تقديم

المسلم المعاصر والبحث عن اليقين

عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران، ونجحت في القضاء على نظام من أعتى الأنظمة الاستبدادية التي عرفتها البشرية، وأقامت حكمًا إسلاميًّا كاملًا في بلد يملك جميع مقومات النهوض والتقدم؛ من طاقة بشرية ضخمة واعية، وموارد طبيعية وفيرة على رأسها التدفق الغزير للبترول، وحضارة مجيدة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. حينئذ كان تقويمي للثورة الوليدة هو أنها اختبار حاسم لجميع الحركات الإسلامية المعاصرة؛ فإذا نجحت في إقامة مجتمع العدل والحرية والتقدم، كان معنى ذلك أن هذه الحركات ستكتسب قوة دفع هائلة يصعب إيقافها في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي الذي يشكو من التخلف ويرزح تحت أعباء أنظمة قمعية ويتعطش إلى البديل. أما إذا أخفقت، فإن إخفاقها سيعني إسكاتًا طويل الأمد لتلك الأصوات المنادية بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، فالاختبار الحاسم كان هناك، في تلك الثورة التي أمسكت بزمام بلد إسلامي عظيم الأهمية، له ماضٍ عريق ومستقبل حافل بالإمكانات المشجعة.

ومع ذلك فإن مظاهر الإخفاق التي توالت على هذه الثورة الإسلامية عامًا بعد عام، لم يتردد صداها على الإطلاق لدى المنادين بالحكومة الإسلامية في بقية أقطار العالم العربي والإسلامي، فلم يتأثر هؤلاء بما انتهت إليه الثورة الإسلامية من إحكام قبضة رجال الدين على الدولة، وإنما ظلوا يردِّدون زعمهم القائل إن الحكم الإسلامي لا يعني تسليم زمام الأمر لرجال الدين. ولم يُبْدِ هؤلاء الدعاة أي استنكار لقيام حكومة الملالي بتصفية أحزاب المعارضة واحدًا بعد الآخر، حتى لا يبقى في الساحة السياسية آخر الأمر غير رجال الدين، أو لتلك المحاكمات الصورية المتعجلة التي كان «خلخالي» يصدر فيها أحكام الإعدام بنفس السرعة التي يقرأ بها مدرس الفصل نتيجة الامتحان على تلاميذه، أو لفرض مناهج متزمتة على التعليم الجامعي والتعليم العام، أو لروح الكآبة والعبوس التي سادت حياة الناس اليومية وارتسمت حتى على تعبيرات وجوههم.

ولم تمضِ إلا سنوات قلائل حتى طُبقت تجرِبة أخرى، في ظروف مختلفة كل الاختلاف، على أقرب بلد عربي إلى مصر، وهو السودان الشقيق، وكان التطبيق هذه المرة بقرار من حاكم فرد ظل يتقلب بين الأنظمة والاتجاهات المختلفة؛ إذ كان في بداية حكمه محسوبًا على اليسار مستقطبًا للقوى التقدمية، وأصبح في نهايته مستندًا إلى أشد القوى رجعية وجهالة. وهلل دعاة تطبيق الشريعة لتجرِبة النميري، على الرغم من مظاهر الظلم الصارخة التي ظهرت للعيان في كل تصرف من تصرفات هذا الطاغية، وطالبوا معارضيهم بأن يمنحوا الرجل فرصة، وتجاهلوا المجاعة وأحكام الإعدام والاستنزاف الدائم لثروة البلاد وسرقات الحكام المفضوحة لأموال شعب بأسره، ووضعوا هذا كله في كفة، والتطبيق الشكلي لحدود السرقة والخمر والزنا في كفة أخرى، فرجحت الكفة الثانية لديهم على المظالم الفادحة التي كانت تُثقِل الكفة الأولى!

كانت هاتان آخر محاولتين لتطبيق الشريعة الإسلامية، ضمن سلسلة أطول من المحاولات الأسبق عهدًا، كان على رأسها محاولة السعودية، ثم باكستان، فضلًا عن المحاولات الجزئية في إندونيسيا وليبيا وغيرهما. وفي جميع هذه المحاولات كانت النتائج واحدة: أنظمة للحكم تبعد كل البُعد عن الحرية والعدالة والمساواة وجميع القيم التي سعت إلى إقرارها كافة الأديان ودعا إليها الفلاسفة والمصلحون منذ أقدم العصور. ومع ذلك فإن دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا لم يُعيروا أي اهتمام لذلك الإخفاق الصارخ الذي انتهت إليه تلك التجارب السابقة، بل إن أصواتهم ازدادت ارتفاعًا في نفس الوقت الذي كانت فيه تجرِبة تطبيق الشريعة في السودان — جارتنا الأبدية، وشريكتنا في شريان واحد للحياة — قد تحولت إلى فضيحة عالمية مدوية.

