الاتفاق الخطير!

كما طلب قائد الطائرة وقتًا للرجوع إلى رؤسائه في اتخاذ قرار الخروج من «فرنسا» … طلب خاطف الطائرة من «البيرق» إمهالَه بعضَ الوقت للرجوع إلى رؤسائه في قرار النزول على مهبط الطوارئ على الحدود السويسرية.

وقد كان النقاش حادًّا أثناء اتصاله بهم عن طريق تليفون الطائرة … وفجأة توقَّف عن إكمال جملة ابتلع نصفها … ويبدو أنهم أغلقوا الخط دون رغبته … فالتفت ينظر إليهم مليًّا وكأنه يتأملهم … ثم قال ﻟ «البيرق»: إنهم يطلبون مني إسقاطَ الطائرة …

بدَا الانزعاج واضحًا على وجه «البيرق»، وغادر كابينة القيادة في خطوات تَشِي بالغضب ومن خلفه هرول الرجل الخاطف محاولًا اللحاقَ به وهو يقول: يا سيد «بيرق»، اسمعني … إنهم يضحُّون بي …

ووجدها «البيرق» فرصةً للوصول إلى عقل هذا الرجل، فقال له: ولماذا تُطاوعهم؟

الرجل: إن لي أبناءً وزوجة هناك سيتعرَّضون لهم …

البيرق: لا تخشَ شيئًا … سيعرف الجميع خبرَ سقوط الطائرة.

الرجل: دون إسقاطها؟!

البيرق: بالطبع يا رجل.

بدَت على الخاطف علاماتُ الاستسلام … فوجدها «البيرق» فرصةً ذهبية للاستفادة منه في الوصول إلى معلومات مهمة ومحددة عن حركة التمرد وقياداتها ومداها وعلاقتها بالعمال المسرَّحين الهاربين خارج البلاد … غير أن الرجل بدَا عليه الانزعاج وقال معترضًا: دَعْنا نُنهي الموقف عند هذا الاتفاق.

البيرق: أي اتفاق؟!

الرجل: تُعطوني مظلَّة وتسمحون لي بالقفز من الطائرة في منطقة آمنة.

البيرق: ولماذا تهرب؟

الرجل: سأُحاكَم بتهمة اختطاف طائرة.

البيرق: سأساعدك في هذا … ولكن لي طلب.

فقال «شهيب» وكان هذا اسمه: إن كانت هناك شروط فأنا الذي يُمليها لا أنت.

البيرق: إنها ليست شروطًا … لقد قلت إنه طلب شخصي.

نظر له «شهيب» متفحصًا … ثم ارتد للوراء خطوتَين وجلس على الكرسي الذي اصطدم به، وقال: هاتِ ما عندك …

البيرق: نتعاون.

قاطعه «شهيب» في حسمٍ قائلًا: لقد رفضتُ هذا العرض من قبل.

البيرق: وأين ستذهب أنت؟

شهيب: لا شأنَ لك بي … فقط ساعِدْني على الهروب.

البيرق: سأرى ما يمكنني عمله.

لم تُعجِب هذه الجملة «شهيب»، فصاح قائلًا: ليس لكم خيارٌ آخر … فإما أن تتركوني أعيش وتعيشون … وإما نموت سويًّا.

استسلم «البيرق» بعد أن أعيَته الحِيَل وقال له: أوافق يا «شهيب» …

نظر له «شهيب» بارتيابٍ … فعاد «البيرق» يؤكِّد له صدْقَ وعدِه قائلًا: لقد وعدتُكَ يا «شهيب» وسأَفِي بوعدي.

وهنا قال له «شهيب» متسائلًا: أنا وحدي … وأنتم ستة رجال … لماذا لم تتخلصوا مني؟!

البيرق: إنك تملك السلاح.

شهيب: ألَا يحمل أحدُكم سلاحًا؟!

البيرق: ممنوع حمل السلاح هنا.

شهيب: ورجل الأمن …

البيرق: لم يركب معنا مثله مثل الآخرين …

ولم يجد «شهيب» غضاضةً من ترك «البيرق» يذهب وحدَه إلى كابينة القيادة، وجلس ينتظره دون توتُّر … إنه يخاف من شيء … لقد دخل اليأسُ قلبَه بعد أن ضجَّت به الحركة.

