الفصل الثاني عشر

في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز

ولما كان في اليوم التالي ركب «فانيس»، وقصد المدينة، ودخل على الوزير فرحَّبَ به، وسأله عن سبب مجيئه فأخبره بما تمَّ، وما سمع من «كورش»، وكيف أنَّه يتلفَّظ بذكر بنت ملك «نينوى»، وأن الذي به ليس إلا من أحوال العشقِ واليأسِ؛ لأنه يفتكر أنه ابن راع، وأن بنت الملك لا ينبغي له الوصول إليها، وهذا الفكر الذي أهلكه يا مولاي.

قال الوزير: وما الذي أَعْلَمَهُ ببنت الملك؟ وما السبب لهذه المعرفة وهو في مملكة «مادي»، وهي في مملكة «أشور»، وبينهما بَوْن بعيد؟

قال: نعم، ولكن كانت منذ أشهر قد مرَّت من هذه الجهة، وهي في موكبها الحافل، وعلى ما بلغني أن بنت الوزير التي كانت في صحبتها — وهما مُنفردتان عن الموكب — قد شرد بها الفرس، وسقطت في النهر، ونزل «كورش» فخلَّصها من الغرق، وهُنَا وقع التعارف — على ما أظن.

قال: يا «فانيس» هذا مُشكل شديد الأهمية، فإن تركناه على ما هو عليه كَبُرَ معه الوهم، وربما أضر بصحته.

قال فانيس: وربما ذهب بعقله أيضًا.

قال: سأستشير الكاهن «أرباسيس» في هذا الأمر، وهو يمُدَّنا برأيه السديد.

ثم قام من وقته وركب قاصدًا منزل الكاهن ومعه «فانيس»، ولما أشرف على «أرباسيس» فرح ورحَّبَ بهما. ثم جلسوا، وسأل الكاهن «فانيس» عن «كورش»، فشرح له الوزير ما سمعه من «فانيس»، وقال: مُدَّني برأيك أيها الفيلسوف؛ لأنِّي مُرتَبِكٌ في أمر «كورش».

قال «أرباسيس»: إنِّي أرى أنَّنا نُطلعه على أصله، ونتركُ له الرَّأي؛ لأنه عاقلٌ نبيهٌ خبيرٌ كيف يدبِّرُ أمره ويدبِّرُ شأنه.

قال: ولكن لم يئنِ أوان إخباره بعد؛ لأنه ثملٌ بخمر الشباب، وربما ألقاه التهوُّرُ في التهلكة.

قال: كلا، فإنه إن علم بالأمر يقصد بلاده، وكل قومه يشكون من ظلم الماديين، واستبداد «أستياج» وظُلمه، فالكلُّ إذا وجدوا ابن «قمبيز» يجتمعون تحت رايته، ويهجمون على هذه البلاد، ونخلص من ظلم «أستياج».

قال: هذا ما كنتُ أتمناه مُدَّة حياتي أيها الحكيم.

قال: وهذا هو الواقع، وستراه عمَّا قريب، فأُشيرُ عليك الآن ألَّا تُؤخِّر هذه الفرصة، واستحضر «لكورش» ما تقدر عليه من رجال؛ ليكونوا له عونًا في طريقه، وإنَّ العناية الإلهية تحفُّهُ بالنَّصر مهما كانت أنصاره قليلين.

ولمَّا سمع الوزير ذلك لبَّى بالإجابة، وقام بعد أن التفت إلى «فانيس»، وقال له: هل أنت سمعت ما دار بيننا من الكلام؟ وأنتم الثلاثة أول رجاله، وأنا سأهتم بتحضير الرجال بعددهم وآلاتهم، ولكن أنتم عليكم بأن تُخبروه بلطف؛ لئلا يُؤثِّر عليه الفرح، واستحضروا جميع ما يلزمكم للسفر إلى بلاد فارس.

قال: سمعًا وطاعةً.

