسدُّ الأذنَ عمَّا يقولهُ
أخو حمقٍ فَدْمٌ فذلك أحمقُ
أرى الجهلَ داء يقبلُ الزودَ كُلَّما
يُداوَى، فإنَّ التركَ أحرى وأليقُ
إذا كان داءٌ لستَ تدري دواءهُ
فَدَعْهُ لتدبير الطبيعةِ أوفقُ
بذا الدَّهرِ سوقُ الفضلِ والعقل كاسدٌ
ولكنَّ سوقَ اللؤمِ والجهلِ ينفقُ
وما لجميع الناسِ بالعقل أسوةٌ
لكلِّ امرئِ فصلٌ عن الغير يَفرُقُ
فهل ميَّزَ الحيوانَ إلَّا فصولهُ؟
فذا نابحٌ يعوي، وذلك ينطقُ
وذو العقل لم يحكم على الشيءِ قبل ما
يُردِّدُهُ في ذهنهِ ويُدَقِّقُ
وغمرٍ رأى بي مذ صفوتُ صفاتهِ
ولو كان يدري ما رأَى راح يصفقُ
قويٌّ ولكن تحتَ سقف جدارهِ
شُجاعٌ، ولكن بالحقيقةِ يُرهَقُ
وليس يليقُ الكرُّ في الحرب للنسا
ولا بالرجال المكثُ في الخدرِ يَلْبَقُ
دعوهُ فقد أغواهُ فرطُ ادِّعائهِ
وبابُ الهُدَى دونَ الغوايةِ يُغلَقُ
أيدرِكُ ما فرقُ الصوابِ عن الخطا
ولم يدرِ شمسَ الأفقِ من أين تُشرقُ؟
وشنَّ عليَّ غارةَ الذمِّ والهجا
فقابلهُ من فضل حلمي فيلقُ
أنا ذلك السيفُ الصقيل فرندُهُ
وما هوَ إلا عندَ ذي الخبر برجقُ
كليلٌ يجاريني، وإني لاعبُ
ضعيفٌ يقاويني وإنيَ أرفقُ
وهل يفعلُ المحتاجُ فعل أخي الغنى
ولا سعةٌ في العيش والرزقُ ضيِّقُ؟
ومن لا يردُّ النفسَ عن شهواتها
فذاك بأَغلال القبائح يوثقُ
عجبتُ لذي ذلٍ يحاولُ عِزَّةً
وهل بذليلٍ نعمةُ العِّزِّ تلحقُ
أتى يدَّعي سبقَ الجيادِ ورجلُهُ
بها قزلٌ، تبَّا لهُ! كيف يصدقُ؟
وما هزَّهُ للقولِ غيرُ تكبُّرٍ
دليلُ الفتى: خلقٌ وفعلٌ ومنطقُ
وإني أرى العلياء يصعبُ نيلُها
على كلِّ مَنْ بالكبريا يتخلَّقُ
يُري الناسَ طبعًا ذا صفًا وسلامةٍ
وباطنهُ فيهِ الردى متعتِّقُ
وقد يلبسُ الأعداء ثوبَ أَصادقٍ
وهيهات من أين الصديقُ المحقَّقُ؟
وها اليومَ هذا الخلُّ جاء مبرقعًا
بحبٍّ ولكن بالشتيمةِ يَرشقُ
أحبَّ فتاةً غادرتهُ مشتتًا
وأبقت حشاهُ بالهوى يتعلَّقُ
بغرَّةَ أضحى ملغزًا لي وعزَّةٍ
فتلك انتفت عنهُ، وذي فيهِ تلصقُ
وألغزتُ في «سعدى» فصادف قشعرِ
ففألٌ، فمنهُ أقشعرُّ وأزهقُ
ومن يفقدِ الحسَّ استوى الكلُّ عندهُ
فلا البردُ يضنيهِ، ولا الحرُّ يُحرقُ
بروحي جميلُ الخُلقِ والخلقِ أهيف
بطلعتهِ يزري البدورَ فتمحقُ
غزالٌ غزا القلبَ الشجيَّ بمقلةٍ
على الدَّعجِ الفتَّانِ والدَلِّ تُطبقُ
يصونُ عن الأقمار والشمس حسنهُ
ومن صانَ حرصًا مالهُ ليس يُسرَقُ
لهُ وجنةٌ حمراء عن شفقٍ بدت
بها قد سبى قلبي فيا ليتَ يشفقُ
على خدِّهِ قد لاحَ خالٌ كعنبرٍ
بدا في رياضِ الوردِ والآس يعبقُ
قد اختلستْ مني الرقادَ جفونُهُ
فنمنَ، وباتت مقلتي تتأَرَّقُ
أحاولُ إخفاء الغرام وطالما
أباحَ بهِ الدمعُ السخينُ المرقرقُ
فيا زمرةَ العشَّاقِ لستُ بمعلنٍ
لكم ذلك الظبيَ الذي أتعشَّقُ

