قافية الدال

سعادة المحب

بدا نورُ إقبالي ولاحَ سنا سعدي
وقد راقَ دهري والأماني غدت عندي
وعدت على رغمِ الوشاة وكيدهم
أليفَ أحبائي الذين بهم عهدي
أنا هُوَ سلطان الغرام وربُّهُ
وكلُّ فتًى يرعى الهوى هو من جندي
نشرتُ على كل الورى رايةَ الهوى
وسرتُ وطبلُ الحبِّ يضرب في كبدي
أميلُ فألقى الغانياتِ تزفُّ لي
عرائس حسنٍ تكتسي حلل المجدِ
ولكنَّني والله لستُ أرى سوى
فتاةٍ إليها قد غدا منتهى جهدي
وهيهات أن أصبو إلى غيرها فما
رأت مقلتي شبهًا لمنظرها الفردِ
إذا أقبلت تختالُ تحتَ فراطقٍ
تضوَّعَ من أذيالها أطيبُ الرندِ
محجبةٌ لكنْ بخدرِ دلالها
وإنَّ دلالَ الخودِ أحلى من الشهدِ
تميلُ بخمر التيهِ كالغصن في النقا
وتعطو بخدٍّ قد تعطَّر بالوردِ
يكاد الهوى يفضي بقلبي على الفنا
إذا ما رنت باللحظ كالصارم الهندي
تمدُّ من الألحاظ سلسلة الهوى
فتجذبني رغمًا إلى قمَّة الوجدِ
وما أعينُ الحسناءِ إلَّا سلاسلٌ
تقودُ الفتى نحوَ الصبابةِ والسهدِ
فيا أيها العذَّالُ كفوا فإنني أرى
جمرةَ الأشواقِ في القلبِ كالورْدِ
فلو ذقتمُ بعض الذي في حشاشتي
لكنتم عذرتم كلَّ من هام بالقدِّ
ولو كان ما بي في الجبال لأصبحت
تئنُّ أنينَ الثاكلات على اللحدِ
فكم ليلةٍ ليلاءَ راعيتُ شهبها
وسترُ الدُّجى فوق الخلائق كالبردِ
وما لذة الإنسان إن كان خاليًا من
الحبِّ! إن الحبَّ دأْبُ ذوي الرشدِ
فبيعوا بأسواقِ الهوى دُرَر النهى
أيا ناس حتى تكسبوا جوهر القصدِ
ويا ويحَ من لم يُعطِ للعشق قلبهُ
فلم يرَ إلَّا ما رأت أعينُ الخلدِ
أنا للهوى أعطيتُ كلَّ تأملي
فعانيتُ في مرآتِه صُوَرَ السعدِ
رسمت على وجهِ الزمان صبابتي
وشاع غرامي من سعادَ إلى دعدِ
فصيتٌ حكى صوت الصواعق بينما
يخالفهُ إذ ليسَ يضعفُ في البعدِ
وللشمسِ في قلبي حملت كهرمسٍ
وما صرت مسخًا مثلهُ بل على حدِّي

إلى الشاب الأديب جرجي أفندي يني:

وفاءُ الخلوص

حمى الله من حنت فزارت بلا وعدِ
حمى عاشقٍ لولا اللقا ذاب بالصدِّ
لقاءٌ أطار القلب مني سرُورهُ
فأنشدتهُ بين الترائب والنهدِ
أما والهوى العذريِّ حلفة والهٍ
تمنيتُ لو كانت خطاها على خدي
مهاةٌ شكا قلبي تباعدَها كما
شكا قرطها بُعْدَ المناط عن العقدِ
ولما نضت عن بدر بانٍ سحابةً
وشقت عقيقًا عن جمانٍ وعن قنْدِ
رنت بكحيلٍ قد توارى بهِ الحيا
فأورى بقلب الصبِّ وَجْدًا على وجدِ
سقتني من كاس الأقاحِ مدامةً
منبذَةً من سكر الطلع والوردِ
وقد شنفت سمعي بنطقٍ كأنهُ
حديثُ ابن يني فاخر الجدِّ والجَدِّ
هلالٌ سيبقى كلَّ بدر قلامةً
وغصنٌ سيغدو دوحةً في رُبى المجدِ
وما ضرَّهُ سنٌ صغيرٌ فعقلهُ
كبيرٌ درى الدنيا كشيخٍ أخي جهدِ
لكَ الله من نجبٍ إلى العلم والحجا
سعى سعيَ ظمآن الفؤادِ إلى الورد
فأتحفتني مما فلحتَ ولم أكن
لأنسى الوفا باكورةً حسنت عندي
غلتْ وحلتْ كالدر والشهد قيمةً
وذوقًا فقد دلَّت على خالص الودِ
فديتك فرعًا قد ذكتْ ثمراتُه
ولا عجبٌ؛ فالأصلُ أزكى من الندِ
أُعيذكَ من كيدِ الحسودِ ولم تُبَلْ
فأنتَ سعيدٌ، والحسودُ بلا سعدِ
فكنْ في اجتناءِ العلم والفضل كادحًا
مدى العمر كدحَ النحل في مجتنى الشهدِ
وقم واسْعَ واجهدْ واخدم الوطنَ الذي
لمثلك أضحى في افتقارٍ بلا حدِّ

وقال وقد بعث بها إلى صديقهِ الخواجة جبرائيل دلَّال جوابًا عن رسالةٍ أتتهُ منهُ:

محاجرُ صبٍّ سافحاتٌ سواهدُ
لهنَّ الغوادي والدراري شواهدُ
وقلبٌ رهينُ السير في سُبُل الولا
ولو حادتِ الجوزاءُ ما هو حائدُ
وروحٌ على البرحاءِ تُصلَى وعينُها
تراقبُ عينَ الشملِ، والشمل راقدُ
لباناتُ نفسٍ في سماءِ صبابةٍ
سمونَ فكانت دونهنَّ الفراقدُ
أجاهدُ في نيل الأماني وقد عَلَتْ
كأَنيَ في نيل النجوم أجاهدُ
أحبَّة قلبي لو علمتم تشوُّقي
ووجدي عجبتم كيف أَنيَ واجدُ
أساءَ إليَّ الدهرُ وهو أبو الأسى
بإبعادكم، ليتَ المسيءَ يساعدُ
وغادرني والعذر شنشنةٌ لهُ
أكابرُ أوصابَ الردى وأكابدُ
أُنادي الليالي وهي صمٌّ صوامتٌ
وأشكو إلي الأقدار وهي جلامدُ
تبوَّأتُ عرشَ الصبر ملكًا على الضنا
فثارتْ لإسقاطي خطوبٌ شواردُ
يعاندُني دهري بقبح فعالهِ
وإنِّيَ بالصبرِ الجميل أُعاندُ
وما المرءُ في دنياهُ غير سفينةٍ
على البحر تاهت والرياحُ تُطاردُ
حياة الفتى في الأرض غفوة نائمٍ
يمرُّ بها كالطيفِ حيٌّ وجامدُ
رويدكَ يا ابن الحلم حتامَ في الكرى
تضجُّ مع الأشباحِ، والكلُّ فاسدُ؟
إذا لم يكن نجمُ النهى لك قائدًا
ضللتَ، ولو أن السهى لك قائدُ
سلاحُ الفتى في حرب دنياهُ صبرُهُ
على فتكها؛ فالصبرُ سيفٌ وساعدُ
أنا لم أجد غيرَ الشجاعة في البلا
معينًا، فكلٌ في البلاءِ مباعِدُ
عليلُ همومٍ لا دواءَ لعلتي
سوى همي، فالطبُّ كالداءِ وافدُ
جفانيَ أحبابي وأهلي ومعشري
وما عاد لي منهم سوى الضرِّ عائدُ
وباعدني — وا حسرتاهُ — أقاربي
وقاربني — وا فرحتاهُ — الأباعدُ
وصرتُ غريبًا في دياري ومعهدي
ولم يبقَ لي بين الأنامِ معاهدُ
فما عاد يحلو لي سوى مرِّ شقوتي
فإن الشقا للمرءِ خلٌّ معاضدُ
وماذا من الإنسان يُرجى سوى الخنا
فتبَّت يدُ الإنسان؛ كم هو جاحدُ!
فما عرفَ المعروفَ قطُّ ابنُ آدمٍ
وإن جاءَهُ يومًا فللفخر قاصدُ
ومن خُلُق الحوباءِ صنعُ الردى فإنْ
أبتهُ فذا فعلٌ من العجز واردُ
وساقيةٍ قالت لبحرٍ عرمرمٍ:
أنا لم أَغَلْ فلكًا وما بي شدائدُ
متى هجعت أُسْدُ الشرى عن زئيرها
أو ارتجعت عن شرّهنَّ الأساودُ؟!
طباعٌ على أخلاقها انطبعت فلا
يطبِّعُها إلَّا الزمانُ المعاندُ
وأفضلُ هذا الخلقِ من أَمَّ سَمِيَّهُ
فذلك عن شرِّ الورى متباعدُ
إذا قامَ بينَ الناس ربُّ فضيلةٍ
رَموهُ بسهم الذمِّ إذ ليسَ حامدُ
على أنَّ أعداءَ الفضيل ثلاثةٌ
غيورٌ بلا عقلٍ، ونكسٌ، وحاسدُ
أظنُّ بكلِّ الناس سوءًا فكلُّهم
بنو الطغي والعصيان والسفرُ شاهدُ
ولكنَّ سوءَ الظنِّ فيمن فعالُهُ
شهدنَ على آلائِه وهو شاردُ
فهل أنت يا دلَّالُ إلَّا أخٌ بهِ
ظنوني على فرش اليقين رواقدُ؟
وهل أنت لي إلَّا صدوقٌ مصادق
على البؤْس والنعمى موافٍ موافدُ؟
فليتَ بكَ الأيامَ يا نجبُ تقتدي
فأنت على جيشِ المكارم قائدُ
وما جاشَ منك الجأشُ إلَّا على الوفا
فنعم الجنانُ الشهمُ، كم هو ماجدُ!
أتتنيَ من أبكار فكرك كاعبٌ
لَكَعْبةِ معناها تخرُّ الخرائدُ
إذا ما تناءَت فالعيونُ سواجمٌ
وإِمَّا تدانت فالقلوبُ سواجدُ
فتاةٌ لها من كل معنًى ونكتةٍ
عقودٌ، ومن حسن البيانِ قلائدُ
بيانٌ عن «الكنديِّ» فصاحةً يروي
وسحرٌ حلالٌ منهُ «هاروت» خامدُ
معانٍ كأسلاكِ النضارِ تنضَّدت
بها دُرَرُ الألفاظِ وهي فرائدُ
تغارُ نسيمُ الروض من لطفِ طيبها
وتهفو إليها الغانياتُ النواهدُ
عشيرَ الصبا هلَّا تناسيتَ عهدهُ
فقد عُدْتني إذ لم يعدْ لي عائدُ
ومَنْ لي من العوَّادِ غيرك مخلصٌ
فذا شامتِ علجٌ، وذلك حاقدُ!
يُطيِّبُ قلبي ريحُ أفواههم وفي
قلوبهم جمرُ الضغينةِ واقدُ
بمثلك يا راعي الذمامِ نشائدي
فمثلُك من تعتزُّ فيهِ النشائدُ
فأنتَ على «برجيسَ» أربيتَ مهيعًا
وحُطَّ لدى عالي ذكاك «عُطاردُ»
وفي قبضتيكَ الكلُّ ما زال باقيًا
على خير توقيعٍ طريفٌ وتالدُ
لبستَ ثيابَ العزِّ والعزمِ والحجا
فعُدْتَ فتًى تخشى لقاك العوائدُ
ويعشو إلى نار الذكا منك مقريًا
ضليلٌ خوٍ حيثُ الهدى والموائدُ
تجمَّعَتِ الآدابُ فيك فلم تجدْ
سواك لها أهلًا، فإنك واحدُ
متى أيها النائي تأُوب إلى الحمى
فإنَّ عيونَ الصحب فيك سواهدُ؟
وقد زادَ كيلُ البعدِ بعدَ امتلائِه
أليسَ أخا النقصانِ ما هو زائدُ؟

