قافية الميم

قال يرثي المرحوم الشيخ «ناصيف اليازجي»:

عدمنا العنايا مذ هوى عَلَمُ العلمِ
ومن أين في الدنيا لنا عَدَمُ العدمِ؟
قضى ومضى مَن ذكرهُ خالدٌ فلا
زوالٌ لذكرٍ شاع في العُربِ والعجمِ
وكيف نصيفُ العصرِ مات وفضلُهُ
حياةٌ لميتٍ أو شفاءٌ لذي سقمِ؟
أما تحزن الأيامُ ويلاهُ إذ ترى
ضجيع الثرى محيي دياجرها الدهمِ
فمن بعد هذا الحبر للعلمِ والحجا
ومن ذا لحل المشكلات وللفهمِ؟
ومن للمعاني والبلاغةِ بعدهُ
ومن للذكا والحزم والنثر والنظمِ؟
على مثلهِ الأقلامُ تندبُ حسرةً
وتفصح عن خسرانهِ ألسنُ البكمِ
يشقُّ على لبنانَ والشامِ فقدهُ
كما شقَّ فقد ابنٍ وحيدٍ على الأمِّ
وفرضٌ على الملكيَّة الندبُ والبكا
عليهِ فذا فردٌ يعزُّ على الجمِّ
ودينٌ على قلب النُّهى ندب ندبهِ
وعين الهدى غسل ابن بجدتها الشهمِ
صبت روحُهُ للهِ والجسمُ للثرى
فروحٌ إلى روحٍ وجسمٌ إلى جسمِ
ولو شاءَ ربُّ العالمين لما قضى
بموت رجال العلمِ والفهم والحزمِ
وما كانت الدنيا لتبقي أخا الحجا
فيمحو دجى بهتانها بسنا العلمِ
لحا الله دنيانا فما عندها سوى
وبال لذي فضلٍ ووبلٍ لذي لؤمِ
وما هي للواني سوى جنة الهنا
وماهي للعاني سوى سَقَر الهمِّ
حياةٌ بها النعماءُ تستحدث الشقا
بأرضٍ عليها الغنمُ يقبلُ بالغمِ
هو العالمُ الغرَّارُ فاحذر غرورَهُ
فما هو إلَّا مرسحُ الغشِّ والوهمِ
تكرُّ المنايا فيهِ غائرةً على
جميع البرايا كالخيولِ بلا لجمِ
فكلُّ أديمِ الأرض من رُممٍ ولا
يروع امرءًا وطءٌ على الكبرِ والعظم
جمادٌ يعير الحيَّ بعضَ ثرًى وإذ
يرى ذا الثرى حيًّا يتوق إلى الهضم
فكلُّ بني الأحياءِ تربٌ ومنهمُ
رجالُ النُّهى والماسُ من عنصر الفحم
ولولا عموم الناس ضاعَ خصوصهم
ولولا ظلامُ الليل ضاع سنا النجم
ولكن نجومُ الليلِ تُمحى ولم يزل
على أفقهِ نجمُ الورى ثابتَ الحكمِ
فإنَّ ضياءَ العقلِ لا يمَّحي وها
ضيا «اليازجي» باقٍ فما ميتةُ الجرمِ
هِزَبْرٌ قضى ناديت: واللهِ ما قضى
ألم تنظروا الأشبالَ تسرح في الأجم؟
نعم، إن هذا الحبر ليثٌ فكم وكم
بحكمتهِ قد صارع الدهر ذا العزمِ
أقول لمن قاموا بمحملهِ: أما
تبالونَ من وضعِ اليتيمةِ في رجمِ؟
قفوا ساعةً وابكوهُ وانعوهُ والثموا
يديهِ وداعًا فالسها حنَّ للثمِ
وكادت رُبا لبنانَ كالشحم حسرَةً
تذوبُ وموجُ البحر يجمد كالعظم
على الجوهر الفرد الذي ضمهُ الثرى
ولم يدرِ كم كسرٍ أتاح بذا الضمِّ
على الجهبذ الشهم السميذع من غدا
نتيجة هذا العصر والأعصر القدمِ
على النخوةِ العظمى على الجهد في الهوى
على الهمة الكبرى على العفو والحلمِ
لهذا الحكيم الحلمُ لاقَ وعفوُهُ
ولا لأناسٍ يحكمون على رغمِ
فإنَّ يراعَ العلم أمضى من الظُّبا
وأحكامهُ أقوى نفاذًا من السهمِ
فيا كلَّ هذا الشرق نُحْ وابكِ وانتحبْ
فأنت خسرتَ اليومَ كنزًا بلا كمِّ
فطوبى لربعٍ راح يحضنُ قبرهُ
وطوبى لهذا القبر فهو أبو الغنمِ
بماذا أعزي اليومَ بيروتَ بالذي
جرى ومجال القول أضيق من سمِّ
ولكن إذا ما الخطب أشهرَ سيفَهُ
فهل غير ترس الصبر يصلح للصدم؟
تقومُ على الحرِّ الخطوب كأنَّهُ
مليكٌ عليها قام يحكم بالظلمِ

الأسوة

صدقوني كلُّ الأنامِ سواءٌ
من ملوكٍ إلى رعاة البهائِمْ
كل نفسٍ لها سرورٌ وحزنٌ
وملذَّاتُ عيشةٍ وألائِمْ
ولكلٍّ من هذه الأرض قوتٌ
يستوي في عناهُ مولًى وخادمْ
وعناءُ الأفكار أعظم جرمًا
من عناءِ الأعضاءِ والكلُّ لازمْ
كم أميرٍ في أمرهِ باتَ يشقى
بالهُ والأسيرُ في الأسرِ ناعمْ!
وملوكٍ نفوسهم كامداتٌ
سأَمًا من لميع مجدٍ مداومْ
والغني في شقاءِ بالٍ عديلٌ
لافتقارٍ في غبطةِ البالِ قائمْ
كيفَ لا يحسد الفقيرَ غنيٌّ
خائفٌ والفقير في الأمنِ نائمْ؟
قاتل الله قسمةً هي ضيزى
شرعتها أطماعُ باغٍ وظالمْ
أيُّ فضلٍ على هَديرٍ لنمرٍ
فوقَ أرضٍ للكلِ منها غنائمْ؟
وصغيرُ الأكوانِ مثلُ كبيرٍ
فلهذا وذا مزايا تلائم
هو ذا العنكبوتُ يفعلُ ما لا
تقدر الأسدُ والبزاةُ الحوائم
وبيوتُ الزنبور أعجبُ صنعًا
من قصورِ الإنسان ذات الدعائِمْ
ما اختلاف التركيبِ والشانِ إلَّا
عَرَضٌ، فالترابُ أصلُ العوالمْ
ذاكَ أصلُ الأصولِ طرًّا فكانت
منهُ في أسوةٍ جميعُ النواجمْ
إنَّ دودًا في الصخرِ ينمو ويحيا
مثلنا بيد أنهُ لا يُزاحمْ
هل وليدٌ حلَّ الثرى غير باكٍ؟
هلْ فقيدٌ عنهُ نأَى غيرَ باسمْ؟
يا صغارًا يستكبرون اغترارًا
بدعاوٍ يمجها كلُّ حازمْ
أتخموا كبرياءَكم فهي خطبٌ
ووبالٌ على الطبيعةِ صارمْ
كلكم إخوةٌ وأيُّ كبيرٍ
كان منكم فليمس للكلِّ خادمْ
ليس يجدي الفتى على الغير فضلًا
وامتيازًا إلَّا ثلاث لوازمْ
أدبٌ جامعُ الشروطِ، وقلبٌ
مستقيمٌ برٌّ، وفعلُ المكارمْ

وقال:

هامَ قلبي وشبَّ جمرُ هيامي
وتعالى على الجبالِ غرامي
واستفزَّ الجمال كل اشتياقٍ
من فؤَادي فعاد دمعي هامي
أيها العاشقون، هل من سبيلٍ
فيهِ ألقى حبيبَ قلبي أمامي؟
طالما همت والدجى مدلهمُّ
فوق راسي موشح بالغمامِ
ونجومُ الديجور ترمي حرابًا
من شعاعٍ تشقُّ بطنَ الظلامِ
كلما لاح من ورا الشرق نجمٌ
قابل الغرب وجههُ بالسلامِ
وأنا أغدو بين شرقٍ وغربٍ
فائضَ الدمعِ تائهَ الأقدامِ
والهوى بالأشواقِ يصدع قلبي
والنوى بالأتواقِ يفني عظامي
إنَّ عيش المحب غيرُ صحيحٍ
فهو ملءُ الأوهامِ والأحلامِ
يا جبين الحبيب إن لحتَ ليلًا
طلع الصبحُ لاصطباحِ الأنامِ
باسطًا للقا ذراعيهِ شوقًا
وأنا باسطٌ لهُ آلامي
وحمامُ الآراكِ يشدو صباحًا
شدوَ صبٍّ يصبو بقلبٍ ظامي
فإلامَ يا ابن الغصونِ تناغي؟
وإلى كم تدعو على الأيامِ؟
يا لحا الله كل يوم فراقٍ
فهو يرمى قلبَ الفتى بسهامِ
وا هيامي إلى جمالِ فتاةٍ
هجرتني والهجرُ هدَّ قوامي!
قد أذاقت قلبي عذابًا أليمًا
واستشبَّت مني لظى الأوهامِ
كلما رمت أن أديرَ حديثًا
نحوها أجفلت بمنع الكلامِ
ذاتُ جفنٍ إن كان أضحى سقيمًا
فهو مما جنى على إسقامي
يا حياتي ودون قربكِ موتي
ومماتي وبالوصالِ قيامي
لو تذوقين بعضَ ما ذاق قلبي
كنت طولَ المدى أراك أمامي

وقال:

على صراط مستوٍ مستقيمْ
سلكت والناس حيارى تهيمْ
يضجُّ فوق الأرض سكانها
شبه ذبابٍ فوق شيءٍ وخيمْ
كذا ترى الدنيا عيونُ الورى
كما ترى العقربَ عينُ الفطيمْ
سبحان من أسدى الورى ألفةً
يبدو الشقا منها لهم كالنعيمْ
فما حياةُ المرءِ في عمرهِ
إلَّا نزاعٌ صارمٌ مستديمْ
يجدُّ في المسعى على قُوْتهِ
بقوةٍ تنسف طودًا جسيمْ
يعاركُ الصخرَ ويبري البرَى
ويقطع البحرَ ويفري الأديمْ
وكم طوى جوعًا فأزرت بهِ
دُوَيبَةٌ تنساب بين الهشيمْ!
كلُّ امرئٍ حول القضا حائِمٌ
مثلَ فراشٍ حام حول الضريمْ
والكلُّ يرجو المال مغرًى بهِ
ولا ينال المال غير اللئيمْ
ذو اللؤمِ إن أحرز مالًا غدا
أردى من الشيطان ذاك الرجيمْ
إنَّ غنى الغبيِّ ذئبٌ ولا
يخطفهُ إلَّا هِزَبرُ الجحيمْ
ما أقبحَ الثروةَ في زندقٍ
بلى، وما أحسنها في الكريمْ!
والخمرُ في كاس الجَهُول يُرَى
أقتلَ من سمٍّ بكاسِ الحكيمْ
إن العصا في كفِّ خابرها
أقطع من سيفٍ بكفِّ الغشيمْ
إذا رأَيتَ الوغدَ يحكمُ في
أرضٍ فهل تلبثُ فيها مقيمْ؟
إنَّ القطا أرشدُ من بشرٍ
يعنون كالبهْم لحكم البهيمْ
إنَّ بلادَ اللهِ واسعةٌ
فاخترْ لسكناك المحل السليمْ
والناسُ إمَّا راشدٌ أو غوٍ
والحكم إمَّا جائرٌ أو حليمْ
وقوَّةُ الجور إذا سُلِّطتْ
تدعو بديلَ الذمِّ مدحًا ذميمْ
يا ويلها يا ويلها قوَّةً!
قد دمرت كل بناءٍ قديمْ
وأفسدت كلَّ صلاحٍ ولم
تترك صحيحًا قط غير سقيمْ
زلزلت الدنيا ولكنَّما
زلزلةُ الساعةِ شيءٌ عظيمْ

وقال:

لولا الجهالة بين الناس تقسمهم
في الدين والرأي أحزابًا من القدمِ
لما سطت فئَةٌ منهم على فئَةٍ
ولا انحنوا تحت وقرِ الأسر كالنعمِ

وقال:

حداة السُّرى مهلًا فهذي خيامها
وتلك روابيها وذاك غمامها
قفوا ساعةً نشتم رائحةَ الحمى
هنا علقت روحي وطال هيامها
هنا لي من الغاداتِ من لو تبسمت
لدى البرق ليلًا لازدهاهُ ابتسامها
أما تنظرون العيس تعدو كأنها
سكارى فقد طاشت من الشوق هامها؟
إذا كان يلهو بالمطيِّ الهوى فما
يقال على نفسٍ فناها غرامها
هلموا انظروا هذي الرُّبا فجميعها
تروت بدمعي آسها وبشامُها
هلمُّوا انظروا هذي القبابَ فكلها
على مهج العشاق قام دعامها
هلموا هلموا نذكرِ الفترة التي
بهذي المغاني قد غناني اغتنامها
مضت ومضى طيبُ الهنا معها ولم
يعُدْ غيرُ أشجان يثور اضطرامها
دعوني هنا أبكي وسيروا فأدمعي
بغير مكان لا يباحُ انسجامها
دعوني أهِمْ بين الهضاب فأعظمي
يطيب على هذي الصخور التطامها
فهمت على وجهي وقد سارت السرى
وجن الدجى والأرض ضاع زمامها
ولم يبقَ لي في ذي القفار مؤَانسٌ
أناجيهِ إلَّا وحشها وهوامها
وما لذ لي مرأى النجوم فنورها
يضاعفُ أشواقي كذاك انضمامها
فهل ذكرتْ تلك المنيعةُ في الخبا
شريدًا طحاهُ البين وهو غلامها؟
وهل علمتْ «أسماءُ» وهي عليمةٌ
صبابة نفس قد تسامى مرامها؟
نسيم الصبا، هل قد عثرت برندها
فعطرت؟ أم لي معك آتٍ سلامها؟
تعطرت البيداءُ منكَ وقد حلا
نفاحكَ للنفس النفيس مقامها
حلا لفؤَادٍ أثخنتهُ ظُبا النوى
وقامت بهِ البلوى وطال قيامها
تقلبني الدنيا على موقد البلا
ولي همةٌ في الصبر عزَّ انصرامها
وتوتر أقواس الردى لرمايتي
ومن أعين الحساد تبري سهامها
ويُجري عليَّ الدهرُ جيشَ خطوبهِ
وما أنا ذا نفس يهون اقتحامها
ومن خبرَ الدنيا وأدركَ سرَّها
تساوى لديهِ حربها وسلامها

وقال:

ماست فلا واللهِ ما غصن النقا
بشبيهِ قامتها، فمن ذا لا يهيمْ؟
وبدت وقد نشرت غدائرَ فرعها
فرأيتُ قرنَ الشمس في الليل البهيمْ

وقال إلى أحد أصحابهِ الكهنة:

سعيتَ للعلم فكنتَ العلَمْ
وحيث يهدي العقلُ يسعى القدمْ
والعقلُ محجوبٌ ولكنما
يُظهرُ إعمال قواهُ القلمْ
رُبَّ امرئ يزري بمن يرتجي
علمًا وهذا عن قصور الهممْ
ومن رأى ما لم يطلْهُ ازدرى
بهِ ولكن أن ينلهُ فلمْ
أفسدَ بعضُ الناس أقوالهم
وفي فسادِ القول لذَّ الصممْ
ما كلُّ ذي علمٍ لهُ عملٌ
وما لكلِّ الطير صيدُ الرَّخمْ
كلٌّ على مقدارِ طاقتهِ
وأصغرُ الموجود خيرُ العدمْ
ذو العقلِ يقضي الليلَ ملتمسًا
تعليم ذي جهلٍ بكلِّ كرمْ
يا أيها الحاوي حِجًا وزكا
أنتَ محلٌّ لجميع الحكمْ
أتيتنا في كلِّ معرفةٍ
ما خطرت في عَرَبٍ أو عجمْ
لا تنكَرُ الأتعابُ منك فكم
يشهدُ ما علمتَ بينَ الأممْ!
من يجحدِ الأفضالَ منكَ فذا
عن حسدٍ إذ قلبهُ في ضَرَمْ
كم قد بذلتَ النصحَ مجتهدًا
وناصحُ الناس نصوحُ الشيمْ
خيرٌ بكرم الله تزرعهُ
من يزرعِ الخيراتِ يجنِ النعمْ
شيدتَ بالبيعةِ حصنَ التقى
من وثبة الأشرار لا يقتحمْ
إن شمتَ جهلًا بامرئ كنتَ في
غمٍّ، وذو العقل كثيرُ الغممْ
يا صاحِ، إن يسمعْك أقوالهُ
أغناك عن عودٍ رخيم النغمْ
مختتمُ الآراءِ آراؤُهُ
وراحةُ الأذهانِ بالمختتمْ

وقال:

لو كنتِ تدرين ما في القلب من ألمِ
لما أطلت الجفا يا بانة العلمِ
مهلًا فلم يبقَ لي صبرٌ ولا جلدٌ
على الصدود الذي فيهِ بدا سقمي
هواك في القلب نارٌ ضمحلت جسدي
وذكر وصلكَ أضحى كالندى بفمي
قد شابَ رأسي مما ذقت منكِ ولم
تحلُّ شمسُ الصبا في دارةِ الهرمِ
هلَّا كفاني ما قاسيت مصطبرًا
من الغرامِ الذي يسطو على الأممِ!
فكم دلالُك يا ذات النفار سعى
بهدِّ صبري، وعيناك بهدرِ دمي
عشقت لطفك لا الوجه الجميل وكم
يحلوَ الجمال على مستَظرف الشيمِ
ليتَ الذي حال ما بيني وبينك لا
يطيبُ حالًا ويغدو تائَه القَدَمِ
هيهات ينجو فتًى يهوى الكواعب من
سعي الوشاة وهذر العذل والتهمِ
حسن بقلبي لمَّا لاح مرتسمًا
دعا عظامي وأحشائي إلى العَدَمِ
فإن غدت زفرتي نورًا فلا عجب
وربَّ نورٍ بدا من أعظم الرُّممِ
بشراك يا قلب بالطيف الذي لك قد
بدا وويحك يا طرفي فلم تنمِ
هيفاءُ في حبها قد صرت مفتتنًا
وقد غدا جسدي لحمًا على وضمِ
إذا تبدَّت بدا ذاك النفارُ فكم
عينايَ في نِعَمٍ والقلبُ في نقمِ
وا حيرتي! بين عيني والفؤَاد فذي
ترجو لقاها، وذا إن يلقها يضمِ
والحسن في وجهها الميمون قد طفحت
أنوار بهجتهِ كالبدر في الظلمِ
سقى العهاد أديمًا قد نعمت بهِ
مع الحبيبِ وعهدًا مرَّ كالديمِ
مضى الوصال ولم يترك سوى أرقٍ
بمقلتي وبأحشائي لظى الضرمِ
كم وقفةٍ لي على ربع الحبيب دجًى
أنوح والناس تقضي لذة الحلمِ!
والبدر في ظلمات الليل قد نشرت
أنوارهُ كانتشار الشيب في اللحمِ
فوا بكائي على طيب اللقا وعلى
تلك الليالي التي مرَّت ولم تدمِ!

وقال إلى صديق لهُ مباركة بوظيفة ترجمان:

ترجمان الجوى بقلبي هيامي
ودليلُ الهوى دموعي الهوامي
عبرةُ العاشقين عِبرةُ من يحـ
ـسب أنَّ الغرامَ سهل القيام
يا عذولي لو كنت تعلمُ ما بي
بالهوى لم تكن كثيرَ الملام
قد تعرى من التجلد جسمي
وكساهُ الهوى ثياب السقامِ
جلدٌ راحلٌ ودمعٌ نزيلٌ
وعيونٌ حرمن طيب المنامِ
ليس للصبِّ لذةٌ غيرَ مرأَى الـ
ـحب فهو المنى وجلُّ المرامِ
ليت شعري! هل من سبيل إلى مَن
حبُّها قد جرى بكل عظامي؟
غادةٌ غادرت فؤَادي عليلًا
غائب الصبر حاضر الوجد ظامي
قتلتني بصارمٍ جرَّدتهُ
من غمود الجفونِ عند السلامِ
غازلتني فأسكرتني بطرفٍ
يصرع الأُسدَ وهي في الآجامِ
مذ رنت واستهزها التيهُ را
عتني بطعن القنا ورشق السهامِ
إن تثنت فبانةٌ أو تجلَّت
فهي بدرٌ بدا بجنح ظلامِ
يا لقومي من ذا يجير المعنَّى
من رداحٍ تفري الحشا بقوامِ؟
يا حياة الفؤَاد بالله رفقًا
بفؤَاد فنته نارُ الغرامِ
كيف حللتِ يا ضيا العين قتلي؟
إنَّ قتل المحبِّ عين الحرامِ
الأمان الأمانَ من فتك هاتيك
العيون التي بها السحرُ نامِ!
إن تكوني رضيتِ موتي أحيا
بوداد الأجلِّ نجل الكرامِ
الصديقُ الصدوقُ ذو الودِّ من قد
شاع فضلًا وعزة في الأنامِ
علمٌ كالشهابِ أمسى على الشهـ
ـباءِ تهدى أنوارهُ للشامِ
يا فريدَ الصفاتِ تفديك نفسي
وفداءُ المحبِّ للحب سامِ
زدتَ في الودِّ فانتميتُ إليهِ
إنما الود خصلةٌ للكرامِ
ترجمانًا بكل حق لقد صر
ت فحزت السنا ونلت التسامي
جعل الله ذا عليك أيا بغـ
ـية روحي مباركًا للدوامِ
وحماك الرحمن من كلِّ بؤْس
ما تمشت في الروض روحُ الخزامِ

يوم الوَدَاع

أما لِعُرَى البعادِ يرى انفصامُ
وما لتشتُّت الشمل الْتئَامُ؟
متى يجلَى ظلامُ البعد عنا
بنور القربِ لا كان الظلامُ
أرقتُ الليلَ يا أحباب شوقًا
إليكم والمتيمُ لا ينامُ
أبيت ومقلتي تصبو ودمعي
صبيبٌ والفوادُ بهِ اضطرامُ
سلوا ريح الصبا عن حال صبٍّ
عليلٍ لا يبارحهُ الغرامُ
أيا من قد شددتم مذ رحلتم
رحالًا فوقها البدرُ التمامُ
إذا كنتم بَعدْتم عن عيوني
ففي قلب المحبِّ لكم مقامُ
إليكم بالنوى قد ذبتُ شوقًا
وصبري قد قضى لكمُ الدوامُ
يخاصمني الهوى فيذيعُ سرِّي
ويُظهر باطنَ المرءِ الخصامُ
بفرقتكم بشاشتيَ اعتراها
وجومٌ، واعترى المُقَلَ انسجامُ
رويدكَ يا زمان البين إني
أخو جَلَدِ وللجَلَدِ التزامُ
طوى هذا النوى جلباب صبري
مذ انتشرت على السَفح الخيامُ
وقفتُ على الحمى والقلبُ يُصلى
غرامًا كلما يشدو الحمامُ
أطلُّ على الطلولِ الدمعَ حتى
يُخَيَّلَ أنَّ أجفاني غمامُ
وأرسلُ ناظريَّ لكل شعبٍ
فتعتجب الجنادلُ والآكامُ
هناك على المطيِّ سرت بدورٌ
توارت في سجوفٍ لا ترامُ
لحا اللهُ البعادَ ففيهِ نومي
نأَى وعلا على جسمي السقامُ
سقى صوب العهادِ عهودَ قومٍ
لهم مني المودَّةُ والذمامُ
همُ الصحبُ الذين نأَوا فحلت
بي الأسقامُ وارتحل المنامُ
ولما شيعوا الأحداج شاعت
صباباتي إليهم والهيامُ
يدُ البرحاءِ قد عبثت بقلبي
فَمَنْ لأخي شجونٍ يا أنامُ
على يوم الوداعِ نفقتُ صبري
فجاءَ عليَّ من كلٍّ ملامُ
وحسنُ الصبرِ حصنٌ للفتى إذ
غدا لمصائبِ الدَّهرِ ازدحامُ
وكيفَ يكونُ لي جَلَدٌ وأهلي
نأَوا ولبعدهم وهتِ العظامُ؟
متى يومُ اللقا يروي فؤَادًا
بهِ من لوعة البرحا أوامُ؟
عليكم سادتي مني سلامٌ
يفوح بطيبِ نفحتهِ الخزامُ
سحابُ الفضل منكم راح يهمي
وفضلُ الغير دونكمُ جهامُ
على صفو المودَّةِ قد طبعتم
وما لي غير ودكمُ مرامُ
ومنكم مسكةُ النعماءِ فاحت
بها الخيرُ ابتدى وهي الختامُ

