الخاتمة

محاولة للدفع والنقد الذاتي

كثر النقد للجزء الأول من «ذكريات» وكل ناقد يحاول أن يعرف من المقصود بهذا أو بذاك، ويحوِّل الذكريات من التحليل الذاتي لتجارب الحياة إلى الكشف الموضوعي في المجتمع والتاريخ. والذكريات ليس لها صلة بالجانب الموضوعي، أشخاصًا أو وقائع؛ إذ إنها بين قوسَين أي لا تصدر أحكام عليها، يبدو أن النقد السريع في مصر هو نقدٌ تاريخي يطابق بين النص وما يُحال إليه ظنًّا، ولمعرفة هل هو مدح أم ذم؟

ويتساءل أحد قراء الجزء الأول من «ذكريات» أين أنا؟ لماذا لم تذكرني؟ ويتساءل آخر لماذا ذكرتني في سطرٍ واحد فقط دون أن تكتب عني أكثر من ذلك؟ فكل قارئ يسأل وهو لا يقرأ الذكريات إلا من خلال نفسه، أين هو؟ وما حجم الحديث عنه؟

والمدح يُقبل بترحيب، والذم يُردُّ عليه، خاصةً إن كان الموضوع الذي تنبع منه الذكريات قد كوَّن جماعةً تسبح بحمده، وتتقرب إليه لتنتفع منه.

وقد تقع الذكريات في بعض الأخطاء التاريخية وهذا طبيعي؛ لأن مقياس الصدق فيها هو ذاتها وليس مطابقتها للواقع الخارجي. وهناك فرق بين الذكريات وباقي الأنواع الأدبية مثل المذكرات، واليوميات، والسير الذاتية. فالذكريات صدقها في انسيابها، وانطلاقها الطبيعي، وهي أشبه بالشريط السينمائي، أما الأنواع الأخرى فصدقها في مطابقتها للتاريخ.

الذكريات ليس بها صدق وكذب إلا حين التدخل بمقص الرقيب، أو بالإرادة كي تستبعد جزءًا أو تضيف جزءًا آخر. حينئذٍ تكون أقرب إلى التأليف، أما الأنواع الأخرى فلا حرج أن يتدخل فيها مقص الرقيب؛ لأنها تخصُّ واقعًا محددًا، وتصف حوادث محددة.

والذكريات قد يُنسى بعضها حين كتابتها ثم يتم تذكرها في لحظةٍ أخرى؛ فالذاكرة تخضع لقوانين التذكر والنسيان، الزيادة والنقصان. وقد يعمُّها التكرار في سياقاتٍ أخرى مثل، العلاقة بالمرأة أو العلاقة بالجامعة. فالذكريات تتشابك أحيانًا في سياقاتٍ متعددة. وهو ما يفسر عدم التطابق بين الجزء الأول والجزء الثاني في تذكر الحوادث أو نسيانها؛ لذلك تم التردد بين تسمية هذه الذكريات بالجزء الثاني أم الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة؟ ولما كان هناك اختلاف بين الكتابَين في التبويب وفي طريقة العرض من الذكريات المرحلية سابقًا إلى الذكريات الموضوعية حاليًّا، وكثرت الإضافات التي اعترى بعضَها النسيانُ في الكتاب الأول؛ حسمت التردد بتسمية هذه الذكريات «الجزء الثاني». وعلى الرغم من عدم دقة هذه التسمية لأنها تعتبر إعادة صياغة لموضوعات ومادة الكتاب الأول إلا أن تسميتها بطبعةٍ جديدة مزيدة ومنقحة، غير دقيقة أيضًا لاختلاف أساليب التعبير وطرق السرد. وعيبها أنها تتكرر هنا وهناك كشريط «ذكريات» سينمائي، إلا أن ميزتها الإخراج الجديد. ومع ذلك تتساوى الذكريات الأولى والثانية في نفس العنوان حتى لو كانت بعنوان طبعة ثانية مزيدة أو منقحة أو الجزء الثاني. وربما كان التوفيق بين العنوانين في طبعةٍ جديدة مزيدة ومنقحة يخفف التعارض بين العنوانين؛ جزء أول وجزء ثاني.