وقال:

بقلبي نيرانُ الجوى تتوقَّدُ
وفوقَ خدودي مدمعي يتزرَّدُ
أبيتُ الدُّجى والشوق ما بين أضلعي
يجدُّ، وأثوابُ الضنا تتجدَّدُ
وكيف يقرُّ النومُ في أعيني ولي
فؤَادٌ بهِ صوتُ الصبابةِ يُرعدُ!
أنا المغرمُ المفتونُ والحبُّ عادتي
وكلٌّ على حبِّ الحسانِ مُعَوَّدُ
سحابُ الهوى فوقي يمدُّ شراعهُ
وبحرُ الجوى بين الجوانح يزبدُ
بروحي أُفدي من ثملتُ بلحظها
فرحتُ من السكرانِ سكرًا أعربدُ
غزالةُ خدْرِ لو رأى البدرُ وجهها
لأضحى لها كالعبدِ في الأوجِ يسجدُ
منعَّمةٌ، إن أنكرتْ قتلتي بها
فلونُ دمي في خدِّها قام يشهدُ
يلحُّ عذولي حيث قلبي مولعٌ
وكلُّ عذولٍ مثلما قيل مفسدُ

شكوى البين

سلوا «هندَ»: هلَّا ينقضي زمنُ البعدِ
وهلَّا تراعي حرمةَ العهد والودِّ؟
وقولوا لها: بالله رقي لمغرمٍ
أذبتِ حشاهُ بالتدلُّل والصدِّ
يبيتُ الدجى يرعى الصبابة والهوى
ويرفلُ في ذيل التشوُّق والسهدِ
عسى أنني يومًا أمرُّ ببالها
فترثى لحالي، إنَّ ذا غاية القصدِ
رمتني بسهم البين عمدًا وغادرت
دموعي تجري كالعهادِ على خدي
على القلب مني طرفُها رَسَمَ الهوى
فيا قلبُ، هذا الرسمُ من ذلك الحدِ
سأَلتُ ارتشافَ الثغر منها فأعرضت
وقالت: سل الخدين فالوِردُ للوَردِ
محاسنُ أخلاقي بأعينها قذًى
وذكري في آذانها صممٌ يُردي
لها بَدَنٌ مثل «الدمقْسِ» نعومةً
ولكنَّ منها القلب كالحجر الصَّلْدِ
لواحظُها يجرحنَ قلبيَ كلَّما
يغازلنني، واللحظُ كالصارم الحدِ
فما قتلتي كانت بسيفٍ وصعدةٍ
ولكن بتلك الأعين النجل والقدِ
على غصن ذاك القدِّ طيرُ الجمالِ مذ
ترنمَ عاد القلبُ يرقصُ بالوجدِ
شمائلها تزري النسيمَ لطافةً
وقامتها تاهت على القضبِ الملدِ
ولي كَبِدٌ في حبها قد أضعتها
لعمري ما بين الترائبِ والعقدِ
أرتني فوق الخدِّ خالًا يقولُ لي:
تأَمَّل ففي نار اللظى شرفُ الندِ
تطارحني الهجران هزلًا وإنني
على حذرٍ من مزجها الهزلَ بالجدِّ
سبتني بهاتيك الثنايا التي غدت
توضحُ لي كيفيّةَ الجوهر الفردِ
فإن تبتسمْ فالدرُّ، أو تَبْدُ فالسنا
وإن تلتفت فالظبيُ، أو ترنُ فالهندي
تتيهُ برمانٍ وبانٍ ونرجسٍ
من الطرف والقدِّ المهفهف والنَّهدِ
غزالٌ يغازي في كناس حشاشتي
لهُ مقلةٌ تُدمى بها مُهجٌ الأسدِ
فيا حسنهُ، من ذي دلالٍ وقسوةٍ
يحمِّلني ما لا أطيق من الصدِّ
متى يا ترى من غير وعدٍ يزورني
وأحلى لقاءٍ ما يكون بلا وعدِ
سقى المزنُ شعبًا فيهِ قد سار هودجٌ
يلوحُ لنا من سجفهِ قمرُ السعدِ
تقلَّصَ ظلُّ الشمل حين تشيَّعت
قلائصُ أورت في الحشا شَرَرَ الزندِ
تحمَّلنَ لكن نورَ عينيَّ والمنى
وسرنَ ولكن في فؤَادي والكبدِ
فبتُّ وأحشائي تذوبُ صبابةً
أليفَ البكا، راعي الكآبةِ والسهدِ
يهجيني شدوُ الحمائمِ بكرةً
بروضٍ نمت فيهِ شذا الغار والرندِ
فلمْ — يا حمامَ الدوحِ — تنعي بحرقةٍ
إذا كنت ولهانًا فذا بعض ما عندي؟
أنا ذلك الصبُّ الذي بات هائمًا
بوادي الهوى يبكي، وليس البكا يجدِ
إذا كان دمعى لا يزالُ مسلسلًا
فشوقي دورٌ ما لهُ قطُّ من حدِّ
وكم قد أرقتُ الدمعَ من أعيني وكم
أرقتُ الدُّجى والسهدُ طبعُ أخي الوجدِ!
أرى البدر كالسلطان في ساحة الفضا
مشى والدراري حولهُ سرْنَ كالجندِ
قضى اللهُ بالتفريق والبين بيننا
وليس لفعل اللهِ — يا صاحِ — من ردِّ
وعادةُ هذا الدَّهر ألَّا يكونَ ذا
ثبوتٍ، وليس الدهر يُعزى إلى عهدِ
وهى جسدي ضاعَ احتمالي نأى الكرى
عفا جلدي ضاقَ احتيالي غوى رشدي
ألا يا مهاةَ البانِ، بان تجلدي
ببعدكِ، واستعلى القسام على جلدي
متى يا سُلَيْمَي تنقضي مدةُ النوى
فما عاد لي صبرٌ على ذلك البعد؟ِ
إذا كنتُ قد أذنبتُ فالعذر واضح
وعن خِطْءِ ذنبي وعذري على عمدِ
أنا في سبيل الحبِّ ما زلتُ ساعيًا
وليس يفيدُ السعيُ شيئًا بلا سعدِ
أجاهدُ في نيل المطالب والمنى
ولم يُدرَك المطلوبُ قط بلا جهدِ
وما كلُّ ذي جهدٍ يفوزُ بجهدهِ
فليس عن الأمر المقدَّر من بُدِّ
ودائرةُ الأعمال مركزها الرجا
وسلسلةُ الآمال تُفْرَطُ في اللحدِ
ومن أحسن الأشياءِ نفسٌ أبيَّةٌ
تردُّ جوادَ الفكر عن ساحة الرفدِ
إذا وعد المفضالُ أصبح منجزًا
على أن نكث الوعدِ من شيم الوغدِ
مكايدُ هذا الدهرِ تُعزَى لأهلهِ
فكلٌّ على كلٍّ كلطمٍ على خدِ
وكلُّ امرئٍ ملقًى لكلِّ مصيبةٍ
من الشيخ في المثوى إلى الطفل في المهدِ
فها إنني اليومَ اعترتني مصيبةٌ
ببينِ صديقٍ صادقٍ ماجدٍ فردِ
تناءَى وقد كان التداني يضمُّنا
ببردِ الهنا، يا ما أحيلاهُ من بُردِ!
بعادٌ كساني حلةَ الضيم والضنا
وسلَّط سوط النائبات على جلدي
فيا قاتل الله النوى ما أَمَرَّهُ
ويا سالمَ اللهُ اللقا فهو كالشهدِ!
ولي معشرٌ عن أعيني بَعُدُوا وهم
عن القلبِ لم يبعُدْ لهم قط من ودِّ
تُرى هل تَرى عينايَ لؤْلؤَها غدا
بأعناقهم يومَ التعانقِ كالعقد
فيا أيُّها الأحبابُ، لمَّا امتطيتمُ
ظهورَ المطايا راحَ قلبي لكُم يحدي
رحلتم وخلَّفتم فؤَادي على لظًى
وأسقيتموني أكؤُسَ البينِ والبعدِ
متى يا كرامَ الحيِّ أحظى بقربكم
وأغدو بأنوار البشائر مستهدي؟
فقد حال ما بيني وبينكمُ النوى
كما حال شوقٌ بين جفني والرقدِ

