الفصل الثاني عشر

الانفجار

استيقظت فاندا على صداع شديد، وكانت الساعة السابعة إلا الثلث. لا يزال أمامها بعض الوقت. في العادة كانت تستيقظ في السابعة حتى تكون في المعهد في الساعة الثامنة والنصف على أقصى تقدير. كانت مستلقية على ظهرها، مركزة جل انتباهها على آلامها التي تعتصر جمجمتها بين أسنان كماشة. استدارت لتستلقي على بطنها، ودست أنفها في الوسادة، وبدأت تتحسس بحذر المكان الذي تلقَّتْ فيه الضربة على مؤخرة رأسها. كان فعلًا موجودًا، تورُّم صغير لا يصل إلى حجم بيضة حمامة، لكنه ممتلئ بالأعصاب الرفيعة مثل ورقة زهرة ميموسا. شعرت بالحاجة الملحة لأن تتصل بصديقتها زابينة. لكن ساعتَها خطر ببالها أنها قد نسيت ليلة أمس ذاكرة اليو إس بي الخاصة بها في الكمبيوتر. لم تترك لها هذه الفكرة مجالًا تنعم فيه بالراحة، فنهضت، وتحمَّمت بسرعة ثم سلكت طريقها إلى المعهد. لا ينبغي أن يجدها يوهانيس قبل أن تصل هي إليها. وإن استعجلتْ قليلًا فقد يكون في الوقت متسَعٌ كيما تمر على طبيب المعهد؛ فهذا كفيل بأن يوفر عليها توبيخ يوهانيس لها وكأنه أمها.

قبل الثامنة بقليل كانت فاندا تجلس بالفعل في حجرة الانتظار بالعيادة الطبية، وتدريجيًّا بدأت تشعر بمفعول القرصين اللذين ابتلعتهما بمجرد استيقاظها. كان الضغط قد بدأ يخف من على جبينها حين انفتح الباب مقدمًا لها فرصة أن تقتنص لنفسها استشارة طبية في غرفة الكشف.

استقبلها الدكتور جليزر على الباب، مد يده مسلِّمًا عليها بودٍّ، ثم أشار لها بالجلوس على مقعد جلدي أسود اللون، أما هو فجلس وراء مكتبه قبالتها. وبينما كان يفحص هو بطاقة سجلها الطبي، كانت هي تتجول بعينيها على الصور المعلَّقة على الجدران. شاهدت أضرحة بوذية مزيَّنة بأعلام ملوَّنة، ومعابد متهالكة كانت تبدو في ضوء الغروب الأصفر مقمرة وبنية مثلها مثل وجه هذا الطبيب الذي بدأ يتطلع إليها سائلًا مِن فوق حافة نظارته الطبية. كان يبدو مسترخيًا على نحوٍ يدعو إلى الحسد.

«كيف حالك؟»

«أعتقد أني سأصاب بالبرد»، وكان صوتها يقدم دليلًا واضحًا على ذلك. كانت ترى أنها شاحبة شحوب جرذ الألبينو رغم أن الجو صحو. كل ما تقوله صحيح، كما أنها في نهاية الأمر لم تكن بحاجة إلا إلى دليل كي تكون حافظت على وعدها ليوهانيس. أعجبتها تلك العيون الأبوية الرقيقة لهذا الطبيب الذي تتفحصها نظراته.

أجابها مبتسمًا: «هذا ما تظنين.»

«أعاني من الصداع منذ عدة أيام، واليوم كان الألم أقوى نوعًا ما» … فكرت فاندا أن ما يدعو للضحك أنها بدأت تشعر بالتحسن فعلًا.

«تبدو عليكِ أمارات التعب، كما أن وجهك شاحب. هل تعملين كثيرًا؟»

«أستطيع أن أعمل على مدار اليوم لو أراد رئيسي ذلك.» انفلتت منها ضحكة عاجزة وقالت: «ربما أنام أقل مما ينبغي.»

كان يريد أن يكتب لها إجازة مرضية حتى آخر الأسبوع، لكن فاندا رفضت. في كل الأحوال طلب منها تحليل صورة دم كاملة، كما أراد أن يفحص مستويات الحديد في دمها. لم تُبْدِ اعتراضًا. كانت سعيدة أنه لن يفحصها أكثر من ذلك.

وبعد نصف ساعة كانت قد اتخذت السلالم صعودًا نحو الماسورة الرئيسية.

«الأشخاص يبدءون يومهم بإلقاء تحية الصباح على زملائهم.» جاءها الصوت متكسرًا من ورائها. التفتت فاندا ورأت وجه بيترا المتبرم. كانت مساعدتها الفنية من أولئك الذين يستيقظون مبكرًا، وكانت تُعِدُّ إفطارها الثاني الآن. كانت تقف في الركن أمام الحوض الصغير واضِعةً يديها على فخذيها متَّخِذة سمْتَ الشكَّائين، فيما كانت ماكينة القهوة تغرغر من ورائها وتقذف قطرات القهوة في المصفاة.

