الأديان بعد الفلسفة

(١) اليهودية بعد الفلسفة

تَقَدَّمَ اليهود في الزمن وتقدموا في دراسة الفلسفة اليونانية، وبلغ اختلاطهم بمذاهب الفلسفة أتمه في مدينة الإسكندرية قبيل الميلاد لأنها أصبحت مركز الثقافة في العالم المتحضر، بعد انتهاء عصر الفلسفة من أثينا وسائر بلاد الإغريق.

واليهود كما هو معلوم لا يتحولون عن عقائد آبائهم وأجدادهم وإن خالفت كل ما تعلموه ودرسوه ودرجوا على التفكير فيه؛ لأن عقيدتهم بالنسبة إليهم أكثر من عقيدة دينية: هي جنس ومَعْقِل دفاع في وجه الأمم التي يُعادونها وتُعاديهم، فهم أحوج الناس إلى التوفيق بين العقيدة والفكرة لفهم الدين على النحو الذي يستبقي الصلة بينهم وبين أسلافهم ولا يقطع الصلة بينهم وبين الزمن الذي يعيشون فيه، فإن استبقاء هذه الصلة بينهم وبين الزمن لازم لهم مفروض عليهم إذ هم لا يتسلطون على العالم بقوة الحُكم والغلبة، ولكنهم يستفيدون منه بالتطور والمجاراة وملابسة المطالب الدنيوية، فاستبقاء الصلة بينهم وبين أسلافهم واستبقاء الصلة بينهم وبين العالم ضرورتان تتساويان وتصبحان ضرورة واحدة: هي ضرورة الحياة.

فالمفكرون اليهود لا ينقطعون عن أصولهم كل الانقطاع ولا ينقطعون عن ثقافة العالم كل الانقطاع، ولا سيما الثقافة التي تدخل في اعتقاد الجماعات وتتأثر بها حركات الأمم ونزعات المسيطرين عليها.

وأقدم فلاسفة اليهود الذين أسسوا قنطرة الاتصال بين الدين والفلسفة هو ولا شك فيلون الإسكندري الذي ولد في السنة العشرين قبل الميلاد وتُوفي بعد ذلك بنحو سبعين سنة، فإن بناء هذه القنطرة بالنسبة إليه ضرورة روحية لا فكاك منها، فضلًا عن ضرورة الزمن الذي عاش فيه وضرورة البيئة التي اشتجرت فيها عقائد مصر وعقائد أبناء جنسه وفسلفة اليونان، بعد امتزاجها بالديانات السرية في مصر وسائر الأقطار الرومانية.

وقد تعلم فيلون من دينه أن الله ذات، وتعلم من الفلسفة اليونانية أن الله عقل مطلق مجرد من ملابسات المادة.

فلم يستطع أن يقبل الصفات والأنباء التي أسندت إلى الله في كتب اليهود بدلالتها الحرفية ونصوصها الظاهرة، ولم يستطع أن يُجاري الفلاسفة في عزلهم بين الله ومخلوقاته ورفعهم عناية الله عن الاشتغال بأحوال هذه المخلوقات.

إلا أنه كان على اقتناعٍ مكين بتنزيه الله عن صفات التشبيه والتجسيم، وكان يرى أن عقل الإنسان لن يستثبت من صفات الله شيئًا غير أنه موجود، ولكنه في وجوده الكامل المطلق أعلى من أن تحده صفة تدركها العقول.

فكيف يتأتَّى الاتصال بين هذا الخالق وبين مخلوقاته في هذه الصور المادية؟

وكيف يفهم الصفات والأنباء التي أسندت إليه في كتب أنبياء اليهود؟

أما كتب الأنبياء فهو لا يرفضها ولكنه يقبلها على الرمز والمجاز، ويقول: إنها تنطوي على حقيقة أعمق من الحروف والنصوص يفهمها المستعدون لها على درجات.

وأما الاتصال بين الخالق والمادة فإنما يكون بوسيلة العقل أو الكلمة، وهي عنده تارة تقابل كلمة لوجوس Logos وتارة تقابل كلمة نوس Nous اليونانيتين.

فالعقل يصدر عن الله، والمادة تنقاد للعقل فتتحرك وتنتظم وتتعدد فيها طبقات المخلوقات.

وكان فيلون يرفض أقوال الرواقيين التي تشبه القول بوحدة الوجود، وتجعل الله من العالم والعالم من الله.

ولكنه كذلك كان يرفض مذهب أرسطو في تجريده الله عن العمل للمخلوقات وزعمه أن كمال الله يقتضي هذا التجريد.

قال: «إنَّ بعضهم ممن فاق إعجابهم بالعالم إعجابهم بصانعه يقولون: إن العالم أبدي بغير بداية، وينسبون إلى الله نسبة خلت من التقوى والحق إذ يجردونه من العمل، وكان أحرى بهم أن يقفوا موقف الروعة أمام قدرته: قدرة الصانع والأب، ولا يتجاوزوا الحدَّ في تعظيم العالم وتمجيده، وقد كان موسى الذي بلغ الذروة في الفلسفة واهتدى بوحي الله إلى أعمق أسرار الطبيعة يعلم أن الضرورة أوجبت أن يوجد في الكون سبب محرك ومادة لا حراك بها، وأن السبب المحرك هو العقل Nous أو هو عقل الكون الطهور الذي يعلو على الفضيلة والعلم، ويعلو على الخير نفسه وعلى الجمال نفسه، أما المادة التي لا حراك بها فليست لها روح حياة ولا طاقة لها بالحركة من عند ذاتها، ولكنها متى تحركت بالعقل واستمدت منه روح الحياة صارت إلى هذا الصنع المُحْكم العجيب المتجلي لنا في هذا العالم، وإن أولئك الذين يحسبون العالم بلا بداية لا يبصرون أنهم يقطعون بذلك الحسبان ألزم عنصر من مقومات الدين وهو الإيمان بالعناية الإلهية؛ لأن العقل ينبئنا أن الأب الخالق يُعنى بما خلق …»
وغني عن القول كذلك أن فيلون يرفض زعم الزاعمين أن الله يحتويه مكان أو زمان لأنه محيط بكل مكان وكل زمان، ويرفض زعم الزاعمين أن الله لا يستجيب للصلاة لأن الصلاة أصل من أصول العلاقة بين الإنسان والله، وعنده أن الله يستجيب دعاء «الكلمة» أو اللوجوس لهذه الموجودات الأرضية، وأن موسى عليه السلام هو اللوجوس الذي استجاب الله دعاءه في سيناء، وهو الذي خلص من شوائب المادة فلحق بالطبيعة الإلهية Transmutatur in divinus.