وقال:

أيها الواصف بحرًا قد بدا
جزْرهُ بالشعر دَعْ ما لا يفيد
إنَّ لي دمعًا مقيمٌ مدُّهُ
أفما تشعرُ بالبحر المديد؟

الخضوع

قل للذي يشكو صدودَ الخرَّدِ:
هذا عذابكُ بالهوى فتجلَّدِ
إن كنت تهوى الغانياتِ فكن على
إعراضهنَّ حليفَ صبر تسعدِ
والحبُّ شرُّ بليَّةٍ فإلى متى
يا قلبُ أنتَ عن البلى لم تبعدِ؟
تطوِي الظلامَ وأنتَ تنتظر الوفا
هيهات ممَّن لا تقومُ بموعدِ
أفديك يا كلَّ المنى حتامَ لم
تطفي لهيب الصدِّ من قلبي الصدي؟
لم يُبقِ هجرُكِ لي سوى مُقَلٍ فهل
قبلَ المماتِ تراك بين العُوَّدِ؟
نارٌ بقلبي لا يطيقُ سعيرَها
وبغير ترشافِ اللمى لم تخمدِ
ظمأي تزايدَ يا معللتي ولا
يشفيهِ غير رضابكِ المتبرِّدِ
فكأَنَّ سيفَ اللحظِ منكِ يقول لي:
يا أيها الظامي، فؤَادُك موردي
لا تظهري للناس هجركِ إنني
أخشى الشماتة من عيون الحُسَّدِ
قد ضاع عمري في هواكِ ولم أَنَلْ
وا حسرتي منكِ سوى ذكر الغدِ
وبنار بعدكِ ذاب قلبي ليتهُ
بنعيم قربكِ نالَ حظَّ المشهدِ
واللهِ لم أكُ قبلَ حبِّكِ عالمًا
أَنَّ الهوى يأتي بكل منكدِ
قسمًا بنرجس طرْفكِ الجاني على
قلبي ولؤلؤ ثغركِ المتنضدِ
لم أسلُ قطُّ هواكِ يا ذات البها
كيف السلوُّ وأنتِ غايةُ مقصدي؟
بالحبِّ إن أتلفتُ مالي لم أخف
فقرًا؛ ففي خدَّيكِ معدِنُ عسجدِ
لا تحرميني طيبَ وصلكِ منيتي
بل فاحرمي الواشي سماعكِ يكمُدِ
غادرتني هَدَفًا لكلِّ ملمَّةٍ
في ذا الغرامِ، فيا معذبتي انجدي
ووعدتني بالوصلِ لكنْ لا وفًا
فدعي وعودَكِ إن تشي أو توعدي
وأنا على رأسي وعيني كُلُّ ما
ترضينهُ، والطوعُ فضلُ الأعبدِ
لكِ معطفٌ لو لم يمرِّنْهُ الصبا
ما اهتزَّ لطفًا إذ تمرُّ بهِ يدي
وشمائلٌ تجري ينابيع الهوى
منها على قلبي الظميِّ الموُقدِ
يا صبرُ، مالكَ في فؤَادي راقدًا؟
نبِّهْ جفونك، فالهوى لم يرقدِ
كم بتُّ في وادي الصبابةِ تائهًا
كمسافرٍ يُطغى بليلٍ أسودِ
أعدو ومن نار الخدودِ توقُّدي
يبدو، ومن نور النهودِ تنهُّدي
متحمِّلًا ذلَّ الهوى وأنا الذي
قد كنتُ في ثوب المعزَّة مرتدي
ولكم نثرتُ على الترائب لؤلؤًا
من أعيني، لكنَّهُ لم يُعقدِ
والحسنُ يجتذبُ القلوب إلى الهوى
بقوى اتفاق دمٍ ولا بقوى يدِ
يا قلبُ، ما لكَ خاضعًا متذللًا
وعلى التذلُّلِ أنت غيرُ مُعَوَّدِ؟
صبرًا على حكم القضاءِ فربمَّا
تبدي لك الأيامُ ما لم تعهدِ

وقال:

ماست فأبقت حسرةً في العُودِ
وسرت فأزرى عَرفها بالعودِ
ورنت بكحلاءٍ فراعت مهجتي
أسيافُ غنجٍ فوقَ نار خدودِ
خودٌ تريك إذا تبدَّت وانثنت
مرأَى البدورِ وميلةَ الأملودِ
هيفاءُ إن لاحت، وإن لفتت زَرَتْ
قمرَ السماءِ وجيدَ خَود البيدِ
تزهو بوردٍ أحمرٍ بخدودها
وتسودُ في بيض العيونِ السُّودِ
بحسام مقلتها وصعدةِ قدِّها
بَطَلُ الغرامِ أتى لسلب وجودي
حلَّت شموس الحسن دارة وجهها
الزاهي بعقرب صدغها المسعودِ
لما صفا ماءُ الجمالِ بخدِّها
ورأيتُ فيه بالغرامِ وقودي
قال العواذلُ لي: أتسلو؟ قلت: لا
ورفعتُ خفضةَ أصبعِ التوحيدِ
لو ذقتَ خمر رضابها يا عاذلي
ما لمتَ سكر فؤَادي المفئودِ
لا غروَ أن يكُ ريقها مثل الطلى
فالقرط منها لاح كالعنقودِ
جاءَت لتنظرَ ما بقي من مهجتي
بعدَ البعادِ، فقمت للتوسيدِ
وكسوتها ثوبَ العناقِ مطرَّزًا
بالحبِّ مزرورًا بلثم نهودِ
كم أودعتْ قلبي اشتياقًا قد دعا
عيني إلى الإطراق والتسهيدِ
أيدي النوى عصرت شمولَ الشوق من
كرمِ الهوى، وسقت بكاسِ عنيدِ
كلٌّ بأحكام الزمان مقيدٌ
هيهات يحيَا المرء دون قيودِ
غلَّ الأسير كذا الأمير وإنما
ذا غلَّ في ذهب وذا بحديدِ

وقال:

لي خلُّ إن جئتُهُ بكلامٍ
طيبٍ جاءني سفاها بضدِّ
يدَّعي الهزلَ حيثُ ليس مكانٌ
رُبَّ هزلٍ يحوى حقيقة جِدِّ

وقال:

صرت صبًّا وكنت خلوَ الفؤَادِ
عدمُ الشيءِ أولٌ للمبادئ
حبُّ ريم الحمى بقلبي غدا مُتـْ
ـتَحدًا والكمالُ بالاتحادِ
ذو نفارٍ أطالَ بالهجر تعذيـ
ـبي ولم يرثِ للسقام البادي
ليتهُ يعلمُ الذي بي من العشـ
ـق فينحو بزورةٍ في الرقادِ
يا حبيب الفؤَادِ، رفقًا بصبٍّ
كاد يقضى بالصدِّ والإبعادِ
لم يَدَعْ لي جفاك غيرَ زفيرٍ
ودموعٍ تجري كصوب عهادِ
أيها الظبي، ما يضرُّك لو زرْ
تَ المعنَّى في غفلةِ الحسَّادِ!
إنني لم أخُن ودادك يومًا
فلماذا — يا ظبيُ — خنتَ ودادي؟
قتلتني عيونُك النجلُ ظلمًا
بظبا السحر واكتست بالسوادِ
أحيني بالوصالِ واملكْ حياتي
فقتيلُ الهوى عديمُ الفسادِ

مناجاة الحب

كم تردِّينَ مغرمًا ما تردَّى
بثياب السلوى ولو مات ردَّا
كيف ترضين يا مليكة قلبي
بمماتِ الذي بحبِّكِ جدَّا؟
إن أكن قد أذنبتُ فالعفوَ عَمَّن
لم تغادر لهُ الصبابةُ رشدا
لو علمتِ الشوقَ العظيمَ الذي في
كبدي، ما أتلفتِ روحيَ صدَّا
قد كستك يدُ الصبا ثوبَ دَلٍّ
رقَّ لطفًا، لكن لقلبي أردى
وصفاتُ الجمالِ قد قوَّمت ذا
تكِ حتى علوتِ علوي وسعدى
فأطيلي الدلالَ منكِ فما للشـْ
ـشَوق مني سوى دلالكِ مبدا
لكِ وجهٌ قد عنترَ الحسنُ فيهِ
وعيونٌ سودٌ يُصارعنَ أُسْدَا
أين وردُ الرياضِ من خدكِ الزا
هي الذي يفتن النهى إن تبدَّى؟
ما عشقتُ التفاح والراحَ إلَّا
منذُ قبَّلتُ منك ثغرًا وخدَّا
بفؤادي أفديك يا ظبيةَ الحيـْ
ـيِ فمثلي يفدي، ومثلكِ يُفدى
في هواكِ الكرى نأَى عن جفوني
فلكم بتُّ أطوي ليلي سهدا
كيف طرفي يذوقُ طيب الكرى وهـ
ـوَ بحبل الهوى إلى النجم شُدَّا؟
يا عذولي دعْ عنك عذلي فإني
لستُ أسلو ذاك الغزالَ المفدى
فإلى العذل كيف يلفتُ من قد
راحَ في سبسب الغرامِ مجدا
لم يصبْ يا نصوحُ رأيك في الحبـْ
ـبِ وقد قلَّ ذو الإصابةِ جِدَّا
رُبَّ رأيٍّ بهِ تسود على الحرِّ
ورأيٍّ يبقيك للعبد عبدا

