اكْتِشاف البَحر المُحيط

١

ينظر إلى الغرب رجلٌ قويٌّ لِحْيانِيٌّ جالسٌ على حجرٍ فوق شاطئ البحر واضعٌ مِرْفَقَيْه على رُكْبتيه مُسْنِدٌ ذَقَنه بجُمْع كَفِّه، مُوَتَّرةٌ جميعُ تقاطيع وجهه، وتَذْرِف عيناه عَبَراتٍ كبيرةً رويدًا رويدًا، وتتدحرج على لحيته وتَبْلُغ شفتيه، وهي من المرارة والمُلوُحَة ما للزَّبَدَ الذي يتَدَفَّقُ نحوه، وهو يَشْعُر بمثل تلك المرارة في فؤاده، وماذا أصاب هذا الرجلَ الحزين الجالسَ على ساحل البحر إذَنْ؟ وأين نحن؟

على شاطئ جزيرة، على شاطئ مالطة على ما يُحتمل، وفي الأسطورة تُسَمَّى أُوجِيجِي، والرجلُ يُدْعَى أُولِيس، وكان مرتبطًا في البحر المتوسط ارتباطًا وثيقًا مدى حياته، وقد وُلد في جزيرة وأبحر نحو جُزُرٍ على سفينته المصنوعة من صَنَوْبر وحَمَله البحر من جزيرةٍ إلى جزيرةٍ حتى تِرْوَادة، وهنالك أيضًا لم يبتعدوا عن سفنهم، وتسكن الجزيرةَ حُوريَّةٌ إلهية، وتُمْسِكُ أوليسَ منذ عامٍ في الجزيرة حيث زورقُها الآن، وهي لا تستطيع أن تَشْبَع من قوة هذا الآدميُّ، وتَعْرض كالِبسُو حياةَ إلهٍ عليه، ومع ذلك يَعْرِضه أوميرس قاعدًا على رَمْلَةٍ باكيًا، وهو المغامر الأكبر، وهو أعظم الماكرين، وهو أعظمُ المقاديم، هو يَحْلُم بجزيرةٍ أخرى أوسعَ من هذه مع نباتٍ مماثل وحيوانٍ مشابهٍ لِما فيها! وفي إيتاكَ أبصر النور، وله فيها منزلُه وزوجه وولده، وبوطنه يَحْلُم أوليسُ باكيًا.

وتَعْزِم حاميتُه الكبرى، أَتيِنَه على إنقاذه، ولما اطلعت كالِبسُو على حكم الآلهة شَكَتْ قسوتَهم إلى هِرْمِس مُتَحَسِّرةً.

ولكنْ ها هي ذي تَخْرُج من كهفها وتَنْزِل باسمةً إلى الرَّمْلَة حيث يقضي حبيبُها أيام وَحْشَةٍ، وهي تُخْبره بأنها ستُعينه على إنشاء سفينة يتمكن بها من العَوْدِ إلى بلده، ويخامره رَيْبٌ في بدءِ الأمر، ثم يُمْلَأُ أملًا فيَتَّبع الحُوريَّة، ويُسارُ به إلى ساحلٍ محاطٍ بأشجارِ صَنَوْبرٍ تناطح السحاب، وهي تَدُلُّه على شجرٍ جَفَّ بفعل السِّنِّ فيَصْلُح لصُنْعِ ألواحٍ متينة منه، ويُسْقِطُ أُوليسُ عشرين ساقًا، ويتخذ أوليسُ من التدابير ما يُجَزِّئُها معه بالآلات النحاسية التي جلبتها الحُوريَّة إليه، ثم يَضُمُّ بعضَ الألواح إلى بعض بدُسُرٍ١ وكلاليبَ، فيَجْعَل منها طَوْفًا.٢
والآن يَنْصِبُ أوتادًا من كلِّ ناحية، ويُثَبِّتُ ألواحَ بَلُّوطٍ ثخينةً، ويَصْنَع من الألواح جِسْرًا، ويَنْصِب صاريًا،٣ ويَضَعُ دَقَلًا،٤ ثم يَحُطُّ السُّكَّانَ، وهو يُجَهِّزُ الجميعَ بحصائرَ من صَفْصَاف، ويُودِع القعرَ حجارةً لتكون صابُورَة،٥ والآن تأتيه كالِبسُو، التي يتجاذبها الغضبُ والغمُّ دائمًا، بنسائجَ ليُفَصِّلَها قِلَاعًا،٦ وهي تُبْصِرُه يَعْقِد حِبَالًا مُعَدَّةً لإدارة الأشرعة حول السارية، وهي تراه يصنع في نهاية الأمر عَتَلَةً يستطيع أن يُنْزِل الرَّمْثَ٧ بها إلى البحر، ويُتِمُّ أوليسُ عملَه في أربعة أيام من غير أن ينال عَوْنًا أبدًا، وفي صباح اليوم الخامس، وبعد وَدَاعٍ يُمَزِّق الفؤاد، تأتيه الحُورِيَّة بقِرْبةٍ مملوءةٍ خَمْرًا وبقربةٍ أخرى مملوءةٍ ماءً مع أغذيةٍ في سَلَّةٍ محبوكة فيضعُ ذلك في سفينته الجديدة، ثم توجب نسيمًا لَيِّنًا أمامه، وذلك ما يقصُّه أوميرس علينا في الأُغْنِية الخامسة.

ويَشُقُّ زورقُ أوليسَ عُبَابَ البحر المتلاطم في ثمانيةَ عشرَ يومًا، غير أن الزورق يتمايل ويهتزُّ بعُنْفٍ، ثم يتدهور الرجلُ في الأمواج، وتَقْذِف العاصفة أوليسَ نحو صخر الشاطئ مختنقًا، ويَسْبَحُ أوليسُ حتى مصبِّ النهر، ويَسْقُط في أدغال حافَةِ غابةٍ ميتًا تقريبًا داعيًا هَمْسًا.

وكانت الجزيرةُ الجديدةُ التي بَلَغها أوليسُ بلدَ الفِيَاك؛ أي سِفَالونية على ما يُحتمل، وفي هذه المرة أيضًا تُنْقِذُ امرأةٌ تَيْسَ المغفرة وصاحبَ الآلهة، ونُوزيكَّا هي التي وَدَّت إمساكَه، وهي التي لم تتعب من سماع حديثه عن قصة ترواده وكيف أنه تاه بين جزيرة وجزيرة هنالك، في الغرب، حول جزيرة صِقِلِّيَة، وأخيرًا يُغْمَر بهدايا ثمينة ويركَب قاربًا ذي مقاذيفَ، ويَعِدُه مَلَّاحو الفِيَاك بأن يَرْجِعوه إلى إِيتَاك، وهذا هو آخر سَفَرٍ له، ويضطجع أوليسُ على وسائدَ ونسائجَ ويَذْكُر معاركَ السنين الماضية وآلامَه، ثم ينام نومًا عميقًا هادئًا قريبًا من الموت تقريبًا، ويَصِل المَلَّاحون إلى إيتاك بعد نهارٍ وليلة، ولكن أوليسَ ينام دَوْمًا ويَرْفَعُونه ويَضَعُونه على الشاطئ غارقًا في نومه، وذلك مع بُسُطِه ووسائده، وذلك أمام مغارةٍ وتحت ظِلِّ زَيْتونةِ.

وهكذا تَتِمُّ الرِّحْلتان الأُولَيَان بحرًا، فتوحي غُيُوم البحر المتوسط وأمواجُه بهما إلى الأُسطورة فَتْنًا لقلوب الناس، وقد وُصِفَتُ العواصف والسكونُ والشواطئُ والصخور والأطواف والسُّفُن والكهوف والبساتينُ والمعاركُ بين الأمم وقِرَى النساء ومعاشقُهنَّ والقَدَرُ حين يُحَلِّق فوق الجميع، والقَدَرُ إذ يَتَجَلَّى في شخص الآلهة دائمًا، تُغَيِّر الآلهةُ، بنِعَمها ووعيدها، ما هو أزرقُ من الأمواج، وتُنَظِّمُ مجرى مغامراتٍ جديدة على الدوام.

وذلك لأن البحر المتوسط أجملُ من جميع البحار، وهو البحر المختار بين البحار الأخرى بوَضْعِه وشكله وجَوِّه، وهو أولُ ما اكْتُشِف وما وقع الطواف فيه، وهو هيلانة البحار، وهو مثلُها مُبْتَغَى جميع من أبصروه فافتتحه أكثرُ الناس إقدامًا بعد معاركَ دامت ألفي سنة، لا عشرَ سنين، ثم كَدُر صيتُه بما نالته من الفَخَار بحارٌ أَحدثُ منه وأَبعدُ، ثم أُعيدَ اكتشافه بعد ثلاثمائة سنة، فاقْتُتِل في سبيله مُجَدَّدًا على مرأًى منا، ولماذا؟

أَوَلَيْسَ أصغرَ من البحار المحيطة المحدقة به؟ أَوَلَمْ تُفْتَحْ هذه البحار المحيطة في الحين بعد الحين من قِبَل سُفُنٍ كبيرة وتُجَاوَزْ في بضع ساعات على أجنحة الفضاء النَّشْوَى؟ ولِمَ يُقْتَتَلُ في سبيله إِذَنْ؟

ذلك لأنه مَهْدُ الإنسانية، ذلك لأن كلَّ واحد يَعْلَم أن من صميمه ظَهَر الجمال والعرفان والبأس، والناسُ يَعُودون إلى البحر المتوسط كما يَعُودون إلى أُمِّهم.

٢

من النادر أن يذهب الناس إلى كونهم جَزَريين، ويُولَد الناس فيما يُسَمُّونه قارَّاتٍ فيَشْغَلُون رُبْعَ وجه الأرض التي يستر بقيتَها عنصرٌ لا يَصْلُح للسَّكَن ولا يُقْهَر على الدوام؛ ولذا يظلُّ فتحُ البحر أجدرَ مآثر البشر بالذكر، ولا يُقَاس به حتى قهر الهواء، فالأمواجُ مُرَصَّعَةٌ بالجُزُر، ولا يُوجَدُ بين السُّحُب ما يُرْتاد وما يُفْتَح.

ولِمَنْ يُولَد قريبًا من البحر هِبَةٌ ذات أسرار، فهو في فَتَائه ينام على الرَّمْلَة مساءً، وهو يُهَدْهَد٨ بارتداد الأمواج إلى الوراء، وذلك ليَصْحُوَ في كلِّ صباح على صوت واحد، وتمتاز هذه الملايين القليلةُ من أهل الجُزُر بين الجميع، فيَسْهُل عليهم أن يتعارفوا بين سِيفٍ٩ وسِيفٍ، ولو لم يغادروا اليابسة، أو لو تحولوا عن حياة الساحل، وهم يمتازون من مليارين من الآدميين الذين لا تتمثل لهم بِيئَةٌ غيرُ الأرضِ الصَّلْدِ والخصيبةِ مع غابها وحقولها وجبالها وأنهارها ومدنها وبيوتها، والزلازلُ وحدَها هي التي يَشُكُّون بها في صَلَابة سافاتِهم١٠ أحيانًا.
ومَن يَعِشْ على ساحل البحرْ وينظرْ دومًا إلى الآفاق الواسعة البعيدة يَكُنْ لديه من البصر في دوافع الإنسان في الرَّبِّ والحُبِّ والموسيقى، ما هو أعمقُ مما لدى غيره، وهو إذا ما تَعِبَ من طِفَاح الأرض الأبلقِ الصاخبِ الذي أحبه زمنًا طويلًا تَحَوَّل عنه ذات يومٍ إلى الواسع الصامت منتقلًا من المحسوس الخاصِّ إلى غير الملموس العامِّ. وهكذا كان جميع الفلاسفة من أهل الجُزُر، ولو عاشوا في داخل البلاد، وهكذا نَشَدَ البحرَ رسلُ جميع الأديان، وعن الإلِيات١١ كان القدماء يقولون إن الروح التي ساقتهم إلى البحر الغربيِّ قادتهم أيضًا إلى أُقْيَانوس١٢ الفكر الخالص.

وما يوحي به البحرُ المحيط من وَجَلٍ وجمالٍ مناوبةً فيُعَدُّ شاهدًا على عظمة العنصر البحريِّ واتساعه وعَطَله من الشكل بحيواناته المستورة ونباتاته الغارقة وجباله المغمورة، وهو يهيمن على الحياة التي تَكْثُر في الجُزُر ويسيطر على ما وراء الشواطئ، ويمتدُّ سلطانه إلى قلب القارَّات.

ويمكن قياسُ البحر بالموت الذي يستقبل الجميعَ ويساوي بينهم، ويمكن اتخاذُ الأنهار التي تجري فُلْكُهم عليها مَثَلًا للناس حينما تَصُبُّ وتمتزج بهذا الجامع الأكبر، بالبحر، ويَرْكُم المزارُ الواسع الجاثمُ، غيرَ مُرْتادٍ، في قعر البحار المحيطة والمُزْدَادُ دَوْمًا بغنائمَ جديدةٍ، ما عند الجَزَريين المقاديم من نشاط حَيَويٍّ، ويُعَدُّ المَدْفِنَ الذي لم يُعَيَّن بأَثَرٍ، ولم يُدْرِك مَنْ يَقْذِفون أزهارًا في مكان غَرَقٍ من البحر عظمةَ هذا العنصر، والغَوَّاصُ وحدَه، وهو المشابه للعالِم الذي يكتشف غيرَ المرئيِّ بمُجْهِره، هو الذي يستطيع قولًا عنه، ولكن من العادة أن يَلْزَم جانبَ الصمت.

ومع ذلك لم يكن الحكماءُ، ولا القانطون، هم الذين فتحوا البحر، وهؤلاء لم يفعلوا غيرَ تأمُّله زاهدين، وأولُ مَنْ خاضوا غِمَارَه، ومن لا يزالون يُلَبُّون نداءه هم ذوو الجُرْأَة والإقدام والفُضُول ومُحِبُّو مَسَرَّات الحياة، وهم على الشاطئ، وحين يضعون أيديَهم على حواجزَ موضوعةٍ أمام أعينهم وِقايةً لأنفسهم من الشمس، يُنْعِمون النظرَ في الجزيرة المجاورة، ثم يذهبون لفحص السفينة في الميناء متسائلين عن إمكان مقاومتها للعاصفة والأمواج. والرجلُ في بدء الأمر قد أراد أن ينتقل من جُزَيِّرَةٍ إلى أقرب جَزِيرةٍ راجيًا اصطيادَ أسماكٍ أخرى ورؤيةَ أشراكٍ أخرى، ومشاهدةَ مختلفِ الزوارق التي رَدَّدَت الأسطورةُ صداها إليه، ولا غَرْوَ، فهو جَزَرِيٌّ يبحث عن جزيرة ثانية.

