الدكتور أحمد فؤاد١
أَوْحَتْ لطَرْفِكَ فاستهلَّ شُئُونا
دارٌ مَرَرْتَ بها على (قَيْسونا)٢
غاضَت بشاشتُها، وفَضَّتْ شملَها
دنيا تَغُرُّ السادِرَ المفتونا
نزَلَتْ عَوادِي الدهرِ في ساحاتها
وأَقلَّ رَفْرَفها الخطوبَ العُونا٣
فتكادُ مِنْ أسف على أَسِي الحِمَى
من كلِّ ناحيةٍ تثور شُجونا
تلك (العيادةُ) لم تكن عَبَثًا، ولا
شَرَكًا لصَيْدِ مَآربٍ وكَمينا
دارُ (ابنِ سِينَا) نُزِّهَتْ حُجُراتُها
عن أَن تَضُمّ ضَلالةً ومُجونا٤
خَبَتِ المطالعُ مِنْ أَغرَّ مُؤَمَّلٍ
كالفجر ثَغْرًا، والصَّبَاح جَبينا٥
ومِنَ الوُفودِ، كأَنهم مِنْ حَوْلِه
مَرْضَى (بعيسى الروحِ) يَستشفونا
مَثَلٌ تَصوَّر من حياةٍ حرَّةٍ
للنشْءِ يَنطِق في السكوت مُبينا
لم تُحْصَ من عهدِ الصِّبا حَرَكاتُه
وتَخالُهنَّ من الخُشوع سُكونا
جَمَحَتْ جِراحُ المُعْوِزين، وأَعضلَتْ
أَدْواؤهُم، وتَغَيَّبَ الشافونا٦
ماتَ الجوادُ بطِبِّه وبأَجره
ولربَّما بذلَ الدواءَ مُعينا
وتَجُسُّ راحتُه العليلَ، وتارةً
تَكسو الفقيرَ، وتُطعِم المِسكينا
أَدَّى أَمانةَ علمِه، ولطالَما
حَمَلَ الصداقةَ وافيًا وأَمينا
وقضى حقوقَ الأَهلِ، يُحسِن تارةً
بأَبيه، أَو يَصِل القرابة حينا
خُلقٌ ودينٌ في زمانٍ لا ترى
خُلقًا عليه ولا تُصادِف دينا
أَمُداوِيَ الأَرواحِ قبل جُسومِها
قُمْ داوِ فيك فؤاديَ المحزونا
روِّحْ بلفظك كلَّ رُوحِ مُعدَّبٍ
حَيرانَ طار بلُبِّه الناعونا
قد كال للقدَر العِتابَ، ورُبَّما
ظنَّ المُدَلَّهُ بالقضاءِ ظُنونا٧
داوَيْتَ كلَّ مُحطَّمٍ فشفيْتهُ
ونسِيتَ داءً في الضلوع دَفينا
كبدٌ على دَمِها اتَّكَأْت ولحْمِها
فحَمَلْتَ همَّ المسلمين سِنينا
ظلَّتْ وراءَ الحربِ تَشقَى بالنَّوَى
وتَذوب للوطن الكريمِ حنينا
ناصرتَ في فجر القضيَّةِ (مصطفى)
فنَصَرْتَ خُلْقًا في الشَّباب مَتينا٨
أَقدمْتَ في العشرين تحتَ لوائِه
وروائعُ الإِقدام في العشرينا
لم تَبغِ دُنيا طالما أَغضَى لها
حُمْسُ الدّعاةِ وطَأْطَئُوا العِرنينا٩
رُحْمَاكَ (يوسفُ) قِفْ رِكَابَك ساعةً
واعطِفْ على يعقوبَ فيه حزينا١٠
لم يَدْرِ خلفَ النعشِ من حرِّ الجَوى
أُيشُقُّ جَيْبًا، أَم يَشُقُّ وَتينا؟١١
ساروا بمُهجتِه، فحُمِّلَ ثُكْلَها
وقَضَوْا بعائله، فمالَ غَبينا١٢
أَتعودُ في رَكْبِ الربيعِ إِذا انثنى
بَهِجًا يَزُفُّ الوردَ والنَّسرينا؟
هيهات من سَفرِ المنيَّة أَوْبةً
حتى يُهيبَ الصُّبحُ بالسارينا
ويقالُ للأَرض الفضاءِ: تمخِّضي
فتردَّ شيخًا أَو تمجّ جنينا
الله أَبقى! أَين مِنْ جَسدي يدٌ
لم أَنْسَ رِفقَ بَنانِها واللِّينا؟١٣
حتى تَمَثًَّلتِ العِنايةُ صورةً
تُومِي براحٍ، أَو تُجِيلُ عيونا
فجررَتُ جُثماني، وهانت كُربةٌ
لولا اعتِناؤكَ لم تكن لِتهونا
إِنّ الشفاءَ من الحياةِ وعونِها
ما كان آسٍ بالشفاءِ ضَمينا
واليومَ أَرْتجلُ الرِّثاءَ، وأَنزَوِي
في مأْتمٍ أَبكي مع الباكينا
سبحانَ من يرِثُ الطبيبَ وَطِبَّه
ويُرِي المريض مصارعَ الآسينا!!١٤
هوامش
(١) كان الدكتور أحمد فؤاد مثالاً نادرًا من أمثلة حسن الخلق، ونابغة من نوابغ
الطب المعدودين، وقد توفي سنة ١٩٣١.
(٢) قيسون: علم على مسجد بهذا الاسم في شارع محمد علي بالقاهرة كانت
دار الفقيد قريبة منه، الشئون: الدموع. يقول: إن المرور على هذه
الدار يجعل العين تفيض دمعًا؛ حزنًا لما أصاب تلك الدار من الخمول
بعد النباهة، والسكون بعد الحركة، والوجوم بعد الطلاقة والسرور،
وهذا لفقد صاحبها طبعًا.
(٣) أقل: حمل. الرفوف: شيء مثل الطاق يجعل عليه طرائف البيت. العون:
جمع عوان. الخطوب العون: أي التي نزلت مرَّة قبل هذه. يريد أن هذه
الدار قد عرفت عوائق الدهر وخطوبه قبل هذا الخطب الأخير الذي حلَّ
بها.
(٤) يشبِّه الفقيد في الطب والأمانة للعلم بابن سينا.
(٥) خبت المطالع: انطفأ نورها.
(٦) أدواء: جمع داء.
(٧) المدله: الذي ذهب فؤاده من همِّ وعشق ونحوه.
(٨) يشير إلى أنه كان من الأنصار الكبار للزعيم مصطفى كامل
باشا.
(٩) حمس: جمع حمس، بكسر الميم، أو أحمس، وهو الصلب في القتال
والعقيدة، والحمس: لقب لقريش، ومَنْ تابعهم في الجاهلية لتحمُّسهم
والتجائهم للحمساء، أي الكعبة، العرنين: الأنف.
(١٠) يشبِّه الفقيد (عليه السلام)، ليمهد لتشبيه أبيه بسيدنا يعقوب
(عليه السلام) في صبره على فراق ابنه ومحنته.
(١١) الوتين: عرق في القلب إذا قطع مات صاحبه.
(١٢) المهجة: تطلق على الدم وعلى الروح، يقال: خرجت مهجته، أي
روحه.
(١٣) يشير: إلى أن الفقيد كان أحد أطبائه الذين تمثلت عناية الله به
في عنايتهم بعلاجه واعتنائهم بشفائه.
(١٤) الآسينا: جمع آسي، وهو الطبيب.