وقال:

كفِّي لحاظكِ ما أبقينَ من خَلَدي
سوى شغافٍ لحمل الوجد والجَلَدِ
مهلًا فقد هلكَت روحي فديتُكِ في
نار الهوى وأنا في جنَّة الجَسَدِ
رُوَيدكِ الله في صبٍّ يطيب على
هواكِ وهو فجيعُ القلبِ والكبدِ
يا ظبيةً ما بدت للشمس في «حملٍ»
إلَّا زَرتها بشمس «القوس» و«الأسدِ»
كأنَّ حاجبكِ المقرونَ باعُ دُجًى
يضمُّ صبحًا ليحميهِ من الكمدِ
هذا جمالٌ جرت منهُ الحياة لمن
يهواهُ جلَّ الذي سوَّاهُ من جمدِ
يا طالما فيهِ قد أنشدتُ عن ولهٍ
قصائدًا رنَّحت حتى أخا الحسدِ
حسنٌ بجسم نسيبي روحهُ علقت
فليس ينحلُّ هذا الحيُّ للأبدِ
تيهي دلالًا على قلبي معذبتي
لَبَّيك لَبَّيك مهما تطلبي تجدي!
حقٌ لمثلكِ يا ذاتَ الملاحةِ أَنْ
تدلَّ، والدَّلُّ صدٌ طيِّب الصَدَدِ
يا دميةً سبتِ الرومان أعبُدُها
في هيكلٍ شيد من عاجٍ على عَمدِ
رحيقُ ثغركِ لا يحسوهُ غيرُ فمي
وخوطُ عطفكِ لا يثنيهِ غير يدي
أفدي الثنايا التي من خالها بردًا
لم يعلم الفرقَ بين الدرِّ والبرَدِ
ما أعذب الحبَّ أيام الوصال وما
أمرَّهُ يومَ وقع الهجرِ والبُعُدِ!
وما ألذَّ ليالي القربِ تجمعنا
جمعَ العناية بينَ الروح والجسدِ!
لا أنسَ لا أنسَ ليلًا بتُّ فيهِ على
سلامة الوصلِ، والواشي على حقَدِ
والشهبُ تعلو وتهوي وهي جاريةٌ
كأنها سُفُنٌ في لجةِ الجَلَدِ
أصبو إلى ربربٍ يُصمي حشايَ فما
بالُ المتيَّم يهنا وهو في نكدِ!
سرُّ الهوى في ضمير القلب أغمض من
سر التصوُّر والتعليلُ لم يردِ
كلُّ الحوادث إن فتشت عن عللٍ
تأتي ولا علةٌ إلَّا من الصمدِ
وإن بدا حادثٌ لم ندرِ علَّتَهُ
نقول: ذا صدفةٌ؛ قولًا بلا سنَدِ
ذي كلمةٌ أعربت عن جهل قائلها
ولا يقومُ كمالُ العلم في أحدِ
هذا هو الحقُّ إلَّا أنَّ قاتلهُ
يروحُ ما بين عربيدٍ ومضطهدِ
والحقُّ منطبعٌ في طبع كلِّ فتًى
وما تعدَّاهُ إلَّا فاسدٌ وردي
كلُّ ابن أنثى أميرًا كان أو وبشًا
يسودُ بالحقِّ إذ بالبطل لم يسدِ
وحالةُ المرءِ في قدْم العصور ترى
أجلَّ منها بهذي الأعصر الجُدَدِ
أما ترى هيئةَ الإنسان مزقها
تَمدُّنٌ حار منهُ الوحش ذو اللبَدِ
سحقًا لها هيئةً قامت شرائعها
على المطامع والتهويشِ واللَّدَدِ

وقال:

وصافيةٍ مشعشعةٍ
تمزِّقُ ظلمةَ الكمَدِ
شربناها مبرَّدةً
تلوح برونق البَردِ
فسارت في ضمائرنا
مسيرَ الشمس في الجَلَدِ
وقد حلَّت بأنفسنا
محلَّ النفس في الجَسَدِ
فيا بلورةً كسَرَت
صخورَ الحزن والكَمَدِ
بها يصفو بلا رئةٍ
دمٌ يحلو بلا كبدِ
ويا للراح من روحٍ
تُعيدُ الظبي كالأسدِ

وقال:

يا ركبُ، رفقًا فوخد العيس في كبدي
والزادُ والماءُ من عيني ومن جلدي
غَشِي صباحَ اللقا ليلُ الفراق وها
نجومُ دمعي بدت كثرًا بلا عددِ
سحبُ النوى حجبت أنوارَ طلعتكم
عنِّي فهبَّت رياحُ الغمِّ والكمدِ
وقفت أبكي ربوعًا بعدكم درست
آثارُها، وغدت تعزى إلى جسدي
لما رحلتم وراح الصبرُ إثركُمُ
بكيتُ، فابتسم الواشي وذو الحسدِ
يا حاسدُ، اخجل فهم في القلب قد سكنوا
بيتًا بلا سببٍ فيهِ ولا وتدِ
ترى أَيُسعدُني دهري فتنظرهم
عيناي؟ ويحيَ إنَّ الدهر لم يجدِ!
كم بات يسفكُ في تلك الطلول دمي
ذكر الأحبة حيث الصبرَ لم أجدِ
آهًا على ذلك العيش الذي طفحت
بهِ كئوس الهنا ولَّى ولم يعدِ
لا يعرفُ المرءُ يومًا قدر لذتهِ
بالعيش قبلَ وقوع البؤس والنكدِ
يا حاديَ الظعنِ، هل سارت ظعينةُ مَن
قد ودَّعتني وداعَ الروح للجسدِ
تلك المهاةُ التي سلَّت لواحظها
سيوف غنجٍ بها صالت على الأسدِ
عسالةُ القدِّ يهدي ثغرها عسلًا
مريضةُ الجفن لا تشكو من الرمدِ
مدَّت فخاخَ الهوى من فرعها وبغت
صيدَ النهى، وسواهُ قطُّ لم تصدِ
صدرٌ رخيمٌ لها، يا ليت فيهِ لنا
قلبًا رحيمًا؛ فيروى منهُ قلب صدي
تطيرُ نفسي شعاعًا كلَّما ذُكرت
ولاعجُ الشوق يُفني باللظى كبدي
لا أوحش الله قلبي من محبتها
يومًا على الحالتينِ: القربِ والبعدِ
لما أتت لوداعي وهي عازمةٌ
على الرحيل، وحادي الركب لم يحدِ
عانقتها وعيونُ الشمل باكيةٌ
وقد وضعنا لتوديعٍ يدًا بيدِ
فعطَّلتنيَ من عقدِ السرورِ كما
قلدتها دُرَّ دمعٍ كان كالزردِ

وقال تاريخًا ينقش دائر حجرةٍ في بيت أحد أنسبائهِ:

طاب الصبوحُ فدع جوارَ المرقدِ
وانهض إلى الروض العذيب الموردِ
هلَّا رأيت الليلَ ولَّى هاربًا
والفجرَ جاءَ على جوادٍ أربدِ
ونضى بياضُ الصبح أبيض نورهِ
وفرى بهِ عنُق الظلامِ الأسودِ
فذرِ الهمومَ على الفراش وسرْ بنا
نحو الرياضِ نفزْ بعيشٍ أرغدِ
حيثُ الصَّبا سقتِ الرُبى خمر الندا
والورقُ أبدت نغمةَ الصوت الندي
والطلُّ لاح على الشقيق كأنَّهُ
عَرَقُ الحياءِ على خدود الخرَّدِ
والزهرُ بينَ مرصَّعٍ ومنضدِ
والنهرُ بينَ مدرعٍ ومزرَّد
والنورُ في تلك الخمائل قد حكى
دُرَرًا نثرنَ على بساطِ زبرجدِ
ثغرُ الأقاحِ هناك يبسمُ كلَّما
يبكي الغمامُ ومالهُ من منجدِ
لله من روضٍ أنيقٍ خلتُهُ
مغنًى يزانُ بكلِّ نقش جيدِ
صدحتْ طيورُ الأنس فيهِ والصفا
فصفا عن الأكدارِ والبؤس الردي
مغنًى غدا للظرف ظرفًا إذ حوى
معنًى إليهِ سوى الهنا لم يُسنَدِ
وحكى كناسًا في كثيبٍ حولهُ
يرعى ويربو كلُّ ظبيٍ أغيدِ
فلنعمة الله انتمى وبنصرهِ
وُجِدَ السنا وبعبدهِ لم يفقدِ
وبهِ السرورُ بدا فقلت مؤَرخًا:
أَلضيمُ في هذا الحمى لم يوجدِ؟
سنة ١٨٥٩

وقال:

سودُ اللواحظ تحمي
بالبيض وردَ الخدودِ
ولؤلؤُ الثغر قد لاح
فوق جوهر جيدِ
بقامةٍ وخصورٍ
هاج الجوى ونهودِ
إنَّ الجمالَ عجيبٌ
سبحان ربِّ الوجودِ
وغادةٍ إن تثنت
تاهت على كلِّ عودِ
قدٌّ لها ذو اهتزازٍ
يزهو بخفق بنودِ
تميتُ حيًّا وتحيا
بوصلها والصدودِ
ظلمٌ لها كزلالٍ
وظلمها كحديدِ
ورُبَّ ضدَّين طبعا
قاما بشيءٍ وحيدِ
تجودُ بالوصل لكن
ما بخلها بالبعيدِ
والمرءُ يُعطى بشحٍّ
طورًا، ويُعطى بجودِ