قال: «إن الله أحد، ولكنه بقدرته خير وحاكم، فبالخير صنع العالم، وبالحكم يديره، وثمة شيء ثالث يجمع بين القدرتين وهو اللوجوس أو الكلمة؛ لأن الله — بالكلمة — يجود ويحكم … والكلمة كانت في عقل الله قبل جميع الأشياء … وهي متجلية في جميع الأشياء.»

•••

وقد كان مذهب فيلون مبدأ ثورة دينية في بني إسرائيل، فتابعه أناس في التأويل والتفسير، وأحجم أناس عن كل تأويل وتفسير مشفقين على التراث القديم، وانتهى الخلاف إلى انشقاق حاسم بين القرائين وهم المتلزمون للنصوص وبين الربانيين الذين يجيزون تفسيرها والتوفيق بينها وبين مقررات العلم ومذاهب الحكمة، ولم يحدث ذلك إلا بعد تسعة قرون من عصر فيلون، أي بعد شيوع الفلسفة الإسلامية واستفاضة البحث في مسألة القضاء والقدر على الخصوص؛ لأنها هي المسألة التي استحكم عليها الخلاف بين القرائين القائلين بالقضاء والربانيين القائلين بالاختيار.

•••

وقد نبغ بعد فيلون فلاسفة من اليهود يدخلون في أغراض الفلسفة العامة ولا يدخلون في أغراض هذا الفصل؛ لأنهم لم يشتغلوا بالتوفيق بين أحكام النصوص الكتابية وأحكام الفلسفة الإلهية، وليس بين فلاسفتهم الذين اشتغلوا بالتوفيق بين النص والعقل من هو أولى بالذكر في هذا المقام من موسى بن ميمون.

وكان مولد ابن ميمون في قرطبة ١١٣٥–١٢٠٤، وصناعته الطب والتجارة، وقضى أيام نضجه وبحثه بين مصر وفلسطين في أشد أوقات الخلاف بين القرائين والربانيين على تأويل نصوص التوراة والتلمود، فأوشك أن ينصرف بجملته إلى شروح الفقه والعبادة، ولكنه قرأ علوم الكلام وبحوث التوحيد الإسلامية واطلع على فلسفة اليونان باللغة العربية، فألف كتابه دلالة الحائرين، وتناول فيه مسائل الفلسفة ببعض التفصيل، ولا سيما مسألة الذات والصفات ومسألة المعاني والنصوص.

فقال عما جاء في سفر التكوين: «إننا نصنع إنسانًا على صورتنا وشبهنا»: «إن الناس قد ظنوا لفظ صورة في اللسان العبري يدل على شكل الشيء وتخطيطه، فيؤدي ذلك إلى التجسيم المحض، ورأوا أنهم إن فارقوا هذا الاعتقاد كذَّبوا النصَّ، وأما صورة فتقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي يجوهر الشيء بما هو، وهو حقيقته من حيث هو ذلك الوجود المعنوي الذي عنه يكون الإدراك الإنساني، فيكون المراد من الصورة الصورة النوعية التي هي الإدراك العقلي لا الشكل والتخطيط.» ففسر الصورة في سفر التكوين بالصورة المقصودة في مذهب أرسطو، وهذا وأمثاله قد أثار عليه المحافظين فسموا كتابه بضلالة الحائرين.

وقال عن الألواح وكلام الله الذي كتب عليها بأصبع الله: «إنها موجودة وجودًا طبيعيًّا لا صناعيًّا، إن كلام الله هو علمه الذي يدركه النبيون، وليس كلامًا كالذي يصدر عن الإنسان أو كالذي نفهمه من لفظ الكلام.» وقال عن صفات الله كلها: «إنها وضعت بحسب الأفعال الموجودة في العالم، أما إذا اعتبرنا ذاته مجردًا عن كل فعل فلا يكون له اسم مشتق بوجه، بل اسم واحد مرتجل للدلالة على ذاته.»

وليس أسلم عنده من وصف الله بالسوالب، أي بنفي كل صفة من صفات النقص عنه جل وعلا، فقد «تبرهن أن الله عز وجل واجب الوجود لا تركيب فيه، ولسنا ندرك إلا أنيته لا ماهيته، فيستحيل أن تكون له صفة إيجابية لأنه لا أنية له خارجة عن ماهيته فتدل الصفة على إحداها، فإما أن تكون ماهيته مركبة فتدل الصفة على جزئيها، وإما أن تكون لها أعراض فتدل الصفة أيضًا عليها، فلا صفة إيجاب بوجهٍ من الوجوه … فسبحان من إذا لاحظت العقول ذاته عاد إدراكها تقصيرًا، وإذا لاحظت صدور أفعاله عن إرادته عاد علمها جهلًا، وإذا رامت بالألسن تعظيمه بأوصاف عادت كل بلاغة عيًّا وتقصيرًا …»

وهو يقول: «إن الله صورة العالم وسبب وجوده لأن وجود الباري هو سبب لكل موجود وهو يمد بقاءه بالمعنى الذي يكنى عنه بالفيض، فلو قدر عدم الباري لقدر عدم الوجود كله وبطلت ماهية الأسباب البعيدة منه والمسببات الأخيرة وما بينها، فهو له إذن بمنزلة الصورة للشيء الذي له صورة والذي بها هو ما هو، وبالصورة تثبت حقيقته وماهيته، فكذلك نسبة الإله للعالم: وبهذه الجهة قيل فيه: إنه الصورة الأخيرة وإنه صورة الصور، أي إنه سبب وجود كل صورة في العالم وقوامها مستند أخيرًا إليه وبه قوامها.»

وهو يقول بحدوث العالم ولكنه يرى أن إثبات الحدوث بالبرهان عسير: «وغاية قدرة المحقق عندي من المتشرعين أن يُبطل أدلة الفلاسفة على القِدم، وما أجلَّ هذا إذا قُدر عليه.»

وعلى هذا الاعتبار يقول: «أما أنا فأقول: إن العالم لا يخلو من أن يكون قديمًا أو محدَثًا، فإن كان محدَثًا فله محدِث بلا شك … وإن كان العالم قديمًا فيلزم ضرورة أن ثم موجودًا غير أجسام العالم كلها ليس هو جسمًا ولا قوة في جسم، وهو واحد دائم سرمدي لا علة له ولا يمكن تغييره، فهو الإله …»

أما الملائكة فهو يرى أنهم موجودون بدليل النص، وأن وجودهم لا يمنعه العقل؛ لأنه يُسلِّم وجود العقول المفارقة أي العقول المجردة عن الأجسام.