وقال تاريخًا لمولودٍ:

عليكَ قد أنعم الإلهُ بمو
لودٍ سيربى براحة الكرم
بهِ الأسى عن مؤَرخيهِ مضى
ونعمة اللهِ أشرفُ النعمِ
سنة ١٨٥٩

الحق

إذا هَذَرَ الجهولُ وقال عني
أخو جهلٍ وُجدتُ أخا علومِ
ومن يكُ جاهلًا والجهلُ داءٌ
يظنُّ جهالةً قول الفهيمِ
بهيمٌ يدعي بالعلم وهمًا
وليس العلمُ من شيم البهيمِ
إذا قال الفقيرُ: أنا غنيٌّ
سألنا عنهُ أبوابَ الكريمِ
أيعجبنا هجومَ الكلب يومًا
رأينا هجمة الأسد العظيمِ؟
وهل نصغي لذي حمقٍ وغمرٍ
إذا جلسَ الحكيمُ على الأديمِ
إذا استوت الخصالُ وذا محالٌ
فما فرقُ الكريمِ عن اللئيمِ
ضحكت وكان ذاك الضحك مني
على الَجُّهال في ثغر الوجومِ
وكم باكٍ بلا غمٍّ وكم من
ضحوكٍ وهوَ مجموعُ الغمومِ!
إذا لبسَ الحريرَ الغمرُ يومًا
تفوق عليهِ أسمالُ الحكيمِ
وما باللبس من شرفٍ ولكن
بحسن العقلِ والخُلْقِ السليمِ

وقال موشحًا:

سبت الألباب أحداقُ الدمى
وأراقت بظبي السحر دمي
وغزت قلبيَ في الحبِّ كما
راح يغزو في لظى الحرب كَمي

دور

من لصبٍّ كلما ناح الحمامْ
ذاب شوقًا وهوَ بالدمع حميمْ
عاشقٌ يرعى عهودًا وذمام
إنَّ نكثَ العهد من شأن الذميمْ
عندهُ في الحبِّ للحب كلام
عَذِبٌ يُشفَى بهِ القلبُ الكليمْ
بي غزالٌ فاقَ حسنًا وسما
فغدا للشمسِ والبدرِ سمي
نافرٌ بالجيد يلوي كلما
رمتُ أن أهديهِ درَّ الكلمِ

دور

قمرٌ يسفر عن وجهٍ صبيح
كلما لاح بدا نور الصباح
وإذا ما ماس بالقد المليح
أخجل القضبَ وأودى بالملاح
إن يملْ عني غدا جفنى قريح
فلكم أظمأُ والريق قراح
سال دمعي في جفاهُ عندما
ليتهُ يرثي لدمعٍ عندمي
أترى يجهل يومًا قد رما
بنبال اللحظ منهُ قد رُمي؟

دور

أهيفٌ كالرمح إذ ما خطرا
عاد قلبي هائمًا في خطرِ
أتلف الأحشاءَ مني وبرى
مهجتي خدٌّ عديم الوبرِ
إنَّ عمري في هواهُ عبرا
كم رأت عيني بهِ من عبر
لحظهُ للقلب لما غنما
ساقهُ للذبح سوقَ الغنمِ
إن يكن هجرانهُ قد ألمَّا
كبدي فالوصل يشفي ألمي

دور

همت وجدًا بهوى ظبيٍ رُبِي
بفؤادي والحشا لا بالرُّبَا
خنثٌ في عشقهِ عقلي سُبِي
وبقلبي لعبت أيدي سبا
كيف جفني لا يُرَى كالسُحُبِ
وهو أذيالَ الجفا قد سحبا؟
ذو جمالٍ فاق أقمار السما
وأنا في حبهِ صرت سمي
وجههُ للشمس يرقى سلما
فعليهِ يا ثريا سلمي

دور

حيَّرَ الأفكار لما وردا
لابسَ الحسن كثوب وردا
إن طلبت الوصل منهُ وعدا
واصطباري قد جفاني وعدا
ليت لي النصح عذولي ما هدى
فضلالي بالهوى عندي هدى
كل من يبغي ملامي ظلما
وهو عن نور الهوى في ظلمِ
كيف أسلو ذلك الريم فما
بسوى ذكراهُ يلتذ فمي؟

وقال:

نشرت أطيابكم ريحُ الخزامى
وانطوت تحت جلابيب النعامى
ونسيمُ الروض إذ هبت روت
عن معانيكم فكم تشفي السقاما؟
أنتمُ غاية قصدي والمنى
وبكم ما زلت صبًّا مستهاما
فأديروا خمرة الوصل عسى
يشتفي قلب عليهِ الحب داما
سادتي طالت مواعيد اللقا
فإلامَ أرقب الصبح إلامَ؟
ليس لي ميلٌ إلى غيركُمُ
فعلامَ ميلكم عني علامَ؟
عجَبًا روض رضاكم ماحلٌ
رغم أجفانٍ لهُ أضحت غماما
غدركم علمني حفظ الوفا
إذ جعلتم يقظةَ الودِّ مناما
وأنا باقٍ على العهد فيا
ليت قلبي لم يكن يرعى الذماما
كلما رمت سلوَّا عنكم
غلب الوجد على القلب فهاما
كيف أسلوكم وعقلي تائهٌ
بهواكم والحشا تصلى اضطراما
وعلى ناديكم كم وقفةٍ
لي أنادي الحيَّ إذ باتوا نياما
أَسأل الجدران عنكم والثرى
والدجى يحتال أن يصغي الكلاما
كلما أومض من أفق الحمى
بارقُ قابلهُ الدمع انسجاما
لا يفيد الدمع مقتول الهوى
لا، ولا الزفرة توليهِ مراما
مقلتي والحسن ضِدَّان فذا
يقتل الصبر وذي تحيي الغراما
واللقا والبين نارٌ وندًى
ذاك يشفيني وذي تفني العظاما
أيها الهائم في وادي الهوى
عللِ النفس ولا تسمع ملاما
انظرِ الحسن الذي تعشقهُ
يطرد اللومَ ويستبقِ الهياما
يا بدورًا من بروج الحسن إذ
طلعت تسبي بمرآها الأناما
لو علمتم ما بقلبي من جوى
لعحبتم كيف لم ألقَ الحماما!
فإذا رمتم قتلي فاحفظوا
مهجتي؛ فهي لكم أضحت مقاما
إنني صرت غلامًا لكم
فارحموا باللهِ ذياك الغلاما!
هجركم سهمٌ وقلبي هدفٌ
وهواكم بطل يرمي السهاما
كم وكم مذ غبتمُ عن نظري
هاجني الشوق فناوحت الحماما!
ولكم ناجتني الأوصاف مذ
نشر الحادي على السفح الخياما
إن أكن زوَّدتكم من جلدي
أفتشفون من الدمع الأواما؟
لا رعى الله أوَيقات النوى
فهي قد أورثت القلب ضراما
وسقى العارض أيامًا بها
كنت من حان اللقا أُسقى مداما
لا جفاكِ الغيث يا دارَ الهنا
كم لنا أينعت بردًا وسلاما
طالما بت على بسطكِ مع
كل ظبيٍ يخجل البدر التماما
لم أزل ألثم بدري في الدجى
بكِ حتى يكشف الصبح اللثاما
وأرى الشهب توارت في الخبا
جزعًا أن ينتضي الفجر الحساما
حيث وجه الجوِّ تنشق لهُ
حجب الليل فيفتر ابتساما
ونسيم الصبح من ذاك الحمى
خطرت حاملةً نشر الخزامى
في رياضٍ لطلاها قد حبا
هاطل الطل نثارًا ونظاما
يعطف الآس على البانِ إذا
رنحت ريح الصبا منهُ القواما
والغدير العذْب يجري سلسلًا
فيسلُّ الهمَّ منا والسقاما
حبذا وقت الصفا نغنمهُ
فانهضوا للروض صبحًا يا كراما
ها دواعي اللهوِ تدعوكم إلى
أكؤُسٍ حيث انجلت تجلي الظلاما
خندريسٌ تقتل الأتراحَ إن
قتلت وهي التي تحيي الرماما
فاسقِنيها يا نديمي سحرًا
بين غدرانٍ وغيد وندامى
وأدرْ كأسيَ صرفًا إنني
أحسب الصهباءَ بالمزج حراما
وإذا ما شئت أن تمزجَها
فاجعل الريقَ مزاجًا وختاما