ومن بعيد أتاه استفهامٌ حائر … لماذا لا ينضمُّ للبيرق؟ ممَّ يخاف؟ أن يعاقبوه على ما فعل؟ إنه لم يفعل شيئًا … لقد قتلوا زملاءَه جميعهم … وكان هو الأمهر … واختطف الطائرة ولديه سلاحٌ خطير ومعه وزيرٌ مهمٌّ كان يمكنه مقايضتهم عليه … وعلى ثمن الطائرة ومَن عليها …

وتوقَّف عند هذه الفكرة الشيطانية؛ فقد راقت له … وقرَّر أن يطلب منهم مبلغًا من المال … بل ثروة لكي يتركَ هذه الطائرة تعود سالمة … غير أنه عندما عاد «البيرق» قال له: ما رأيك سنطير سويًّا؟

وفي جزعٍ سأله «البيرق» قائلًا: إلى أين … نطير إلى أين وكيف؟

شهيب: إلى أرض آمنة … أما كيف هذه فليست مشكلة … بدلًا من أن تُحضر لي مظلة … أُحضر أنا مظلَّتَين. وفي رفضٍ قاطعٍ أيًّا ما كانت النتائج قال «البيرق»: إن أردتَ القفز فاقفز وحدك … وإن أردتَ مصاحبتي فابقَ معي حتى ننزلَ في أحد مطارات «فرنسا».

وفي برود عجيب تحدَّث «شهيب» قائلًا: أنا وافقتُ على أن أُصاحبَك … بل أصبحتُ أتمنَّى ذلك … وسأنضمُّ إليكم لحماية الرئيس، فلماذا لا تقفز معي؟!

البيرق: لأن لا عمري ولا تجربتي ولا حالتي الصحية تسمح بذلك.

شهيب: لن يكون الأمر صعبًا وسترى.

البيرق: اتخذ قرارك الآن إما أن تقفزَ أو ترى حلًّا آخر …

شهيب: هناك طائرتان «ميراج» سوف تصطادني إحداهما وأنا في طريقي إلى الأرض … لكن وأنت معي لن يحدث هذا.

شعر «البيرق» بكثيرٍ من الصدق في كلام «شهيب» ورأى أن الذهاب معه قد يكون فكرة جيدة ويؤدي إلى نتائج مرجوة …

وشعر «شهيب» أنه نال رضاءَ «البيرق»، فأخذ يُعدِّد له فوائدَ هذا القرار، غير أن «البيرق» لم يكن مستعدًّا لذلك … فتركه وذهب إلى كابينة القيادة ليُبلغَهم بقراره … فأخبره قائد الطائرة باتصال «أحمد» به، وأنه ينتظر منه اتصالًا … وكم كان سعيدًا عندما سمع هذا الخبر … وكم كان «أحمد» سعيدًا أيضًا عندما تلقَّى اتصاله … فضغط زرَّ الاستجابة في تليفونه المحمول، وقال: خبرٌ رائع أنك ما زلتَ بخير …

ضحك «البيرق» قائلًا: هكذا أنا دائمًا …

ضحك «البيرق» لهذه الدعابة وأكمل كلامه قائلًا: لقد وصلتُ لتوِّي إلى اتفاق جيد مع آخر المختطفين.

أحمد: تقصد الذي استطاع أن ينجوَ منهم.

البيرق: لقد عرفت أن اسمه «شهيب» … وقد أبدى استعداده للتعاون معنا.

أحمد: قال هذا خوفًا من الطائرتَين «الميراج».

البيرق: لا … بل لأن الجماعة ضحَّت به وطلبوا منه إسقاط الطائرة وهو بها.

أحمد: هل يعني هذا أنه وافق على الرجوع إلى مطار «أورلي»؟

البيرق: لا … هو يريد الهبوط بواسطة المظلة في مكان آمن على أن أكون بصحبته.