وجائز أن يوجِد الله شيئًا من لا شيء، «وإنا كما جهلنا حكمته التي أوجبت أن تكون الأفلاك تسعة لا أكثر ولا أقل، وعدد الكواكب ما هي عليه لا أكثر ولا أقل ولا أكبر ولا أصغر، كذلك نجهل حكمته في كونه أوجد الكل بعد أن لم يكن …»

•••

وقد سبق ابن ميمون في الأندلس فيلسوف يهودي بحث في الحكمة الإلهية وقال بضرورة الوساطة بين الله والعالم وأسند هذه الوساطة إلى المشيئة الإلهية، ولكنه لم يتوسع كما توسع ابن ميمون في تأويل النصوص والتوفيق بين الفلسفة واللاهوت، وأهم مساهمة له في الفلسفة عامَّةً هي قوله بامتناع التناقض بين الروح والمادة، لوحدة العلة والمعلول في الطبيعة، وإلا انتفى تأثير العقل في الجسد أو تأثير الروح في المادة.

هذا الفيلسوف هو سليمان بن جبيرول الذي وُلِد في مالقة سنة ١٠٢٠ وألَّف كتاب ينبوع الحياة، وربما كان له أثر في توجيه سبينوزا أكبر فلاسفة اليهود ومن أكبر فلاسفة الغرب على العموم.

•••

ولا تزال المحافظة على أقدم النصوص الإسرائيلية شُغلًا شاغلًا للمفكرين من اليهود حتى في هذه الأيام، ففي سنة ١٩٣٧ ظهر لمردخاي كبلان كتاب بالإنجليزية عنوانه «معنى الله في الديانة اليهودية الحديثة» يفسر فيه نصوص الأسفار الإسرائيلية ويستمسك بكل نص من تلك النصوص مع تفسيرٍ جديد يلائم الحياة العصرية، ومن ذاك عهد لبني إسرائيل ليجعلنهم شعبه المختار بين الشعوب، فهو يقول: إن هذا العهد لا يناقض وحدة الإنسانية ولا وحدة الحضارة الإنسانية، بل يؤيد هذه الوحدة ويؤكدها؛ لأن العهد يبشر بإنجازه بين الله وإسرائيل يوم تستقر مملكة الله على الأرض ويبطل فيها البغي والعدوان ويتفق بنو الإنسان جميعًا على عبادة الله بالحق والإخلاص، ولكن الله لم يخلق الإنسانية آحادًا بل خلقها شعوبًا وجماعات ووكل سعيها في سبيل الوحدة إلى جهود هذه الشعوب والجماعات: كل منها بما هو أهله وكل منها بما هو مقيض له ومعهود إليه.

والمحافظة هي المسحة الغالبة على التفسيرات العصرية للعقائد الإسرائيلية الأولى، ولا استثناء في ذلك لما يكتبه الأدباء الطلقاء من قيود الكهانة الدينية كالقصاص المعروف شولم آش Sholem Asch وبعض الشعراء والكُتَّاب المحدثين، فيقول شولم في كتابه «ما أعتقد»:

إن جميع الديانات غير ديانة التوحيد كما أدركها إبراهيم يصح أن تشبه بآبار ملأها الإنسان بيديه، وإنما تجد الروح الخالقة في الإنسان تعبيرها الصحيح في الصور المجسمة، وقد يتلقى الإنسان الوحي من المعاني المجردة ولكنه لا يصنع ولا يعمل إلا بالتجسيم، وكل ما ادخرته روح الإنسان في المجسمات فذاك الذي أسميه بالدين.

خلق الله الإنسان على صورته، وعاد الإنسان فخلق الله على صورته وتمثله في طبيعته، ودرج من أقدم الأزمان على أن يزدلف إلى الله بأن يصفه بما هو أجمل الصفات وأفضلها في نظره، وكل جيل من أجيال البشر يرفع إلى الله خلاصة ثمرات عصره، وكل جيل من أجيال البشر قد صور الله على الصورة المثلى التي يستمدها من خلائقه ومزاياه، ومن هنا أصبحت الربوبية أوجًا تلتقي فيه أفضل الفضائل التي تتخيلها الشعوب.

فلا ضَيْر على هذا أن يظل التجسيم مُلازمًا للديانة كما يراها شولم آش، ولكنه يفرق بين الديانة والعقيدة؛ لأن الديانة تتكون في باطن الإنسان فلا تعلو عليه، أما العقيدة فهي ثقة يتلقاها من فوقه ومن أمامه ولا يتمثلها في مثال.

•••

وعلى الجملة يلاحظ أن الديانة اليهودية على قدمها هي أقل الديانات الكتابية تأثرًا بشروح الفلسفة وعوارض التجديد الأخرى، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة: منها أن اليهودية عند نشأتها لم تنهض لها ضرورة قاضية بالتعجيل في التفسير والتأويل؛ لأن اليهودية نفسها كانت بمثابة فلسفة تجريدية بالقياس إلى العقائد الوثنية والأديان المجسمة التي نشأت بينها، وكان أنبياء اليهود يتلاحقون واحدًا بعد واحد، فيشغل النبي الأمة بأقواله عن أقوال الذين سبقوه إلى استنزال الوحي من الله، وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن الدينين الكتابيين العظيمين اللذين ظهرا بعد اليهودية إنما كانا تعديلين في نصوص الدين اليهودي ومعانيه، فهما خليقان أن يشغلا كل فراغ كان متسعًا لتفسير النصوص ومحاولة التوفيق بين المنقول والمعقول.

وقد تلاحقت الهجرة والتشتيت على الأمة اليهودية منذ أيامها الأولى وأصابتها المحن من ذوي قرباها، ونزل بها الحيف من الدول القوية المسلطة عليها، فاشتدت في نفوسها العصبية القومية، ونفرت كل النفور من البدع الأجنبية، وتحصنت دونها بحصنٍ منيع من العزلة الروحية والفكرية، فأحجمت عن الفلسفة التي تطرقت إليها من جانب الإغريق وجانب المشارقة الفارسيين والهنديين، ولم تكن هذه الفلسفة على هذا قد تكاملت في بلاد الإغريق أو تفرقت منها بين الأقطار الشرقية؛ لأنها لبثت في دور التكوين والتكامل والتعليق إلى ما بعد ميلاد المسيح.

(٢) المسيحية بعد الفلسفة

أما المسيحية فقد تأخر تدوين كتبها وكان معظمها مسطورًا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين، وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد كان اختلافهم مقصورًا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة الزبون، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.

ومع هذا كتب إنجيل يوحنا في أواخر القرن الأول للميلاد وفي صدره هذا التمهيد الذي يعتبره بعض الشراح توطئة للكتاب ويعتبره بعضهم الآخر جملة أصيلة في الكتاب، وهو: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه.»

وكتب بولس الرسول رسائله بعد ذلك، وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة، ولا سيما فلسفة الحلول، وكان يقول: إن المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير «أن تسكن فيهم كلمته»، ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض، ويبدو من جملة كلامه أنه كان ينتظر معاده في زمنٍ قريب، وكثيرًا ما أشار إليه صلوات الله عليه «باسم ربنا يسوع المسيح» وسمى نفسه باسم «رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح.»