وقال:

ويلاهُ من شغَفٍ لم يبقِ لي كبدا
ومن مصائبِ حبٍّ لم تدعْ جلدا
أبيتُ والطرفُ ساهٍ ساهرٌ غسقًا
كأَنهُ بالثريا والسهى عقدا
لا عادَ لي في الهوى عينٌ ولا أثرٌ
وجمرةُ الوجد تفني الروح والجسدا
ما كنتُ أصبو إلى مرأَى البدور دجى
لولا جمالُ مهاةٍ تقنصُ الأُسدا
هيفاءُ تنتهبُ الألبابَ قامتها
روحي لصعدةِ ذياك القوام فدى
بدت وماست فلا والله ما نظرت
عينايَ بدرًا بغصنٍ قبلها أحدا
لمَّا رأَت نوءَ نوحي جاد منهمرًا
تبسَّمت، فأرتني البرقَ والبردا
فيها خواصُ البها والحسن لازمةً
أضحت وجوهرُ ذاك الثغر منفردًا
هل من سبيلٍ — أيا عشاقُ — يزلفني
إلى الوصالِ؟ فمن يظفر بهِ سعدا
يا عاذلي، لا تلمني في محبتها
فالعذل يذهب في لذع الغرام سدا
أيسمعُ العذل يومًا أذن ذي شغفٍ
فؤَادُهُ في سعير الوجد قد وجدا؟
أستودع الله روحًا في الغرام لقد
ذابت فأرسلتها عن مدمعي سَدَدَا
فرضٌ على الروح مني أن تذوب هوًى
يومًا، ودينٌ على الأحشاءِ أن تقدا
كفى المتيمَ فخرًا أنَهُ رجلٌ
لم يبقَ منهُ سوى جلدٍ حوى جلدا
بيضٌ لواحظها، سمرٌ معاطفها
سودٌ ذوائبها، كم تلسع الكبدا!
إذا بدت تخجلُ الأقمارَ، أو لفتت
تزري الظبا، أو تثنت تفضح المُلُدا
رياضُ وردٍ بخدَّيها وحارسهُ
طرفٌ رمى بنبالٍ مَنْ يمدُّ يدا

وقال:

يا من حوت كلَّ الجمالِ سعادُ
بالله هلَّا منكِ لي إسعادُ؟
قلبي وقلبك بالهوى ضدَّان إذ
هذا يذوبُ جوى، وذاك جمادُ
بفتور جفنيك ارحمي صبًّا لقد
أضنى حشاهُ تحجبٌ وبعادُ
فإليكِ يا ذاتَ الملاحة لم يزلْ
قلبي بسلسلةِ الغرامِ يقادُ
حتامَ أصبرُ يا معذبتي على
هذا الصدودِ ففيهِ كدتُ أُبادُ؟
وإلى متى هذا النفارُ فليسَ لي
قلبٌ يطيقُ تصبرًا وفؤَادُ؟
فلأصبرَنَّ على الجفا ما دام لي
رمقٌ، وكم للعاشقين جهادُ!
رفقًا أيا أختَ الهلال بمغرمٍ
لهواكِ بين ضلوعهِ إيقادُ
فرحٌ وحزنٌ لي بحبكِ، فاعلمي
إن الهوى تجري بهِ الأضدادُ
كم بالدلالِ العذبِ جرت عليَّ يا
روحي، وجورُكِ بالدلالِ يُرَادُ
أوعدتني بالقربِ بعدَ نوًى فها
حان الوفاءُ، وطال ذا الميعادُ
فكفاكِ يا من ترتعي بحشاشتي
هذا النفارُ المرُّ والإبعادُ
وإليكِ لا زالت تميلُ جوارحي
إذ أنتِ وحدكِ لي منًى ومُرَادُ
فإذا ذكرتِ تذوب شوقًا مهجتي
والقلبُ يخفقُ والهيام يزادُ
عطفًا عليَّ أيا معذبتي فقد
طالَ السقامُ، وملَّتِ العوَّادُ
بهواكِ إني قد ضللتُ ولم يعُدْ
لي بعد ذيَّاك الضلال رشادُ
أبدًا إلهُ الحسن أنتِ، وأعيني
لكِ، والجوانحُ والفؤَادُ عبادُ
فقتِ البدورَ بذلك الوجه الذي
فتنَ العقولَ، فكم لهُ حسَّادُ!
لكِ أعينٌ كحلت بأنوار الصبا
ترنو فيقدحُ في حشايَ زنادُ
وتمايلٌ فضح القنا وَتلفُّتٌ
أسر الظبا وبهِ الأسودُ تُسَادُ
بالحبِّ ذبتُ أسًى وقبلكِ لم أكن
ممَّن على ألم الهوى يعتادُ
ولغير حسنكِ لم أذلَّ فمن ترى
للحب غيرك مهجتي يقتادُ؟
إن كان جفنكِ قد سبى نومي فقد
أفنى التجلُّدَ خدُّكِ الوقادُ
قتلتْ عيونكِ بالهوى قلبي وقد
حزنت فمنهنَّ السوادُ حدادُ
ما بين جيدكِ والترائبِ قد جرى
ماءُ البها تحيا بهِ الورَّادُ
لك يا حبيبةُ في الحشا بيتٌ بهِ
رُفعت من الصبر الجميل عمادُ
يا قلبُ ويحكَ، كم تقاسي بالهوى
فسمِ التجلُّدَ فالهوى جلاَّدُ
ما أنتَ وحدك بالمحبة والعًا
من ذا الذي للحبِّ لا ينقادُ؟!
قد لذَّ لي عيشُ الهوى أبدًا ومَنْ
لم يهوَ كان بطبعهِ إفسادُ
والمرءُ أطيب عمرهِ زمنُ الهوى
كلٌّ لهُ بالطيِّباتِ مُرَادُ

وقال إلى صاحبٍ لهُ:

شكوى الفراق

بانت فبانَ تشوُّقي وسهادي
ونأت فحلَّت لوعةٌ بفؤَادي
غيداءُ مذ ظعنت على ركب النوى
تَخِذت لذاك الركب قلبي حادي
قد غادرت كبدي أليفَ لظًى وقد
تركت دموعي مثل صوب عهادِ
أودعتها روحي وحسنَ الصبر مذ
ودَّعتها، فاليومَ حان معادي
يا ليت هذا البينَ بان فإنهُ
مرُّ المذاقِ يلذُّ للحسادِ
لا كنتُ مصروعَ الجوى مضنى الهوى
إن ذقتُ بعدَ البعدِ طيبَ رقادِ
بالله يا ريحَ الصباءِ تحمَّلي
نشرَ التحيَّةِ والهوى ﻟ «سعادِ»
قولي لها أَنَّى تركتِ فؤادَهُ
بالبينِ مظلومًا لظَلْمكِ صادي
بحشاهُ قد عبث الهوى فتقطَّعت
والقلبُ منهُ غدا فجيعَ بُعَادِ
هانت لديَّ النائباتُ جميعها
إلَّا فراقي هامةَ الأمجادِ
هو ذلك المَيْسُونُ نصر اللهِ مَنْ
باللطفِ قد أضحى من الأفرادِ
خلٌّ حوت حسنَ الصفات طباعهُ
والقلبُ منهُ حوى خلوص ودادِ
يُجلى بأنوار البشاشة وجههُ
ولسانهُ يحلو لدى القصَّادِ
أفعالهُ كالشُهبْ في كَبِدِ السما
وكلامهُ كالدرِّ في الأَجيادِ
رام الرحيلَ عن المعاهد فابتلى
قلبي لفرقتهِ بوقع حدادِ
نشرَ الخيامَ غداةَ بين فانطوت
كبدي على الأطنابِ والأوتادِ
سارت بوادي الفيض أَقدامٌ لهُ
فتأَرَّجَتْ أرجاءُ ذاك الوادي
يا ناديَ الأوصاف، لستَ براحلٍ
عنا؛ فطيفك طائفٌ في النادي
إن كان يورثُ ذا الوداعُ قلوبنا
نارًا فتطفى باللقاءِ الغادي
ما طُوِّقت أعناقنا بعناقنا
إلَّا ليوم لقاك رمزًا بادي
فامننْ أيا نائي بقربك منعمًا
والقربُ لذَّ حلاهُ بعد بعادِ

وقال:

خطراتُ «زينب» أوقدت بفؤَادي
لهب الهوى، ونفت لذيذ رقادي
ليت التي عني لهت بجمالها
تلهو عن الإعراض والإبعادِ
أشقيقة القمرين، إِني لم أخن
عهدَ الغرام، فَلِمْ تركت ودادي؟
أفديكِ بالنفس النفيسةِ فارفقي
بفتًى لحسنكِ يا بديعة فادي
أنتِ الحبيبةُ ذات كلِّ ملاحةٍ
وأنا المتيمُ ذو عنًا وجهادِ
لو ذقتِ ممَّا ذقتُ من ألم الهوى
لعلمت فتكَ الحبِّ بالأكبادِ
قسمًا بمبسمكِ الذي يشفي الظما
لم أسلُ طلعةَ وجهك الوقادِ
لكِ طلعةٌ تزري بأقمار السما
ولواحظٌ تسبي ظباءَ الوادي
في القلب عينك أودعت كنز الهوى
ومن العذول حمتهُ بالإرصادِ
بهواكِ ضاقت حيلتي كَتَصبُّري
ونأَى رقادي حين جاءَ سهادي
كم سقتِ نحو الضيم قلبي عندما
بالرغم سلَّمكِ الغرامُ قيادي
كيف التخلصُ من هواكِ حبيبتي
وعيونك النجلاءُ في المرصادِ؟