أحمد: وهل وافقت؟

البيرق: إنه يخاف من القبض عليه ومحاكمته بتُهَم كثيرة … منها اختطاف الطائرة …

أحمد: وهل ستحميه؟

البيرق: سأستفيد منه في الوصول إلى رأس المتمردين؟

أحمد: هل يعرفه؟!

البيرق: إنه يقول هذا.

أحمد: إذن حدِّد موقع الهبوط وسنكون معكم.

عندما عاد «أحمد» إلى زملائه أخبرهم بالاتفاق الذي عقده معه «البيرق»، وجدوا أنها فكرة جيدة … على أن يحددوا موقع الهبوط بما يُفيدهم في التحرك لاستكمال العملية.

ولكن «أحمد» رأى أن يترك لهم ذلك … إلا إذا بدَا لهما ما هو أفضل.

بالاتصال ﺑ «البيرق» اكتملَت أركان الاتفاق …

ولم يبقَ غيرُ إبلاغ «شهيب» بالموافقة على خطته مع تعديل بسيط وهو انضمامُ الشياطين لهم …

اعترض «شهيب» بشدة … وهاج وماج … وطلب إنهاءَ كلِّ شئون العودة إلى الاتفاق القديم … والخروج من «فرنسا» والذهاب إلى «دكار»، ولأول مرة منذ بدء الحوار بينهم … يحتد عليه «البيرق» ويقول له في حسم: نحن الآن في الهواء … ووقود هذه الطائرة لن يُبقيَنا في الهواء طيلةَ اليوم وعليك اتخاذ قرار عاقل فورًا.

وشردَت عينَا «شهيب» وانفتحتَا عن آخرهما … ثم برقتَا وابتسم بعدها ابتسامةً ماكرة حرَّكَت مشاعر القلق عند «البيرق»، فقال يسأله: فيمَ تفكِّر؟

شهيب: أفكِّر في قبول عرضك …

وفي حذرٍ استقبل «البيرق» قرارَه … بالذات بعد هذه الابتسامة الماكرة وقال له: نِعْمَ القرار …

وكان ﻟ «شهيب» شروطٌ … وكانت هي سببَ هذه الابتسامة … فقال له: ولكن لي شروط.

البيرق: أسمعها أولًا.

شهيب: سأختار أنا موقع الهبوط.

البيرق: لقد تحدَّثنا في هذا من قبل … وقلت لك يجب أن تكون أرضًا آمنة.

ابتسم «شهيب» ابتسامتَه الماكرة مرة أخرى وقال له: هي لن تكون أرضًا.

شعر «البيرق» أن في الأمر خدعةً … ولم يَعُد لديه مزيدٌ من الصبر على خِدَع هذا الرجل، فقال له: هاتِ ما عندك كله مرة واحدة … فهذا آخر ما بيني وبينك.

شعر «شهيب» بنفاد صبر «البيرق»، فقال يطمئنه: إنه مكان سيروقك كثيرًا وهو في خدمةِ مهمَّتِنا.

فقال «البيرق» له في استخفاف: وأين هو هذا المكان؟!

شهيب: في عرض البحر.

علا صوتُ «البيرق» وقال في حدة: هل سنعوم إلى الشاطئ الأفريقي يا «شهيب»؟!

شهيب: نعم … وهذا أفضل لنا.

شعر «البيرق» أنه أساء فهْمَ الرجل … وأنه تعجَّل في الحكم عليه، فقال له: بالطبع بواسطة لنش أو مركب صيد؟

شهيب: بالسفينة.

مرة أخرى شعر «البيرق» بالخطر، وقال له: اختطاف مرة أخرى يا «شهيب»؟!

شهيب: يا سيادة الوزير لن يكون هناك اختطاف … إنها سفينة أستأجرها للمنظمة للقيام بعمليات خاصة.

البيرق: ولكنك بالنسبة للمنظمة ميت!

شهيب: ولكن أصحاب السفينة لا يعرفون …

رأى «البيرق» أنها فكرة جيدة … وأن عليه أن يوافق عليها … غير أنه عندما أخبر بها «أحمد» قال له: إنه اختطاف آخر … هم فقط ينقلونك من الطائرة إلى السفينة … والسفينة وسط رجالهم وبهذا تكون خطتهم قد نجحَت …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