وكانت تعبيرات بولس الرسول وتعبيرات إنجيل يوحنا معًا هي مثار البحث بين جماعة التفسير وجماعة النصوص حين بدأ الخلاف بينهم في أواخر القرن الثاني للميلاد.

وأقوى هؤلاء المفسرين وأبعدهم أثرًا في تطور المسيحية الأولى هو أوريجين ابن الشهيد ليونيداس Origen الذي ولد بالإسكندرية سنة ١٨٥ للميلاد، وتعلم على الفيلسوف آمون ساكاس — معلم أفلوطين — إمام الأفلاطونية الحديثة المشهورة.

وكان أوريجين من الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البدائة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد، فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدًا، فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين، أحدهما صوفي للخاصة والآخر حَرْفي لسائر الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعًا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها، ولكنه — من عجب التناقض في الطبع الإنساني — كان يرى وهو منكر الحروف وداعية التفسير والتأويل أن الأسماء العبرية دون غيرها هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير! وينسى أنه جعل هنا للأسماء والحروف سلطانًا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.

وخلف أوريجين تلميذان قويان: هما آريوس في الإسكندرية ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد اختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنًا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت السياسة في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.

هذه كلها كما رأينا مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير، أما مذاهب الفلسفة المسيحية فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها — إذا استثنينا فلسفة القديس أغسطين — إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوربا الغربية.

على أن القرون الخمسة الأولى بعد المسيح لم تخل قط من خلاف محتدم بين المجامع والكنائس على تفسير المقصود من كلمات الأب والابن والروح القدس والكلمة وغيرها من الأوصاف الإلهية التي وردت في الأناجيل، فاتفقوا جميعًا على الوحدانية ولكنهم اختلفوا في أقانيم الثالوث: هل الابن مساوٍ للأب؟ وهل هو ذو طبيعة واحدة أو ذو طبيعتين إلهية وإنسانية؟ وهل هو إله أو إنسان مفضل على سائر البشر؟ وهل يصدر الروح القدس من الأب وحده أو من الأب والابن معًا؟ وهل المسيح هو الكلمة أو هو الابن فقط أو أن الكلمة والابن مترادفان؟ أو أن الكلمة هي الأب والإله؟

وليس من موضوعنا هنا أن نبسط أوجه الخلاف وأسانيد المختلفين وقد كتبت فيها مئات المجلدات، ولكننا نلخص الرأي الغالب في تفسير الأقانيم: وهو أن الأقانيم جوهر واحد، وأن الكلمة والأب وجود واحد، وإنك حين تقول الأب لا تدل على ذاتٍ منفصلة عن الابن أو عن الروح القدس: لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية، ولكنها تتجلى بالأبوة في معرض الإنعام وبالبنوة في معرض التلقي والقبول، ويوشك أن يكون الشأن في تعدد الأقانيم كالشأن في تعدد الصفات عند بعض المفسرين.

وقد استقر الرأي على ذلك مع خلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية في موضوع الروح القدس وعلاقته بالأب والابن، فإن الكنيسة الشرقية تقول: إنه يصدر من الأب وحده والكنيسة الغربية تقول: إنه يصدر من الأب والابن على السواء.

ولم تفصل المجامع — كمجمع نيقية ومجمع إفسس ومجمع خلقدونية — كل الفصل في موضوع هذه التفسيرات، فإن دعاة الإصلاح قد أعادوا البحث فيها خلال القرن السادس عشر، فوقف الأكثرون منهم عند التعبيرات القديمة، وخالفهم سوسينس Socinus في مسألة الطبيعة الإلهية، فنفي عن المسيح كل إلهية، وتفرع على مذهبه مذهب الموحدين Unitarians الذي نشأ في بولونية وقرر أن الإله لا يحل في البشر وأن السيد المسيح إنسان كسائر الناس.

ومما لا خفاء به أن آباء الكنيسة الأولين ما كانوا لينظروا إلى مسألة الثالوث كأنها مشكلة تتطلب الحل لو لم يكن عصرهم كله عصر فلسفة وعصر اتجاه إلى التوحيد؛ لأن هذه المسألة بعينها لو عرضت للمتدينين قبل المسيح ببضعة قرون لقبلوا حرفها على ظاهره في جميع نصوصه، ولم يجدوا في معاني الثالوث بالنسبة إلى الآلهة حاجة إلى التأويل.

على أن الفكرة الإلهية — بمعزلٍ عن مسألة الثالوث — قد لقيت من آباء الكنيسة المفكرين أوفى نصيب من الدراسة الفلسفية التي تتلمذوا فيها على حكماء اليونان أو على حكماء المسلمين، وكان للفيلسوف الإسرائيلي فيلون أثر في توجيه هذه الدراسة غير قليل.

فالقديس أوغسطين — الذي وُلد في منتصف القرن الرابع — كان أسبق هؤلاء المفكرين اللاهوتيين إلى البحث عن حقيقة الله وحقيقة النفس وحقيقة العبادة. قرأ شيشرون وأفلاطون وبعض المذاهب اليونانية، ودان في شبابه بالمانوية فلم يعجبه منها تسليمها بقوة الشر، ونفر منها إلى القول بأن الله لا يصنع الشر؛ لأن الشر ليس بشيء يصنع، ولكنه هو بطلان الخير، واحتكم إلى العقل في فهم المسائل الدينية، ولكنه قرر أن العقل وحده لا يهدي إلى الله، وأنه لا بد من الإيمان، ولا بد للمؤمن من تصديق ما لا يراه، فالعقل يعلمنا أن الأجسام المتغيرة لا تخلق نفسها، وأن العقل لا يخلق حقائقها بل قصاراه أن يفهمها، ولكن هذه الحقائق لها عقل خالق هو عقل الله، وهو جوهر مجرد لا تركيب فيه ولا تعديد، وإنما صفاته هي ذاته لا فرق فيها بين صفة وصفة على الإطلاق، فالقادر على كل شيء هو العالم بكل شيء، والقدرة المطلقة هي العلم المطلق، ومحل الإيمان — بعد محل العقل في الاهتداء إلى الله — هو تكملة العجز الذي يعتري العقل إذ يحاول أن يتصور ما لا قبل له بتصوره من عظمة الله وحكمته في خلقه، فليس للعقل من مخرج من هذه المآزق غير التسليم.

ولا يتردد أغسطين في الجزم بأن العالم مخلوق، وأنه لم يوجد هكذا من أزل الآزال، فلا تناقض بين قدم الإرادة الإلهية وحدوث المخلوقات، ولا يفهم خلق الله للعالم في ستة أيام على ظاهره بل على معناه؛ لأن اليوم من أيام الخلق غير اليوم الذي نحسبه من تقلب الليل والنهار، فلم يكن ليل ولا نهار قبل خلق الكواكب، وهي كما جاء في سفر التكوين قد خلقت في اليوم الرابع، فلا مناص من تقدير تلك الأيام بغير المقدار الذي نجريه في حساب الأفلاك، ولا محل للاعتراض على خلق العالم في هذا الزمان دون ذاك؛ لأن الزمان لم يكن قبل العالم حتى يقال: إنه خلق فيه فإذا خلق من العدم، فليس هناك مفاضلة بين زمانين، ولا موجب للسؤال عن تفضيل زمان على زمان.