فعلامَ يدل هذا التجاهل التام للواقع، وللتاريخ القريب، وللأمثلة والنماذج الملموسة؟ وكيف يرضى أي مجتمع أن يُسلم مقاليد أموره لجماعات تغمض عينيها عن التجارب المحيطة بها، ولا تحاول أن تتعلم من الدروس الماثلة أمامها، أو أن تراجع خطواتها وتعيد النظر في أهدافها في ضوء الواقع الملموس؟

إن الرد الجاهز الذي يردُّ به أنصار هذه الجماعات على كل من ينبههم إلى إخفاق هذه التجرِبة في تطبيق الشريعة أو تلك، هو أن هذا ليس هو «الإسلام»، وأن خطأ النميري أو ضياء الحق، مثلًا، هو خطأ أشخاص، وليس خطأ الإسلام في ذاته. ولكن هذا الرد حق أُريدَ به باطل؛ فمن المؤكد أن أية تجرِبة لتطبيق الشريعة الإسلامية يمكن أن تنحرف عن جوهر الشريعة ذاتها، بحيث لا يصح تحميل الشريعة أوزار التطبيق الباطل، هذه حقيقة لا يصح أن يجادل فيها أحد.

ولكن الرد، بالرغم من ذلك، ينطوي على مغالطات فادحة؛ ذلك لأن أية تجرِبة أخرى، تُطبَّق في المجتمع المصري مثلًا، ستكون بدورها مجرد «تطبيق آخر»، فهل نحن واثقون من أن هذا التطبيق الجديد سيكون هو وحده القادر على تجنب كافة الأخطاء السابقة، وسيكون هو وحده المعبر عن «جوهر الإسلام»؟ ما هو الضمان، ومن أين أتى هذا اليقين، ومن أدرانا أن هذا التطبيق الجديد لن يكون صورة مكررة لأخطاء التطبيق السعودي أو جرائم النميري أو ضياء الحق؟ هل بذلت جماعاتنا الإسلامية الداعية إلى تطبيق الشريعة أي جهد لكي تضمن، على نحو قاطع، تطبيقًا يخلو من هذه العيوب؟ وإذا قيل لنا، بعبارات إنشائية مطاطة، إن هؤلاء قد انحرفوا عن «جوهر الإسلام»، فهل نسينا أن كلًّا منهم كان — ولا يزال — يؤكد أن تجربته هي التعبير الحقيقي عن جوهر الإسلام، ويجد بين رجال الدين والمثقفين ورجال الإعلام في بلده من يقدم «أقوى الحجج» التي تثبت صحة هذا التأكيد؟ فما الذي يضمن لنا ألا يتكرر ذلك في تجربتنا نحن؟ وعلى أي أساس نأمل في أن نكون نحن، من دون الباقين جميعًا، القادرين على تجنب انحرافات التطبيق وتحقيق «جوهر الإسلام»؟