نسيان الغرام

جاءَت تذكرني زمان غرامي
من قد أضعت بحبها أيامي
فرأت فؤادي قد سلاها فانثنت
تدعو على العذال واللوامِ
باللهِ لا تدعي على أحدٍ سدًى
لكن أميلي الأذن نحو كلامي
لا تحسبي أني صغيت للائمٍ
بل قد سلوتكِ مذ نقضتِ ذمامي
إن كنتِ قابلت الوفاءَ بذا الجفا
فأنا جفوت صبابتي وهيامي
كم ليلةٍ بهواكِ بت مراقبا
لمعَ البروق وأعيني كغمامي
والقلب يخفق ضمن صدري والهوى
يجري كجري الروح بين عظامي
لا بدعَ إن جذبت عيونك مهجتي
فالجذبُ بعض خصائص الأجسامِ
هيهات أرجع للمحبة بعدما
عاملتِني بالنكث والإبرامِ
وإذا ندمتِ عليَّ ويحكِ إنني
نظفت أذيالي من الأوخامِ
عارٌ على مثلي الرجوع إلى الهوى
بعد السلوِّ فذاك فعل لئامِ
وكيف يقحمني الغرام ودونهُ
حالت ظبا هممي وسمر خصامي؟
بعدًا لهُ ما كان أكثفهُ على
قلبٍ بهِ لطف الشبيبة نامِ
لا تسفري ذاك اللثامَ فتحتهُ
نور الجمال يلوح فوق ظلامِ
هل تخدعين بهِ الخبير وطرفهُ
قد صار عنهُ معرضًا متعامي؟
إن تفخري بجمالك الوقتي لي
بسلوِّهِ فخرٌ مدى الأيامِ
وأنا غلامك كنت لكن بعدما
عفت الهوى أصبحت أنت غلامي
أنا لست أهتك حرمة الودِّ التي
ما بيننا أبدًا ليومِ حمامي
إن بحت بالسرِّ المصون فطالما
أخفيتهُ حتى عن الأوهامِ
وكمزنة في الصيف ودك إن يكن
فهواكِ طيفٌ مرَّ في الأحلامِ
لا عدت أذكر أمر حبك فاعلمي
أن السلوَّ جرى بكل مسامي
أسفي على عام بحبك قد مضى
يا ليتهُ ما كان من أعوامي
لا راحةٌ للمرءِ إلَّا أن يكن
خلوَ الفؤاد عديمَ كل غرامِ
يا ليت قلبي لم يهم بمحبة
لكن قضاءُ اللهِ جاءَ أمامي
والآن قدرني على دفع الهوى
عني فأشكرُهُ على الإنعامِ

وقال تاريخًا ينقش على ضريح أحد الشبان في مدينة القدس قد قتلهُ المكاري بالطريق:

يا زائر القدس، زر قبري مع الأممِ
واندبْ فتًى دمهُ قد حلَّ في الحرمِ
أنا القتيل الذي في الطرق قد عبثت
أيدي الحداة بهِ إذ خُطَّ في القلمِ
فما يقول الذي أجرى دمي طمعًا
للهِ يومَ وقوف الخصم والحكمِ؟
إن كنت قد نمت في هذا الضريح فعن
عقاب خصمي عين الله لم تنمِ
يا غصن إن قصفتك الظالمون فقد
غرست في جنة الفردوس فانتعمِ
يديك للهِ في التاريخ مد وقل
للرب يصرخ من جوف الرديم دمي
سنة ١٨٦٠

وقال:

يا قلب حتام تذوب غراما
وإلامَ تخفق لهفةً وهياما؟
عبثت بك الأحداقُ وهي أليمة
ورمت عليك من الدلال سهاما
قل للتي قد جئتها متصببًا:
أين الذمامُ وما ألفت ذماما؟
فلقد هجرت النور وهو بهِ الهدى
عجبًا وعدت تواصلين ظلاما
كيف انثنيت إلى الدني محبةً
وتركت أرباب العلا فعلام؟
لا أعتبنَّ عليك بل عتبي على
قلبي الذي بهوى جمالك هاما
أذللت روحي في هواك وما أنا
ممن يذل فقد علوت مقاما
ما كنت عفت الحبَّ لو لم تنكثي
بالعهد قط ولو قضيت غراما
لكنَّ نكثك بالعهود محا الجوى
وغدا لضربِ طلا الشجون حساما
الله أكبر فالصبابة محنةٌ
وبها الكرامُ يصاحبون لئَاما
ليت الجمال يقرُّ في العليا فلم
يبلغهُ إلَّا من علا وتسامى

يقظة الحب

يقظ الحبُّ في فؤَادي وقاما
بعدما أيقظ السلوَّ وناما
والهوى في القلوب يضرمهُ القر
بُ ولكن يخبو إذا البعدُ داما
فسلوِّي حكى رمادًا على جمـ
ـرٍ أتاهُ ريحٌ فشبَّ اضطراما
ما ثناني عن حبكم إذ هجرتم
غير نفسٍ بالذلِّ تأبى الغراما
مذ أزدتم صدِّي تناقص وجدى
إنما بالوصال عاد تماما
خلت ذاك الدلال منكم ملالًا
فتركت الهوى وعفت الهياما
وتوهمت أنكم خنتم الودَّ
وذو الحب يألف الأوهاما
أمثل ذاك الإعراض كان سلوِّي
ووجود الإثنين كان منامًا
أيها الصبُّ ويك دع عزة النفـ
ـس فإنَّ الهوى يذلُّ الكراما
كم عزيزٍ أذلهُ الحب قهرًا
والهوى محنةٌ تصيب الأناما
إنَّ روحي فدًى لذات نفارٍ
عشقها غادر العظام رماما
من بنات الشهباءِ من نسل عربٍ
ضربت في فلاة قلبي الخياما
يا مهاة الخبا وبدر المغاني
ونسيم الصبا ونشر الخزامى
خلت حرَّ الهوى وحربَ التجافي
منك بردًا على الحشا وسلاما
كلما حرَّكت يدُ الدَّلِّ قدًّا
لكِ ذلَّ الفؤاد مني وهاما
حركاتٌ بها بدا كل لطفٍ
أخذت بالنهى وليست مُداما