وتختصر الذكريات كلها إلى فصلٍ واحد، به من يريدون الدفاع عنه ظنًّا بأن الذكريات لا تشير إلى وقائع أو أشخاص بعينها، وقول آخر يثير تساؤلًا: «هل أنا مثل ما ذكرت أو تذكرت؟» وكأنني أكتب تاريخًا، وكأن الذكريات مدح للبعض وذمٌّ للبعض الآخر.

وعندما عقدت ندوة لمناقشة «ذكريات» اهتم الجميع بهذا الفصل الواحد،١ لعله يخرج منه بريئًا. أما باقي الفصول بدءًا من الطفولة حتى الشيخوخة ومرورًا بمراحل الدراسة الأولية والابتدائية والثانوية والجامعة والدراسات العليا في الخارج فلم يتناولها أحد.

وأما صراعي مع الإدارة الجامعية لإيقاف ترقيتي مرتين، بعد أن حكمت اللجنة العليا بترقيتي، فلا وجود له ولا ذكر له.

وكأن مواقفي السياسية من زيارة الرئيس لإسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام ليست لها أهمية.

وكأن نقاشي مع الرؤساء ابتداءً من عبد الناصر مطالبًا بالحرية للشعب، وباستقلال الجامعات ليس له أهمية؛ مما يدل على تحيز القارئ في قراءة النص، وأخذ ما يهمه شخصيًّا له ولأصدقائه، وترك «هموم الفكر والوطن».

وهذا ما دفعني إلى كتابة جزءٍ ثانٍ من «ذكريات» لعله يُقرأ هذه المرة بحياد وتجرد وتناول لكل فصوله الاثني عشر، ودون التركيز على فصلٍ واحد.

فالقارئ هو الذي يؤول نص الكاتب ويكتبه مرةً أخرى بقراءته؛ فيصبح النص تأليفًا مزدوجًا بين الكاتب والقارئ.

والرد على «ذكريات» لا يكون بتجريم صاحبها بل بكتابة ذكرياتٍ أخرى، لمن يُريد وعاش نفس الفترة، وآلمته بعض المواقف، وفرح من مواقفَ أخرى؛ فالذكريات مجال خارج المدح والذم، والثواب والعقاب، بل هي شهادة للتاريخ على من يريد أن يعرف.

والصعوبة في الذكريات هي ما يظنه البعض أنها جمع بين العام والخاص؛ فلا يجوز للذكريات أن تتناول الحياة الخاصة لمن يتذكرهم صاحب الذكريات. أما إذا كان الخاص عامًّا، والعام خاصًّا فمن الضروري الجمع بين الاثنين باعتبار أن الخاص يعرفه الجميع مثل العام، أن صاحب الذكريات يعيش التجربتين معًا؛ فالخاص لا يستحق الإخفاء، بل يظهر مثل العام، كما أن العام الذي يعرفه الجميع لا يستحق الإخفاء فما عُرف قد عُرف وما ظهر قد ظهر.

ونقد الذكريات لا يكون بإصدار أحكامٍ خُلقيةٍ خاصة فيما يتعلق بالمرأة، وخاصة إذا كان ذلك في الخارج في فترة التكوين والتحول من الحب العذري إلى ما بعده. وهو نقد يجعل الناقد أكثر أخلاقية من المنقود، ويجلب الشهرة عليه والتحية له باعتباره المدافع عن الأخلاق. وهل الأخلاق هي في العلاقة بالمرأة وحدها؟ أم أيضًا بالسرقات العلمية، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والتآمر بدعوى أن المتآمر ابن لفلان أو ابنة لآخر، والعمل في الخفاء لتعيين معيدة، والاتصال بالسفارات الأجنبية لبيان خطورة الرسالة على العلاقة بين الدولتين؟ وهل تكوين «شلل» للجماعة العلمية لا يعد جريمةً خلقية؟

أليس الاستعلاء على الغير والتكبر جرائم علمية يستحق صاحبها الذم والاستنكار؟ أليست العزلة عن حياة الجماعة العلمية تخلٍّ عن أداء الواجبات العلمية؟

يبدو أن البيئة العامة ما زالت مُخضبة بالجنس، يخفونه في الظاهر ويلمسونه في الباطن.