ثم ودعهما، وذهب فرحًا مسرورًا لخلاصهم من ذاك الاختفاء الذي هو أَمَرُّ من السجن، وقد قبَّلَ أيادي «أرباسيس»، فدعا لهم بالتوفيق، ولما دخل القصر قابله «بركزاس»، وأخبره: أن «روبير» جاء من السفر، وأن «كورش» اليوم في غاية الانشراح إلا أنه شديد التفكُّر.

قال: علمتُ بما يتفكَّرُ، وسبب انشراحه.

قال «بركزاس»: كيف ذلك؟!

قال: أما سروره؛ فإنه ناشئٌ عن أنَّ «روبير» أتاه بخبرٍ مُفرحٍ من لدُن محبوبته، وأمَّا تفكُّره فلكونه ابن راع، وها أنا الآن أُمرت بأن أخبره الحقيقة.

قال «بركزاس»: وبعد أن تُخبره ماذا يكون؟

فأعاد عليه كل ما حصل بين الوزير والكاهن، ففرح «بركزاس» لذلك، وسأله «فانيس» عن «كورش» قال: إنَّه نزل مع «روبير» إلى الحديقة، فلنتبعه.

فذهب إليه «فانيس» وسلَّمَ عليه فسأله «كورش» عن الوزير، وعن أُستاذه.

قال: إنهما يدعوان لك بدوام العزِّ وبلوغ المُراد. ثمَّ قال: إننا سنتهيَّأُ للسفر إلى بلاد فارس.

قال «كورش»: ولم هذا السفر؟!

قال: ستعلم يا مولاي. ولمَّا سمع «روبير» ذلك انشرح صدره؛ لأنه علم أن «فانيس» سيطلعه على الحقيقة، فيرتاح من عبءِ اليأس، أمَّا «كُورش» فإنه تعجَّب من ذلك غاية العجب، وتاقت نفسه للاطِّلاع على الغرض المسبِّب لهذا السفر، فدخل على «فانيس» — وكان بعد ما قال له هذا اللفظ دخل حجرته، وترك «كورش» مع «روبير» — فدخل عليه «كورش»، وسأله قائلًا: لماذا لم تخبرني عن سبب سفرنا إلى بلاد فارس أيها الأستاذ؟!

فنظر إليه مُتبسمًا وقال: الآن قد حصحص الحقُّ، وظهر الصبح لذي عينين أيها الملك!

فاندهش «كورش» مِنْ هذا اللفظ، ونظر إليه بنظر المرتاب، وقال: أتهزأُ بي أيها الأستاذ؟!

قال: لا والذي نفسي بيده لم أقل إلا حقًّا! وإنك حقيقةً ملك إيران، وإنْ لم تكن اليوم، فستكونُ غدًا.

قال: كيف ذلك؟!

فقصَّ عليه الخبر برمته، وكيف أنَّ أُمَّهُ، وضعتْه في منزل «سباكو»، واختفت من ذلك الوقت إلى الآن لم يظهر عنها خبر، وكيف أن جدَّه «أستياج» قتل ابن الوزير، وكيف جرد العساكر على قتال والده «قمبيز» إلى غير ذلك مما حصل، وقد أوغر صدره من جهة «أستياج» بكلِّ ما قدر عليه، ولما سمع «كورش» منه ذلك ثارت في رأسه نخوة الشباب، وشجاعة الملوك، وقال: الآن علمتُ سبب اعتناء هذا الوزير بي، وخوفه علي من «أستياج»، فوالله لآخذنَّ بثأره، ثم بثأر أُمي وأبي.

ثم التفت إلى «روبير»، وقال: قُم، واستحضر كل ما يلزم للسفر «فاليوم خمر وغدًا أمر».

وبعد قليل من الزمن أرسل الوزير مائة فارس بعددهم، وكل ما يلزم لهم، وزوَّده بمالٍ كافٍ حتى يَصِلَ إلى بلاده، ويجمع الجيوش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