الواقع أن التجاهل التام للتاريخ، وإغماض العين عن الدروس التي يقدمها الواقع الفعلي، لا يُمَيِّز موقف الحركات الإسلامية من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة فحسب، بل إنه هو السمة البارزة التي تميز موقفها من كافة التجارب السابقة، على مر التاريخ الإسلامي. فهذه الحركات الإسلامية ترسم لنا صورة للتاريخ الإسلامي مستمدة من النصوص الدينية فحسب، فإذا تحدثتْ، مثلًا، عن موقف الإسلام من العدالة الاجتماعية، جاء حديثها مليئًا بالآيات والأحاديث النبوية التي تدعو إلى تلك العدالة، أو التي تقبل التفسير في هذا الاتجاه. وهي تقف عند هذا الحد، وتتصور أنها قد أثبتت بذلك قضيتها الرئيسية، وهي أن الإسلام يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وأن هذه العدالة الاجتماعية تتحقق في الإسلام خيرًا مما تتحقق في أي نظام آخر. ولكن، هل تُعد الإشارة إلى النصوص وحدها كافية لإثبات هذه القضية؟ لنضرب مثلًا مألوفًا لنا جميعًا: إن الغالبية الساحقة من دساتير بلاد العالم الثالث تمتلئ بنصوص رائعة عن تحقيق العدالة والمساواة وضمان الحريات واحترام حقوق الإنسان … إلخ. ولكن هل يكفي أن نتناول النصوص الدستورية، في بلد بأمريكا اللاتينية تعبث بمصيرها دكتاتورية عسكرية دموية، فنقول إن العدل والحرية مُستَتِبَّانِ في هذا البلد لأن المادة كذا من دستوره تنص على إقرار العدالة الاجتماعية والاقتصادية وإقرار الحريات الأساسية؟ أليس من الواضح أن الرجوع إلى النصوص وحدها لا يسمح على الإطلاق بالحكم على أوضاع مجتمع ما، أو حضارة ما؟

إن هذا المثل البسيط يكفي للكشف عن الخطأ الأساسي الذي يقع فيه معظم دعاة تطبيق الشريعة، وأنصار الحكم الإسلامي بوجه عام، حين يجعلون من النصوص وحدها أساسًا للحكم على موقفهم، الذي يزعمون أنه موقف الإسلام، من مشكلات الإنسان الرئيسية، ويتجاهلون ما حدث بالفعل في التاريخ؛ فطوال الجزء الأكبر من التاريخ الإسلامي، كان الحكام يملكون نصوصًا قرآنية وأحاديث نبوية يمكن أن تُستخلص منها مبادئ رفيعة وقِيَم سامية، ولكن هذا لم يمنع معظمهم من أن يحكموا حكمًا مطلقًا، فيعبثون بأرواح المسلمين ويتلاعبون بأموالهم ويصادرون حرياتهم. وهكذا فإن النصوص لا تغني عن الرجوع إلى ما حدث بالفعل في التاريخ، ولا شك أن الصورة سوف تختلف اختلافًا شاسعًا لو تأملنا كيف تُرجمت هذه النصوص السامية، طوال التاريخ الإسلامي، على أرض الواقع.

سيقولون، مرة أخرى، إن هذا سوء تطبيق لا يمس «الجوهر»، ولكن إذا كان «الجوهر» قد ظل غير متحقق طوال معظم فترات التاريخ، ألا يدعونا هذا إلى الشك العميق في إمكان تحققه في عصرنا الحاضر؟ بل، ألا يدعونا ذلك إلى الشك في قدرة هذا «الجوهر» على التأثير في المسلمين بوجه عام، ما دام الطابع الغالب على سلوكهم، طوال التاريخ، هو الابتعاد والانحراف عنه؟

ومجمل القول أن دعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأ فادحًا حين يركزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسنة، ويتجاهلون الإسلام كما تجسد في التاريخ؛ أعني حين يكتفون بالإسلام كنصوص، ويُغفِلون الإسلام كواقع. ويزداد هذا الخطأ فداحة إذا أدركنا أن محور دعوتهم هو مشكلات ذات طابع «عملي»، لا يكفي فيه الرجوع إلى النصوص، وإنما ينبغي أن يكمله على الدوام الاسترشاد بتجرِبة الواقع؛ فنحن في هذه الحالة لسنا إزاء مشكلة فلسفية أو كلامية نظرية، بل إزاء مشكلة تنتمي إلى صميم الحياة العملية للإنسان؛ ومن ثم كان تجاهل ما حدث طوال التاريخ الماضي، وفي المحاولات المعاصرة للوصول إلى حكم إسلامي، خطأ لا يُغتفَر.

•••

إن دعاة تطبيق الشريعة يرددون عبارات ذات تأثير عاطفي هائل على الجماهير؛ ونتيجة لهذا التأثير العاطفي تمر هذه العبارات دون أن يتوقف أحد لمناقشتها، وتتناقلها الألسن محتفظة بمحتواها الهلامي، حتى تشيع بين الناس وكأنها حقائق نهائية ثابتة، مع أنها في ضوء التحليل العقلي عبارات مليئة بالغموض والخلط.

وسأكتفي من هذه العبارات باثنتين: الحكم الإلهي في مقابل الحكم البشري، وصلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان.