وذاتَ يومٍ يُرَى مع الحَيْرة مَلَّاحٌ أسفرت مائةُ قَذْفةِ مِجْدافٍ وريحٌ ملائمةٌ عن حمله إلى الخِضَمِّ،١٣ ويدرك هذا المَلَّاح كيف أن كلَّ شاطئ، مهما ضَؤُل، يَمَسُّ البحرَ العامَّ كما يشترك أوضعُ الناس في مصير البشرية، ويُبْعِدُ شيءٌ من الفُضُول، لا الطمعُ، ذلك المَلَّاحَ من الساحل كثيرًا، وهو لِمَا اتفق له من اكتشاف جُزُرٍ جديدة وسواحلَ جديدةٍ، يطلع على ممكناتٍ جديدة، وينشئ سفنًا ضخمةً، ويُجَهِّزُها بالأسلحة ما حاول الجَزَريون الأجانبُ أن يحولوا دون نزوله إلى البر، وهو، لعدم انتسابه إلى شخصٍ، يُعَدُّ ملكَ الجميع، فيجتذب مَنْ هو مقدام ومفكر، وهو لا يُعَتِّم أن يجمع بين مصايرهم.

وذلك لأن ذوي الشجاعة والطموح يتخلصون من حقولهم ومنازلهم وأرَضيهم فَيَتَكَسَّبُون بسفنهم القَصِفَة من سواحلَ مجهولةٍ، ويتجلى حُبُّ السلطان فيمن لم يستطيعوا في البرِّ أن يتوسعوا بسبب جيرانهم، وفي البحر، حيث لا يسيطر أحدٌ، يمكن الاتجارُ مع جُزُرٍ أجنبية، وما السلبُ، وما الكَبْسُ، ما وُجِد كَسْبٌ كثير! ذلك عنصرٌ لا يَقْهَره أحد، ذلك عنصرٌ يُغْضِي على كلِّ شيء، وهو لا يثور إلَّا نادرًا، إلَّا حين يَعْصف ضدَّ المقاحيم الذين يحاولون إخضاعَه، وهنالك، على الخصوص، تبصر الشواطئ الأجنبيةَ التي تُتِيح نَيْلَ كلِّ شيء ويسهُل ذلك كلما بَعُدَتْ، ومن المَلَّاحين الأذكياء مَن انطلقوا من جُزَيِّرة ففتحوا بقاعًا واسعة، ومن المَلَّاحين مَنْ أَتَوْا من موانئَ صغيرةٍ واقعةٍ في مداخلَ ضيقةٍ كأثينة والبندقية ولُوبِك فأقاموا سلطانَهم البحريَّ من غير أن ينالوا حمايةَ بلدٍ قويٍّ، من غير أن يَظْفروا بمساعدة جيرانهم الذين ظَلُّوا في البَرِّ، والبحرُ من هذه الناحية كان حُرًّا دائمًا لتعذُّر رسم حدوده ولتعذُّر احتكاره باستمرار، فلما حَظَرتْ قرطاجة على اللاتين كلَّ مِلاحَةٍ في غرب الرأس اللَّاكُونيِّ اغتَرَّت ثم غُلِبَت، ومن العبث أن حاولت جِنَوة إبعادَ البروفنسيين من صِقِلِّيَة بمراسيم، وعن رغبةٍ في احتكار المِلاحة والصيد أراد البندقيون أن يحتفظوا بالبحر الأدرياتيِّ وأراد التُّرك أن يحتفظوا بالبحر الأسود وأرادت الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر بِرِنغ، ولكن على غير جَدْوَى، وسواءٌ أبالعمل أم بالحرب لا يمكن البحرَ أن يُشْرَى أو يوزَّع أو يُقَسَّمَ إلى مناطقَ كما استطاعت الشعوب أن تصنعه في اليابسة.

وكلٌّ هنا دَوَّارٌ أو غيرُ موجود، ولم تَسْطِع دولةٌ أن تسيطر على البر زمنًا طويلًا، وفي البحر كانت الصدارة للرومان بعد قرطاجة ثم غدت لإنكلترة بعد سقوط نابليون، وفي البَرِّ لا بدَّ من توكيد كلِّ معركةٍ في جميع الجَبَهات حتى تكونَ حاسمة، ولكن مما يحدث في بعض الأحيان أن انتصار الأسطول يُعَيِّن مستقبل دولٍ عالمية، وقد وُفِّقَت رومةُ، الدولةُ البرية، لتكون دولةً بحرية، وهذا الذي لم يتفق لفرنسة، وفي حرب وِراثة العرش الإسبانيِّ تجاذبت إنكلترةَ رغبةُ المحافظين في الرُّكون إلى أموالهم وطموحُ أصحاب السفن من أبناء الطبقة الوسطى، وطموحُ التجار، إلى البحار، ولم يحدث في غير وقتٍ متأخر نزوعُ جميع الأُمة إلى إقامة دولة بحرية.

أَوَلَا يُنَال في البحر دومًا ما يُحَال في البَرِّ دونه بسبب كثرة الحواجز والأنهار والجبال والترَع والقِلَاع؟ أولم تَغْلِبْ أثينةُ الصغيرةُ دولةَ الفُرس؟ أولم تَقْضِ إنكلترة، كما قضت هولندة الصغيرة، على الحِلْف القويِّ بين إسبانية والبرتغال وفرنسة؟ أولم تُخْزِ فِيِنِيسْيَةُ الهيفاءُ الجَبَّارَ التركيَّ؟ وفي هذه الأحوال بُلِغَت أعظم المقاصد فوق البحر، وفي نِطاقٍ ضيِّق على العموم، وأحسنُ من ذلك صدورُ عظمةٍ جديدة عن كلِّ دولة بحرية، وذلك لِمَا توجبه من إثارة حبِّ الاطِّلاع والتعطش إلى المجد، وذلك لِمَا تتضمنه من تَحَدٍّ لمهارة أمم ما وراء البحار التي تَتَحرق لبلوغه، ولما قهرت صِقِلِّيَةُ رومةَ كان هَمُّها الوحيدُ أن تصبح دولةً بحرية، وكان لا بُدَّ للفرس من السيطرة على البحر حتى يَقْهَروا دولَ اليونان البحرية، ولم يتعلم مرفأُ سَرَقُوسَة القويُّ أمرَ المِلاحةِ الحقيقيةِ إلا بعد تَحاكٍّ بينهم وبين الكُورَنْثيين، وإنما كان لدى الصِقِلِّيين من كثرة الأَرَضين ما يصيرون به أصحابَ دولةٍ بحرية كبيرة.

ووجب على فرنسة أن تصنع مثلَ ذلك أخيرًا، ومع ذلك، وعلى الرغم من المعارك والانتصارات التي تُفَرِّق بين الأمم الراغبة في الفتح، ترى البحر الصامت العقيم خطَّ وصلٍ بين الشعوب البعيدة، وناشرًا للحضارات التي تَذِيعُ في البرِّ بأبطأ من ذلك، والبحرُ، بأعماقه ومجاريه وأجوائه المختلط بعضُها ببعض، يلوح أنه وُجِدَ لينقل حتى نهايةِ العالم سِلَعًا في قعر السفن وأفكارًا في أدمغة الملاحين وقلوبهم. وإذا كان المَلَّاح يحبُّ الغصبَ والسيطرة فإنه يريد التجارة والمبادلة ومحادثة الأجانب وملاعبتَهم النَّرْدَ أيضًا، وهو يَرْغَبُ قبل كلِّ شيء في معرفة النساء الأجنبيات، ذواتِ العيون والشعور الغريبة واللابساتِ المُزَيَّنَات بأبدع طراز، وجلبِهن لا عن قُوَّةٍ دائمًا.

والأحرارُ، لا المرتزقة، هم الذين جاوزوا البحار للحرب فيما مضى، وكما أن الصليبيين انْتَهَوْا إلى مواثيقَ غريبةٍ بين الأمم البعيدة يُرَى أن المِلاحة أسفرت عن وجود اتفاق دَوْلِيٍّ لا يُقاوَم، وقد قام بين رجال البحر من الصِّلات والصداقات ما يَحُول ضيقُ الأفكار والزهوُ والحَذَرُ دون وقوع مثله داخلَ القارَّات، وإن ريح البحر التي حملت بذورَ نباتات مصرَ إلى إيطالية هي التي نَفَخَت ملايينَ الأشْرِعَة، فمن تحت الأشرعة جلب الرجالُ في كلِّ زمنٍ أفكارًا ومنتَجاتٍ إِلى أقصى السواحل.

٣

تُوَلِّي البشريةُ وجهَها شَطْرَ الغرب، ونبْحَث عن النور ورسالتِه الصباحية عن إيمان وعزم، ومع ذلك نبتعد عنه مقدارًا فمقدارًا، وليست رمزًا تلك السرعةُ التي نُحَلِّق بها فوق المحيط الهادئ ونَلْقَى بها الشرق، فالحضارةُ لا تطير، وضَياعُها في طيَرانها، وأصحُّ من ذلك انتقالُ البشرية من البحر الأصغر إلى البحر الأكبر؛ أي من البحر المتوسط الشرقيِّ إلى البحر المتوسط الغربيِّ، ثم إلى المحيط الأطلنطيِّ فإلى المحيط الباسِفيِّ، ولا عجب فالأغارقةُ كانوا لا يَعُدُّون بحرًا لهم غيرَ بحر إيجِه الواقعِ شرقَ البحر المتوسط، وللملَّاح فيما مضى تحذيرٌ في المثل القديم القائل: «إذا ما جاوزتَ رأسَ إسبارطة فانْسَ مسقَطَ رأسك»، وما كاد أُولِيسُ يَعْرِفُ البحرَ الأدرياتيَّ ما كان هذا البحر عَالَمًا معاديًا ممتدًّا غربَ صِقِلِّية مملوءًا بالرياح والمجاري الغريبة، وذلك مع استثناء قليلٍ من القرطاجيين والأغارقة كانوا من الجرأة ما ابتعدوا به عن الشاطئ فاكتشفوا ساحل المحيط الأطلنطيِّ. بيدَ أن مدلول هذا الساحل ووجودَ بحرٍ هنالك أعظمَ من البحر المتوسط بمراحل من الأمور التي ظلَّت مجهولةً لدى الجميع، حتى لدى النُّورْمان الذين طافوا في أجزاءٍ منه قبل كُولُونْبُس بخمسة قرون. وقد سَهُلَ على البحر المتوسط أن يُعِيرَ نفسه من المَلَّاحين الأولين في أسفارهم لِمَا يشتمل عليه من مداخلَ كثيرةٍ إلى داخل القارَّة. وإذا كنت لا تَجِدُ من البحار ما هو أغنى من البحر المتوسط بجُزُرِه، فإنك لا تَجِدُ ما هو أكثر منه فُرَضًا وخُلْجانًا، ويؤدِّي مَضِيقُ خليج بتْراس إلى بلاد اليونان الوسطى وإلى البُسْفُور وإلى أوروبة الشرقية. ونرى شَبَهًا عجيبًا بين بحرنا المتوسط، هذا البحرِ الداخليِّ، وبَحْرَين آخرين، فكما أن البحر المتوسط يَصِلُ بين أوروبة وأفريقية يَصِلُ بحرُ الصين الجَنوبيُّ بين آسية وأُسْترالْيَة، ويتشابه كلا البحرين بجُزُره الكثيرة وشواطئه المعقَّدة، ويكاد بحرُ الأَنْتِيل يَقْطَع أمريكة من وَسَطها فلا يَتْرُك لها غيرَ عِصَابةٍ دقيقة هنالك. ولكن البحر المتوسط الذي هو بطلُ هذا الكتاب ذو صفة جوهرية يختلف بها عن ذينك البحرين، فهو بُحَيْرةٌ تغذيها ثلاثةُ مضايقَ كما لو كان غديرًا.

وتُعَيِّن الصفةُ الأساسية للبحر المتوسط، الذي يشابه بحيرةً داخلية، تاريخَه وحضارةَ الإنسانية وأخلاقَ أمم الساحل، وهي تَبْلُغ في تعيينها ذلك درجةً يُسْأَل معها عن الناحية التي يكون مَدِينًا لها بشكله الغريب. وهنا يَتَجَلَّى لَهْوُ علماء الأرض الذين أَلْقَوْا بأنفسهم على رأس مجلدات تامَّةٍ من اللعنة والوعيد، وتَعْدِل هذه المناقشاتُ أقاصيصَ التاريخ لغوًا لُخُلُوِّها من أساس ثابت يُسْتَنَدُ إليه، وما قبل التاريخ هذا هو افتراضيٌّ كما قبل تاريخ الأمم، وعلى العكس يَنْشُرُ أثرُ الحوادث التي وقعت منذ خمسة وعشرين قرنًا حول البحر المتوسط وفوقه معارفَ هي من القيمة ما لا نرى معه أن نتأخر في ظلام ما قبل التاريخ. وعندنا أن أقلَّ معبدٍ إغريقيٍّ أغنى معنًى من حجارة دُورْدُونْية الشهيرة التي يُجادَل في أمرها ليُعْرَف هل كانت مصقولةً منذ خمسةَ عشرَ ألفَ سنةٍ أو عشرين ألفَ سنة، ونَدَعُ فَخْمَ الكلام جانبًا فنَعْرِض طبيعة البحر المتوسط على غير المتخصصين بأحسنِ إيضاح.

يُرَى أنه كان يوجد في العصر الجَلِيديِّ سهلٌ في محلِّ البحر المتوسط مع وجود بحيرتين كبيرتين كثيرتي العمق كالبحر الميت واقعتين في الغرب والشرق، ولكن مع اتساعٍ كبير، فلما ذاب الجليد فاضت تانك البحيرتان لتجتمعا ولتؤلِّفا بحيرةٌ داخلية واسعة واحدة، وهل الأرض هي التي ارتفعت أو إن البحر هو الذي هَبَط في ألوف السنين؟ ومهما يكن من أمرٍ فإن الأسداد، التي تُؤَلِّف آخرَ الحواجز فتفصل البحرَ عن البحار الأخرى، كُنِسَت إلى الدردنيل وجبل طارق، ويَتْرُك هذا الفَيَضانُ العظيم، الذي يُذْكَر في جميع كُتب الأساطير باسم «الطوفان»، بعضَ أجزاءٍ جبلية قائمة فتبدو جُزُرًا، ويغدو أَرْخبيلُ بحر إيجِه ممثِّلًا لذُرَى سلسلةِ جبالٍ تنتهي في أَقْرِيطِش، ومما حدث قبل ذلك الطوفان أو بعده ظهورُ ثُغَرٍ وغُضُونٍ في القشرة الأرضية ووقوعُ زلازلَ بركانيةٍ وخَسْفٌ في قعر البحر الجديد، وفي الشمال يلوح سيرُ شعبةٍ عظيمةٍ من البحر المتوسط مع المساند الخارجية لجبال الألب والكَرْبات وبلوغُها فينة وهُنْغَارية، والقفقاسَ أيضًا. وتُعَدُّ الوَهْدةُ «السورية» التي تمتدُّ إلى أواسط أفريقية الشرقية دليلًا على ثَوَرَاناتٍ لاحقة كالوَهْدة الإغريقية وعددٍ غيرِ قليل من الوِهَاد الوَعِرَة التي يوجد في البحر اليونانيِّ منها واحدةٌ من أعمق ما في الكرة الأرضية من الهُوَى الواقعة تحت البحار.