ولا اعتراض بوجود الشر على وجود الله في مذهب أوغسطين كما تقدم؛ لأن الشر ليس بموجود فيخلق وينسب خلقه إلى الله، ولكنه هو عدم الخير ولا بد من عدم بعض الخير في المخلوق المحدود؛ لأن المحدود لا يمكن عقلًا أن يكون خيرًا محضًا أو يكون هو كل الخير، ولكن الله يتدارك هذا النقص بحكمته ويمنح الإنسان إرادة تعينه على الاختيار وشوقًا إلى الكمال يهديه إلى حسن الاختيار، ولا يفوت أغسطين أن القول بهذا يستلزم القول بحرية الإنسان، فهو في اعتقاده حر الإرادة ولولا ذلك لبطل التكليف.

وقد عرض القديس أغسطين لمسألة الثالوث فقال: «إن للأب والابن وروح القدس جوهرًا واحدًا ليس الأب فيه شيئًا والابن شيئًا آخر وروح القدس شيئًا غيره، وإن كان الأب ذاتًا والابن ذاتًا وروح القدس ذاتًا كذاك» ومثَّل هذا الاتحاد باتحاد نور النار ولهيبها، وهما جوهر واحد.

ويعتبر القديس أغسطين أوفى آباء الكنيسة الأسبقين بحثًا في معضلات الفكر من وجهتي النظر الدينية والعقلية، ولكنه كان ينتهي منها أحيانًا إلى حلول يراها فصل الخطاب، وهي في رأي غيره مثار بحث لا تقف العقول لديه.

ثم أخرجت الكنيسة بعده بأجيال مفكرًا يعتبر تلميذه في كثير من تحقيقاته ويعتبر في طليعة المفكرين الإلهيين في العالم كله؛ لأنه — على استقلال فكره — قد وعى حكمة اليونان وحكمة المسلمين وحكمة الآباء الأسبقين، ونظر فيها جميعًا نظر المتصرف في الفهم والانتقاد، وهو القديس توما الأكويني المولود في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد.

وهو يعتمد على أرسطو كثيرًا كما يعتمد على ابن سينا في الفكرة الإلهية، ويقول: «إن حدوث العالم مسألة يفصل فيها الوحي ولا يتأتَّى إثباتها بالبرهان، ويصف الله بجميع صفات الكمال ومنها العلم بكل شيء من الكليات والجزئيات، مخالفًا بذلك أرسطو الذي يقول: إن الله يعقل ذاته وحدها لأنها أشرف المعقولات، ودليل القديس توما على ذلك أن الله يعلم ضرورة ما هو خلاف ذاته؛ لأنه يعقل ذاته عقلًا تامًّا كا هو جلي ظاهر، وإلا كان وجوده ناقصًا لأن وجوده هو عقله، ومتى كان الشيء معروفًا معرفة تامة لزم من ذلك أن تكون قدرته أيضًا معروفة معرفة تامة، ولكن هذه القدرة لا تُعرف تمامًا إلا بمعرفة المدى الذي تمتد إليه، ومتى كانت قدرة الله تمتد إلى الأشياء بمقتضى أنها هي علتها الأولى فمن اللازم أن يعلم الله جميع الأشياء …»

ويقول القديس توما كما قال بعض فلاسفة الشرق من قبله: إن صفات الله السلبية أيسر فَهمًا من صفات الله الثبوتية، فالله غير مركب وغير متعدد وغير فانٍ وغير ناقص، ويلزم من ذلك أنه كامل كل الكمال، وأن صفات العلم والخير والجمال هي من معاني هذا الكمال ولا تدل على التعدد والتركيب.

وقد عرض القديس توما لمسألة الثالوث فلم يخرج فيها عن مقررات الكنيسة، ولكنه رأى أن الصدور بالنسبة إلى الأقانيم لا يمكن تمثيله إلا بالصدورات العقلية لأنها أقرب الموجودات إلى الصفات الإلهية، فالروح القدس تصدر من الأب مثلًا كصدور المعقول من العقل دون أن يقتضي ذلك فصلًا أو تفرقة بين الصادر ومصدره، أو كصدور الكلمة من الإنسان وهي بصدورها لا تفارقه ولا تنفصل عنه.

وقد بلغ القديس توما الذروة في موضوعات الفلسفة المسيحية فلا حاجة إلى سرد الآراء الأخرى التي أثرت عن بعض الآباء، وهي لا تزيد شيئًا على فحواه.

إلا أن الكلام على الفكرة الإلهية في المسيحية لا يتم بغير الإشارة إلى عقيدة الخطيئة وعقيدة التكفير.

فالأديان القديمة قد عرفت الخطيئة من عهود الإنسانية الأولى؛ لأنها عرفت المحرم Taboo وهو المحظور في العلاقات الجنسية أو في بعض المأكولات.

وقد عُرِفَ التكفير بعد ارتقاء الأديان، فقال الهنود والأورفيون وأتباع فيثاغورس بتناسخ الأرواح للتكفير والتطهير، وقال اليهود بالتكفير عن خطايا الشعب فسموه الخلاص، وهم يقصدون به خلاص الشعب من ربقة البابليين أو المصريين.

ولكن المسيحية جعلت للخطيئة معنى آخر وسمَّتها الخطيئة الأصلية، وهي مخالفة آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عنها، وجعلت آلام السيد المسيح كفارة عن الجنس البشري كله لوقوع آدم في تلك الخطيئة، وازداد القول بذلك تواترًا بعد عهد الإصلاح.

(٣) الإسلام بعد الفلسفة

وكان الاستعداد لظهور الفرق والمذاهب في الإسلام على غير ما رأينا في اليهودية والمسيحية من جميع الوجوه؛ إذ كانت الأسباب مهيأة لظهورها منذ الجيل الأول، سواء من جانب الفلسفة أو من جانب المشكلات اللاهوتية التي شغلت عقول الباحثين بين اليهود والمسيحيين.

كان الإسلام خلوًا من الكهانة التي تستأثر بالدرس والتأويل، وكان القرآن صريحًا في الأمر المتكرر بالنظر والتفكير، وكان القرآن كتابًا محفوظًا في حياة النبي عليه السلام، فلم يطل العهد بالمسلمين في انتظار التدوين والاتفاق على نصوص الكتاب، وكان المسلمون يؤمنون بأن محمدًا عليه السلام خاتم النبيين، فلا ينتظرون نبيًّا آخر يتمم الرسالة أو يغنيهم عن الاجتهاد في معاني الكتاب أو معاني الأحاديث النبوية.