أما عن العبارة الأولى، فإني أعترف بأنني عاجز عن فهم تعبير «الحكم الإلهي» أو «الاحتكام في كل شيء إلى شرع الله أو الحاكمية، وما شابه ذلك من التعبيرات. وأعتقد أن القارئ سيجد بين صفحات هذا الكتاب ما يثبت أن الحكم عملية بشرية أولًا وأخيرًا، وأن الرجوع إلى نصوص إلهية لا يحول دون تدخل العنصر البشري في اختيار النصوص الملائمة وتفسيرها بالطريقة التي ترضي مصالح الحكم، على نحو ما كان يحدث طوال معظم فترات التاريخ الماضي والحاضر، ففي عصر النبوات وحده كان يجوز الكلام عن حكم إلهي، أما طوال التاريخ اللاحق الذي انتهى فيه ظهور الرسل والأنبياء، فإن مهمة الحكم أصبحت بشرية وستظل بشرية حتى لو كانت الأحكام التي يُرجَع إليها إلهية. ولنعد مرة أخرى إلى مثال الدستور: فأسمى المبادئ الدستورية لا تحول دون قيام حاكم طاغية باضطهاد رعيته ونشر الرعب والظلم بينهم، وبالمثل فإن أرفع التشريعات السماوية لا تمنع، ولم تمنع طوال التاريخ، من وجود حكام مستبدين يتلاعبون بها كما يشاءون، ويفسرونها على هواهم. والدرس البسيط الذي يُستخلص من هذا هو أن تطبيق أحكام الشريعة ليس في ذاته ضمانًا لأي حكم أفضل من تلك الأنظمة التي ظلت تستبد بنا طوال التاريخ، وإنما المهم والأساسي والجوهري هو «الضمانات» التي تحول بين الحاكم وبين الانحراف. ومفهوم «الضمانات» هذا بشري بحت، تطور على مدى التاريخ، وخضع لأسلوب المحاولة والخطأ، واستطاعت البشرية أن تنميه وتزيده إحكامًا بعد تجارب طويلة مريرة أخفق الكثير منها ونجح القليل نجاحًا نسبيًّا، ولكن الناس ما زالوا يتعلمون، ويستفيدون من كل تجرِبة.

المهم في الأمر أنني أجد تعبير «الحكم الإلهي» تعبيرًا متناقضًا؛ لأن البشر هم دائمًا الذين يحكمون، وهم الذين يحولون أية شريعة إلهية إلى تجرِبة بشرية، تصيب أو تخطئ، من خلال ممارستهم للحكم، تمامًا كما يطبق الحاكم — في الغالبية الساحقة من الحالات — أحكام الدستور ويفسرها على النحو الذي يخدم أغراضه ومصالحه، بحيث لا تتحول هذه الأحكام من كلمات مسطورة على الورق إلى واقع فعلي متجسد إلا على يديه.

أما العبارة الثانية التي يختلط معناها في الأذهان، فهي صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان، فأنا أشك كثيرًا في أن يكون هناك نص ديني مباشر يحمل المعنى الذي تُفهم به هذه العبارة لدى القائلين بها، وأعتقد أن التفكير في هذه العبارة بشيء من التعمق يكشف فيها عن تناقضين أساسيين:
  • الأول: يرجع إلى أن الإنسان كائن متغير؛ ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة. والحق أن تغير الإنسان حقيقة أساسية لا يستطيع إنسان يحترم عقله وعلمه أن ينكرها، وحقيقة التغير هذه تحتم أن تكون القواعد التي يخضع لها متغيرة بدورها، فالعقل البسيط، والمباشر، يأبى أن يكون هناك، في المجال البشري، ما يصلح لكل زمان ومكان، ما دام الإنسان ذاته قد طرأت عليه تغيرات أساسية في الزمان، منذ العصر الحجري حتى عصر التواريخ، كما طرأت عليه تغيرات جوهرية في المكان، ما بين بيئة الجزر الاستوائية البدائية وبيئة المدن الصناعية الشديدة التعقيد.

    إن العقل الذي توصل بعلمه وبمشاهداته وخبراته إلى أن الإنسان كائن جوهره التغير، ليس من صنع الشيطان، وعلى القائلين بفكرة الصلاحية لكل زمان ومكان، بمعناها الساذج المباشر، أن يعترفوا بحقيقة أخرى تتناقض مع قضيتهم هذه تناقضًا صارخًا، وهي أن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة التغير الأساسية التي لا تفلت منها أية ظاهرة بشرية.