ومن مستحاثات الحيوان التي لا تستطيع أيةُ نظرية أن تبتدعها أو تبطلها، ما يُتَّخَذ أحسنَ برهانٍ على ما بين أفْرِيقية وبلاد البحر الراهن وجزائره من صلةٍ قديمة. ومما وُجِدَ على جزائر بحر إيجه، التي كانت متصلةً بالقارَّة فيما مضى، مستحاثاتٌ تدلُّ على نزول دِبَبَةٍ وذئابٍ من جبالها نحو الجَنوب وعلى صعود وعاوعَ١٤ وأنمارٍ نحو الشمال، وتوجد هياكلُ عظميةٌ لأسودٍ بالقرب من فلورنسة، ولفُيُولٍ في مالطة، ولبقر ماءٍ في أَقْريطش، ونحن، الذين يَرْبِطون اسم أقريطش واسمَ مالطة بسلكِ أَرْيانة الأحمرِ وبجبال السفن الإنكليزية، نُنْعِم النظر، معَ دَهشٍ ساخر، في سيطرة أبناء السودان أولئك على الميدان الممتد أمام بلَازُّو فيشيو، وفي اغتسال بنات النيل أمام مسرح كَنُوسِّه العظيم، وفي فيلٍ يَرْفَع أثقالًا هادئًا فَهَدَّه طَيَّارٌ طليانيٌّ في ميناء مالطة.

أليس من المُنْعِش أن يُشْعَر بحَلْقةِ سلسلةٍ لا نهايةَ لها؟ وإننا حينما نَجِد على منحدرات إتْنَة، وعلى سبعمائة مترٍ، صَدَفًا شاهدًا على وجود بحرٍ في هذا المكان قديمًا، وإننا حينما نَجِدُ اليوم آثارًا إغريقية قديمةً تحت الماء، نرى الحقَّ بجانب رئيس بلدية مدينةٍ واقعة على ساحل تسالْيَة لمنعه حديثًا، كما يُرْوَى، شَيْدَ بناءٍ للبلدية على الشاطئ زاعمًا غَمْرَ البحر هنالك في ألف سنة.

وفي كلِّ مكان، وعلى الشواطئ وبين الجُزُر، تدلُّ آثارُ انفتاقٍ على الطوفان الذي أسفر عن شاطئ البحر وجزائره، ولم تنقطع هذه الانقلابات تمامًا، وهي ما انفكَّت تُشَكِّلُ تلك البُقْعة، وما حَدَث من استبار خليج قابِس (سَرْت الأصغر) أظهرَ استداراتِ القارَّة التي غابت في هذا المكان من البحر في دورٍ من أدوار التاريخ على الأرجح، وترتفع جزيرة بنْتِلِّرْيَة من عُمْقِ ألفِ مترٍ فوق مستوى البحر لتَبْلُغ من الارتفاع ٨٠٠ متر، وكان هذا من عمل بركانٍ استيقظ بغتةً سنة ١٨٩١ فرفَعَ ساحلَ تلك الجزيرة الشماليَّ في أقلَّ من ساعة على ما يُحتمل، وكان النيل يَصُبُّ في البحر من ناحية الشرق مصلحًا أرضَ فلسطين، واليوم لا تزال ترى في جَنوب الكرمل من التماسيح ما صار نادرًا في النيل الأدنى، وبالأمس قُطِعَ في غرب قِلَّوْرِيَّة١٥ ما تحت سطح البحر من أسلاك الهاتف بقوًى غيرِ منظورة.

ولا يزال صوت البراكين يُسْمَع مرهوبًا في البرِّ، ويمكننا أن نتمثل ما حَصَل من تخريب في الماضي عند مقابلته بما وقع من فَوَرَاناتٍ في الزمن الحاضر، ومع ذلك كان لهذه الفَوَرانات نتائجُ نافعة، وذلك لأن الينابيع الحارَّةَ والأَرَضِين الخصيبةَ التي تزدهر عليها أشجارُ الزيتون والكَرْمَة في عالم البحر المتوسط بركانيةُ المصدر، فالثِّمار تَخْرُج من الرَّماد كما تَخْرُج الأفكارُ الجديدة من الثَّوْرات، ولدينا وثائقُ ومواقيتُ منذ بدء أقدم التواريخ.

وفي سنة ٤٢٥ قبل الميلاد حدثت أول «زَلْزلة» في قناة جزيرة أُوبِه، وفي سنة ١٨٩٤ بعد الميلاد حدثت آخِر زلزلةٍ فيها، ولَشَدَّ ما يُذَكِّرنا هذا العَوْدُ الجديدُ بعَوْد ما نشاهده اليوم في ذلك البلد من الفتن! وكذلك نُقَرِّب بأفكارنا فناءَ البشرية من فناء العناصر، فيكون لنا بذلك شيءٌ من الصَّحْوِ، وذلك عندما تُحْدِثُ البراكينُ جُزُرًا بأسرها وترفعها من البحر لتعودَ فتبتلعَها مُجَدَّدًا كما أسفر عنه ثَوَرانٌ وَقَع سنة ١٨٣١ في جنوب صِقِلة.

وظلَّ بعض العناصر مشابهًا لبعضٍ في غُضُون ألوف السنين، وقد تَضْحَك الآلهة حين اطلاعها على إيضاحاتٍ عن غابر الأزمان في كُتبٍ لأعضاء المجمع العلمي، فيُقَرِّرون تصحيحَ هذه النظريات في الغد على ما يُحتمل. وفي الوثائق القديمة ذِكرٌ لكثير من الفيضانات، ووصفٌ لغَرَق مدينة إِلِيس، القريبةِ من كُورِنْث، مع سكانها، كما حدث لساحل لِيْمنِي١٦ الشرقيِّ، وبيانٌ لسترُنْبولي الذي هو بركانٌ يُدَوِّي بلا انقطاع ولا يَخْبُو أبدًا، وما فتئ هذا البركان يزيد حجمًا منذ القرون القديمة، وهو شيخُ البراكين لهذا السبب، وهو يشابه بدُخانِه الثابت على شكل المِظَلَّة وهَدْرِه الدائم شائبًا راغبًا في إلقاء خُطْبة من غير أن يَجِدَ ما تقتضيه من الكلمات. وقد عانت الأندلس وقِلَّوْرِيَة زلازلَ عنيفةً كما عانى المنحدَرُ الجَنوبيُّ من جبل برْناس، غير أن جمال أثينة ظلَّ سليمًا تقريبًا، والرجالُ هنالك هم الذين قَوَّضوا حتى ما صانته العناصر.

وجميعُ هذه التحولات، وجميع هذه الهَزَّات، هي التي جعلت أهل البحر المتوسط يفوِّضون أمورهم إلى الآلهة والأقدار في غضون القرون، وأكثرُ ما يُقَدَّس لِنِبتُون في البِقاع التي خُرِّبت، فلما هَزَّت بلدَ الأعداء زَلْزلةٌ في أثناء استيلاء الإسبارطيين على أَرْغُوس أنشدوا نشيدًا مؤثرًا تمجيدًا لإله البحر هذا، وما كان من انفصال صِقِلِّية قبل التاريخ ومن ظهور المضايق وانفتاقِ الأرض على سطح الأُلِنْب صَيَّر السُّكَّان من القائلين بالقضاء والقدر، مستعدين لاحتمال تقلبات الطالع، كثيري الشكِّ والحكمة والفلسفة. ولو نظرتَ إلى أهل البحر المتوسط لوجدتهم في ذلك الزمن، كما في أيامنا، يَعْرِفون ما اتَّفَق لطبيعة بحرهم وشواطئه من تغيرات معرفةً فطرية.

ويَبْلُغ بحر اليونان من الغَوْر ٤٧٠٠ متر؛ أي يَبْلُغ قَعْرًا من أعمق ما وُجِد، وتنتصب هنالك، وراء الشاطئ الأفريقيِّ، جبالُ دَرَن١٧ مرتفعةً بما يَعْدِل ذلك الرَّقْم، وتضادٌّ كهذا مما يَشْعُر به أهل البحر المتوسط بمزاجهم شعورًا عميقًا وإن لم يُعَبِّروا عنه بأرقام. وارْجِعِ البصرَ إلى وَضْعِ سواحل بحر إيجه وتشكيل الصخور في الخُلْجان وكثرةِ الجزائر، تَجِدْ هذه الأمورَ متماثلة بَرًّا مُعَيِّنَةً لخصائص السكان. وإذا ما عُدَّت هذه البحيرة الداخلية، التي هي البحر المتوسط، شائبًا حكيمًا عُصْلُبِيًّا محصورًا ضمن حدوده حَصْرًا أزليًّا غيرَ حائزٍ لسوى بابٍ ضيِّق نافذٍ إلى الحرية حَفَزَنا حبُّ الاطلاع إلى البحث عن كيفية قيام هذا الباب بعمله وعن كيفية مقاومته للبحر المحيط، وهنا مِفتاحُ مصير البحر المتوسط.
ويَقَعُ باب هذا البحر على جبل طارق تمامًا، وذلك حيث كان جسرٌ بَرِّيٌّ يجتذب الفيل الأفريقيَّ إلى إسبانية، وهو إذا ما نُظِرَ إلى بلوغه، بعد تَكَمُّشٍ، أربعةَ عشرَ كيلومترًا أمكن تَمَثُّلُه قناةً من صُنْع الإنسان، كقناة السويس، وإن كان أكثرَ عَرْضًا منها. والحقُّ أنه كان يوجد لِسِّبسُ في أقدم الأزمان، كان يوجد هِرْكُولُ الذي قيل إنه فتح البَرَّ ونَصَبَ عمودين تذكاريين، وما كان من حدوث منافذَ هنا كما في البُسْفور أُلْمِع إليه باسم دُوكالْيُون١٨ وفي بعض نصوص التوراة، وكان أرسطو وسنيكا وبُوفُون على ذلك الرأي. ووَجَدَ العربيُّ الكبيرُ، الإدريسيُّ، الذي وُلِد بالقرب من جبل طارق، حَلًّا فُولْتِيريًّا للمسألة، فقد رأى أن الإسكندر سَمِع حديثًا عما بين الإسبان والأفريقيين من قتال أزليٍّ فأراد أن يَفْصِل بعض هذه القبائل المتعادية عن بعضٍ بحَمْل عبيدٍ على حَفْر الأرض وَفْقَ تصميمٍ مُحْكم حتى فار البحرُ الأكبر في البحر الأصغر.
وليست قِلةُ العرض، بل قِلةُ العمق، هي التي يُوصَفُ بها جبل طارق، فهو ٣٢٠ مترًا فقط، وهذا هو من النقص ما لا تُبَادَل معه مياه البحرين مبادلةً ملائمة، وأحدُ الأَخَوَيْن غنيٌّ قويٌّ ولكن مع شُحٍّ، والأخُ الآخرُ موهوبٌ إلى الغاية بالغُ اللطافة، وعلى الأول أن يُعينَ الثاني، وهو يَصْنَع ذلك مع عظيمِ بُخْلٍ، والأطلنطيُّ القويُّ يَضْبِط نفسه، وذلك لأن منفذَه إلى أخيه، إلى هذه البحيرة ذات الأهواء الغريبة، قد حُفِرَ حفرًا ناقصًا، وقد سَمَّاه العرب «بابَ الزُّقاق»؛ أي باب الطريق الضيِّق، حتى إن الإنكليز دَعَوْه «المِعَى»؛ أي المَصِير،١٩ وأكثرُ ما يَخافُ المَلَّاحُ هو جبل طارق الضيِّقُ والقائمةُ على جانبيه جبالٌ تَبْلُغ من الارتفاع ألفي متر، دَعْ عنك ما يؤثِّر في الجوِّ والحيوان من عُمْق الأطلنطيِّ وقلةِ التجويف في عَتَبة ما تحت سطح البحر. ومما يُعْرَف أن حرارة ماء جميع البحار المحيطة تَنْقُص مع العمق، وليس للأطلنطيِّ سوى ثلاث درجاتٍ على طول الساحل الإسبانيِّ مع أن درجاتِ البحر المتوسط تَبْلُغ اثنتي عشرةَ أو ثلاثَ عشرةَ؛ ولذا يُعَدُّ اعتدالُ جَوِّ البروفانس والإغريق، وما يوجبه من جمالٍ، نتيجةَ قلةِ العُمْق في عَتَبة جبل طارق.

ومن كان ذا طبع ممتاز استطاع أن يُكَوِّن لنفسه شخصيةً وأن يَفِرَّ من تأثير العالم، ويظلُّ أمرُ هذا البحر شاذًّا لسببٍ آخر، لقلَّةِ سواعده، ونَغْفُل عن البحر الأسود الذي لا تؤثِّر سواعدُه الكثيرة المهمة في اقتصاد البحر المتوسط. ويَصُبُّ في البحر المتوسط نهرٌ واحد من أعظم الأنهار، يَصُبُّ فيه النيلُ الذي ليس له في مَصَبِّه سوى نَفَاقٍ قليل، ولا يتلقى البحر المتوسط غير أربعةَ عشرَ في المائة من واحدٍ في المائة من مجموع مياه الأنهار بأوروبة، ولا يُعْرَف، على العموم، غيرُ عشرين من الأنهار الخمسين سبب قلَّة أهميتها، وما تأتيه به الأنهار الثلاثةُ الرئيسة، الرُّون والْبو والنيلُ، لا يَعْدِل غيرَ ثلث ما يَبْخَر منه؛ وإذ إن البَخْرَ أهمُّ من الأمطار فإن سطح البحر المتوسط يظلُّ دون سطح الأطلنطيِّ مستوًى.

إذَن، على الأطلنطيِّ، أن يَصُبُّ، دومًا، مقاديرَ عظيمةً من الماء في ذلك الحوض الأدنى، ولكن هذا ليس من الكفاية ما يتوازن به المستوى وما يتعادل به المِلْح.

وهكذا يكون ماءُ البحر المتوسط أكثرَ مِلْحًا، ومن ثَمَّ أعظم كثافةً، من ماء المحيط الأطلنطي، وذلك على عرضٍ واحد، وتُعْرَف هذه الظاهرةُ مقدارًا فمقدارًا كلما ابتُعِدَ عن جبل طارق إلى الشرق؛ وإذ يَغْدُو الماءُ أشدَّ ثِقَلًا والضغطُ أكبَر قوةً، حتى في العُمْق الضعيف، فإن ذلك يؤدي إلى مجرًى تحت سطح البحر سائلٍ من جبل طارق، ومع ذلك فإنه يدخل من الماء دومًا أكثر مما يخرج منه.