ولم يجهر محمد عليه السلام بالدعوة الإسلامية حتى كانت مشكلات المذاهب المتقدمة قد ملأت آفاق الشرق العربي وانعقدت عليها الأقوال من طوائف المختلفين هنا وهناك، وتسرب الكثير منها إلى الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية سواء منها أقوال الفلاسفة وأقوال رجال الدين من جميع النِّحَل والأجناس، وكان بعض المسلمين يسمعون بالتوراة ولم يطَّلعوا عليها، ولكنهم سمعوا أنها أنبأت بظهور النبي وبغير ذلك من أحداث آخر الزمان، وأن الأحبار يخفون هذه النبوءات إمعانًا منهم في الكفر والضلالة وحب الرئاسة في الدنيا، وقال لهم كعب الأحبار: «ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة.»

وفهم المسلمون أن هذه الأسرار لا يعقل أن تُودَع في التوراة ولا تُودَع في القرآن، لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وإنما تبذل هذه الأسرار لأهلها، وإنما سبيلهم في معرفتها أن يتوسلوا بالتقوى ويستعينوا بمن سبقهم من أخبار الأمم الأولى، ويستدرجوهم بالمحاسنة والنصيحة إلى الكشف عنها، فلم يكن لطلاب المعرفة بد من الدخول في معترك الفرق الدينية بين من يزعم أنه على الحق ومن يقال إنه على الضلال.

ولما انتشر الإسلام كان انتشاره في الرقعة التي جمعت كل هذه الفِرق والمذاهب وشهدت بينها مجالس المناظرة ومصارع النزاع والقتال، وكانت الفلسفة الإغريقية قد بلغت أوجها في آسيا الغربية ومدرسة الإسكندرية، وترددت أقاويلها ومناقضاتها ما بين مصر وسورية والعراق وأطراف البلاد الفارسية، حيث يتصدى للتعليم أطباء النساطرة ومعهم كتب الإغريق في الحكمة والتصوف والمنطق والجدل وأشباه هذه الموضوعات، فلم يبق سبب من الأسباب التي تنشئ الفِرق والمذاهب إلا وقد تهيأ للظهور من جميع نواحيه عند قيام الإسلام.

على أن السبب الذي طوى هذه الأسباب جميعًا هو قيام الدولة مع قيام الدين الإسلامي في وقتٍ واحد، وهو ما لم يحدث في بني إسرائيل ولا في عالم المسيحية، وعليه تدور الخلافات بين الفِرق جميعًا من قريبٍ أو بعيد.

فالنزاع على الدولة بين عليٍّ ومعاوية مرتبط بنشوء الخوارج ونشوء الشيعة، ومرتبط كذلك بنشوء القدرية والمرجئة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، ومذهب أهل الحقيقة ومذهب أهل الشريعة، وما استتبعه من فرق الباطنية وأصحاب الرموز والأسرار، على تفاوت نصيبهم من الحكمة الدينية والحكمة الفلسفية.

ويستطاع رد الخلاف هنا إلى محورٍ واحد: وهو الخلاف بين أنصار الواقع وأنصار التغيير، أو بين أنصار المحافظة وأنصار التجديد حيث كان.

رُوي عن يزيد بن معاوية وقد حُمِل إليه رأس الحسين أنه سأل من حوله وهو يشير إلى الرأس الشريف: «أتدرون من أين أُتِيَ هذا؟ إنه قال: أبي عليٌّ خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدِّي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر؛ فأما أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلًا ولا ندًّا، ولكنه أتي من قبل فقهه ولم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ

فمن خدمه الواقع هذه الخدمة الْجُلَّى لا جرم يؤمن بأن الواقع هو قدر الله وقضاؤه الذي يدان به العباد، ومن خالفه في ذلك لا جرم يعتصم بالرأي والتفسير ليفهم القدر الإلهي على الوجه الذي ينهض به دليله ويسقط به دليل خصمه.

ومن ثم تنفرج الطريق بين طلاب الواقع وطلاب التغيير في كل مجال.

فطلاب الواقع يقولون بطاعة السلطان القائم، وطلاب التغيير يقولون بطاعة الإمام المستتر، ويقولون بعلم الظاهر وعلم الباطن، أو بعلم الحقيقة وعلم الشريعة، أو بالفَرْق بين الكلام الواضح الذي يفهمه الدهماء والكلام الخفي الذي يفطن له ذوو البصر والاطلاع.

يُروى عن الإمام الباقر أنه قال: «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفًا، يعرف منها سليمان حرفًا واحدًا تكلم به فأُتيَ إليه بعرش مملكة، ونحن عندنا منها اثنان وسبعون حرفًا، وحرف عند الله استأثر به في عالم الغيب وحده.»

ويدور على هذا المحور في جانبٍ آخر خلاف القائلين بإسلام بني أمية والقائلين بتكفيرهم والقائلين بإرجاء الحكم عليهم إلى يوم القيامة، وهم أصحاب الفرقة التي اشتهرت باسم المرجئة من أوائل فرق الإسلام.

ويغلو من هنا فريق كالخوارج فيُكفِّرون عليًّا ومن والاه، ومن هنا فريق كالسبائية فيؤلهون عليًّا، وينكرون القول بموته، وإنما شُبِّه للناس فقتل ابن ملجم شيطانًا تصور بصورته، وصعد عليٌّ إلى السحاب، فالرعد صوته، والبرق سوطه، وموعده يوم يرجع فيه إلى الأرض فيملأها عدلًا ويقضي على الظالمين، أو يقولون كما قال البنانية أتباع بنان بن سمعان: إن روح الله حلَّت في عليٍّ ثم في ابنه محمد ابن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بنان، أو يقولون بتناسخ الأرواح من آدم إلى عليٍّ وأولاده الثلاثة، أو يقولون كما قالت الزرامية: إن الله قد حل في إمام بعد إمام إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، وإنه لم يقتل ولا يجوز عليه الموت وفيه روح الله.

ويكثر الكلام بين هذه الفروض والظنون على ماهية الروح وماهية الحقيقة الإلهية، وما ينبغي لله جل وعلا من التنزيه وما يمتنع في حقه من التجسيم والتشبيه، وتمتزج النوازع الذهنية بنوازع المصلحة والسياسة والعواطف المكبوتة، فيستمد كل منها عونه من الآخر على الإقناع واستجلاب الأنصار والأشياع.

ومن البديه أن دعاة التغيير يتقون جهدهم سلطان الواقع حيث هو قائم عزيز الجانب مبثوث العيون، فابتعدوا من دمشق الشام واتخذوا لهم ملاذًا مأمونًا عند أطراف الدولة الشرقية فيما وراء النهر خاصة، كما كانت تُسَمَّى في تلك الأيام.