  • أما التناقض الثاني: الذي يتصل بالأول اتصالًا وثيقًا، فهو أن التفسير المباشر لعبارتهم هذه، وهو التفسير الأكثر تداولًا بينهم، يعني الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي، فالمعنى المباشر لعبارتهم هذه هو أن الله قد وضع للناس، في وقت ما، سننًا ينبغي عليهم أن يسيروا وفقًا لها إلى أبد الدهر، وأقصى ما يمكنهم أن يتصرفوا فيه هو أن يجددوا في تفسير هذا النص أو تأويل ذاك، ولكن الخطوط العامة لمسار البشرية اللاحق كله مرسومة ومحددة.

    والتناقض هنا يكمن في أن أصحاب هذا الفهم يؤكدون، في الوقت ذاته، أن الله قد استخلف الإنسان في الأرض، وكرمه على العالمين، فهل يتمشى هذا التكريم والاستخلاف مع تحديد المسار البشري مقدمًا، ووضع قواعد يتعين على الإنسان ألا يخرج عنها مهما تغير وتطور؟ هل يمكن أن يلجأ الأب الحريص على رعاية أبنائه وسلامة نموهم العقلي والنفسي، إلى وضع قواعد ثابتة وأوامر محددة لا يحيدون عنها طوال حياتهم؟ أليس مما يتمشى مع حرصه عليهم، أن يترك لهم هامشًا واسعًا من حرية التصرف، والخروج عن القواعد الصارمة، بل وممارسة الخطأ ذاته في بعض الأحيان، كيما يتعلموا منه دروسًا تفيدهم في مستقبل أيامهم؟

إن قضية «الصلاحية لكل زمان ومكان» تحتاج إلى إعادة تفسير شاملة، في ضوء تلك الحقيقة التي أصبحت الآن من بديهيات العقل والعلم: وهي أنه، في الميدان البشري، لا شيء ثابت أو نهائي. ولقد اعترف الكثيرون بهذه الحقيقة، ولو بصورة ضمنية، حين ميزوا بين أحكام الشريعة العامة وبين تطبيقاتها، وأكدوا أن الحكم العام يقبل تفسيرات ينبغي الاجتهاد فيها حسب متطلبات كل عصر. وهذا موقف سليم، ولكن ينبغي أن نتنبه جيدًا إلى النتائج التي تترتب عليه: فكلما ازداد العصر تعقيدًا، وكلما جدت عليه متغيرات علمية وتكنولوجية واجتماعية واقتصادية … إلخ، كان معنى ذلك أن دور الاجتهاد يتزايد، ودور المبدأ العام يتناقص، بحيث إن القدر الأكبر من الجهد الذي يُبذَل من أجل تدبير شئوننا يصبح بشريًّا، ويتعين علينا أن نعتمد على عقولنا، وعلى طريقة تفكيرنا، في معظم أمور حياتنا. وبقدر ما تزداد المسافة اتساعًا — من الناحيتين الزمنية والحضارية — بيننا وبين عصر نزول الوحي، تزداد أهمية الاجتهاد البشري، ولا بُدَّ لمن يملك أقل قدر من الحس الواقعي، ولا ينقاد باستسلام للعبارات الإنشائية المطاطة، أن يعترف بأن هذا الاتجاه إلى تأكيد دور العنصر البشري سوف يزداد أهمية كلما تغيرت حياة الإنسان في المستقبل. وفي ضوء هذا الدور المتزايد أبدًا لعقل الإنسان واجتهاده ينبغي أن تُفهم عبارة «الصلاحية لكل زمان ومكان».

إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة، التي تعلو أصواتها في الآونة الراهنة، ترتكز بلا شك على قاعدة جماهيرية واسعة، وكثير من أنصارها يتخذون من سعة الانتشار هذه حجة لصالحها، ويستدلون على صحة اتجاههم من كثرة عدد أشياعهم وأنصارهم.