وقال إلى أحد أصحابهِ:

الذكرى

نعمتُ بأنس القرب إذ بَعُدَ البعدُ
وطبتُ فلا قبلٌ لحظي ولا بعدُ
جلا ظلمة البرحاءِ نورُ اللقا وقد
غدا فوق غصن القلب طير الهنا يشدو
صبرت على بعد الحبيب فجاءَني
بطيب اللقا دهري وعاد لي السعد
وما الصبرُ في البلوى يروقُ سوى فتًى
درى ما يروحُ الدهرُ فيهِ وما يغدو
أمقبلةً كالريم تسعى إلى الحمى
أتدرين كم في البين أودى بي الوجدُ؟
حديثك ما أحلاهُ يا زينة الحلى!
ولطفك ما أغلاهُ! فالدرُّ فالشهدُ
أنختِ مطيَّ الوجد في كبدي وقد
غدا بي لعيس الذلِّ أثر الهوى وخدُ
طُبعْتُ على هذا الهوى فكأنني
حملتُ الهوى مذ كان يحملني المهدُ
أخذتِ بشرع الحبِّ قلبي تملكًا
وليس لهذا الأخذ طول المدى ردُّ
وقد نوَّعتْ عيناك جنس الغرام في
فؤَادي برسم السحر وهي بهِ حدُّ
فلم يخلُ قلبي لامتناع الخلاء من
هواكِ فتيهي إنني ذلك العبدُ
إذا اشتدَّ حر الشوق فاضت مدامعي
وعهديَ أن الغيثَ يصدرهُ البردُ
لجيدك بعتُ الدمعَ عند اللقا
ولا يُفكُّ رباطُ البيع إن ثبتَ العقدُ
فإن مسَّ خطُّ الحبِّ دائرة النهى
يقاطعها خطُّ الهدى، فالهوى رشدُ
ألا يا مهاةَ البان، رفقًا بمغرمٍ
سبى عقلهُ خدٌّ به قد زها الوردُ
بوجهك سلطانُ الجمال بدا وكم
يروعُ فؤادي فالعيون لهُ جندُ
أرى كلَّ جزءٍ من محيَّاكِ ينطوي
على كل حسنٍ برقهُ في الحشا رعد
أَبَنْتِ من الديباج نهدًا كأَنهُ
لجينٌ، فكم قد شاقني ذلك النهدُ
تكلفني السلوان عنك عواذلي
وإنيَ لا أسلو ولو ضمني اللحدُ
فأسلوكِ إن عذَّبتِ قلبيَ بالجفا
وقامت من الأموات بعدَ البلى «دعدُ»
ولي مهجةٌ في الحبِّ قد قتلت ولا
غريمٌ لها إلَّا النواظرُ والقدُ
فيا ليت يشفي ما بقلبي من الظما
رضابكِ فهوَ الخَمْرُ والمسكُ والقندُ
بَعُدْتِ فأبعدتِ الكرى وأنا الذي
بحبكِ لي بالطيفِ بعد اللقا قصدُ
وجاء حسودي بالشماتةِ قائلًا:
نأى عنكَ من تهوى وقد زارك السهدُ
دعي صحبةَ الحساد فهي مصيبةٌ
ولا وفقَ بين الحاءِ والهاءِ يا «هندُ»
رعى الله أيامَ اللقاءِ فإنها
تعيدُ التهاني للذي ضامَهُ البعدُ
ويا قاتلَ اللهُ الفراقَ فكم بهِ
حملتُ عذابًا ليس يحملهُ الصَّلْدُ
فسحقًا لهذا الدهر كم هو غادرٌ
وليس لدهرٍ قطُّ يا صاحبي عهدُ
أتاني بأحزان ﮐ «يعقوب» حسرةً
فيا ليت أفراحي ﺑ «يوسفَ» ترتدُ
حبيبٌ لقلبي طالما راحَ ذكرهُ
يروقُ لسمعي فهوَ لي في الظما وردُ
بهِ الودُّ دأبٌ لا يغيرُ كُنْههُ
حوادثُ، فاكرمْ بامرئٍ دَابُهُ الودُّ
أخو همم أعلى من الزُّهر في السما
وذو شيمٍ أجلى من الزهرِ إذ يبدو
ودودٌ لهُ صيتُ السمؤَل بالوفا
كريمٌ عليهِ طالما هبط المجدُ
عليهِ شموسُ العزِّ والفخر أشرقت
فظللهُ من حرِّ أضوائها السعدُ
بذلتُ لهُ مدحًا غدا متعطرًا
بنشر معانٍ دونها أصبح الرندُ
لكلٍّ من الدنيا مقامٌ كقدرهِ
وهذا لهُ ذمٌ، وذاك لهُ حمدُ
وليس لكلِّ الناس بالقدر أسوةٌ
فما هي سيَّانِ الثعالبُ والأسدُ
وهل تحسن الأوعال جريًا على الثرى
إذا ما جرَتْ فيهِ السلاهبةُ الجردُ
ومن كان ذا جهدٍ بكلِّ أمورهِ
ولم يكُ ذا حظٍ فلا ينفعُ الجهدُ
أصونُ عن الأوغاد بالصمت حكمتي
لعلمي أَنَّ العلم يزري بهِ الوغدُ
ولا لذةٌ بالعلم قطُّ لجاهلٍ
فما لذَّ للمزكوم عودٌ ولا ندُّ
ولا ينفعُ الإنسان إلَّا بعقلهِ
إذا لم يكن سيفٌ فلا يقطع الغمدُ
يَملُّ حديث العلم من بالغنى غوى
كما ملَّ طولَ البيدِ مَن في الدجى يعدو
أَأرجو الغنى والعقل يغني عن الغنى
إذا كان عندي النسر لم يرضني الصردُ
ألا يا أخا العقل الذي زانهُ الهدى
فديتكَ من خلٍّ عليهِ التقى بردُ
ثنتكَ يدُ النعماءِ عن حالةِ الشقا
فكن بالهنا مستبشرًا أيها الفردُ
وطارت بكَ الأقدارُ نحو العلا وها
إليك غدت أيدي المكارم تنمدُّ
فلا زلت في ثوب التنعُّم رافلًا
ولا زال غيم السعد فوقكَ ينكدُّ

وقال:

يقظة الحب

تهيج الشوقُ بعدَما خمدا
واستيقظَ الحبُّ بعدَما رقدا
وعاد ذكرُ الحبيبِ محتجبًا
في القلب، والوجد من خِباهُ بدا
لا بارك الله فترةً تركت
نفسي بها مَنْ بحسنهِ انفردا
لم أسلُ مَنْ قد عشقت عن مَلَل
لكنهُ لم يبقِّ لي كبدا
روحي فداءٌ لغادةٍ فتنت
عقلي وقد أعدمتني الجلدا
مثلتُ كلًّا من الحسان لدى
قلبي، فلم يلقَ مثلها أحدا
فأرجَعَتْني يدُ الجمالِ إلى
وجدي، وكان الوفا لها عضُدَا
قتلتُ عند اللقا السلوَّ وقد
دفعتُ من دُرِّ أعيني القَوَدا
لما رأَتني رَجَعْتُ منكسرًا
لحبها بالغرامِ مرتعدا
أبدتْ دلالًا بهِ سُلبتُ وما
أحلى الدلالَ الذي سبى الأُسُدا
وأرشفتني رحيق مبسمها
فحلَّ في مهجتي حلولَ ندى
لما التقينا عقيبَ فرقتنا
ومدَّ كلٌّ إلى السلامِ يَدَا
والودُّ قد ساق بيننا عتبًا
أعاد جمرَ الغرام مُتَّقِدا
قالت وقد أظهرَ العتابُ على
ألحاظها ما بودِّها شهدا
لا عتبَ إن تظهرِ السلوَّ فقد
أرحتَ قلبًا أذقتهُ النكدا
وإن مضى اليومَ عنكَ كلُّ هوًى
تقول لي أعيني: يعودُ غدا
أجبتُ إن أُظهرِ السلوَّ فقد
أخفيت في القلب ذلك الكمدا
أفدي جمالًا حوى الكمالَ على
ذاتٍ بها اللطفُ كلهُ اتَّحدا
ما سلَّ سيفَ الفتور ناظرُها
إلَّا وفي القلبِ خلتهُ انغَمَدا
ففي شراك الشجون أوقعني
حسنٌ بهِ كلُّ معجزٍ وُجدا
وأورثتني العيونُ كُلَّ ضنى
فإن رجوتُ الخلاصَ لن أجدا
يا صاحِ، إن الغرامَ أتلفني
ولم تَدَعْ لي صروفهُ جلدا
فقلْ لمن يحسبُ الهوى سهلًا:
إنَّ الهوى قد يشيِّبُ المُرُدا
لو كان ذو الحبِّ لا يذوقُ عنًا
لما درى لذَّةَ الهوى أبدا
لكنني لم أذلُّ قطُّ لمن
أهوى، إذا شاء ذلني عمدا
هل ترتضي نفسي التدلل في
قصدٍ وذا الفعلُ للدنيِّ غدا؟
لا تنمحي سيمةُ الدناءَةِ عن
دنيِّ أصلٍ ولو رَقى الجلدا
يُشقي الفتى عقلهُ ويُسْعِدُهُ
فليس بالنجم سعدُ مَنْ سُعِدَا
كلٌّ إلى العقلِ راجعٌ فبهِ
ربحٌ وخسرٌ وعثرةٌ وهُدَى
لا ينفع المرءَ غيرُ ما كسبت
يداهُ، فأكرم بمن بهِ اجتهدا!
متى بدا بارقُ الدراهمِ من
شخصٍ ترَ العزَّ فوقهُ رَعَدَا