وتختلف السُّنَنُ التي يَجْرِي ويَتَنفس بها المَضِيقُ الثاني؛ أي الدَّرْدنيل الذي يُسمى هِلِّسْبون أيضًا، اختلافًا كبيرًا، وفي ذلك يرتبط أجملُ أقاصيص الأغارقة الذين كانوا يُقَدِّسون للحُبِّ، لا للألم، والذين كان هواهم يزدهر بآلهةٍ لا يُحْصِيها عَدٌّ بدلًا من تحديده وتقييده بإِلهٍ واحدٍ غيرِ منظور.

فهنالك عاش ابن الغرام دَرْدَنوس الذي هو ولدٌ لزوُس وبلِيَاد إِلِكْترا، وهنالك كانت الكاهنة هِيرُو تستقبل حبيبَها لِيَانْدِر في كلِّ ليلة، ومن هنالك فَرَّ الأخُ والأختُ، فرِكْسُوس وهِلِّهْ اللذان هما من أنصاف الآلهة، على ظهر كَبْشٍ ذي جِزَّةٍ ذهبية، ولكن، وَا حَرَبَا!٢٠ تَسْقُط هِلِّهْ في المجرى وتَغْرَق، ومن هنالك قام الأَرْغُونُوت بَسَفَرهم ذي المهالك نحو كلُوشِيس حيث وَقَف فَرِكْسُوسُ تلك الجِزَّةَ الذهبية التي هي أداةُ شَهَواتهم على أحد المعابد، وما أعجب ذلك العالَمَ الذي كانت وَحدةُ الوجود تجد فيه رموزًا لجميع العناصر والذي كانت الآلهةُ تعيش فيه مَرْئيَّةً كثيرةً بين الآدميين! وكان جميع أولئك من صُنع خيالِ أناسِ ذلك الزمن، فكان الأبطال وأنصافُ الآلهة والآلهةُ لدى الأغارقة عُنوانَ مَرَاقٍ لِتَوْقٍ واحد.

والدَّرْدنيلُ في الشمال الشرقيِّ يُعَيِّن إيدروغرافية البحر المتوسط، ويتوازن كلا المَضِيقيْن، اللذين يُغْلِقَان البحر، بما يقضي بالعجب، فهنا، في بِزَنْطة التي دُعِيَت فيما بعدُ بالقسطنطينية فَتُسمى استانبولَ في الوقت الحاضر، تَنْفُذ الحضارةُ الآتية من العالم الآسيويِّ القديم، وهنالك من جبل طارق نَدْخُل العالم الجديد.

ويُعَدُّ البحر الأسود الذي يَنْفُذُ إلى البُسْفُور بحيرةً داخلية، وهو إذَنْ لا يُشْعِر بتأثيره بمثل قوة الأطلنطيِّ في جبل طارق، وهو يُمَثِّلُ من بعض الوجوه دورَ الأخ الثالث الذي يعيش هادئًا في عزلته مع ثباته على أوضاعه تِجاه أخيه الصغير ومع بقائه قادرًا على فرض مطاليبه عليه بغتةً، وهو إذ كان يَخْرُج من بحيرة عَذْبةٍ فإنه يَجْرِي جريًا سطحيًّا قليلَ المِلح إلى البحر المتوسط على أن يَتَلقى منه مقابَلَةً ماءً كثيرَ المِلح بمجرًى تحتانيٍّ.

وتُعَيِّنُ تلك المبادلةُ بين شخصين مختلفين حياتَهما الباطنيةَ مع محافظةٍ على حُسن الجوار، وتَبْدُو سرعة المياه، وإن شئت فَقُلْ سجية المياه، من التباين. ويبلغ ما يأتي به البحر المتوسط نحو الشمال من البطوءِ، ما تجب معه مدةُ ثلاثةِ آلاف سنة لملءِ البحر الأسود لو كان فارغًا، وما كان من نقص الأكسيجن في البحر الأسود الفقيرِ مِلْحًا، لا يُسْفِر عن غير تغذية حيوانٍ عاديٍّ، فكان هذا سببًا في الحَطِّ من صيت البحر الأسود حتى في زمن أوميرس، وذلك إلى أن ضِيق المَضِيق وقلةَ عُمقه يُعَجِّلان سرعة جريان السطح الذي يسيل إلى البحر المتوسط. وفي البسفور لا يزيد العُمق على ثلاثين مترًا في كثير من الأمكنة فيكون الجريان من السرعة ما يُضْطَرُّ صيادو السمك معه إلى جَرِّ مراكبهم بحبالٍ على طول الشواطئ لكيلا يَجْرُفَها المجرى.

وما يتصف به البحر المتوسط من طبعٍ عصبيٍّ يتجلى في المضايق على الخصوص، وفي هذا البحر الذي يكاد يكون داخليًّا تمامًا تُبْصِر تقلُّصًا في المَدِّ الطبيعيِّ الذي يُرَى في البحار المحيطة عادةً، وذلك من غير أن يَغِيب تمامًا، ولا يُشْعَر بالمَدِّ والجَزْر هناك إلَّا في أماكنَ قليلةٍ، وما يَظْهَر من تنفُّس البحار المحيطة العجيبِ، الذي يَرْبِطها بحياة القمر على ذلك الوجه، يَرْفَع العنصرَ البحريَّ فوق نَمَطِيَّة القارَّة العَبُوس، وفي البحر المتوسط تَبْلُغ هذه الظاهرةُ من الارتخاء ما تكون معه غيرَ محسوسة، ما تكون معه مماثلةً لموسيقى الغُرْفَة تِجاه جَوْقَة البحار المحيطة الكبرى. وفي البحر المتوسط لا يكاد يُشْعَر بالجَزْر مع أن الجَزْر يَقِف النظرَ في المضايق، والجَزْرُ ما يلاحظه المَلَّاحون في كلِّ مكان، حتى إنهم يقولون في لِفُورْن: «هو مملوء بالقمر»، والجَزْرُ يؤثِّر في المِلاحة حتى قَعْرِ أهمِّ الخُلْجان، والجَزْرُ مما نشاهده بأعيننا في البندقية وخليج كورِنث وسَرْت، وترى في كثيرٍ من الفُرَض العُوجِ ارتفاعَ الجَزْر من جهةٍ وانخفاضَه من جهةٍ أخرى دائمًا، فيؤدي اختلافُ المستَوَى إلى مجارٍ خَطِرة، وتجد جميع ذلك مُسَجَّلًا في كُتب قدماء العلماء.

وإذا ما استشهدنا بالأغارقة، غالبًا، فيما يأتي فذلك لِمَا يَبْهَرنا من إلهام هؤلاء القوم، من نبوغ هؤلاء القوم، الذين استطاعوا أن يَمْزُجوا الملاحظة بالفكر مَزْجًا نافعًا غيرَ مستعينين بآلاتٍ فأصبحوا الشعبَ الفيلسوفَ حقًّا، وهكذا نَعَتَ أوميرسُ الأقيانوسَ ﺑ «الذي يجري وئيدًا»، وأبصر صخرًا يَبْرُز من البحر ثم يُسْتَر به، وعند أفلاطون أن البحر يَدْفُق من مغاور الأرض بشدة حينًا ويرتدُّ إليها حينًا آخر، ويُسَمِّي هيرودوتس حتى اسم حكيم سامُوس الذي أغرقته الآلهة في اليمِّ٢١ فكان أولَ شاهدٍ على الجَزْر، ثم يُعَيِّن قيصرُ القمرَ كسببٍ للجَزْر الاعتداليِّ الأكبر، ويَسْبِق بلينِي في نبوءاته كيِبلرَ ونيوتنَ في نصف اكتشافاتهما.

وفي الفيزياء الحديثة تفاسيرُ أخرى لتلك الظاهرات، فهي تَعْزُوها إلى ضِيق مَضيق جبلِ طارق وإلى وَضْعه الغربيِّ الذي يواجه ما بين جَزْر الأطلنطيِّ الصاعد والبحر المتوسط، وكثيرًا ما يَفْقِد ضباطُ البحرية صبرَهم إزاء أهواءِ هذا العنصر، ومن ذلك أن أميرالًا إنكليزيًّا كان يقود في سنة ١٨١٠ سفينةَ مِدْفعيةٍ أمام قادس فاشتاط غيظًا لِمَا وَقَعَ من ارتفاع الجَزْر قبل الوقت المُعَيَّن في جداوله بساعتين.

وينشأ عن المضايق، بحكم الضرورة، مجارٍ من كلِّ نوع مستقلةٌ عن الجَزْر. وكان مَضِيق مَسِّينَة، الذي كاد يقضي على حياة أُولِيس، مسرحَ كثيرٍ من الغَرَق بين سِيلا وكارِبْد، ويُرَى أن هذا المَضيقَ معاصرٌ لمضيق جبل طارق والدردنيل إذا ما صُدِّق القدماء الذين يُعْزُون هذه الثُّغْرة بين إيطالية وصِقِلِّية إلى فَرْع أُورْيُونَ بن نِبتُون، ويَرَى علماءُ الأرض في ذلك فَوَرانًا سابقًا للأَوان ثارَ من إِتْنَه فأوجب فتح المَضِيق بغتةً. وإذا كان الأساتذة قد فَسَّرُوا إحدى الأساطير بمثل هذه السهولة جاز لنا أن نأمُل صدور قِصصٍ في يوم بعيد عن واقعيتنا المُبْتَدَعة وعن جداول أرقام الرياضيين يُعْرَض فيها مهندسونا مثلَ أنصافِ الآلهة الذين وَرَدَ ذكرُهم في الأساطير.

ويمكن عاصفةَ كارِبْد، فيما وراء رأسِ مَسِّينَة، ومع عَرْضِ ثلاثين مترًا وطُولِ ثلاثمائة متر وانخفاضِ جَزْرٍ، أن تَحْمِل السفن على القيام بنصف دَوَرَان. وإذا كانت الأرض في أقرب نقطةٍ من الشمس والقمر، وحين الاقتران في اليوم الحادي والعشرين من مارس، فإن الجَزْرَ العاليَ يَبْلُغ عشرين قيراطًا. وكانت مباغتاتُ تلك العاصفة معروفةً عند قدماء الرَّبَابِنة فيُنْتَفَع بها في المعارك البحرية، فمن الأساطير إذَن كَوْنُ نِلْسُنَ أولَ مَنْ دخل هذا المَضِيق.

ولا تستطيع السفن أن تَخُوضَ في المضيق بين جزيرة أُوبِه والإغريق القارِّيِّ؛ حيث لا يزيد عرضُ البحر على خمسة وثلاثين مترًا، إلا في أثناء السكون القصير عند انعكاس الجَرَيانات. وإذا كانت الرياحُ الكبرى لا تُدَوِّي في البحر المتوسط كما في الأُقْيَانوس فإن الزوابعَ والجَرَياناتِ والدَّورانات المفاجئةَ كثيرةٌ فيه، وإذا كان من الممكن أن يَبْلُغ ارتفاع الموج في الأطلنطيِّ خمسةَ عشرَ مترًا فإنه لا يَبْلُغ في البحر المتوسط أكثرَ من خمسة أمتار، ولكن مع كون ارتداد الأمواج في البحر المتوسط التابع لهواه أعنفَ مما هنالك. والأمواجُ في هذا البحر، وإن لم تكن منتظمةً طويلةً، تبدو قصيرةً مفاجئة هائجة، وإذا مَرَّت سفينةٌ بين الجزائر الكثيرة وأخذت الريح في الهُبُوب من السواحل الجبلية وسارت صافِرةً بين صخور الفُرَض أحسَّ المَلَّاحُ دُوَارًا بأسرعَ مما يُحِسُّ في البحار المحيطة. وقد تبلغ الرياح الشرقية في مَصَابِّ بعض الأنهار، في جَنوب صِقِلِّية على الخصوص، من سَوْط البحر ما تَقْذِف معه الأسماكَ والآدميين إلى الشاطئ.

٤

من المحتمل أنك لا تجد شيئًا أعان على ذُيُوع صيت البحر المتوسط كلونه، وللبحر المتوسط زَرَقٌ عميق، والبحرُ المتوسط يَسْحَر بصرَ مَنْ يبحث في البحار المحيطة، عَبَثًا، عن ذلك اللون النادر في الطبيعة نَدْرَ الأخضر، والحقُّ أن السماء الزرقاء تنعكس سَمَنْجُونيَّةً٢٢ في جميع خُلْجان العالَم وبحيراتهِ وأن سُمْرَة الشتاء تَنْشُر ظلَّها على البحر المتوسط.

ويُلْقِي الزمنُ المتقلب نورًا وظلًّا على المناظر الأرضية، ويُنْعِم عليها بذلك الانسجام العامِّ الذي يُعَيِّن اللون ويحوِّله في الطبيعة كما في الخُلُقِ البشريِّ بلا انقطاع، ويؤثِّر الزمن أيضًا في مصير البحار والجبال مُغَيِّرًا لها بين يومٍ ويوم، ومما يُكَدِّر نورَ ما بعدَ الظهر المسحور سحابةٌ أو هَبَّةٌ أو ظلٌّ، وذلك كما لو مَسَّ الموتُ بجَناحه زوجين بَشَرِيَّين يَطْفَحان بِشْرًا مَسًّا خفيفًا.