وفي رأيي أن اتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين لا يمكن أن يكون مقياسًا لنجاح هذا المبدأ إلا في حالة واحدة فقط: هي تلك التي يكون فيها وعي هذه الجماهير ناضجًا كل النضج. وقد أثبتت تجارب واقعية كثيرة أن انعدام الوعي أو تزييفه يمكن أن يؤدي إلى التفاف الجماهير حول أمور لا يمكن أن تكون لها قيمة في ذاتها. مثال ذلك أن هبوط الوعي الفني لدى الجماهير، منذ السبعينيات على الأقل، أدى إلى إقبال الملايين منها على أغانٍ هابطة، وأفلام ومسلسلات حمقاء، ومسرحيات مبتذلة. ولن يزعم عاقل أن الشعبية الواسعة الانتشار لهذه الفنون الهابطة دليل على قيمتها.

وأستطيع أن أقول، من وجهة نظري الخاصة، إن الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير؛ فبعد ثلث قرن من القهر وتغييب العقل وسيادة سلطة سياسية لا تناقش، يصبح هذا الانتشار أمرًا لا مفر منه. وبعد ثلث قرن من السياسة المائعة المتخبطة إزاء التيارات الدينية: المنع الشديد من جانب، والتأييد من جانب آخر، الاضطهاد اللاإنساني من ناحية، والتقريب والترغيب من ناحية أخرى، يصبح من الطبيعي أن يبحث الملايين من الناس عن أقرب البدائل إلى نفوسهم وأقلها احتياجًا إلى التفكير والجهد العقلي.

ولا بُدَّ أن يولي القارئ اهتمامًا خاصًّا للتعبير الذي استخدمته في الفقرة السابقة، وهو «الاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن»؛ ذلك لأن العيب الأكبر لهذه الاتجاهات يكمن في غلبة الطابع الشكلي على فهمها للدين. وهكذا فإن انقياد الجموع الكبيرة من الناس إلى التيارات الدينية التي تركز جهدها على الجانب الشعائري من الدين، وعلى التحريمات الجنسية وشكل الملبس … إلخ، وتتصور أن أول جوانب تطبيق الشريعة وأهمها هو تطبيق حدود الخمر والسرقة والزنا، وتتجاهل كليةً مشكلات الحياة الاقتصادية والسياسية بتعقيداتها التي لا تنتهي؛ هذا الانقياد لا يمكن أن يكون علامة صحة، وإنما هو حالة شاذة طارئة لم تعرفها مصر إلا في ظل عهود الحكم الفردي المتلاحقة، وفي العهد الذي فتح الباب لتسرب الفكر المتخلف الوافد من مجتمعات بترولية تستخدم الدين أداة للحفاظ على مصالحها في الداخل ونشر أيديولوجيتها الهابطة في الخارج.

والحق أن أية جماعة تود أن تكون إسلامية حقًّا، ينبغي عليها أن تعطي الأولوية، لا للعودة بالتشريعات إلى ما كان سائدًا في عهود مضت، بل لإزالة ما علق بهذه التشريعات في العهود الاستبدادية من شوائب، وما فُرض عليها من استثناءات أصبحت بمضي الوقت هي القاعدة. إن ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي حقًّا هو مراجعة قوانينه بحيث تصبح قادرة على معالجة مشكلات الحاضر، ومواجهة تحديات المستقبل، وبحيث يُستبعد منها ما هو دخيل وما هو قمعي ظالم. ومع ذلك فإن النظرة التراجعية، التي تركز على العودة إلى الماضي، هي التي تطغى على تفكير الجماعات الإسلامية الحالية، بينما تختفي تمامًا أية نظرة واقعية أو مستقبلية.

إن أخطار المستقبل وتحدياته تواجهنا جميعًا، لا فرق بين إسلاميين وقوميين وتقدميين، ومن أجل هذا كان من الخطأ الفادح أن ينظر أمثالنا من نقاد الاتجاهات الإسلامية المعاصرة إلى أصحاب هذه الاتجاهات على أنهم أعداء؛ فنحن جميعًا محشورون في سفينة واحدة تزداد خروقها اتساعًا يومًا بعد يوم، ومن الظلم البين أن نعامل عشرات الألوف من الشبان الجادين الراغبين في الإصلاح على أنهم فئة منحرفة أو جماعة ضالة ينبغي محاربتها. إن مشكلتهم الكبرى في نظري، هي أنهم لا يستخدمون عقولهم استخدامًا كاملًا، وكثيرًا ما يعطلونها إلى حد الشل التام، ومثل هذه المشكلة لا يفيد فيها اتخاذ موقف العداء أو الاضطهاد، وإنما قد يسهم في حلها الحوارُ الذي يسعى إلى إيضاح الأفكار والمواقف، وإزالة الغشاوة التي يفرضها الاكتفاء بوجهة نظر واحدة لا تتغير.