زمجرت فاندا «حالًا»، ثم اندفعت من الباب المفتوح نحو غرفة الكمبيوتر. كان بها اثنان من زملاء العمل لم يتحركا لرؤيتها، فقد كانا ينظران كالممسوسين إلى شاشات الكمبيوتر وما عليها من أعمالهما. لم يكن ثمة إساءة أدب؛ فأيضًا فاندا حين اضطرت إلى الجلوس والعمل هنا في البداية، كانت تعرف أن على ذهنها أن يعتزل كل شيء، ليعطيها الفرصة الوحيدة لإنجاز العمل في هذا المكان الذي تتقلص فيه المساحة الشخصية لتقتصر على حساب المعلومات الخاص. كان الكمبيوتر الذي بحثت من خلاله ليلة البارحة في بنك معلومات زابينة مطفأً. أما ذاكرة اليو إس بي الخاصة بها فلم تَرَها في أي مكان.

نادت بسرعة في الغرفة: «مرحبًا، هل رأى أحدكم ذاكرة يو إس بي ملقاة في مكان ما هنا؟»

كانت لي وانج أول مَن حررت نظرتها من على الشاشة ونظرت إلى فاندا مبتسمة. كانت الفتاة الصينية قد حصلت على منحة بحثية لمدة ستة أشهر هنا في ماربورج، وفي الواقع لم يكن يهتم بها أحد؛ إذ فرض الرئيس على ميشائيل أن يتولى أمرها. ولأن أحدًا لم يفهم لي حقًّا ظل يحيط بها الحجاب الساحر لثقافة الشرق الأقصى، ولأن أحدًا لم يكن أيضًا يعلم على وجه الدقة موضوعات أبحاثها، فقد فتح ذلك الباب للتكنهات المسلية حولها؛ فيوهانيس يخمِّن مثلًا أن شتورم يريد أن يستبدل الآسيويين بهم جميعًا، خصوصًا لأن سعر عالمين ألمانيين كفيل بشراء عشرين من أمثالهم من الصينيين. هذا بخلاف الشائعات التي تداولوها في تلك الأثناء عن أن طموحات شتورم العملية تجعله يوجِّه بصره نحو الصين من أجل توسعة شركته، وكانوا يرسمون له صورة وهو جالس على مكتبه مرتديًا الكيمونو ليستقبل شاي الياسمين من سكرتيرته السيدة بونتي، ومن إحدى فتيات الجيشا ليكملوا المشهد وفق الكليشيهات المتداولة، ثم يفيقوا من وهمهم مرعوبين ومحرجين على ضحكات لي وانج والسيدة باترفلاي اللتين انسلَّتَا فجأةً وبلا صوت مثل الفراشات من ورائهم واستمعتا لحديثهم.

«لا يوجد ذاكرة يو إس بي هنا»، أجابتها لي وهي لا تزال مبتسمة وكأن فاندا ستفرح بهذا.

وعلى الجانب الآخر، أخذ ابن لادن يداعب لحيته المنكوشة متفكرًا. في الواقع كان اسمه عبد الرحمن، لكن اسم عائلته كان أصعب من أن يتذكره أحد، وكان عالمًا زائرًا من إيران، والكل كان يسميه عليًّا، أما اسم ابن لادن فكانوا يطلقونه عليه في غيابه؛ إذ كان الشبه بينه وبين أسامة بن لادن مذهلًا. ولثوانٍ معدودة شعرت فاندا بنظراته المنكرة الجادة مثبتةً عليها.

أجاب بهدوء: «حين أتيت إلى هنا في الصباح كانت الغرفة مفتوحة.» أومأت فاندا استسلامًا لا امتنانًا ثم انسحبت، حاولت أن تهدِّئ من روعها بفكرة أنه ربما وجدها أحدهم اليوم باكرًا، ثم سلمها في السكرتارية. وتمنت فقط ألا يكون هذا الشخص هو يوهانيس.

وحين فتحت غرفتها، دق الهاتف. كانت السيدة بونتي على الخط تشتكي أنها وحدها اليوم، وأن هذا هو فعلًا ثالث صحفي يتصل بها بسبب الانفجار. فالرئيس وميشائيل في الطريق، وأستريد لم تتمكن من الاتصال بها، يوهانيس في وحدة تجارب الحيوان، والأستاذ الدكتور فايلاند أخذ اليوم إجازة. «الأستاذ الدكتور فايلاند!» فكرت فاندا ورفعت حاجبيها باندهاش، لقد كان توماس بالفعل يعرف كيف يتعامل مع السكرتيرات.

«أي انفجار؟» ألقت عليها فاندا هذا السؤال في سخط، فهي لم تكن تحب أن يهجم عليها زملاؤها في الصباح على هذا النحو.