ومع ذلك يوجد للروح لونٌ أساسيٌّ يُنير، أو يُكَدِّر، عناصرَ القلب الإنسانيِّ كعناصر الطبيعة، وهو ينسابُ في كلِّ مكان، وهو، وإن كان يستتر تمامًا في بعض الأحيان، لم يُعَتِّم أن يَظْهَر ثانيةً، وهذا هو اللون الأساسيُّ الذي يَرْفَع شأن البحر المتوسط، وهل حَدَث مَرَّةً أن أسفر ما لا حَدَّ له من مساوفِ البحر الأطلنطيِّ أو الباسفيِّ عن وَضْعِ قصائدَ أو إيحاءٍ إلى شاعر؟ وهل وَقَع، بعد أن نَعْدُوَ نُوَا نُوَا لِغُوغَن،٢٣ أن أوحت البحار المحيطة البعيدة بصُوَرٍ ذاتِ ألوان لطيفة؟ فالبحرُ المتوسط وحدَه هو الذي له مَوْهِبةُ الإلهام هذه، ولو حُمِلْنا على تعريف شكل روحه لقلنا إنه بحرٌ أزرقُ، إنه بحرٌ باسمٌ، ومتى ثارت العواصف فيه، ومتى هاجت أمواجه، ومتى استدارت مهالك مَضِيق مِسِّينَة، ومتى عَزَفت رياح أَقْرِيطش حول رأس مَتَابان، ذَكَرْنا حدوثَ عاصفة تقطع سِنْفُونية٢٤ بِتْهُوفن الريفية، وعلى ما كان من غَزَواتٍ حربيةٍ ومعاركَ بحريةٍ، ومن تَحَطُّمِ سُفُنٍ وغَرَق، لا يَلْبَث سماءُ البحر المتوسط أن يَنْجَلِيَ كما لو كان يَعُود إلى طبيعته الحقيقية. والحقُّ أن هذا بحرٌ رِعائيٌّ، ولو من أَجْل ما تشتمل عليه مئاتُ المطاوي في شواطئه من المناظر والملاجئ حيث تنبسط دومًا خُلْجانٌ زُرْقٌ جديدةٌ محاطةٌ بصخور وَعِرَةٍ وغاباتِ صَنَوْبرٍ شائكة وأشجارِ زيتونٍ سُمْرٍ ذواتِ أوراق ناعمة. ومع ذلك وُجِدَ منذ القديم مَنْ جادل البحر المتوسط في أمر ذلك اللون الأزرق، ولا غَرْوَ، فهو إذا ما اضطرَب أَظْلَم كفؤاد الإنسان، وهنالك يصفه أُومِيرس ﺑ «الأُرجوانيِّ والخَمْرِيِّ والذَّاوِي والبنفسجيِّ»، ومن الأغارقة فريقٌ يسميه «البحر الأبيض» مقابَلةً ﻟ «البحر الأسود»، ومن العلماء المعاصرين رجالٌ يُصَرِّحُون بأنه «عديمُ اللون» غافلين عن وجوب النظر إليه بعيدًا من الشاطئ حتى يَرَوْه أزرقَ. وعند المَلَّاح أن إظْلَام الماء علامةُ العاصفة، وأن الأخضر دليلُ الإخضال، وأن الأزرق آية العُمق الكبير، ولكن الجميع، ولكن القدماء والمعاصرين والشعراء والمسافرين، تَغَنَّوْا بما عليه البحر المتوسط من صفاءٍ بِلَّوْرِيٍّ، حتى إن العالِم الطبيعيَّ يَعْزُو لونَه السماويَّ إلى رَوْق مائه العميق ما دامت الأشعة اللامعة في مثل تلك البِيئة منحرفةً كثيرًا، وليس غارُ كابري المشهورُ إلَّا من عجائب ما يتصف به البحر المتوسط من ضِياءٍ سائل.
وتنتقل العين من هذا اللون الصافي المُصْمَت٢٥ إلى الإطار، إلى مُتَنوِّع الأشكال التي تُرَصِّعُ هذه الصورةَ الساكنة الخالدة، وارْجِع البصرَ إلى الخريطة تَرَ ما لجميع الجُزُر والشواطئ من طبيعة جبلية، وذلك عدا الطَّرَف الجَنوبيِّ الذي يمتدُّ مستويًا صحراويًّا من تونسَ إلى القدس، ومن السُّهُوب الحزينة ما يلوح أنه إطالةٌ لسطح البحر على خطٍّ أصفرَ ممتدٍّ وفْقَ نَمَطِيَّةٍ لا حَدَّ لها، وتسيطر جميع الشواطئ الأخرى على السفينة التي تمُرُّ بما تُوحِي به من جبال وأوديَة وفُرَضٍ وأنهارٍ وغابات وقِطَاعٍ وثمارٍ وخَمْرٍ في سَنَةٍ بلا شتاء.

ويَنْعَشُ تلك البُقعةَ بأَسْرِها ما في الأسماء القديمة من رِوَائية، وما كنا إلا لنجهلَ، غير مكترثين، أمرَ جزيرةٍ لها منظرُ دِلُوس، ولكن على ألَّا تحتوي اسمًا ذائعًا في أيِّ مكانٍ كان، في طول المحيط الباسِفيِّ الواسع العابس وعرضِه مثلًا. وإذا كان أحد البيوت في الأرياف يثيرنا لإقامَةِ وَشِنْغتُن فيه سابقًا، فما أكثر ما تحرِّكنا رِحلةٌ في ذلك البحر الذي تشترك في تاريخه جميعُ الأمم والذي تَنْفُذ إليه أنهارٌ أُسطورية أكثر من أن تكون حقيقيةً؛ أي أنهارُ جميع الحضارات التي نَظَّمَتْ حياتنا الداخلية!

وذلك أن التاريخ يَنْعَشُ الجغْرافيةَ، والتاريخُ هنا أشدُّ حرارةً مما في أيِّ مكانٍ من الدنيا، وذلك لأن كلَّ ما يرفعنا فوق الإنسان الفطريِّ يأتينا من البحر المتوسط.

ويَظْهَر أن الإقليم عاملٌ حاسم، فما كانت الأفكار والأعمال الصادرة عن أدمغة أبناء البحر المتوسط وخيالاتهم لتَنْبُتَ تحت ضغط شمس البلاد الحارَّة، ولا لتزدهر في مكافحة البرد، وما كانت وجوه الإنسانية ومبادئها لتَنْضَجَ في الغابات الاستوائية البِكْر، ولا في غابات جِرْمانية القديمة، وذلك لِمَا يؤدي إليه النضال الدائم تِجاه الحرارة البالغة أو البردِ الزائد من جعل الناس سِقامًا أو عُنُفًا، وتَنْمُو العبقريةُ في المِنْطقة المعتدلة، وفي هذا تَجِدُ سِرَّ انجذاب عظَماء أُوروبيي الشمال، من متفننين ومفكرين، ومن أباطرةٍ أحيانًا، إلى البحر المتوسط على الدوام.

وغَدَا «إقليم البحر المتوسط» فكرةً قائمة بذاتها، والبحرُ المتوسط هو ما يُذْكَرُ في كَلِيفُورْنية والشِّيلي الأوسط وفي رأس أُوسترالية الجَنوبيِّ الغربيِّ حيث يتشابه العرض والطول، حيث يتماثل هذا العاملان الأساسيَّان لكلِّ إقليم، بَيْدَ أنك لا ترى في جميع تلك البقاع بحرًا يَنْقُر القارَّة الصَّمَّاءَ نقرًا عميقًا.

والبحر المتوسط وحدَه هو الجامع لجميع العوامل التي تتمازج إبقاءً لاطِّرَاد عُذُوبة الإقليم، والناسُ في هذا الإقليم يَنْمُون مسرورين منسجمين مع وَلَعٍ بالفنون ومَحْصٍ لحضارتهم، ومع ذلك يجب أَلَّا يُغْفَل عن بعض جهاتٍ كشمال إيطالية وعن بعض استثناءاتٍ كأثينة والقدس؛ حيث يتراشق الأولاد بكُرَاتِ ثَلْجٍ، وعن بعض شواذَّ كالبُسْفور المتجمد؛ حيث أمكن المرورُ من أوروبة إلى آسية على الأقدام ذات حين.

ووَضْعُ البحر المتوسط كما يدلُّ عليه اسمه هو تمثيل دور الوسيط بين إقليمين متقابلين. وبينما تَجْلِبُ رياحُ المحيط المطرَ إلى أوروبة الجَنوبية والوسطى في أثناء جميع السَّنة تظلُّ الصحراء في أفريقية الشمالية جافَّةً دومًا بفعل الرياح التي تَهُبُّ بين دائرتي الانقلاب من الشرق إلى الغرب، فيبدو البحر المتوسط واسطةً بينهما، ففي الصيف تسيطر هذه الرياح الشرقية على أمواجه وفي الشتاء يأتي المطر من الشمال الغربيِّ، وتَعْرِف الإسكندرية سبعةَ أشهرٍ من الجَفاف وتَعْرِف بِزَنْطة شهرين منه، وبينما يَنْزِل مليمتران من المطر على مالطة يَسْقُط منه سبعةَ عشرَ على رومة وسبعةٌ وسبعون على تريستة. وعلى العموم يأتي شهرُ ديسمبر بأعظم الأمطار ويأتي شهر يولية بأقلِّها حتى في الشمال، وهذا الجوُّ الكثيرُ الاختلاف حرارةً هو أشدُّ اضطرابًا من جَوِّ الإقليميْن المجاورين. والواقعُ أن الرياح في الجزائر الإغريقية هي من العُنْف العظيم ما لا تَنْمُو معه الأشجار عاليةً، ولا شيء في البحر المتوسط يَقِفُ الخيالَ الشعبيَّ أكثرَ من الرياح التي تختلف أسماؤُها بين لغةٍ ولغةٍ فيوجب هذا ضروبًا من الارتباك، وأكثرُ ما يُخَاف حتى القفقاس باسم بُورِه٢٦ يُسَمَّى في فرنسة بالمِسْترَال، وهو ريحٌ باردةٌ، جافَّةٌ عَفْراءُ على العموم، وتأتي هذه الريح من المناطق الباردة ذاتِ الضغط الجويِّ المرتفع في القارَّة لتملأَ ما فوق البحر الحارِّ من الانخفاض. وهكذا يظهر المِسْترَالُ من جبال الألب فينقضُّ على وادي الرُّون في سَوَاءِ حَرِّ الشاطئ فيَرْبُكُ الحياةَ فيه، وَيَثِبُ المِسْترالُ على مَرْسِيلْيَة مرةً في كلِّ يومين فيَبْدُو مثلَ شخصٍ مشئوم يُحِبُّ النومَ بضع ساعات ليلًا حتى ينطلق صاخبًا صباحًا، وقد حاول أُغسطس أن يُسَكِّنه فأقام له معبدًا. واليوم تَحْمِي صفوفُ السَّرْوِ بساتينَ البروفنْس منه، ويخرج رَمْزُ الشمال ورسولُه هذا من جبال الأَلب الجانبية، وتنشأ عن اصطدامه بالريح الحارة والفاترة الآتية من البحر عواصفُ يُذَكِّرنا عُنْفُها وقِصَرُ دوامِها بمغازي البرابرة، وإن شئت فقل بغارات الوِنْدال المُتَجَدِّدة على الدوام.

وغيرُ ذلك الريحُ الشرقية المعروفةُ بالسَّموم وبالخَمَاسِين، والتي قد يَدُل اسمُها على رياح كثيرة أخرى، ويُسَمِّي العربُ ريحَ الجَنوب المُحْرِقة «مطرَ الدَّم واللَّبَن»، وتؤدِّي هذه الريح إلى شُحُوب السماء، وتُلَوِّن كلَّ شيء بالأصفر، وتحْجُب الشمسَ وتُهَيِّج الجلد، وتُعَرِّض محاصيلَ الزيتون والعِنَب للخطر، وتَكْثُر الزوابع في أقسامٍ من البحر المتوسط، ولا سيما نحو البحر الأدِرْيَاتِي، وهي قد بَلَغَت من الكثرة درجةً نُظِّمَت معها المِلاحة بالسُّفن الشِّراعية فحَظَر مجلسُ البندقية البلديُّ سَفَرَ هذه السفن بين نوفمبر ويناير، وتُشَابِه طبيعةُ الريح الشرقية الحقيقيةِ طبيعةَ ريح العرب التي تأتي مِثْلَها من أفريقية فتُوغِل في البحر المتوسط، وفيما ترى المِسْترَال، الذي هو رسولُ بلاد برابرة الشمال، يُزيغُ المقطوراتِ عن الخطوط الحديدية تَرَى الريحَ الشرقية، التي هي ألطف من ذلك، تُفَسِّخ خَشبَ الأثاث وتُجَفِّف الفواكه وتُقَوِّض كلَّ شيء بالغُبَار، وهي تُوهِنُ الإنسان بما تَجْلُبه من الحرِّ الذي لا يُلَطِّفه الليلُ أبدًا.

وقاوم القرونَ والرياحَ «بُرْجُ الرياح» القديمُ الذي نَقَشَ أَهلُ أَثِينَة عليه رموزًا مناسبةً فيما مضى، وتُبْصِر في الذُّروة منه إلهًا بحريًّا مصنوعًا من حديد مُتَحَوِّلًا ممثلًا دور رئيسٍ لفرقة موسيقية مشيرًا بصَوْلَجانِه إلى الجهة التي تَهُبُّ منها الريح، وتُبْصِر على أطرافه صُوَرًا مُجَنَّحَةً بارزةً ممثلةً طورًا برابرةً غِلَاظًا يَرْمُزُون إلى رياح الشمال الباردة وممثلةً طورًا أشباحًا شَبَابًا لابسين ثيابًا خفيفة يَرْمُزُون إلى النِّسَام اللطيفة، ويُسيلُ الماءَ من إناء كِيرُونَ المُغَطَّى دَفِيئًا واللابسِ جُرْمُوقًا والذي يَرْمُز إلى ريح الشمال الغربيِّ كدليلٍ على ما يأتي به من المطرِ في بعض الأحيان، ويتقدم الشابُّ الشِّبْهُ العاري: زِفِيرُ تقدمًا وئيدًا طليقَ الوجه فتَنِمُّ الأزهار التي يَجْلُبُها على ملاءمته للحدائق، ويَسْترُ بُورِه أنفَه وفمه بِمِعْطَف فيلوح أنه يَرْتَجِف بَرْدًا كبعض مُبْغِضي البشر، وذلك نتيجةً للقُرِّ٢٧ الذي يَنْشُره حولَه. وهكذا كانت الرياح تُسامِرُ أهلَ أَثِينَة في عصر الآنية المزخرفة بالأسود والأبيض، ويَمْضِي أَلْفا عامٍ فَيْرقُصُ دراويشُ التُّرْك في أسفل ذلك البُرْج، واليوم تنتظر أثَنِيَّةٌ هيفاءُ في سيارتها حبيبًا لها بالقرب من برج الرياح ذلك فتُكَاشِر٢٨ زِفيرَ وتَغْمِزُه بعينها.

وظَلَّت حرارةُ البحر المتوسط متساويةً بتفاوت طوله، وذلك إلى أن الساحل الشماليَّ أمينٌ بجبال الألب وإلى أن البحر الأسود يَتَلَقَّى بردَ سُهُوب روسية القارسَ، وفي هذا تفسيرٌ لجوِّ نابل الصحيِّ وجو القسطنطينية الخَطِر، مع أن كلا المِصْرَيْن واقعٌ على عرض واحد.

والبحرُ المتوسط صِحِّيٌّ في جميع أجزائه تقريبًا، ويكادُ البحر المتوسط لا يَعْرِف الأمطارَ القارِّيَّةَ الطويلة المُتْعِبة، وتَجِدُ ساعةً مُشْمِسة حتى في أسوأ أيامه، وتُبْصِر منافَسةً بين مَطَرَاتِه المفاجئة وزلازله وزوابعه، ولكن الهواءَ يستردُّ صفاءَه والأفقَ رَوْقَه بسرعة متساوية. ويمكننا أن نكتشف هذه الحقيقةَ في نَقَاء الخطوط التي تُزَيِّنُ آنيةَ الأغارقة أو في مَرَح أُومِيرس وهُورَاس، وتَرْكُم بِقاعٌ لا يجاوز أعلى جبالها، كإتْنَة والأُلَنْب وسِيِرَّا نيِفادا، ثلاثة آلاف مترٍ ثَلْجًا قليلًا ولا تَدَّخره أبدًا، ويبدو سطحُ البحرِ أَحَرَّ من الهواء الذي يلاعبه في جميع السنة تقريبًا، فأين تَجِدُ مثلَ هذا الانسجام؟ ودوائرُ الانقلاب وحدَها هي التي يمكن أن تَعْرِضَ بُقْعةً أخرى لا تَحْجُب السُّحُبُ سماءَها إلَّا نحو أربعةٍ وأربعين يومًا في كلِّ عام.