ترك الذمام

خنتمُ العهد ولم ترعوا ذماما
فإلامَ القلب يرعاكم إلام؟
أسفت نفسي على دهرٍ مضى
بهواكم حيث لم تبلغ مراما
إن غدا الغدر حلالًا عندكم
فهو عند الكل قد أضحى حراما
ما عليكم قط مني عَتَبٌ
بل على قلبٍ بكم ضجَّ وهاما
إنني ملكتكم قلبي فلم
تحرسوا الملك، ولم ترعوا مقاما
كم سهرت الليل أرعى حبكم
ولكم قاسيت وجدًا وهياما
ليت ذاك الحب لا كان ويا
ليت حسن الوجه لا يسبي الأناما
كم بدا الحسن على لومٍ فكم
من كرامٍ يستحبون لئاما
عزة النفس دعت قلبي إلى
ترككم إذ خنتم ذاك الذماما
ففؤادي قد سلاكم وعلى
رغم سلطان الهوى عفت الغراما
كانت النفس لكم عاشقةً
حين كنتم عروةً تأبى انفصاما
فبمن عوضتموني يا ترى
هل تخذتم عوض النور ظلاما؟
يا ربوعًا قد رعى غيري لها
لا سقاكِ الله من بعدي الغماما
كنتِ للآساد غاباتٍ وها
للكلاب اليوم أصبحتِ مقاما
لا سقى الوسميُّ دارًا جاورت
بنواحيها لئامًا لا كراما
رحلت عنها مطايا السعد مذ
ضربت فيها ذوو النحس الخياما
وقف الحاسد فيها شامتًا
إذ رأى الأحياءَ قد صارت رماما
ليت مبدا الحب لا كان ولا
نظرت عين حسودي ذا الختاما

الوفاءُ

كفى لحاظكِ أن تسعى بهدر دمي
وحسب قلبيَ ما يلقى من الألمِ
صبرت في الحب حتى لات مصطبري
وكيف يصبر مطروحٌ على الضرمِ؟
أما وعينيكِ إن الحب شنشنتي
أليَّةٌ هي عندي أشرف القسمِ
بئس الوشاة فإن المين عادتهم
قد اتهموني بأمرٍ ليس من شيمي
شكرًا لهجرك إذ ألقى المشيب على
فودي فهذا بياض الوجه في التهمِ
بالله يا صنم الحسن البديع صلي
صبًّا بحبك يدعى عابد الصنمِ
صبٌّ برتهُ النوى والدهر حدبهُ
حتى غدا في الورى كالسيف والقلم
وغادرتهُ بنات الدهر مقريةً
روحًا بلا بدنٍ لحمًا على وضمِ
إليك عني وحوش الخطب ما أنا من
يسدُّ جوعًا قد استسمنت ذا ورمِ!
مهما فتكتِ فلا ألو الثبات على
مودة الشهم جرجي ثابت القدمِ
فرع الأكارم غصنٌ بالرياض نشا
أثمارهُ جئن من لطفٍ ومن كرم
زاكي الخصال، عريق الأصل، ذو شيمٍ
بيضٍ تحاكي الدراري في دجى الظلم
لهُ النباهة دانت والنُّهى خضعت
والفضل منهُ جرى كالهاطل العرم
راحت بهِ ألسن النعماءِ منشدةً
فعاد أشهر من نارٍ على علمِ
فاق الغزالة بشرًا والسها هممًا
فجلَّ في الحلتين الحسن والهممِ
بهِ اغتنيت عن الأصحاب قاطبةً
فهو الوفيُّ حفيظ العهد والذممِ

وقال:

تبدت وبدر الليل في أوجهِ سما
فأبدى لنا وجهًا محا قمر السما
بديعة حسنٍ كل أطوار وجهها
كئوسٌ بها أروى وفيها أرى الظما
هي الصبح إلا أنني في شعاعها
ضللت وكم نورٍ على الطرف خيما!
نثرت لآلي الدمع حين تبسمت
فيا حسن منثورٍ يضاهي المنظما
وجنديٌ طرف راح يطعن خدها
بحربتهِ حتى أفاض دمًا وما
لقى القلب مني لوعة لو بثثتها
ثبيرًا لأضحى مائدًا متهدما
علقت بها غيداءَ منذ رأيتها
ومن ذا يرى حسنًا ولم يكُ مغرما؟
مهاةٌ بها أسد الشرى همنَ صبوةً
وساهمنَ طرفًا راش بالهدب أسهما
شكوت إليها ما أقاسي من الجفا
فصدَّت وقالت: راح يشكو التتيما
رويدكِ بالصب الذي لا يرى لهُ
مرامًا سوى نجواكِ يا دمية الدمى
عليك دموعي صرنَ يا فلك الهوى
نجومًا وقلبي لا يزال منجما

الهيام

إلامَ إلامَ يصرعني الغرامُ
ويتلفني التشوق والهيامُ؟
وحتامَ الخيال يجوب طرفي
ولا غمضٌ هناك ولا منامُ؟
رمتني أعيني بهوى عيونٍ
أصابت مهجتي منها سهامُ
فها دمعي يسيل ولا نكالٌ
وها جسمي يذوب ولا سقامُ
وها قد طال سكري بالتصابي
فلا أصحو ولو صحت المُدامُ
ولكن لم يعدْ قلبٌ ليهوى
ولا لتحمُّل البلوى عظامُ
ومما ذاق من ألمٍ فوادي
وأشجانٍ لها فيهِ ازدحامُ
تشرَّد خاطري وغوى رشادى
وحرت وصار كالكلم الكلامُ
فهل ليلٌ يروح ولا اضطرابٌ
وهل صبح يلوح ولا انسجامُ؟
وصبحٍ ليلهُ أحيا جفوني
بطيفٍ كان يحييهِ الظلامُ
أفقت مودعًا وسني وقلبي
بهِ من ذلك الطيف اضِّرَامُ
وأحشائي تذوب وكل عضوٍ
بهِ جرحٌ ولم يرهف حسامُ
أوامٌ في الجوانح مثل نارٍ
فيا ويلاهُ! هل يطفى الأوامُ؟
هرعت إلى الهضاب ولا رفيقٌ
يؤَانس وحدتي إلا الغرامُ
هناك لوحشتي وادٍ أنيسٌ
تظللهُ الروابي والآكامُ
تلوح عرائس الأفكار فيهِ
سوافر لا قناع ولا لثامُ
ولا تخشى ذبولًا من هجيرٍ
فمن شجر الأراك لها خيامُ
هنا دوحٌ تمد شراع ظلٍّ
وثيقًا ما لعروتهِ انفصامُ
على جوٍّ زها وصفًا أثيرًا
بهِ الأوهام تسبح لا الهوامُ
هنا النسرين تحت طرنجبيلٍ
يفوحُ كذا البنفسج والخزامُ
زهورٌ فوق ذاك الأفق تحكي
نجومًا في السماءِ لها انتظامُ
وسلسالٌ يدور بهِ ويجري
على رشدٍ وليس لهُ زمامُ
حكى حول الكثيب سوار خودٍ
بمعصمها الفخيم لهُ اعتصامُ
وما أحلى النسيم تهبُّ صبحًا
فينتعش المشوق المستهامُ!
هنا يحيا وينعم كل بالٍ
فلا حزن يليهِ ولا حمامُ
هنا وجه الطبيعة في ابتسام
وليس يزول هذا الابتسامُ
هنا لي في ضحى عشقي مقيل
أحاول فيهِ أن يخبو الضرامُ
أقيم بهِ مدى عمري فريدًا
إذا ما عزَّ في قومي المقامُ
وبينًا كنت في سكري صريعًا
بذا الوادي ولا خمر وجامُ
شريدًا ما لأفكاري قرار
أروم، ولست أدري ما المرامُ؟
ويكتب في الثرى جفني شجوني
بحبر دمي فيقرؤها الحمامُ
إذا بنت الصباح بدت وحيت
على الدنيا وحيتها الأنامُ
فغار النجم وامَّحت الثريا
وأخفى وجههُ البدر التمامُ
ولاح من الظلام الكون يزهو
كزهر عنهُ تبتسم الكمامُ
وراح الظل يهبط في المهاوي
ويستعلي على القمم القمامُ
عبيرٌ فاح قلت: من الموافي
فما هذا بشامُ أو ثمامُ
إذا صنم الجمال بدا أمامي
وقال: عليك يا عبدي السلامُ
فكدت أطير من فرحي شعاعًا
وراح من الجوى يجف القوامُ
وقد أطرقت ذهلًا واندهاشًا
وزاغ، وزاغ في فميَ الكلامُ
وخلت القلب فرَّ وطار عني
وضاع الحزم وانحل الحزامُ
مهاةٌ همت وجدًا في هواها
وكم هامت على الأهواءِ هامُ!
وحين بدا لها ذهلي وبهتي
ولجلجتي ووجدي والهيامُ
عطت بالجيد وابتسمت بلطفٍ
وكررت السلام كما يرامُ
وحاولت الجواب فكيف يحلو
جوابٌ من فمٍ فيهِ فدامُ
فقالت: هل يروقك بعد وصلي
شرودٌ عن شهودي وانهزامُ؟
فقلت لها: جديرٌ أن تقولي:
أراقك بعد هجري الالتظامُ؟
نعم قد راقني بجفاك هتكي
فمنك اليوم قد هتك الذمامُ
لذلك لذَّ لي عنكِ انفرادي
ورُبَّ تفرُّدٍ فيهِ اغتنامُ
فقالت لي: متى صدي وهجري
وأين وكيفَ ذلك يا همامُ؟
فقلت لها: أنا أعتدُّ هجرًا
أقلَّ جفًا بهِ قلبي يضامُ
وأحسب كل لفظٍ منكِ يقسو
كلامًا في الفؤَاد لهُ كلامُ
ولا عجبٌ فذا مما بصدري
من الوسواس فيكِ فلا أُلامُ
فقالت: والذي أنشاك صبًّا
لحكمتهِ على نفسي احتكامُ
أنا ألقى الذي تلقى ولكن
أرى أن الهزيمة لا ترامُ
فقمنا في اصطلاحٍ بعد عتبٍ
لهُ في القلب قد فتح الصمامُ
وسرنا والشجون على التصابي
يعالجها عناقٌ وانضمامُ
هناك كسرت قوَّات التجافي
بسيفٍ ليس يعروهُ انثلامُ
فسيف العقل في الدنيا لسانٌ
وسيف الجهل وا أسفي حسامُ!
على أن الفتى بالنطق يحيا
وبالنطق الوفاقُ أو الخصامُ
فما وجدت طبيعتهُ سلاحًا
سوى العقل الذي فيهِ السلامُ
فلا ظفرٌ ولا نابٌ طويلٌ
ولا قرنٌ ولا سمٌّ يسامُ