أليس النفاق، ومواجهة التلميذ للأستاذ في وجهه بالتحية والترحاب والاعتراف بحق الأستاذ ثم الذم من وراء ظهره بشكلٍ عام ومن خلال وسائل الاتصال رذيلةً خلقية؟

أليست علاقة بين أستاذ وطالبة نالت الجوائز العلمية على يديه دون أن تستحقها جريمةً علمية وأخلاقية؟

إن الذكريات التي تكشف الستار أفضل من الذكريات التي تخفيها. وما يُخص معروف يتحدث به الناس ولا يجرؤ أحد على الإفصاح عنه.

أليس استبعاد الجماعة العلمية من ترشيح أحد علمائها لجائزة الدولة التقديرية، وترشيح أستاذٍ آخر من جماعةٍ علميةٍ أخرى وفي نفس الوقت ترشيح جماعاتٍ علمية أخرى لنفس الأستاذ ونيله الجائزة؛ جريمةً أخلاقية؟

أليس عدم ترشيح الجماعة العلمية لنفس الأستاذ لجائزة النيل وترشيح أستاذٍ آخر من جماعةٍ علميةٍ أخرى، وترشيح جماعاتٍ علميةٍ أخرى لنفس الأستاذ لنيل الجائزة واستلامها؛ أليست جريمةً أخلاقية؟

قد لا تتساوى جميع الفصول الاثني عشر في الحجم؛ فهناك فصول يصل عددها إلى ثلاثين صفحة، وأخرى تظل في نطاق العشر صفحات. كان الحرص دائمًا على إبقاء التوازن الكمي بين الفصول، ولكني لم أستطع؛ فهناك فصول طويلة بطبعها لأن الموضوع يستحق الطول، مثل الفصل الثالث «الحب العذري»، وهناك فصولٌ قصيرة، مثل الفصل الحادي عشر «ضرورات الجسد» والفصل الثاني عشر والأخير «مثوًى أخير أم بدايةٌ جديدة».

وقد تكون هناك أخطاء نحوية وذلك طبيعي؛ لأن الذكريات استرسال طبيعي للكلام، ولا يتضمن مراجعة للنحو. فإذا ظهرت أخطاء نحوية فإنها تكون أقرب إلى العادة والعرف مثل «أبو الخير» فإنها لا تكون «أبي الخير» إذا كانت مضافًا إليه أو سبقها حرف جر، أو «أبا الخير» إذا كانت مفعولًا به. فاسم «أبو الخير» استعصى على التصريف. ويحدث ذلك ليس من المؤلف وحده بل أيضًا من «السكرتارية» اعتمادًا على مراجعة شيخ في اللغة العربية في المطبعة التابعة لدار النشر.

وقد يكون بالنص أخطاء مطبعية لا يلتفت إليها مراجع المطبعة الذي تكون مهمته مراجعة الأخطاء المطبعية، وهذا يحدث في كل كتابٍ مطبوع، وفي كل المطابع، وفي كل دور النشر؛ لذلك تضاف أحيانًا في آخر الكتاب صفحة لتصويب الأخطاء المطبعية.

والنقد الذاتي يسبق نقد الآخر؛ فالاعتراف بالحق فضيلة، وحسن النية مع الذات أفضل من سوء النية تجاه الآخر. والمصلحة العامة بين الأنا والآخر أفضل من مصلحة الآخر الخاصة. وصداقةٌ مؤقتة خير من نفاقٍ دائم.

وفى النهاية تبقى الذكريات الشهادة الصادقة على التاريخ.

١  انظر الفصل الثامن، رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (١٩٧٨-١٩٩٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