ويُقَدِّسُ الفَلَّاح لذلك الإقليم، ولو أَعْوزه المطر أحيانًا، ويستقبل المَلَّاحُ نورَ النجوم ليلًا، والشتاءُ موجودٌ مع ذلك، وكانت «سماءُ إيطالية الزرقاءُ الخالدة»، التي تَكَلَّم أجدادُنا عنها، تَبْدُو زرقاءَ أيضًا لعدم زُرْقتها في كلِّ حين، ويوجدُ حتى الثلجُ، ولكنه لا يُخْشَى كما أن البردَ لا يُخْشى، ويُظْهِرُ البحر المتوسط اتزانَه الروحيَّ فلا يخاف الضِّدَّين، ويحاول البحر المتوسط ببصره ألَّا يُبَاغَت مع ذلك، فهو يبقى في الظلِّ عند اشتداد الحَرِّ وهو يَمْضِي بمِعْطَفِه وقتَ المساء!

إذَنْ، كيف يُمْكِنُ فَلَّاحًا من الشمال، يَقْضِي قسمًا مهمًّا من حياته بجوار مُحْتَرَفه أو مُرَاحه٢٩ أو مطبخه، أن يكون ذا خَطْوٍ خفيف ووجهٍ طليقٍ كأهل البحر المتوسط الذين يكادون يَقْضون جميع أوقاتهم في الخارج؟ ومع ذلك لا يقتطف فَلَّاح البحر المتوسط ثمارَه بسهولةٍ كما يَفْعَل زِنجيُّ أُوغَنْدة، وما يؤدي إليه عدمُ المطر من عيشه في الهواء الطَّلقِ يَحْمِلُه على أعمال الرِّيِّ، وليست حياتُه أطولَ من حياةِ الجرمانيِّ ولكنها خيرٌ من هذه، وله وِقَايةٌ بالحَرِّ من غير إرهاق، وهو لا يحتاج إلى العمل الشاقِّ، وما يناله من محصولٍ عاديٍّ يكفيه، وكلُّ ما يحتاج إليه هو الحبوبُ والزيتون والخمر والتبغُ تقريبًا، أَجَلْ، لا يعيش عاريًا كالزِّنجيِّ، وهو يُقَدِّر الزخارف، غير أنه يكتفي عادةً بدُرَّاعة٣٠ وبَعْمَرةٍ،٣١ وقد تَعَوَّدَت رِجلاه الأرضَ الحَجَرِيَّة بالوِراثة.

وهكذا ظهر في إقليمه نوعٌ من الحياة يتعاقب من غير تَحَوُّلٍ في غضون الأجيال ويتكرر برجوع الأوضاع نفسها مع الأدوار والحدود التي لا تستطيع الطائرة ولا الإذاعة أن تُغَيِّرها. وذلك لأنه حينما يَجْلِس للشرب تحت عَرِيشه فيَلُفُّ سغايرَ ويَبْصُق وينتقد حكومته تكفيه نظرةٌ إلى السماء الصافية وإلى البحر الأزرق لتطمئن نفسُه وتَقَرُّ عينُه.

٥

يَمَسُّ البحر المتوسط ثلاثَ قارَّاتٍ، ولكنه يَجْمَعها بدلًا من أن يُفَرِّق بينها، ولو كان من هَوَى إلهٍ قديم أن يَجْرِيَ هذا البحر من مَضِيق جبل طارق وأن يُخْصِبَ بقوةٍ سحرية حوضَه الذي يَجِفُّ وأن يَغْدُوَ حوضُه هذا معمورًا لأصاب العالمَ القديمَ وَصَبٌ، وهل كان العالم الحاضر يصير أكثرَ ثراءً لو كان قد خَلَفَ الآلهةَ مهندسٌ فأزال مياهَ تلك المِساحة العظيمة بعملٍ أُسطوريٍّ وأضافها إلى أوروبة الزاخرة بالسكان؟ ما كانت أوروبة، أو هذا الرأسُ الآسيويُّ الصغيرُ، لتُكَوَّنَ لو تألَّفت منها ومن أفريقية الثابتة كتلةٌ واحدة، والبحرُ المتوسط وحدَه هو الذي أوجب الحركةَ التي سَمَا بها العالم الغربيُّ إلى نور الفكر. وإذا كانت ذاتُ العبقرية الجامحة أوروبةُ الصغيرةُ قد استطاعت أن تتخلص من آسية وأفريقية، من هذين التمثالين الثقيلين، فإنها مَدِينةٌ بذلك للبحر المتوسط الذي فصلها عنهما والذي تَشُقُّ عُبَابَه ألوفُ السفن ذهابًا وإيابًا كرسائل الغرام بعد الفراق.

وتكفي نظرةٌ واحدةٌ على الخرائط العجيبة التي تَعْرِض علينا رموزَ العالم لإثبات تحويل البحر المتوسط لذينك الغُولَيْن الراقدين، ولم تُعَتِّم جموعهما الناقصة؛ أي جُزُرُهما وسلاسلُ جبالِهما وجحفلُ جزائرهما حَوْلَ الخُلْجان، أن أخذت تنتظم، وما كان من اختلاط الأرض والماء الذي نَجَم عن ذلك، ومن سخاء السُّعاة الذين ظَهَروا لاختصار المَسَاوِف يَلُوح أنه نتيجةٌ لإرادة القارَّات الثلاث التي سلَّمَت أمرها إلى البحر لتبادِل حضاراتها، ومن الصحارى والجبال ما يَفْصِل بلادَ الساحل عن الجَنوب والشرق فيؤلِّف وَحْدَةً لها في حياتها الخاصة، واليوم تشتمل مِنْطقة البحر المتوسط على ثلاثة أرباع أوروبة وعلى ثلاثة أرباع تاريخها، ومن البحر المتوسط أخذت أوروبة كلَّ شيء تقريبًا، وذلك من غير أن تأتيَه بشيء، وعكسُ ذلك ما اتَّفَق لآسية.

وهنا نُرَدُّ بمباحثنا إلى العناصر، فنرى أَن الطبيعة هي التي تُعَيِّن تاريخ الأمم أو أنه يتأثَّرُ بها تأثُّرًا عميقًا على الأقل، وما في الأمواج من جريان، وما في اصطراع الأرض والماء من تبدُّل، وما في عالم الأسماك والأشجار من تغيُّر، ذو انعكاسٍ على النموِّ البدنيِّ والاتجاه الروحيِّ لكلِّ واحد، ولو من غير شعورٍ بذلك، ولو مع محاولة الابتعاد عن ذلك، ومن تَنْدُر دراستُه للطبيعة أو إدراكه لأمرها فيقضي العجبَ من تدخُّلها في الغالب ولكن بعد الأوان. وقد قال نابليون إن العناصر، لا الأسلحةَ، هي التي قهرته، وإنه لم يُقَدِّر ثُلُوجَ روسية تقديرًا مضبوطًا، ولا نستطيع أن نَفْقَه ما نرى تكاثرَه على شواطئ بحرنا ما لم يكن لدينا سابقُ عرفانٍ بما يَعْمَلُ ويَعِيشُ في الأمواج وما يَنْبُت على طول الساحل.

وتَنْعَش مجاري الحياة الاقتصادية والحروبُ وتنافسُ الأمم مُدُنَ الساحل كما تُعَيِّن الرياحُ حالَ الجوِّ، وإذ إن للبحر المتوسط طبيعةَ بحيرةٍ تقريبًا فإن هذه الطبيعة تجعل ذلك الاصطراع مُنَوَّعًا أكثر مما في أيَّ مكان آخر، وما يتصف به من كَثَافة ماءٍ واختلافِ مستوًى وحرارةٍ وكثرةِ جُزُرٍ وفُرَضٍ يَمأَى٣٢ الجرياناتِ التي تُعَيِّن حيوانَ البحر ونباتَه، وكذلك تُعَيَّن حياةُ الأنام على الشاطئ بفَوران الجريانات الذهنية الدائم.

وتُنَظِّم المضايق تلك الجرَيَاناتِ على وجوهٍ مختلفة، وهكذا يُمَثِّل الدَّرْدَنِيل دَوْرَ تُرْعَةٍ عظيمةٍ بين بحرين، ويَكْثُر ما يرسله البحر الأسود من ماء ما دام بَخْرُه أضعف من اندفاع نُهُرهِ الكبرى ومع بطوء ما يأتي من البحر المتوسط، ويُعْرَفُ «البحر الأحمق» في ساحل صِقِلِّية بأنه يبتلع البواخر الكبيرة فضلًا عن الزوارق، ولا غَرْوَ، فهو جريانٌ يَدُور من فَوْره.

وبجانب القُوى المُقَدَّرة التي تَصْدُر عن تلكْ الأعماق بغتةً، يَبْدُو ذلك البحر المُلْغِز كبعض العظماء الذين ينطوي ابتسامهم على وعيد فيستطيع أن يجيء بمفاجآتٍ ناعمة، ومن ذلك جَرَيانات مائه العذب التي لا تختلط بماء البحر، وكان مُعْظَم هذه الينابيع مألوفًا لدى القدماء، ومن هذه الينابيع واحدٌ في خليج سِبيزْيَة وآخر في تَرَانت، فيمكن صَيَّادي السمك عند العَطَش أن يستخرجوا من كلٍّ منهما ماءً صالحًا للشُّرب في وَسَط الخليج، ومثلُ ذينك اليَنْبُوعين يَنْبُوع أَرِيتُوزُ الواقعُ بالقرب من سَرَقُوسَة والذي تَغَنَّى به الشعراء. وفوق تلك الجهات شبهِ الرِّعائية يشتدُّ اعتراكُ الأرض والبحر، وعَمِلت الرياحُ والجَرَيانات عملًا مضاعفًا في الشواطئ فأَدت هَجَماتُ البحر إلى سقوط طرائدَ٣٣ كبيرةٍ من الأرض إلى الماء في أَزمنة ما قبل التاريخ غالبًا، غير أن الغِرْيَنَ الذي كَشَفَتْ عنه المُسْتَحاثاتُ البحرية، ورُكِمَ في غضون الزمن، كان قد حَمَل القدماء على تغيير مرافئهم التي تُمْلأُ رملًا.

وهنالك، على مستوى الشواطئ، يوجد الميدان الأكبر للصِّراع بين الأرض والبحر اللذين يتقاتلان ويدافع كلٌّ منهما عن الآخر مناوبَةً، والبحرُ يناطحُ الصخور القاسية على غير جَدْوَى، ولكنَّ كلَّ ما ينفصل عنه يَسْقُط في قعر الماء، والبحرُ يَقْرِضُ رواسبَ الطين على مَهْل، ولكن سيلًا جبليًّا يكون كالمُحَارب الشابِّ الذي يُلَبِّي نداءً فيُعَوِّض في بضع ساعات من المكاسب التي نالها البحر في أشهرِ تَولُّجٍ بطيء. وفي البحر المتوسط يَعْقُب خطُّ الساحلِ الصخريِّ المُفَرَّضُ، مناوَبةً، ما في الشواطئ الرملية من مُنْحنياتٍ طويلة، بيضيةٍ على العموم، ويُكْتَبُ الفوز للبحر في أسفل الأودية الخُسُف وفي دِلْتات الأنهار عندما تنثني المجاري الرئيسة باحثةً عن مصابَّ أخرى.

وفي هذا الصراع بين البحر والأرض، تكون الأرض خاسرةً على الدوام، وذلك بتواريها تحت الأمواج كِسْرَةً بعد كِسْرَة، أو بانضمام رواسبَ غِريَنِيَّةٍ إليها، وفي كلتا الحالين يسيطر عليها العنصر المعاكس، وليس في سوى الزمن الحديث ما استطاع الإنسان بحِذْقه أن يَحْمِيَ الأرض من البحر، وما وجده المهندسون المعاصرون من فائدة في تجفيف بعض أجزاء البحر في هولندة وما أراده أولياء الأمور ومُحِبُّو الإنسانية من اقتطاع أَرَضِينَ جديدةٍ من البحر أسفر عن تحقيق المتعذر، غير أن الماءَ في حوض البحر المتوسط ما انفكَّ، في جَوٍّ ملائم لعمله، يَدْرُسُ الساحل منذ القديم.

وأولُ ما نرى الأبُ الشائبُ النيلُ الذي بَلَغَ غِرْيَنُه من رَمْلِ الساحلِ السُّورِيِّ ما غَدا معه المرفآن، صُورُ وصَيْداءُ، واقعيْن داخلَ الأرضِين في الوقت الحاضر. وكان الإسكندر قد أقام سَدًّا يَصِلُ جزيرةَ صُورَ بالشاطئ، فجعل الغرينُ هذا السَّدَّ عريضًا كما لو كانت العناصر قد وافقت على فكرة العاهل.

وبين بُورسعيد وغَزَّة يشاهِد المسافرون المعاصرون، الجالسون على ظهر المركب والمدَخِّنُون بعد الغَدَاء، منظرًا مؤثِّرًا لكُتَلٍ من الطين الأسود واسعةٍ كالجُزُرِ تَدْنُو من سفينتهم لِتَنْحَلَّ وتزولَ عند مَسِّها المُقَدَّم، ويَرْكُم النهرُ الذي نُهِك برحلته الطويلة كُتَلًا من الحَصْباء التي تجعل الساحلَ مستنقعًا، وتُعَرْقَل المِلاحة بذلك، وتصير البُقعةُ وخيمةً، ويتحول الميناء إلى مدينةٍ بَرِّيَّة.

ومن الراجح أن كانت رافِنُ واقعةً على جزيرةٍ فيما مضى، وكانت أضواج٣٤ مِنْدَرة٣٥ تؤدي إلى خليج أصبح مَنْقَعًا. وكان هذا النهر إذا غَمَرَ الأرض فُرِضَ على المزارعين المتصرفين فيما حول المناور من حقول أن يُعَوِّضوا من الضَّرر، فيُعَدُّ هذا انتقامَ أناسٍ من أناسٍ آخرين؛ أي من ضحايا الطبيعة التي كانت تَهْزَأ بهم.

وكان المرفآن التجاريان المشهوران القديمان، مِيلِه وإفيز، قد اضْطُرَّا إلى تبديل موضعهما غيرَ مرةٍ لَحْقًا بالبحر الفارِّ، ومما يُرْوَى أن ميناء أثينة، البِيرِة، كان قائمًا على جزيرة فيما مضى، وانظرْ إلى أطلال إزميرَ القديمةِ التي كانت قائمة على شاطئ البحر تَجِدْها الآن واقعةً بعيدًا، واقعةً داخلَ البلاد في الوقت الحاضر، واليوم ترى تروادة غائصةً في التراب أكثر مما في الماضي، وما كان أُومِيرس ليستطيع أن يَقُود العناصر هكذا.