إن التعصب لوجهة نظر دينية واحدة، بل لاتجاه طائفة أو جماعة معينة داخل وجهة النظر هذه، يُلحِق بالعقل تشويهات خطيرة، ليس أقلها ذلك الانغلاق الفكري الذي يوهم المرء بأنه هو الذي يملك الحقيقة كاملة، وبأن كل من لا يسيرون في طريقه على باطل. هذا الإحساس باليقين المطلق شديد الخطورة على التكوين العقلي للإنسان، وخاصةً إذا تملكه وهو ما يزال في شبابه المبكر. ومن المؤسف أن هذا الإحساس لا يقتصر تأثيره على المسائل الدينية وحدها، بل إنه يمتد إلى كافة جوانب حياة الإنسان. وهكذا تجد الشاب الذي يخضع لمثل هذه المؤثرات ميالًا إلى الجزم والتأكيد القاطع في كل شيء، لا يؤمن بتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، بل يريد في كل الأمور رأيًا واحدًا وإجابة نهائية يرتاح إليها ويتوقف عندها ويكف بعدها عن التساؤل. وحين تصبح هذه عادة عقلية مستحكمة فإنها تطمس الروح النقدية، وتهدم القدرة على الابتكار، وتجعل من التجديد آفةً ينبغي تجنُّبها، ومن الإبداع بدعة لا بُدَّ من محاربتها.

وأحسب أن أمة تَشِيع بينها هذه الطريقة في التفكير لا بُدَّ أن ينتهي أمرها، في وقت ليس بالبعيد، إلى الانهيار، وأحسب أيضًا أن الأعداء المتربصين بأمتنا، أولئك الذين يعرفون قيمة التجديد والابتكار والخروج عن المألوف وكسر قيود الماضي، ويمارسون هذا كله في حياتهم بلا انقطاع، ويتفوقون به علينا تفوقًا يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم؛ أحسب أن هؤلاء لا يسعدهم شيء بقدر ما يسعدهم أن يرَوْنا غارقين لآذاننا في حالة الطاعة والامتثال والتمسك الصارم والمتجهِّم «بحقيقتنا» الواحدة ويقيننا المطلق …

وفي اعتقادي أن من أشد أساطير حياتنا بطلانًا، القول الذي يذيعه كثير من أشياع الحركة الإسلامية، بأن الاستعمار بوجه عام، وأمريكا والصهيونية بوجه خاص، يخشَوْن الصحوة الإسلامية ويعملون على محاربتها، ففي مصر كان السادات يشجع التيار الإسلامي في نفس اللحظة التي قرر فيها أن يكون توجهه أمريكيًّا خالصًا. وفي السعودية يظهر التحالف بين التزمت الإسلامي (الذي يرعى معظم الحركات الإسلامية في الأقطار العربية الأخرى رعاية مادية ومعنوية) وبين خدمة المصالح الأمريكية، بصورة واضحة لا تخطئها العين. وفي السودان أصبح الإخوان حلفاء النميري حين طبق شريعته التي لم يكن لها من الإسلام إلا الاسم، وحين أصبح عضوًا فعالًا في الجناح الأمريكي من الدول العربية. وفي إسرائيل تقف سلطات الاحتلال إلى جانب الطلاب المنتمين إلى الجماعات الإسلامية، في جامعات الأرض المحتلة، ضد المنتمين إلى كافة التيارات القومية والتقدمية من بين هؤلاء الطلاب. وهذه كلها ظواهر طبيعية لا ينبغي أن يستغرب لها أحد؛ لأن الشكل الذي اتخذته الحركات الإسلامية المعاصرة لا يُلحق بمصالح الغرب، وأمريكا بالذات، إلا أضرارًا شكلية لا قيمة لها، أما المصالح الحقيقية فلا تمسها برامج التيارات الإسلامية الحالية من قريب أو بعيد. وأكاد أقول إن إعطاء هذه الحركات الأولوية لمحاربة ما تسميه بالإلحاد الشيوعي، هو في ذاته خدمة كبرى لا تريد أمريكا من الإسلاميين شيئًا سواها، وفي مقابل ذلك تستطيع أمريكا أن تتحمل كثيرًا من السباب والصياح، ما دامت مصلحتها الكبرى قد تحققت.