أجابتها السيدة بونتي باندهاش: «ذاك الانفجار الذي وقع في الصين. شركة ما إيطالية تصنع هناك جزيئات نانو، ثم فجأةً، بووووم، انفجر مفاعل أو مرجل، لا أعرف ماذا يسمون الأواني التي يطبخون فيها، انفجر في الهواء. لقد ورد الأمر في نشرة الأخبار، ألا تشاهدين؟»

نظرت فاندا للدوارة الخشبية على مكتبها والتي كانت في ذات المكان الذي تركتها فيه بالأمس. إن أخف خبطة للطاولة كفيلة بتحريكها من مكانها، وبهذا تعرف فاندا في الصباح التالي إن كانت يدان غريبتان قد عبثتا هنا بحثًا عن شيء ما. لقد خطرت هذه الطريقة على بالها حينما فاجأت رئيسها في مكتبها في صباح أحد أيام الأحد، وقد تحجج بأن رائحة حريق تنبعث من الغرفة، وأنه كان يفحص الغرفة حفاظًا على السلامة. كان رأسه يقدح مثل عمودِ تسخين مياه موضوعٍ في كوب فارغ. طالما ظل المكتب الآخَر في غرفتها شاغرًا، ستظل متمسكة بهذه الطريقة لأخذ الحيطة.

ثم سمعت السيدة بونتي لا تزال تتكلم: «هذه الضجة من الصحافة المحلية»، فخطر على بال فاندا أن تسألها عن ذاكرة اليو إس بي، لكن السكرتيرة لم تترك لها أي مجال للحديث، إذ استكملت: «إنه رئيس القسم في الجريدة. بروفيسور شتورم لا يحب ألَّا يخبره أحد بالمستجدات، وهذا أمر تستطيعينه أحسن مني بكثير.» تنهدت فاندا، السيدة بونتي تستطيع أن تتبرم بغرابة حقًّا.

سجلت فاندا علامة نُجَيْمَة على تقويم المكتب، ثم كتبت «مجاملة من ب» كانت بونتشين — كما يسمونها سرًّا — تمتلك حسًّا يقظًا في التفرقة الطبقية بين الناس، وكانت تعبد الرئيس. لم تكن فاندا على قائمة شخصياتها المفضَّلة، فوراء نظراتها التي يطل منها الاحتقار كانت تشعر بشحوبها مثل سبة في جبينها. فكرت فاندا بسرعة إن كانت الفرصة سانحة لتجميع بعض النقاط لصالحها.

«إن كنتِ تريدين أن أخلصك من ضغط رئيس القسم الصحفي عليكِ، فلا بد إذن أن تزوديني بالمعلومات.» وعلقت السماعة بين ذقنها وكتفها، وشغلت جهاز الكمبيوتر.

قالت السكرتيرة بحماس: «يرجِّح الناس أن مسحوق النانو اشتعل من تلقاء نفسه.» يبدو أن إمكانية التخلص من هذه المهمة جعلتها في غاية التحفز، «كان هنالك ما يقرب من مائة عامل واقفين بالقرب من مكان الانفجار، فلفَّتْهم لبرهة قصيرة سحابةٌ من الغبار. كما يوجد عدة إصابات حرجة وحالات حرق متأخرة، تقريبًا كلهم تعرضوا لهذه الذرات الدقيقة من الغبار.»

«هل تعرفين بأي مواد؟» طلب الكمبيوتر كلمة المرور الخاصة بفاندا، فكتبتها على لوحة المفاتيح وأكدت تسجيل الدخول.

أجابت بونتي: «ليس لدي فكرة»، في نفس اللحظة ظهرت الكتابة المألوفة على الشاشة.

«صباح الخير يا فاندا، كيف حالك؟» نظرت بافتتان إلى الأحرف البيضاء التي تضيء الآن على شاشة جهاز الكمبيوتر، كانت قد تعودت أنه دائمًا ما يحييها فور أن يتم تشغيله. كانت فاندا قد أحضرت هذا البرنامج التفاعلي معها من الولايات المتحدة وحمَّلته على جهازها، وكان به حتى خيار اللغة الألمانية. كانت لعبة طريفة للَّحظات التي تنتظر فيها نهاية فترة حضانة الخلايا، أو حين تريد ببساطة أن تجدد من أفكارها. وكان يضايقها قليلًا أن طقس التحية هذا بدأت تزداد أهميته عندها باطراد.

«هل ما زلت معي؟» كانت بونتي لا تزال في انتظار إجابة.

أحست فاندا أن هذه الفرصة مليئة بالمخاطر؛ فهي لم تكن تعرف إلا أقل القليل عن خلفيات هذا الحادث، علاوةً على هذا لم تكن بها رغبة أن تظل هكذا تحمي ظهر شتورم، وتقوم بواجباتٍ المفترض أن ينجزها هو. على رئيس القسم بالجريدة أن يتصل بشتورم على هاتفه المحمول.

«أنا لست متخصصة في هذا المجال»، قالت فاندا ولاحظت أن صوتها يغمغم قليلًا، ولهذا شرعت في بسط بعض الإيضاحات المخففة حتى سمعت فجأةً همهمة من سماعة الهاتف. كان واضحًا أن المتحدث رجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