وما أُنْشِبَ في أسوار قِلاع الساحل السوريِّ أيام العرب؛ أي منذ نحو ألف سنة، من حَلَقِ قُلُوسِ٣٦ المراكب فيُنْتَفَعُ به الآن لربط الحيوانات الأهلية في أصابلها.

وأوغَلَ البحر في البر في صفحات أخرى للصراع، فطَمَّ اليَمُّ بُرْجًا بالقرب من بيروت وطَمَرَ البحرُ بعضَ أحياء يافا.

وأسفر ارتداد الأمواج إلى الوراء في الجزائر عن انهدام مباني الرومان، واليوم يُهَدِّد هذا الارتدادُ أبنيةَ الفرنسيين هنالك، وتَقَلصَ الساحل في طرابلس ومالطة على حساب البرِّ في القرن الأخير.

غير أن ذكاء الإنسان ينتصر أحيانًا، فيُحَوِّل قوةَ البحر المُخَرِّبة إلى ما فيه نفعه، وتثير دِلْتا الأنهارِ مسائلَ خاصةً لقلة الاختلاف في مستوى المَنَاقع التي تُيَسِّر تكوينَها، وقد يصبح الترابُ الصالحُ للفِلاحة والذي يُدَّخر فيها مفيدًا أو خَطِرًا وَفْقَ صنائع المجاورين وعبقريتهم، ويكون إنشاء المرافئ الكبيرة في جهةٍ من الدلتا غاليًا صعبًا كما في الإسكندرية ومرسيلية وسلانيك، وليس في غير الفُرَض الطبيعية، كفُرَض طولون وسبيزية، ما يَسْهُل إنشاءُ الموانئ.

وتَكَوَّن بلدٌ من الغِريَن في مصبِّ نهر الرُّون من فرنسة، وصارت جُزُرٌ من اليابسة، وتُؤلِّف مَصَابُّ الأنهار على الساحل بين البرانس والألب مراكزَ ارتكازٍ منحنيةً ثمانيَ مراتٍ على شكل هلالٍ يَرْبِط رأسًا برأسٍ وظاهرةً أنها من صُنع الإنسان، وينحدر قَعْر البحر بانتظام في تلك البُقعة فيَقِيسُ صَيَّادو السمك به ابتعادَهم عن الشاطئ بحسب العُمق.

ومع ذلك فقد قضت الضرورة في القرون الستة أو السبعة الأخيرة بترك ذلك الشاطئ الرائع الانحناءِ داخلًا وخارجًا نتيجةً لكثرة غِرْيَنه، وابتعدت أَرْبُونةُ، التي يَرْجِعُها بعضُهم إلى عصر أُوميرُس، عن الساحل في غضون القرون فرُبِطَت بالبحر بقناةٍ منذ القرون الوسطى.

وتبعُد إِغْمُورْت من الساحل مِيلًا بعد أن كانت مرفأً حتى القرن الثالثَ عشرَ، وترى أَغْدَ أرضًا ذاتَ كروم في الوقت الحاضر بعد أن كان البحر يَغْمُرها منذ مائة عام، وصارت فريجُوس ومُونبلْيِه وآرْل وسِت مُدُنًا بريَّة، وعلى شاطئ إِيطالية الغربيِّ، تَرْتدُّ سِبيزْية باستمرارٍ حِيالَ ذلك، وتضيق فُرْضةُ بورتوفينو مقدارًا فمقدارًا، ويتسع مصبُّ التِّيبِر، ويُرْمَلُ قسمٌ من الساحل بالقرب من كَرَارَة.

وجميعُ تلك المدن تَصْرِفُ الذهنَ إِلى البَرْمائِيَّات التي لا بُدَّ لها من التحول إِلى حيوانات برية بحكم الأحوال إذا ما أرادت البقاء.

٦

بَلَغَت كثرةُ اصطراع الآدميين واحترابِ العناصر من تحويل وجه الأرض ما لا تَجِدُ معه كبيرَ صلةٍ بين أيةِ خريطةٍ عصرية وأحسنِ الخرائط القديمة.

ومع ذلك يظلُّ العالَم المستتر تحت المياه ثابتًا، ولو استطاع غَوَّاصٌ في زمن أُومِيرس أن يَصِلَ إلى قعر البحر بمثل الأجهزة العصرية لأبصر فيه من ذوي الحياة ما يشابه موجوداتهِ الحاضرة.

وأخافت القدماءَ أعماقُ البحر المتوسط الحافلةُ بالأسرار فعزموا على نَيْل عطفها فأقاموا معابدَ لِنْبتُون ولأنصاف الآلهة البحرية الكثيرة.

وكشف العِلْمُ الحديثُ غِطاءَ حياة ما تحت البحر كما في كثير من الميادين، وأيَّدَ بأدواته ما اطلع عليه القدماء بوحيٍ نفسيٍّ فرَصَّعُوه بأسماءِ وَحْدَة الوجود، وما كان في الفَتْرَة الطويلة، التي تَرَجَّحت البشريةُ في أثنائها بين الإيمان والعرفان، ليُعْتَقدَ إمكانُ حياة موجوداتٍ أخرى غيرِ الآلهة في الأعماق. وفي سنة ١٨١٨ عَلِق نجمُ بحرٍ بمِرْجاس٣٧ رُبَّانٍ من عمق ثلاثة آلاف متر فكُشِفَ القِنَاع بذلك عن وجود عالَمٍ حَيٍّ في قعر البحر، وكان ذلك النجم يشابه رُسُلَ ما تحتَ الأرض الذين استدعاهم دَانْتِي وغُوتة.

ولم يُكْشَف العالَمُ الذي لا يُسْبَرُ غورُه، ولم يُفْتَح أُفقٌ جديدٌ لإدراك أمور البحر، إلَّا بعد غَطْس أسلاك المهندسين، لا قُلُوسِ السفن وحدَها، في البحر. ومما حَدَث في سنة ١٨٧٠ أن قامت سفينةُ مِدْفعيةٍ إنكليزيةٌ قديمةٌ برسالة قصيرة فصَنَعت في الماء ما يَصْنَعه أكابرُ علماء الآثار في الأرض، فأثبتت صحة الافتراض المجادَل فيه حتى ذلك الحين باكتشافها الحياةَ الخفية، وكان كَرْبنْتِر أولَ من أَلْقَى نورًا في ذلك الحين حول تلك المسائل (وكان هذا في البحر المتوسط) فدلَّ مؤخَّرًا، في أثناء رِياداتٍ طويلة، على أن الحياة العُضْوية موجودةٌ في كلِّ مكان.

والبحرُ المتوسط صالحٌ للسَّكَن مسكونٌ حتى أعماقِه، والبحرُ الأسودُ وحدَه، حيث تسيل مجاري ماءٍ عَذْبٍ فوق المِلْح الثقيل، وحيث يَصْعُب الجَرَيان بسبب ضِيق الدَّرْدنيل، هو في أعماقه مثلُ مملكةٍ للموت، فلا يعيش هنالك غير بعض الجراثيم، ولا يكفي الضغطُ العظيم لقتل كلِّ حياةٍ ما دام البحر المتوسطُ يَبْلُغ من العُمق خمسةَ آلاف متر، وذلك كما كان يُعْتَقد فيما مضى. ويأنف ويُدْهش الرجل ذو الصلةِ بأكواخ العاصمة السيئة، بعد أن خَنَّثَتْه الحياة، من أناسٍ لا يزالون قادرين على العيش والشرب واللهو مع بؤس بالغ، ومشاعرُ مثل هذه مما يُحِسُّه الغَوَّاصُ الذي يكتشف حياةً في تلك الهُوِيِّ فيُحَدِّق إلى العيون الهائلة في الأسماك والتنانين المجهولة التي يلوح عدمُ شعورها بثِقَل ذلك العُمق. ومن الواقع في بعض الأحيان أن يرتقيَ عددٌ قليل من أبناء الطبقات الدنيا إلى السلطان والثَّرَاء، ومما يَحْدُث كذلك أن ينتهيَ أهلُ البحر العميق أحياءَ إلى ضِياء الشمس، وكلا الحالين شاذٌّ خاصٌّ بمخلوقات نادرة قوية.

ويتألف من أسماك البحر المتوسط مجتمعٌ أريستوقراطيٌّ إذا ما قِيسَتْ بالأسماك التي تعيش في بحرٍ شماليٍّ. أَجَلْ، إن تلك الأسماك أقلُّ عَدَدًا، ولكنها أطيبُ نوعًا، وذلك لأنك لا تَجِدُ في الجَنوب مثلَ جماعات الرَّنْكة والقُدِّ التي لا يحصيها عَدٌّ فيصطادها برابرة الشمال. ويُعَدُّ التُّنُّ، الذي يَظْهَر بالملايين، غريبًا محكومًا عليه بالعَوْد إلى الأطلنطيِّ بعد رِحلته إلى البحر الأسود في كلِّ ربيع ليتكاثر فيه، ويُؤَكِّد جميع صَيَّادي السمك هذا الأمرَ على حين يجادِل فيه كثير من العلماء. وما يَسْلُكه التُّنُّ من طريق طريف في الذهاب على طول الساحل الآسيويِّ وفي الإياب على طول الساحل الأوروبيِّ يوضحه بلِيني إيضاحًا وهميًّا، وذلك بادعائِه أن عين هذا السمك اليمنى هي أقوى عينيه، وذلك كاعتذار بعض السادة الشِّيب الذين تَضِلُّ عيونهم أحيانًا نحو الراقصات المحترِفات.

وكان قياصرة الروم يختلسون جماعاتٍ من التُّنِّ عند مرورها كما كانوا يَحْمِلون في بعض الأحيان على وَقْفِ سُيَّاحٍ آخرين من الأجانب. وكان أرسطو، الذي لا يُطِيق الحياة بلا قياس، قد صَنَّف الأسماك، وقد عُرِف أرسطو بأنه أعظمُ علماء الأسماك. ولا يُفْرِط أهلُ البحر المتوسط في أكل السمك كالإنكليز وسكان الشمال، وكان أكل السمك قليلًا في عصر أُوميرس كما في المطبخ الشعبيِّ برومة أو الآستانة في الوقت الحاضر، وبما أن الكنيسة اليونانية كانت لا تُبِيحُ في الصوم الكبير غيرَ أكل حيوانات البحر الدنيا، فإنه كان يُؤْتَى من الشمال بالحُسَاس٣٨ مثلما يُجْلَب في الوقت الحاضر، وذلك على حين لا يُصْدر البحر المتوسط نحو الشمال غير سَرْدينهِ وسَنَمُورِه. ويدلُّ صيدُ السمك الطليانيُّ بالدِّنامِيت، الذي هو وسيلةٌ قاسية، على أن هذا الصيد ليس رياضةً ولا فَنًّا لدى هؤلاء القوم. وظلَّ صيدُ السمك في البحر المتوسط استغلالًا، لا تربيةً، زمنًا طويلًا، فاضمحلت فيه أنواع السمك فوَجَبَ الآن إرسالُ أنواعِ سمكٍ كثيرةٍ من الأطلنطيِّ صالحةٍ للحياة في البحر المتوسط.

ومع ذلك يَزْخَرُ البحر المتوسط، عن تقاليدَ وتربيةٍ، بصِغار الحيوان التي تُرَى على أطباق أفقر الفَلَّاحين في مِنُورْقة ولِيبارِي وسانْ لَزَارُو ولُوقَة وبارُوس.

ويَنْشَبُ في الصَّخْر كثيرٌ من الدُّلَّاع٣٩ الأخضر والرَّماديَّ والمُدَوَّر والمُسَدَّس الأضلاع والذي له لحمٌ ورديٌّ فِضيٌّ، وهنالك تجد المَحَار الأزرق المُحَدَّب، والمَحَارَ الأسمرَ المُسَطَّح، وقُنْفُذَ الماء الأسودَ والأحمرَ الداخلَ، ونجومَ البحر ذاتَ الفروع الخمسة مع محاجمَ صغيرةٍ، والسرطانَ الأصفرَ الورديَّ، والإرْبَيَانَ٤٠ الأزرقَ العاطلَ من الملاقط والأضخمَ من السرطان البحريِّ، والسَّرطانَ الأسمر، والسُّرَيْطينَ الورديَّ، وديكَ البحر الأحمر، وسمكَ موسى، والسمَكَ المُسَطَّح، والسمكَ الأنمش والسَّبِيدَجَ الكثيرَ الذيول، ولا يكون البحر المتوسط كما هو لولا هذا العالَم الصغير الذي يَنْعَش نخاريبَ٤١ ساحله، ولا تزال توجد ثلاثةُ أسماك كبيرة تَنْعَش البحرَ المتوسط من غير أن تجعله خَطِرًا، وفي هذا سِرُّ تسميتها «سمكَ يونس»، ولكن من النادر أن يَبْلُغ قِرْشُ٤٢ البحر المتوسط من الطُّول ما يخافه الإنسان على الرغم من أسنانه الأربعمائة. وكان الخوف يستحوذ على القدماء عندما يَرَوْنه، ومما وقع ذات مَرَّةٍ أن ضَلَّ قِرْشٌ في ميناء أُوسْتِي فأعَدَّ الإمبراطور كلُود حَرَسه لمقاتلته فكانت للشَّعْب تسليةٌ بذلك، وعكسُ ذلك حال الدُّخَس٤٣ الذي خَلَّده القدماء بالحجر والبرونز في الغالب فيَفْتِن مَلَّاحَ البحر المتوسط في كلِّ زمن، وقد رُفِق به دومًا، وقد عاد غيرَ مُهَدَّد، شأنَ اللَّقْلَق في البَرِّ، وقد غدا مُقَدَّسًا لدى الشعراء منذ حَمَلَ أَرْيُونَ٤٤ على ظهره، ووجب أن يكون مقدسًا عند الفرسان أيضًا؛ وذلك لأن رُكُوب هذا السمك القافِز لا يكون إلَّا من عمل معلمٍ في الفُرُوسِية أو من عمل شاعر مجنون.

وإن ما يحنو به هذا الحيوانُ ظهرَه فوق الموج، أو يُخْرِج به جميعَ جسمه، من لُطْفٍ ممزوج بمُزاحٍ يُعَدُّ من المناظر التي لا تُنْسَى والتي يَحْفَظُ المسافر ذكراها الرائعة.