•••

وأهم ما يتصل بالفكرة الإلهية من هذه البحوث هو البحث في القضاء والقدر والبحث في ذات الله وصفاته.

فالله عادل حكيم، وهو خالق كل حي وكل موجود، وهو يأمر وينهى ويعاقب على الطاعة والعصيان.

فكيف يكون التكليف؟ وكيف يكون الثواب والعقاب؟

إن الإنسان مخلوق مسخَّر لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فكيف يحاسب على ما قضاه الله عليه؟

هل هو حر مريد قادر على الخروج من مشيئة القدر إن أراد؟ فكيف يكون حرًّا مريدًا من هو مخلوق بأفعاله وبإرادته وبكل ما يحيك بنفسه ويوسوس في ضميره؟

وإذا كان مقيدًا مكرهًا على فعله ونيته فكيف نفهم ما جاء في القرآن الكريم من الآيات التي تسند إليه الفعل وتنذره بالعقاب: الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ، فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا، سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ.

وتساءل المختلفون في هذا الأمر: هل يخلق الله الكفر؟ بل كان منهم من يسأل: هل يخلق الله الكافر، وكيف خلقه والله أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وهو القائل: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ فهل الكفر حسن؟ وهل الكفر حق؟

واختلفوا في الجواب كما اختلف جميع الباحثين في مسألة القضاء والقدر من جميع النِّحَل الدينية والمذاهب الفلسفية.

فالمعتزلة يقولون: إن الإنسان حر مريد وإلا سقط عنه التكليف، ويقولون: إن الله لم يُكره الناس على الذنب، ولكنه علم ما يكون من ذنبهم، وعلم أنهم يسيئون الاختيار، فرتب العقاب على هذا العلم: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.

والأشعرية يقولون إن المخلوقات تريد كما تريد المخلوقات، ولكن الله يخلقها ويخلق أفعالها، وعلينا أن نؤمن بعدله وإن غابت عنا حكمته؛ لأن الوحي والعقل كليهما يمنعنان نسبة الظلم إلى الله، فهو عادل عدلًا شاملًا لا تحيط به عقول البشر، ولا ينتهون من البحث فيه إلى غير التسليم.

والمتشددون في التزام النصوص ينفرون من التعليل والتأويل ويقولون إن الله يفعل ما يريد بالعباد، وإنه لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

قال الفخر الرازي في ردِّه على من يقولون: لو أراد الله كفر الكافر لكان الكافر مطيعًا بكفره: «إن الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، وإن الكفر ليس نفس القضاء بل متعلق القضاء.»

•••

وتُعَدُّ مسألة القضاء والقدر — أو مسألة العدل الإلهي — تابعة في الواقع لمسألة الصفات في جملتها، ولكنها سبقتها لأن مسألة القضاء والقدر من المسائل الدينية البحت التي تعرض للمؤمن بمعزلٍ عن الفلسفة ولا تعرض للفيلسوف إلا إذا اعتقد الحساب والعقاب في عالمٍ آخر كما يعتقدهما أصحاب الأديان.

أما الصفات الإلهية فليس في تعددها ما يناقض عقيدة المؤمن بعظمة الله وتفرُّده بالكمال، ولكنه يفتح باب البحث فيها متى عرف — من الفلسفة — أن الله هو المحرِّك الذي لا يتحرك، وهو العلة الأولى للوجود، وهو العقل المحض أو الصورة المنزهة عن الهيولى وما يجري عليها من قوانين التركيب والانحلال، فيخطر له التساؤل عن كُنْهِ الوجود وكُنْهِ الذات وما قد تدل عليه الصفات من التوحُّد أو التعدُّد، ومن البساطة أو التركيب.

وقد وصف «الإله» جل وعلا في الإسلام بالصفات التي تعرف بالأسماء الحسنى، ومنها: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، الغفار، القهار، السميع، البصير، الحكم، العدل، الخبير، الصمد، القادر، الظاهر، الباطن، الرزَّاق، النافع، الضارُّ، المتكلم، الحسيب — وهي تدل على أفعال واقعة متجددة لا تقف عند الحركة الأولى ولا عند العلة الأولى كما يقول أرسطو وأتباعه، فحاول العلماء أن يوفقوا بين ما ينبغي لله في الدين وما ينبغي لله في المنطق والفلسفة، وتساءلوا: هل هذه الصفات متعددة أو هي أسماء مختلفة لحقيقة واحدة؟ وإذا كانت متعددة فهل في تعددها تركيب يمتنع في حق الله المُنَزَّه عن التركيب، أو هو تعدد لا يستلزم التركيب؟ وإذا كانت مفردة فهل يعلم الله بقادريته ويقدر بعلمه؟ وهل هذه الصفات جميعها هي عين الذات أو هي زائدة على الذات؟ وكيف تكون زائدة على الذات والله «أحد» لا زيادة على ذاته؟

واشتد الجدل في هذه المسألة حين ظهرت بدعة القول بخلق القرآن، فقال أناس بأن لفظ القرآن حديث ومعناه قديم، وقال غيرهم: إن كلام الله قديم بلفظه ومعناه، واحتج الأولون سائلين: كيف يقول الله في الأزل: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ونوح لم يرسل بعد؟ وكيف يكون له لفظ واللفظ صوت في الهواء من مخارج الأعضاء؟

وعادوا إلى مسألة العلم والإرادة، فقال أنصار أرسطو: إن العلم بالجزئيات يقتضي التغير، ولا تغير في ذات الله، وإن الإرادة تقتضي الطلب والاختيار، والله لا يطلب، ولا شيء بالنسبة إليه أفضل من شيء، فيقع الاختيار بين الشيئين.

وتبلغ الفرق الإسلامية التي خاضت في هذه البحوث عشرات معروفة بأسماء أصحابها أو بأسماء موضوعاتها، ولكننا نستطيع أن نجملها في ثلاث فِرق جامعة وهي: أصحاب العقل، وأصحاب النقل، وأصحاب النقل مع اتخاذ الحجة والبرهان من المعقول.