وقال:

نزِّه لحاظَكَ في حدائقَ بالسما
سَحَرًا، وسبِّحْ حكمةَ الخلاقِ
فالأفقُ روضٌ والمجرَّةُ جدولٌ
والبدرُ كاسٌ والثريَّا السَّاقي

وقال:

عشقتُ ظبيًا يحاكي خدُّهُ الشفقا
مهفهفًا رام تعذيبي وما شفقا
مذ حلَّ قلبي هواهُ والهوى قَدَرٌ
جعلتُ أرجو إلى مرضاتهِ طرقا
الرشدُ فارقَ عقلي في محبتهِ
وطارقُ السهد بالأجفانِ قد طرقا
نفقتُ في حبِّهِ روحي ومصطبري
ترى أيُعطي وصولًا لي بما نُفقا؟
أرخى اللثامَ ضحوكًا وانثنى فبدا
بدرٌ تبسَّمَ نورًا فوق غصن نقا
إنَّ الظباء خجلنَ عندَ لفتتهِ
والبدرُ عند اسفرار الوجهِ قد مُحقا
يا مَنْ أراقَ دمي هجرًا وغادرني
سهرانَ عُدْ مدنفًا لولاك ما أَرقا
يا طالما باتتِ الآماقُ سائلةً
سيلَ العقيقِ وبات القلبُ محترقا
هجرتُ نومي وواصلتُ السهادَ دجىً
والصبُّ من شأنهِ لا يهجعَ الغَسَقا
لم يبقَ لي في الهوى جلدٌ ولا جَلَدٌ
وفُلْكُ صبري ببحرِ الدمع قد غرقا

وقال:

نامت عيونُ النجوم في الأُفقِ
ومقلتي لم تزل على أَرَقِ
قدَّمتُ في هيكل الهوى كبدي
ضحيَّةً للخدودِ والحدَقِ
حبُّ الدُّمى قد أعادَ فوديَ في
شيبٍ وأبقى الفؤَادَ في حرقٍ
أفدي بروحي مليحةً خُلقَتْ
من اللطافاتِ لا من العلقِ
لمياء، فتانةُ العيونِ لها
خدٌّ بدت فيهِ حمرةُ الشفقِ
تهتزُّ كالسمهريِّ قامتُها
فلم تدعْ للمحبِّ من رمقِ
أبدت من الفرع غرَّةً فبدت
زجاجةُ الصبح في يدِ الغسقِ
قبلتها فانجلى بوجنتها
وردُ الحيا تحت لؤلؤِ العرقِ
تغزُّلي راقَ للحزوم بها
لكنَّما للحسودِ لم يرُقِ
في حبِّها قد عشقتُ شيبيَ مذ
حاكى بياضًا بذلك العُنُقِ
وما هويتُ البياضَ في عنقٍ
لو لم يكن مثلَ قلبِ «هندَ» نقي

وقال إلى أحد أصدقائهِ تاريخًا لمولودٍ لهُ:

زال عنكم ليلُ الأسى وتبدَّى
سَحَرُ الأنسِ، فأبشروا بالشروقِ
بهلالٍ ولدتموهُ أصيلًا
ينجلي بالسعودِ والتوفيقِ
فأخبروا يا مؤَرخون أباهُ
فَرَجُ اللهِ قد أتى بعدَ ضيقِ
سنة ١٨٥٩

الفراقُ

هوًى مذ تمَّ أورثني المحاقا
وشوقٌ حلَّ من صبري الوثاقا
وقلبٌ في شراكِ الحبِّ أضحى
يضجُّ جوًى ولا يرجو انطلاقا
هُوَ الحبُّ الظلومُ وكلُّ نفسٍ
تقاسي في جَهَنمهِ احتراقا
فأنَّى ملتُ شمتُ هوًى وشوقًا
كأن عليَّ من عشقٍ نطاقا
ألفتُ ضنًى، وألفيتُ التصابي
وصارعتُ الأسى عَضُدًا وساقا
وكيف يطيبُ لي في الحيِّ عيشٌ
إذا كان الحبيبُ بغى افتراقا؟
أحبائي، أراقَ دمي نواكم
فهل يدري لأيِّ دمٍ أراقا؟
ضرمتم في الحشا نارَ الأثافي
فيا ويلاهُ! كم أُصلي اشتياقا!
أطيلوا باللقا بلوى حسودي
إطالتكم ضنا قلبي فرَاقا
وليلٍ بتُّ فيهِ وفرطُ شوقي
يُعاطي مُهجتي كاسًا دهاقا
أُردِّدُ ذكرَ من أضحى وأمسى
هواها لي اصطباحًا واغتباقا
أَشمسَ الحسنِ، إنيَ بدرُ حبٍّ
بقربيَ منكِ لاقيتُ المحاقا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