وقال راثيًا سيادة المرحوم المطران إثناسيوس تتنجي:

ما للدموع من البريةِ تنسجمْ
وعلامَ أضحى كل قلبٍ مضطرمْ؟
لمن النحيب؟ لمَ البكاءُ؟ لمَ الأسى
بالله أي الفاضلين لقد عدم!
هذا هو الحبر النبيل المتقى
إثناسيوس يا دمع مقلتيَ انسجمْ
شهدت على أفضالهِ أقلامهُ
بمؤلفاتٍ قد حكت أحلى الكلمْ
فعلى ضريحك سيدي أبكي الدما
إذ إنني لك بالمدامع ملتزِمْ
هذا مراد الله لا دفعٌ لهُ
فالصبر أولى، والقضاءُ لقد حكم
ما دام كل بدايةٍ لنهايةٍ
فنهاية الإنسان أمرٌ قد جزِم
هذا حزينٌ ذا طروبٌ ذا لهُ
وجهٌ عبوسٌ ذاك وجهٌ مبتسم
ويلاهُ من جور الزمان فإنهُ
يحمي الجهول ويقتل الندب الشهم
فعليك تبكي أعيني وجوانحي
تصلى بجمرٍ في ضلوعٍ قد ضرم
من بعدك الحق امَّحى والرشد قد
ولَّى، وناموس العدالة قد هدم
كم كنت أبسم إذ تراك نواظري
والآن وجهي من ضنًى حزني يجم
دعني عليك أخا قنوطٍ باكيًا
أسفًا وكن في حضن ربك مرتحم

وقال يمدح صاحب الجلالة حضرة «فؤاد باشا» ناظر الخارجية حينما كان مدبرًا أحوال سوريا في أيام مصائبها سنة ١٨٦١:

للدهر أحكامٌ عواقبها حكمْ
فاخضع لديهِ خضوع خصمٍ للحكمْ
وإذا الزمان أتاك بالنقم التي
فيهِ تجلد فهو يقبل بالنعمْ
زمنٌ إذا ضرم الوغى بين الورى
يبدي لهم خيرًا يجد مع السلمْ
لا أعجبنَّ لفتنةٍ في الناس بل
عجبي إذا سلمت من الفتن الأمم
من كان مطلعًا على التاريخ لم
يعجب إذا ما الشر قام على قدم
هيهات أن يمضي زمانٌ دون أن
يطوي على شرٍّ بجبهتهِ ارتسمْ
كلٌ على الأسواءِ منطبع فلا
عتبٌ إذا ساء الفتى فلهُ ندمْ
والمرءُ يجهد أن يقيم لذنبهِ
عذرًا ولا عذرٌ سوى نقص الشيم
ويحٌ لسوريا بهذا العصر كم
قد شبَّ جمر الخطب فيها واضطرم!
وطئت رءوس الكل أخماص الأسى
وتأججت بقلوبهم نار النقمْ
هبطت على لبنان صاعقة الردى
وغدا يلاطم سفحهُ موج الألمْ
فارتجَّ قطر الشام من زلزالهِ
وبناءُ ذياك الجمال قد انهدم
لو كان للأرز القديم فمٌ بهِ
يحكي لجاء بما تشيب بهِ اللمم
شيخٌ على لبنان قام مصادمًا
هول الزمان وليس يعطبهُ الهرم
كم أذنهُ سمعت عويل نسًا وكم
نظرت نواظرهُ على دمنٍ رممْ!
صبغت دمشق ذيولها بدم الورى
وجرى بهِ بردى لدى كل النسم
حتى غدا العاصي مطيعًا للبكا
بأنينهِ وقويق جارته الغمم
كانت جبال المجد عاليةً وقد
دكت، فوا أسفا على ذاك الشمم!
وغدا سرور الناس حزنًا هائلًا
وثارت النوح العظيم ذوو النعم
وقد اكتسى ثوب المذلة والضنا
من كان مكتسيًا بجلباب الكرم
ما جلقٌ إلا كمكة بالتقى
أيحلُّ سفك دمٍ بأبواب الحرم؟!
رعيًا لكم يا ساكني حلبٍ فما
زلت بكم قدم ولا خنتم قسمْ
والجار ملتزم بإخلاص الوفا
ليجر في البلوى فبينهما ذممْ
نكث العهود أفاض دمعًا دونهُ
فيض الغمام فكم ترقرق وانسجم!
لم تلقَ غير مزملٍ بدمائهِ
يبكي، وآخر راح يذبح كالغنمْ
ضرمت بأفئدة الورى نار البلى
فأتى فؤاد العدل يطفي ذا الضرم
حكم إذا ساق الزمان على الورى
جيش المصاب يردهُ بقوى الحكم
أبدى لإصلاح الرعية جهدهُ
كأبٍ بتربية البنين قد التزمْ
فعنت لصولتهِ البلاد، وكيف لا
تعنو وقد شهر المهند والقلمْ؟
والحكم ملح الأرض يصلح ما بها
من فاسد الاخلاق إذ لولاهُ لم
لولا قدوم جلالهِ السامي إلى
هذي الديار لعاث بالناس العدم
مذ حلَّ جِلَّقَ كالشهاب أنارها
وجلا عن الشهباءِ هاتيك الظلمْ
فانجاب ديجور الشقاء وكان ذا
كفرٍ وصبح سنا النسيم قد ابتسم
نقل العباد من العناءِ إلى الهنا
وأعاد شأوهُم إلى أعلى القممْ
فبكل قلبٍ للمهابة رعدة
تبدو إذا سل الصوارم واحتكم
كتب القضاءُ على فرند حسامه
لولا مضاءُ السيف من يرعى الأمم
ولقد حباهُ الله عقلًا نيرًا
حارت بجوهرهِ الأعارب والعجمْ
رجع الوبال إلى الورا نكصًا فقد
سدت عليهِ طرقهُ تلك الهمم
والدهر أظمأَ كل ريان الحشا
فشفى الصدى بنوالهِ الحاكي الديم
نثرت يد البغضاءِ عقد العهد مذ
وقع القضا لكن بحكمتهِ انتظم
يا ساهر الأغلاس خوف الضيم لا
خوف على من بالفؤاد قد اعتصم
ملك الورى أعطاهُ تدبير الورى
طرًّا، فأعطى القوس باريها فنمْ