فأصحاب العقل يقولون في مسألة الصفات: إنها تدل كلها على صفة واحدة هي الكمال، وإن كمال الله هو عين ذاته؛ لأن قولنا: «الذات الكاملة» لا يقتضي ذاتًا وكمالًا، بل يدل على معنى واحد، وإن ماهية الله هي عين وجوده إذ لم يكن له مشارك في الماهية، ويتلخص مذهبهم في أن طريق السلب أقرب من طريق الإيجاب في فهم صفات الله، فأنت لا تجد صعوبة في الفهم حين تقول إن الله غير جاهل، وإنه غير عاجز، وإنه غير متعدد، وإنه غير مركب، وإنه غير ظالم، ولكنك تجد الصعوبة حين تتفهم كُنْهَ العلم وكُنْهَ القدرة وكُنْهَ الوحدانية وغيرها من معاني الأسماء الحسنى، وأجمل ابن مسكويه ذلك في كتاب الفوز الأصغر فقال: «إن البراهين المستقيمة الموجبة يُحتاج فيها إلى إثبات مقدمات موجبة للمبرهَن عليه ذاتية له أولية، وهي التي يوجد الشيء بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والله تعالى أول الموجودات كما بيناه وبرهنَّا عليه، وهو فاعلها ومبدعها، فإذن ليس له أول يوجد في المقدمات، فلا يمكن إذن أن يبرهن عليه بطريق الإيجاب بالبرهان المستقيم، فأما برهان الخلف على طريق السلب فإنما يُحتاج فيه إلى إزالة الأسباب والمعاني عنه، كما نقول: إنه ليس بجسم ولا بمتحرك وليس بمحدثٍ ولا بمتكثرٍ، كما قلنا: إنه ليس يمكن أن يكون للعالم أسباب لا ترتقي إلى واحد، فقد تبين أن برهان السلب أليق الأشياء بالأمور الإلهية وأشبهها بأن تستعمل فيها.»

ويرى الفلاسفة المسلمون أنه لا تعارض بين كمال الله وعلمه بالجزئيات؛ لأن علم الله لا يتوقف على الجزئيات، بل الجزئيات هي التي تتوقف على علمه، أو كما قال ابن سينا: «إن الأشياء حصلت لأن الله قد علم بها، وليس علم الله بها تابعًا لحصولها في حينها، وكذلك لا تعارض بين القول بخلق العالم وقدمه؛ لأن العالم لم يسبقه زمان، وإنما سبقته ذات الله التي لا زمان لها ولا أول لوجودها، فقِدَم العالم معناه أن أوله كأول الزمان، وليس معناه أنه مستغنٍ عن الإيجاد.»

وقال ابن سينا: «إنه ليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء؛ لأنه من ذاته يبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامَّة بأعيانها وللكائنة الفاسدة بأنواعها أولًا وبِتَوسُّط ذلك بأشخاصها.»

وقال الغزالي في مناقشة ابن رشد: «إن تجريد الله من العلم بالجزئيات ومن التأثير في الموجودات ومن صفات العقل والإرادة — هو تنزيه يشبه العدم، وإنه لا برهان على أن «الواحد» لا يعقل غير الواحد ولا يصدر عنه غير الواحد، فإن دعوى الفلاسفة في ذلك دعوى لا يُثبتها العقل ولا يعتمدون فيها على المشاهدة، ومتى سلموا أن عقل الله أشرف العقول فأشرف العقول لا محالة يتنزه عن الجهل بما تعلمه العقول المخلوقة، وإن اختلف علم الخالق عن علم المخلوق.»

أما أصحاب النقل والوقوف عند الحروف فقد سخفوا في فهم الصفات سخفًا ينكره كل عقل سليم، فأثبتوا له أعضاء مجسمة، وقالوا بتحيزه في المكان، وأجازوا رؤيته بالعين كما نرى المحسوسات، وبلغ بعضهم من السخف أنه سئل: أَلِلهِ يَدٌ؟ فقال: نعم، كَيَدِي هذه! وليس لهم شأن عند جمهرة المسلمين.

وقد توسط أصحاب النقل مع اتخاذ الحجة والبرهان من المعقول فقالوا: إن الصفات متعددة، وإن العلم غير القدرة، والرحمة غير الجبروت، وإن اليد هي القدرة، والوجه هو الوجود، وليست هي بأعضاء يجوز فيها التجسيم، ولكن الصفات موجودة والكيفيات مجهولة، فهم يمسكون عن البحث في ذات الله؛ لأنه جل وعلا بغير شبيهٍ وليس كمثله شيء، واحتجُّوا لذلك بسببين؛ أحدهما: أن الدين ينهى عن الخوض في ذلك لما ورد في التنزيل من قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا والسبب الثاني أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والخوض في صفات الباري بالظن لا يجوز.

وقد أجاز هؤلاء رؤية الله بمعنى العلم الذي يحصل من النظر لا بمعنى الحس الذي يقع على المجسمات.

وإجماع المسلمين على أن هؤلاء هم أهل السُّنَّة، وأن معرفتهم بالله هي أسلم المعرفة التي يطالب بها المؤمنون.

والواقع أن التسليم في المسائل الإلهية أمر يقتضيه العقل ولا يأباه؛ لأن القياس إنما يكون فيما يقاس عليه، وما ليس له شبيه ولا مثيل لا يقاس عليه إلا كان القياس عرضة للخطأ والوهم والقصور، ونحن نعيش في الزمان الذي له ماض وحاضر وغيب مجهول، فكيف نقيس أعمالنا على الموجود الأبدي وليس في الأبد ماض ولا حاضر ولا نقطة يجوز منها الابتداء أو يصير إليها الانتهاء؟ فكيف نمنع أن يتكلم الله مثلًا عن المستقبل كأنه واقع أو عن الماضي كأنه حاضر؟ أو يتكلم عن الأمور باعتبار جملتها في الأبد الأبيد ونحن لا نرى إلا الجزء بعد الجزء والحال بعد الحال؟

•••

ومن الأمثلة العالية للفكرة الإلهية في الإسلام خطبة وردت في نهج البلاغة ذُكِرت فيها الصفة بمعنى التمثيل لذات الله لا بمعنى الأسماء الحسنى، فإن الأسماء الحسنى ثابتة في القرآن الكريم لا ينكرها مسلم، وهذا بعض ما جاء في تلك الخطبة المنسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه:

الحمد لله الذي لا يبلغ من حقِّه القائلون، ولا يُحصي نعماه العادُّون، ولا يؤدي حقَّه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعْدُ الهِمم، ولا يناله غَوْص الفِطَن، الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فَطَرَ الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتَّد بالصخور ميدان أرضه، أوَّلُ الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمَنْ وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثنَّاه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن قال: فيمَ؟ فقد ضمَّنه، ومن قال: عَلَامَ؟ فقد أخلى عنه، كائنٌ لا عن حَدَثٍ، موجود لا عن عَدَمٍ، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامةِ نفسٍ اضطرب فيها، أجال الأشياء لوقتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالمًا بها قبل ابتدائها، محيطًا بحدودها وانتهائها، عارفًا بقرائنها وأحنائها.

ولنا أن نقول على الجملة: إن هذه الفكرة الإلهية هي فكرة الإجماع في الإسلام، أما الفِرق التي تنتمي إلى الإسلام وتقول بالحلول أو بتناسخ الأرواح أو بالوساطة بين الخلق والخالق — فالرأي المتفق عليه أن اعتقادها مخالف للكتاب والسُّنَّة وإجماع المسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