وقال يجاوب المرحوم الخواجا «نصر الله بخَّاش» عن رسالة بعث بها إليهِ من القاهرة:

سودي عليَّ ببيض الأَعْيُنِ السود
وآمري فخضوعي غيرُ محدودِ
ما أنتِ إلَّا عَموُدٌ للجمال وما
أنا سوى مغرمٍ بالحسن معمودِ
أشقَتْ خدودُكِ قلبي وهي ناعمةٌ
وعذَّبت كبدي في نار أُخدودِ
عودي مريضَ هوًى أودى الغرام بهِ
فيومَ وصلك عندي بهجةُ العيدِ
أطلتُ صبري على ذاك الجفاءِ ولا
وعدٌ، فيا ليتَ صبري صبرُ موعودِ
حمَّلتِ قلبي من ثقل المحبَّة ما
يوهي الصخورَ، وما قلبي بجلمودِ
فكم جمالُكِ يا غيداءُ عذَّبني!
إن العذابَ لعذبٌ في هوى الغيدِ
والحبُّ يفتكُ بالأكبادِ منتصرًا
على العقولِ، ويغزو كلَّ صنديدِ
يا طالما في الهوى قد كابدت كبدي
ضيمًا فمن قلقٍ بادٍ وتوقيدِ
أشجت فؤاديَ أحداقُ المها فأنا
ذاك الشجيُّ، وما الخالي بمودودِ
كم قد ألفتُ التصابي واجتهدت بهِ
ولم أنلْ غيرَ تعذيبٍ وتنكيدِ
وكم أرقتُ وجيشُ الليلِ ملتحمٌ
والنجمُ للغربِ يجري جري مطرودِ
أرعى صفوفَ الدراري في الظلام وبي
شوقٌ يشرِّدُ صبري أيَّ تشريدِ!
وأدمعي كعهادِ السحبِ تسفح من
طرفٍ إلى البدرِ بالأشواق مشدودِ
لا بدعَ إن بدَّدتْ نارُ الجوى وسني
فإن للنار طبعًا فعلَ تبديدِ
إن كان بالسيلِ نقصان الجبال فيا
سيولَ دمعي لأجبالِ الهوى زيدي
ذقتُ الصبابةَ فاستعذبتها وأنا
بينَ المحبينَ ذوقي غيرُ مردودِ
وقد رأيتُ أنيني بالغرام دُجًى
ألذَّ لي من سامعي نغمةَ العودِ
أكدُّ عيشي ولم أسمعْ لذي عذلٍ
وقلَّ من عاش عيشًا غيرَ مكدودِ
روحي فدى ظبيةٍ في حبها أُذُني
صمَّاء عن كلِّ ذي عذلٍ وتفنيدِ
وعادةُ العشقِ أن يُبقي الغريقَ بهِ
أعمى العيون، أصمَّ الأذنِ، ذا جودِ
ليتَ الحبيبةَ ترعى الودَّ ثابتةً
مثلي، وما الودُّ في الحسنا بموجودِ
يا للهوى كم تقاسي مهجتي ألمًا
بحبِّ غيداء تحكي الظبي في البيدِ
هيفاءُ تهتزُّ كالخطيِّ مائسةً
تحتَ الوشاحِ بقدٍّ مثل أملودِ
تديرُ لحظًا بهِ خمرُ الصبا لعبت
والحسنُ أودعَ فيهِ شأن عربيدِ
مهلًا لكَ اللهُ يا إنسانَ مقلتها
فما تركتَ فؤَادًا غيرَ مفئُود
زهت بقدٍّ بهِ لطفُ الشمائل قد
جرى من الظرف مجرى الماءِ في العودِ
خودٌ تديرُ كئوس الهجر طافحةً
على محبِّ جريح القلب منجودِ
كم رمتُ وصلًا ولم تمننْ عليَّ بهِ
إذ ليس غيرَ نوال الوصل مقصودي
فجدتُ بالدمعِ إذ ضنَّت عليَّ بما
رجوتُ، والبخل أمرٌ غير محمودِ
ومذ بذلتُ لها جودي وذا خلقي
بذلتُ في مدح نصر الله تجويدي
خلٌ وفيٌّ بهِ قامَ الودادُ أخو
لطفٍ عجيبٍ من الأرواح محسودِ
ماضي اليراعةِ، حاوٍ للبراعة، قلْ:
بادي الوداعةِ، ذو علمٍ وتوطيدِ
حوى العلومَ فأغْنَتْهُ فحاز بها
غنى السعودِ، وما كلٌّ بمسعودِ
ندبٌ بليغٌ فصيحُ القول ذو قلمٍ
يُمَّهدُ العلمُ فيهِ كلَّ تمهيدِ
أهدى لنا نظمَ شعرٍ كاللآلئ قد
زها بمعناهُ زهوَ الدرِّ بالجيدِ
فأسكرتني معانيهِ برقتها
حتى كأنيَ حاسٍ بنتَ عنقودِ
من كل بيتٍ كسلكٍ صيغ من ذهبٍ
يُنَضَّدُ اللفظُ فيهِ خيرَ تنضيد
يا أيها الجهبذُ الحاوي الإخاءِ ومن
بنَى من الودِّ ركنًا غيرَ مهدودِ
لما زففتَ عليَّ اليومَ قاصرةً
من خدر ذهنك حازت كل تمجيدِ
أحيتْ فؤَادًا كساهُ البعدُ ثوب ضنًا
بعرف إنسٍ زرى بالندِّ والعودِ
يا قاتلَ اللهُ أيامَ النوى فبها
أطال شوقي إلى الغيَّاب تسهيدي
إن كان بعدُك يا ذا الودِّ أفقدني
نومي فصبري باقٍ غيرُ مفقودِ
فكن على الخطب منصورَ العزيمة ما
حويتَ فهم «سليمان بن داوُدِ»

وقال وقد بعث بها إلى الشيخ ناصيف اليازجي رحمه الله:

لا تخشَ لا تخشَ ضيمًا أيها الأسدُ
أَنَّى يروعُك ضيمٌ منك يرتعدُ
كُلٌّ يُبَدَّلُ زهوًا كان أو كمدًا
وعندَ مثلك لا زهوٌ ولا كمدُ
إذا ضنيت فذا ثارُ الضناءِ، فكم
بريتهُ وسيبريهِ بك الجلدُ
فكن صبورًا وإلَّا ما صبرتُ أنا
إن كان مثلُك لم يصبر فهل أحدُ؟
أنا الذي قد لقيتُ الضيم قبلك في
عيني غريبًا، وها قد أزمنَ الرمدُ
إن الفروعَ التي قد أَصَّلت جسدي
تهوى السقامَ فإن أسلم فلا جسدُ
كلُّ الأطباءِ في بلوايَ قد كذبوا
إلَّا الطبيبانِ: حسنُ الصبر، والصَّمدُ
إذا خشيتُ الردى يومًا فلا سندٌ
إن الشجاعة في قلب الفتى سنَدُ
لا تشكونَّ الردى يا ذا الفضيل فما
دنا الردى منك إلَّا وهو مبتعدُ
ذي شجَّةُ الدهرِ لكن فيك حارصة
وفيَّ دامغةٌ لا ضامكَ النكدُ
فابْشِرْ وطبْ في زمان قد طبعت على
جبينهِ غرَّةً قد صانها الأبد
يا بحرَ علمٍ يهادي الناس درَّ هدًى
إليك مثل نهورٍ مدحهم يردُ
لا خانَ لا خانَ ما أبدعت من غُرَرٍ
دهرٌ خئون ولا كيدٌ ولا حسدُ
ولا برحتَ لصرح الفضل قاعدةً
عليك تُبنى قبابُ المجدِ والعَمَدُ
ما شُرِّفت شفةٌ في العلم باسمك يا
«ناصيفُ» إذ أنت في غاب الحجا أسدُ

وقال إلى أحد أصدقائهِ:

لوعة النوى

لمن هذي الركائبُ في البوادي
ومن هذا المشَّيعُ للبعادِ؟
فوا عجبا! أرى بدرًا منيرًا
يسيرُ على الهوادج في الهوادي
ألا يا قاتلَ اللهُ التنائِي
فكم سالت بهِ مقلُ العبادِ
أصابَ حشاشتي عنتٌ عظيمٌ
غداةَ نأَت ركابُ ذوي ودادي
فوا شوقي لطيفهم وأَنَّى
يزورُ الطيفُ مسلوبَ الرقادِ؟
ولي في موقفِ التوديع نفسٌ
يرقُّ لحالها قلبُ الجمادِ
سفحتُ مدامعًا في البينِ تحكي
مدامعَ من مقيلاتٍ صوادي
تمادت مدةُ البلوى فراقًا
فيا ويلاهُ من هذا التمادي
فكيف يطيبُ لي عيشٌ وقلبي
بهِ للبين قد لعبت أيادي؟
بعادٌ قد أعاد القلبَ مني
كنار والأضالعَ كالرمادِ
إذا شطَّت ديارُ «سعادَ» عني
فلم يشطط هواها عن فوادي
ومذ ألوى الرحيلُ برحل «سلمى»
وسار الركبُ يضربُ في الوهادِ
ركبتُ الشوقَ إِثْرَهُمُ ذلولًا
ومائي الدمعُ، والحسراتُ زادي
وهل سيَّانِ من يعلو المهاري
ومن يعدو على شوك القتادِ؟
لحا اللهُ الزمان ولا رعاهُ
فلا يَدَعُ الصلاحَ بلا فسادِ
زمانٌ يُعقِبُ النعمى ببؤسٍ
ويشقي الناسَ في كلِّ البلادِ
فكم ألقى على الدنيا خطوبًا
وكم أجرى دموعًا كالعهادِ!
يشتِّتُ كلَّ شملٍ كالمنايا
ويبدلُ كلَّ قربٍ بالبعادِ
فوا فرطَ انتحابي واكتئابي
بفرقة من لهُ في القلب نادي
فتًى هُوَ لي من الدنيا مرادٌ
رعاني الله، ما أسمى مرادي!
هُوَ الخلُّ الوفيُّ لذاك إني
عليهِ اليومَ ألقيتُ اعتمادي
إذا ناديتُهُ يومًا لأمرٍ
يقولُ: أصبتَ خيرًا يا منادي
فلم أرَ مثلهُ في كلِّ عمري
فتًى عَمِدَ الثرى عالي العمادِ
فتًى وَصَلَ العشايا بالغدايا
على حفظ الصداقةِ والودادِ
أحاط بكلِّ صالحةٍ وفضلٍ
وحاز اللطفَ محلولَ القيادِ
أديبٌ حازمٌ فطنٌ لبيبٌ
صديقٌ مالهُ أبدًا معادي
قد اجتهدَ الزمان بأن يراهُ
سعيدًا، والزمانُ أخو اجتهادِ
وأسقَاهُ من النعماءِ كاسًا
عليها بلبلُ العلياءِ شادي
فصالَ على العدوِّ بلا قراعٍ
وساد على الحسود بلا جلادِ
فكم أنا حائزٌ أنسًا وبشرًا
بصحبتهِ! وكم أنا ذو رشادِ!
وها أصبحت إِذْ أَجْرَى فراقًا
حليفَ كوارثٍ، وأخا سهادِ
فوا ظمئي إلى ذاك المحيَّا!
وهل يروى من الأنوار صادي؟
ألا يا ريحُ ليتكِ إن تسيري
إليهِ وتخبريهِ على انفرادِ
بأنَّ البعد أسقى الصبَّ كاسًا
أمرَّ لديهِ من حكم الأعادي
أيا مولاي ربَّ الودِّ إِني
ببعدك عدتُ في محنٍ شدادِ
أرومُ لقاكَ إذ ما لاح نجمٌ
كأَنكَ أنت ذاك النجمُ بادي
فلم أظفَرْ بغير زفيرِ قلبٍ
بهِ أورى النوى نارَ الزنادِ
تدثرَّ صهوة النكباءِ قلبي
تدثرَ فارسٍ متنَ الجوادِ
فإن أمسى جميلُ الصبر مني
كطيفك رائحًا فالشوق غادي
أمات الليلُ نومًا كان يحيي
خيالك، واكتسى حلل الحدادِ
فكن يا ابن الكرام لنا وكيلًا
وخاصمْ حكمَ بعدك ذي العنادِ
عسى يحظى بقربك من ينادي:
لمن هذي الركائبُ في البوادي؟

وقال:

تحير أربابُ الهوى في الورى بما
يكون شبيهَ الخال في صفحة الخدِّ
فشبههُ بعضٌ بحارس روضة
وقومٌ بزنجيٍّ، وآخرُ بالندِّ
وما الخالُ فوق الخدِّ عند ذوي النهى
سوى رمز حرق القلب في لهب الوجدِ

وقال:

حال ما بيننا انقطاعٌ ولكن
ذا محالٌ على وشاةٍ وحسَّدْ
فكفاني أَني على الودِّ باقٍ
وكفاك الفخارَ أَنَّكَ أحمدْ

وقال:

على الشهم فرضٌ أن يفي ذمَّةَ الوعدِ
لعمري فلم يخلِفْ بوعدٍ سوى الوغدِ
إذا لم يخنْ عبدٌ ولم يَرعَ سيدٌ
تساوى الورى، والحرُّ أصبح كالعبْدِ
فلا بُدَّ من نذلٍ يخون وماجدٍ
يصونُ؛ ليبدو موقعُ الذم والحمدِ
أذمُّ خبيثًا رامَ خدعي فغرَّني
بوعدٍ ولمَّا نال أنجز بالضدِ
وأعملَ في غدري عواملَ خبثهِ
فأشغلها علمي، ونازعها رشدي
ولا فخرةٌ في خدع مثلي لخادعٍ
فإني سليم القلب لا ريبةٌ عندي
شنارٌ على المرءِ الخداعُ وذلةٌ
فذلك طبعُ الدبِّ والذئب والقردِ
ومن جعل الإفك المهين ذريعةً
إلى نيل عظمٍ عاد أخيبَ من خلدِ
ولم يدوِ صيتُ الفخر بالقول للفتى
إذا لم يكن للفعل لعلعةُ الرعدِ
رأينا من انتابَ الفخارَ بسيفهِ
ولم يرَ من ينتابهُ قطُّ بالغمدِ
ومن عجبي ضبٌّ يقود وثعلبٌ
يحاولُ أن ينقضَّ كالنمر والفهدِ
وأعجبُ من هذي العجيبة عاجزٌ
يزاحمُ أهلَ القدرِ بالقولِ والوعدِ
أقولُ لمن بالوعدِ أدبرَ مخلفًا:
أتضحك بي يا سافل الجَدِّ والجِدِّ؟
وتسخرُ بي فاسخرْ فلستَ لدى الملا
سوى علقمٍ قد راح يسخر بالشهدِ
ومن قال: «لا» من بعد قول «نعم» فذا
قبيحٌ نظير الكسب يرجع للردِّ
وشتانَ بين الكلب والنذل ذي الخنا
فذلك ذو ودٍّ وهذا بلا ودٍّ

قال وقد بعث بها إلى «أحمد أفندي فارس» مدير الجوائب:

ذكر الولاءَ وعهدَ ذاك المعهدِ
صبٌّ قديمُ الودِّ غيرَ مجددِ
فجرت بوادرُ دمعهِ دُرَرًا على
غير الطلى يومَ اللقا لم تعقدِ
وتوقدت أحشاؤُهُ بلظى الهوى
بالله يا نارَ الهوى لا تخمدي
بكِ لا بغيركِ يا «سعادُ» توقدي
فاشفي فؤَادًا أنت فيهِ وبرِّدي
بُلِّي غليلًا من عليلٍ غلَّ في
قيد الغرامِ، أسيرَ طرفٍ أسودِ
وترفقي بعميدِ حسنكِ وارمقي
جسدًا على رمق النحولِ فتنجدي
جسدٌ يشفُّ عن اللظى سقمًا لكي
تبدو بخدِّكِ لي نظيرَ تورُّدِ
قسمًا بوردِ الحسن في روض الصبا
ما لاح من أملودِ دعصٍ أملدِ
إني لذو جلدٍ على محن الهوى
لا عيش في الدنيا بدون تجلدِ
دنيا فلا ترعى الوفاء لأنها
أنثى، وفي الأنثى الوفا لم يُعهَدِ
يهفو إليها الهائمون وغدرُها
يبدو لديهم كالغدير لدى الصدي
ذي خلَّةُ الإنسان فهو مولعٌ
بمحبة المُغربي وبغض المرشدِ
في العلم فضلُ العقلِ يقصد وهو لا
يُفْنَى ويُقصَدُ في الغنى فضلُ اليدِ
ما زلتُ أحمد كل ربِّ فضيلةٍ
حتى اغتنيتُ عن الجميع ﺑ «أحمدِ»
أجل اغتنيتُ بمدح «أحمدَ فارسٍ»
عن مدحِ كلِّ سُمَيْذَعٍ أو سيدِ
هذا إمامُ العصرِ، حبرُ زمانهِ
بحرُ الحجا، والفضل عذبُ الموردِ
علمُ العلومِ بدا على علمِ العلا
تهدي القريبَ إليهِ عينُ الأبعدِ
هو ناصرُ العربيَّةِ الفضلى وقد
وجدت بهِ الشرف الرفيع المحتدِ
ولقد جلا أسرارَها للناس في
سرِّ الليالي فيالسرِّ أمجدِ!
منهُ الليالي السود أوجهها غدت
بيضاءَ واسودَّت وجوهُ الحسَّدِ
بكرٌ فلم يبدعْ إِمامٌ مثلهُ
فهوَ الفريدُ وقد أتى من مُفرَدِ
لا بدعَ في إبداع «فارس» ذا الهدى
هل في الشهاب سوى السنا للمهتدي؟
فردٌ حوى شرف النهى وهدى الحجا
حتى حكى فلك السهى والفرقدِ
غارت يتامى الدرِّ من ألفاظهِ
ودنت وهنَّ على نحور الخُرَّدِ
وعلت بلاغتهُ على قسٍّ وقد
ضُرِبتْ بها الأمثالُ دونَ تردُّدِ
وأتت براعتُهُ بكلِّ مؤَلفٍ
يغني الورى عن ألفِ ألفِ مجلَّدِ
تزهو براعتُهُ على النبراس إذ
يَحوْي ظلامًا ضمنها لم يوجدِ
هذي اليراعةُ وهي تبري بالمدى
تزري بكلِّ مثقفٍ ومهندِ
جابت جوائبها جميع الأرض مذ
أضحت لكلِّ الناس جلَّ المقصدِ
لا عيبَ فيها غيرَ أنَّ بيانها
يروي الظما، ويرقُ كالنغم الندي
جلَّت بقصدِ الصدق في أخبارها
فحَلَت، وقد حلَّت محلَّ العسجدِ
وجلت شموس هدًى محت غسق الغوى
فصبا إليها الكلُّ غيرُ الأرمدِ
يا أيها العَلَمُ الجليل، العالم النـْ
ـنَدبُ النبيل، الشهم ربُّ السودَدِ
خذها إليك رقيقةً جاءَت على
خَجلٍ تخرُّ لديك بين السجدِ
واسبلْ غطاء الصفح فوق عيوبها
واحلمْ فإنَّكَ معنُهُ يا سيدي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