وقال يرثي شابًّا من أصدقائهِ:

ما للوجوه غوائصٌ وسواهمُ
ولمَ العيون شواخص وسواجمُ؟
ماذا جرى فأخو الفصاحة ساكت
فوق الرغام، وذو البشاشة واجمُ؟
ما لي أرى هذي النفوس تذوب في
صغرٍ وهنَّ جوامد وعظائمُ
ما لي أرى وجه الأثير معفرًا
والأفق يغشاهُ العجاج القائمُ
بدرٌ هوى في الترب وهو مزين
بتمامهِ وعلى صباهُ تمائمُ
بدر تحجب في الخسوف وكان ذا
وجهٍ يضيءُ بهِ الظلامُ الفاحمُ
غصن على دوح الشبيبة كان في
زهو، فجاذبهُ القضاءُ الظالمُ
غصن ولكن بالمحاسن مفرع
أودى بهِ نسر المنون الحائمُ
ظبي يصيد بطرفهِ أسد الشرى
فاصطادهُ أسد الحتوف الهائمُ
ظبي لهُ الأكباد كانت مرتعًا
فقضى ووسدهُ التراب الكاظمُ
فلتندبنَّ النادبات عليهِ ما
ناحت على أفنانهن حمائمُ
أسفًا على ذاك الشباب وما حوى
من رقةٍ منها تفوح نسائمُ
أسفًا على ذاك الشباب فقد ثوى
ومشت عليهِ دبائب وبهائمُ
يا أعين الغيد التي افتتنت بهِ
نامي، فها تلك العيون نوائمُ
ولأَنت يا خود الخدود تأملي
كيف الخدود خبت وفرَّ اللاثمُ؟
ولربَّ موتٍ شطَّ في شيب الفتى
عنهُ وطورًا في الشباب يزاحمُ
كالدهر فهو لذي الغيور مواصلٌ
ولذي الجهاد مباعدٌ ومصارمُ
ولذي الصلاح مقاتلٌ ومحاربٌ
ولذي الطلاح مصالحٌ ومسالمُ
نفس النفيس لدهرها مخطوبةٌ
وصداقها خطبٌ وضيمٌ دائِمُ
ماهذه الدنيا سوى مجموعةٍ
يلهو عليها جاهل أو عالمُ
دنيا تعلمنا علومًا دونها
راحت تحار خلائقٌ وعوالمُ
ما الموت إلا حاكم إن يحتكم
خضعت لديهِ غطارفٌ وضياغمُ
بطلٌ يكرُّ مدى الزمان مغازيًا
ولهُ نفوس العالمين غنائمُ
سحقًا لموتٍ في دجاهُ قد امَّحى
بدر بهِ كانت تضيءُ دياجمُ
أضحى لهُ بين القبور معاهد
ظبي لهُ بين القلوب معالمُ
لما بكتهُ الثاكلات عوابسًا
غنت بهِ الأملاك وهي بواسمُ
فعلى الثرى حزن عليهِ وفي السما
تنعدُّ أعياد لهُ ومواسمُ
وا حسرتاه عليك يا غصن الصبا!
كيف انقصفت وأنت غصن ناعم؟
كيف انكسفت وأنت شمسٌ في الضحى
كيف امَّحيت وأنت نورٌ باسمُ؟
أسفًا عليك أيا غضيض وحسرةً
وعلى صباك الندب أمر لازمُ
ما طيبت مثواك أرواح الصبا
وبكت على زاكي ثراك غمائمُ

وقال موزعًا الأحرف الهجائية في أوائل كل كلمة من كل بيت بالاستقراء:

إلى الحب أشواقي استطال ازدحامها
أذاب الحشا، أفنى الرقاد اضطرامها
بروحي بقلبي بالحياة بديعةً
بها بانَ بلبالي بمسكٍ بشامها
ترى تدري تعذيبي ترقُّ تعطفًا
ترائبها تسبي تسامى تمامها
ثداها ثريفٌ ثؤَمٌ ثم ثغرها
ثمنٌ ثناياها ثويٌ ثمامها
جوًى جلدي جزَّاهُ جار جفاؤُها
جزيلة جورٍ جادَ جمرًا جهامها
حوت حدقًا حامت حديقة حسنها
حشايَ حذارِ حيث حال حسامها
خريدة خدرٍ خصني خوط خصرها
خصيبة خدٍّ خادعتني خيمها
دعتني دعوها دار دور دلالها
دمى دُعجها دَرَّتهُ دَامَ دوامها
ذروها ذروها، ذابلية ذابلِ
ذموميَ ذر ذمي ذواني ذمامها
رجيحة ردف، راقَ راح رضابها
رقيقة روح راع روحي رعامها
زها زمني، زالت زوابع زيغتي
زواهر زهري زيدَ زهوًا زحامها
سمية سمتٍ سادني سيف سعدها
سناها سبى سرِّي سلاني سلامها
شمائلها شقت شمولًا شهودها
شريفٌ شذاهُ شنَّ شوقي شمامها
صماني صلاني صادَني صولُ صدها
صوارمها صالت صروفي صدامها
ضفائرها ضيعنَ ضوءَ ضمائري
ضعينتها ضدِّي ضناني ضرامها
طوت طاقتي طرًّا طلائع طرفها
طلاها طريفٌ طابَ طعمًا طرامها
ظلومٌ ظوامي ظلمها ظلمتهمُ
ظفائرها ظلٌّ ظليلٌ ظلامها
عديمة عيبٍ، عاهدتني عيونها
على عشقها عذراءُ، علتْ عظامها
غدائرها غادرنني غيرَ غانمٍ
غرتني غوازيها غواني غمامها
فداها فوادي فهي فيهِ فريدةٌ
فإن فتكتْ في فلذتي فمرامها
قلاها قلاني قد قصتني قبابها
قسيَّةُ قلبٍ قدَّ قلبي قوامها
كثيرة كبرٍ كم كواني كفافها!
كعوبٌ كساني كل كربٍ كلامها
لماها لذوقي لذَّ لما لثمتهُ
لعمريَ لما لاحَ ليلًا لثامها
مدامتها من مقلتيها مدارةٌ
مهاةٌ مخدرةٌ منيعٌ مقامها
نعيمة نار نعم نور نهودها
نقيةُ نحر ندَّ نظمي نظامها
هناك هواها هاجني، هدَّ همتي
هناني هيامي، هل هناها هيامها؟
وحقِّ ولاها والهوى وعيونها
ولوعي ووجدي واجتهادي وشامها
لئن لامني لاحٍ لأقصيهِ لاعنًا
لأني لأعينها لأعشق لا مها
يرنحني يومًا يبرُّ يمينها
يتيمني يومًا، ينوحُ يمامها

وقال تاريخًا ينقش على ضريح «روفائيل فتح الله كوبا»:

هذا رياض أم سماءٌ أم ثرى
فيهِ ثوى بدر وغصن أنعمُ؟
غصن من الشرفاءِ زاكٍ أصلهُ
بدر بنور كمالهِ يتبسمُ
ما حلَّ «روفائيل» في هذا الحمى
إلا ليحميهُ المحلُّ الأعظمُ
فليرعَ لحدَك خير تاريخٍ أيا
بدرًا قضى فبكت عليهِ الأنجمُ
سنة ١٨٧١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