أعود مرة أخرى فأقول إن العقل الذي اعتاد أن يسير في اتجاه واحد، والذي يعجِز عن فهم حقيقة النسبية وتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، لا بُدَّ أن يوصل أصحابه، دون أن يشعروا، إلى هذه النتائج الخطيرة. وهكذا يصبح من بديهياتهم التي لا تناقَش، الاعتقادُ بأن الشك خطيئة، والنقد جريمة، والتساؤل إثم وجريرة.

ولَكَمْ أود من ألوف الشباب المنخرطين في سِلك الجماعات الإسلامية أن يخرجوا، ولو للحظات قصار، من إسار القوالب التي حصرهم فيها موجهوهم الروحيون؛ لكي يتأملوا فيما كان يمكن أن تكون عليه البشرية لو كان «اليقين» هو الذي حكم موقفها العقلي منذ بداية حضارتها حتى اليوم. إن عصور «اليقين» في حياة البشر كانت هي عصور الانحطاط: ففي عهود الفكر البدائي كانت «الأساطير» تشكل يقينًا لا يتطرق إليه أي شك، وفي العصور الوسطى الأوروبية — عصور الظلام — كان اليقين هو الحالة العقلية السائدة؛ يقين الحقائق المقدسة كما تفهمها الكنيسة، ويقين المعرفة كما تجمدت فيما عرفوه من كتابات الفلاسفة اليونانيين.

وعلى العكس من ذلك كانت عصور الشك والتساؤل هي عصور التقدم والنهضة والوثبات الكبرى إلى الأمام: هكذا كان العصر اليوناني القديم، وهكذا كان موقف كثير من علماء الإسلام ومفكريه، وهكذا كان عصر النهضة الأوروبية، بل عصور النهضة في كل مكان.

وليسمح لي شبابنا الإسلاميون بأن أطرح عليهم شعارًا أراه ضروريًّا إلى أبعد حد في حياتنا الراهنة: قليل من الشك يصلح العقل! فالشك ليس دائمًا هدامًا، وليس دائمًا إنكارًا سلبيًّا، وإنما هو وقفة تساؤل لا بُدَّ منها قبل الوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة. وما أشد خطأنا حين نفصل على نحو قاطع بين الشك أو التساؤل وبين الحقيقة، فنتصور الأول نقيضًا للثانية! وواقع الأمر أن بين الاثنين ارتباطًا عضويًّا وثيقًا إلى أبعد الحدود، فالسلب والإيجاب هنا متكاملان ومتلازمان، وما عرفت البشرية حقيقة إيجابية قائمة على الدليل المقنع إلا بعد أن سبقها قدر كبير من الشك والتساؤل والنقد. فالهدم والبناء، في مجال كهذا، كثيرًا ما يكونان وجهين لعملة واحدة.

إن المشكلة الكبرى لدى هذه الألوف المؤلفة من الشبان والفتيات الذين يَدِينون بالولاء لتيار من التيارات الإسلامية المعاصرة، تكمن في أنهم يتصورون أن خير مسلك يبدأ به المرء حياته هو أن يصل إلى يقين كامل، ويجد إجابات جاهزة عن كل سؤال، ويزيح عن عقله عبء التساؤل والنقد. وتلك في رأيي بداية لا تبشر بالخير للفرد الذي يعتنقها، ولا للأمة التي يكثر فيها أمثال هذا الفرد، ففي عالمنا هذا — عالم الإبداع والابتكار والتغير الذي لا ينقطع؛ عالم التنافس الرهيب على الفكرة الجديدة والممارسة غير المألوفة — لا بُدَّ أن تَسحَق عجلةُ التقدم كلَّ من يبحث قبل الأوان عن يقين مطلق وحقيقة نهائية يوقف بعدها عقله ويتصور أنه اهتدى إلى جميع الإجابات؛ فاليقين، إذا أتى، ينبغي ألا يأتي إلا في النهاية، أما في البداية، وخلال الرحلة الطويلة، فإن الروح النقدية المتسائلة المدققة هي الدليل الذي لا غناء عنه لمن يريد حقًّا أن يعيش عصره دون أن يخدع نفسه أو يدفن رأسه في الرمال.

فؤاد زكريا
سبتمبر ١٩٨٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