٧

يختلف قِسْما البحر المتوسط المتفاوتان في أكثر من نقطة، ويُرَى أن القسم الشرقيَّ الذي ينتهي في الرأس الغربيِّ من صِقِلِّيَة وبالقرب من مَرْسالَة أغنى بحار الكرة الأرضية بالجُزُر، وإذا عَدَوْتَ الجزيرتين الكبيرتين سَرْدِينية وقُورْسِقة لم تَجِدْ في القسم الغربيِّ غيرَ جزائر البَلِيَار، وقد أَثَّرَت هذه الظاهرةُ في صفات الأمم التي سيطرت على المِنْطقتين، فصار الأغارقةُ قومًا من المَلَّاحين ومن التجار بفعلِ أَرخبيلهم، وتحوَّل الرومان الذين هم شعبٌ بريٌّ ودولةٌ قاريَّة إلى دولة بحرية بتأثير القرطاجيين، ولكن مع خَوْضِهم معاركَهم الحاسمةَ في البرِّ، وأنشأ الأغارقة أحسنَ السفن وأجملَ الموانئ، وعَبَّدَ الرومانُ أفضل الطرق وصنعوا أكملَ وسائل النقل، ووضع الأغارقةُ المغامرون المملوءون هَوًى ورِقَّةً قواعدَ للجمال والحكمة، ووضع الرومانُ أساسَ الدولة والقانون، وأدى تَقَطُّع أرض الأغارقة، الذي يُرْمَزُ إليه بتلك الجُزُر الكثيرة، إلى تلاشي سياستهم، وأسفر تَجَمُّع أرض الرومان عن ظهورهم سادةَ العالم، وتُشابِهُ أثينة ورومة مُحْتَرَقَيْ إهْلِيلَجٍ واحد فتبصرهما واقعتين في عالَم البحر المتوسط لاجتذاب جميع الأشعة وعَكْسِها.

وما بين الشرق والغرب من ترديدٍ فيُوَازَنُ بما بين الشمال والجَنوب من ترجيع، وبَيْنَا تُمَثِّلُ سواحلُ الشمال بفُرَضِها وجزائرها الكثيرة نقوشًا وصُوَرًا منيفةً تَرَى نَمَطِيَّةً في سواحل الجَنوب الأكثرِ استواءً، وتَبْدُو مِنْطقة البحر المتوسط الجَنوبيةُ الشرقيةُ التي لا تشتمل على جزائرَ تقريبًا أقلَّ مناطقه وَقْفًا للنظر من الناحية الجغْرافية، ومن هذه الصحراء الحجرية خَرَج التوحيد، خَرَج دينٌ بلا صُوَر، خرج دينٌ مملوءٌ عظمةً، ولكن بلا لَوْن، والحقُّ أن الإلهَ الواحد ظهر من الصحراء وحدَه.

والحَوْضُ يَمُدُّه البحرُ الأدرياتيُّ إلى الشرق، ويمتدُّ هذا البحر حتى جبال الألْب، ويقع أكبرُ اتساع له بين فيُومَ وسَرْتَ الأكبرِ. وليس في شِبْهَي الجزيرة الضَّخْمَتيْن، البلقانِ وآسيةَ الصغرى، ما يَقِفُ النظرَ على الخريطة إلَّا حيث يَتَشَعَّبُ البلقان ثم يتوارى ليُجَزَّأَ أمام الساحل الآسيويِّ إلى مائة خليج ولسانٍ وشبهِ جزيرةٍ وجُزَيِّرة. وقد أدت هذه الجغْرافيةُ البالغة الهَوَى إلى ظهور الأساطير اليونانية التي هي أغنى العوالم الإلهية.

واستدارةُ إيطالية أجملُ الجميع، ومِنْ شَتْمِها أن تُشَبَّه بَجَزْمة،٤٥ ما لم تكن الجَزْمةُ رائعةً خاصَّةً بفارسة كالتي تَلْبَسُها الدُّوكات في ألواح فانْ ديك. وإذا ما عُرِضَتْ خريطةُ أوروبة على وَلَدٍ لم يَلْبَثْ أن يَدُلَّ على إيطالية محاولًا تتبُّعَ استداراتها بإصبعه الصغيرة. وما كان من القول بوجود بَرْزَخين يصلان بين تونس وصِقِلِّية وإيطالية فيما مضى أُثبِتَ بعظام الحيوانات وبما يُرَى من العُمق القليل في العتَبَات البحرية القريبة من بَنْتِلَّرية ثلاثَمائة متر ومن مسِّينَة مائة مترٍ فقط، ويُمَيَّزُ ساحلُ أفريقية من ذُروة إتنِة بالعين المُجَرَّدَة، ومَنْ يُنْعِم النظر في هذا المنظر ذاتَ مرةٍ لا يَفْقِد كل سعادتهِ في حياته.

وعلى الخريطة تُعِيدُ العينُ ذَيْنك الجسريْن نحو أفريقية فتُغلِق الحوضَ الشرقيَّ على هذا الوجه، وهنالك يُرَى السببُ في مرور كثيرٍ من القرون قبل أن تشتدَّ الرَّغبة في المعرفة والاغتناء فتَحْفِزَ إلى الفتح من الشرق إلى الغرب، وتتكرر خُلْجانٌ جميلةُ التصوير على نمطٍ واسع وعلى طول جميع شواطئ البحر المتوسط، وتوجب بعد ذلك انخفاضًا في الأرض وعلى أطراف الأودية، وتجوب سلاسلُ من الجبال جَميعَ الأَرَضِين المجاورةِ وتُحَدِّدها، وإذا ما دُرِست خريطةٌ شُعِرَ بالحوادث الكثيرة التي وقعت في ذلك الزُّخْرُف الزاخر المتنوع.

ومما يَزِيدُ حَوْضَي البحر المتوسط بَرَكةً ما بين الشمال والجَنوب من تباينٍ نَسِير به من الأَلْب إلى الصحراء. وكان البحرُ الذي تَدْخُل به الحضاراتُ عن تماسٍّ متقابلٍ خصيبٍ بحرًا صغيرًا، بحرًا داخليًّا تقريبًا، وهو يَبْدُو مَسْرَحًا كان يَظْهَر عليه مناوبةً للاقتتال برابرةُ الشمال وأبناءُ صحراء الجَنوب الذين صاروا قراصينَ، وهل كان ينشأ غيرُ افتراق سكان بحرٍ كسكان البحر الأسود المُتنَائِين عند النظر إلى عُزْلَة هذا البحر الباردةِ المحدودة، وغيرُ افتراق سكان بحرٍ كسكان المحيط الأطلنطيِّ عند النظر إلى بُطْء وسائل النقل في هذا الأُقيانوس سابقًا، وذلك لدى قياسهما بالبحر المتوسط؟ واليومَ، حين يَكْفِي وقتُ مساءٍ للسفر جوًّا من قُورْسِقة إلى تونس، تتجاورُ الحضاراتُ التي يَرْبِط العِلْم بعضَها ببعض على ذلك الوجه، وتصبح المَسَافةُ بين بورسعيد وتِرْيسْتَة من القِصَر ما نُبْصِر معه خَطَرَ مَيْلِ المحالِّ إلى الاختلاط، وعلى من يودُّ تَمَثُّلَ اصطراعِ تلك الحضارات في القرون القديمة أن يتناسى السرعةَ الحديثة.

ويا له من تباين بَيِّن! وبين بحر أَزُوفَ، الواقعِ هو وزوريخُ على درجةٍ واحدة من العَرْض، وبنغازي الليبيةِ يتلقَّى البحرُ رِيحَ سِيبِرْية الباردة ورِيحَ السَّموم الأفريقيةَ، وتُعَدُّ مصرُ ولُبْنان من توابع الصحراء مع استثناء سواحلهما، وقد أَدَّى عدمُ المطر هنا، كما في بابلَ أيضًا، إلى رِيٍّ مصنوع، وإلى تأليف جماعاتٍ تدافع عن نفسها دفاعًا مشتركًا ضدَّ البدويين، ومن هنا كان ظهورُ النظام المركزيِّ والحكم المطلق والاستبداد. وعلى العكس أسفر المطرُ في البحر المتوسط عن الصِّناعات الفردية وعن الاستقلال والحرية كما نشأت عنه أحزابٌ سياسية. وبهذا يتجَلَّى أول فرق بين الشرق والبحر المتوسط، وبالمِلاحة البحرية نفسها يتجلَّى ثاني الفروق.

ومن دراسة البِقاع التي نشأت فيها شعوب البحر المتوسط الرئيسةُ نَتَبَيَّنُ ما هو نافعٌ لها ضارٌّ بها كما نتبينُ أسبابَ انتصاراتها وهزائمها.

وهنا ترى العراقَ محاطًا بالسهوب نافذًا من هَضْبة أَرْمِينْية العليا إلى الشرق وإيران والهند بالغًا الصينَ بتجارته غارقًا في ظلامِ الجهل. ومن الناحية الأخرى تَعُوقُ سوريةُ، بِغَوْرِها الأكبر، وسائلَ الاتصال، ولكن مع امتلائها حيويةً في ساحلها الضيِّق المائل إلى الغرب والذي كان الفنيقيون يَدْخُلُون البحرَ المتوسط منه، وهناك ترى آسية الصغرى محاطةً بالجبال من ثلاث جهات فلا تَبْدُو غيرَ أَسْوِجةٍ٤٦ ولا يَسْهُل دخولُها من غير الغرب، وما هي عليه من اتجاه نحو البحر المتوسط ساعد على مغازي الفُرس ومسلمي التُّرك، وبالدَّرْدَنيل والبُسْفور اتُّصِلَ بشعوبِ سهوب روسية البعيدة فكانت تَمِيرُ٤٧ بالحبوب منذ القديم.

ويتصل البلقان بسهول الدانوب الأدنى، ويَسْهُل الوصولُ إليه بِشعْب، فأغرى السِّيتَ ودارا والقبائلَ البدوية والروسَ على الغزو حتى الحرب العالمية الأولى، وفي هذه المِنْطقة كانت مقدونية وتراكية وصربية تتصل بأوروبة الوسطى بطُرُقٍ عسكرية ثم صارت تتصل بها بخطوطٍ حديدية. وفي الساحل الغربيِّ من شبه جزيرة البلقان ترتفع جبالُ دَلْماسْية فتحيط بألبانية التي تَشْغَل مكانَ إيلِّيرية القديمة، وهذا البلد الجبَليُّ هو أوحشُ بلاد أوروبة، وتُخْرِجُ أرضُه رجالًا عُتَاةً شُمَّخًا قَسَتْ قلوبُهم بحروبهم في سبيل الحرية، ولكن مع تجارة تافهة نحو البحر الأدرياتيِّ. وفي الجنوب، ونحوَ بلاد الإغريق، يتموَّج البلقانُ بمئات الفروع على طول البحر اليونانيِّ حيث تهيمن الجبالُ العالية على الخُلْجان وحيث تُجَاوِر الثلوج والمروج الخُضْر. ومع ذلك نشأ عن كِلْس جبال الإغريق وفُقدانِ السهول وتقسيمِ الخُلْجان والجزائرِ؛ أي نشأ عن هذا المجموعِ الذي يَبْدُو غيرَ ملائمٍ أولَ وَهْلةٍ، أَسْمَى حضارةٍ بأوروبة، وسنبحث عن علل ذلك.

ينطوي البحر اليونانيُّ على أعمق بُقعة في جميع تلك المِنْطقة، ويشتمل على خليج مشهور، يشتمل على البحر الأدرياتيِّ ذي المرافئ القليلة والذي ترى بين مرافئه هذه أبعدَ موانئ البحر المتوسط صيتًا مع ذلك، ترى البندقيةَ، ويقع البحر الأدرياتيُّ بين رصيفين جبليين فلا تَجِدُّ له غيرَ منافذَ قليلةٍ سالكةٍ عَرْضًا. بَيْدَ أن محاصيلَ الجَنوب تُرْسَلُ إلى الشمال دومًا من طريق البندقية وأَخَواتِها، والسفنُ نفسُها تَجلُب العنبرَ إلى نساء الجَنوب اللائي لا يشبعن من الزخارف.

وليس العنبرُ وحدَه هو الذي كانت تَجْلُبه تلك السفن؛ وإذْ يَبْلُغ البحرُ الأدرياتيُّ أقصى نقطة في شمال البحر المتوسط، ما دام البحر الأسود مُلْحَقًا، لا جزءًا مُتِمًّا، فإنه صار، حيث كان يُعْرَف منه كلُّ مِيلٍ بحريٍّ بالحساب، عِرْقَ الشمال والجَنوب النابضَ الجامعَ بين فلسطينَ والهند وحضارات اسْكُتْلَنْدَة، وجاءت البندقية بعد أثينة ورومة وبِزَنْطَة، فَعُدَّت رابعَ مركزٍ لعالَم البحر المتوسط، فكانت أحسنَ موقعًا من جميع المرافئ الأخرى لمبادلة السِّلَع والأفكار.

وجعلت الطبيعةُ إيطاليةَ بشكلِها وموقعها في وضع لا مثيل له، وأين تَجِد رُوَاقًا داخليًّا كمعبدٍ مثلَما تُكَوِّنه جبالُ الألب في الشمال فيُرْسَم على شكل قوسٍ بين بحرٍ وبحرٍ ويحيط بسهول لُنْبارْدية التي هي أخصبُ سهول أوروبة؟ وتنفتح الجبال على شكل مِرْوَحةٍ إلى الخارج فتَتَّجه إلى تُورِين ومِيلَانُو وفِيرُونة وفِينِسْية، ويَبْلُغ مثلُ هذا الوضع من الحَثِّ على الاتِّجار مع الشمال ما اجتذبت به إيطاليةُ أقدمَ المقايضات وأكثَرها تأثيرًا مَهْما بَدَتْ منعزلةً وراءَ سُورِها. ومما يجب الاعترافُ به كونُ إيطالية اجتذبت البرابرةَ أيضًا، وقُلْ مثلَ ذلك عن جبال الأبنِين الممتدةِ سلسلةً ضيقةً في البلاد فتُجاوَز بشِعَابٍ كثيرةٍ سهلةٍ وتُنْضَدُ على منحدراتِها سهولٌ زراعيةٌ وأوديةٌ بركانيةٌ خَصِيبة. ولو أراد مهندسٌ أن يُنْشِئَ جسرًا يَصِل أوروبة بالقارَّتين الكبيرتين المحيطتين بها لأقامه في المكان الذي تَشْغَلُه إيطالية تقريبًا ولَرَسَمَه على شكلها؛ وذلك لأن مدخل البحر الأدرياتيِّ واقعٌ في مكانٍ أصلحَ من رأس تونس الذي يلوح مرورُ أقصر الطرق منه، وستكون البندقيةُ وجِنِوَة، لا مَرْسِيلْية، ميناءي الشمال الطبيعييْن نحو الجَنوب الشرقيِّ ما دامت الطائرةُ لا تستطيع أن تَحْمِل وَسْقَ باخرة لزمنٍ طويل. وقد وُجِدَت إيطالية للسيطرة على البحر المتوسط، وليس من المصادفات أن وُضِعَت رومة في قلب هذا البلد المركزيِّ، ولكن دَوْرَ رومة قد انقضى، وما كان لأمةٍ قديمةٍ أن تَعُود بعد حياةٍ جزيلة إلى مفاخرِ شبابها بأكثرَ مما يستطيعه بطلٌ بلغ من الكبر عِتِيًّا. وليس من العبث أن رَكَمت أممُ البحر المتوسط وراءَها أجملَ تاريخٍ للعالم بعد اقتتالٍ وتناوبِ سلطانٍ. وقد اضمحلَّ الفنيقيون والقرطاجيون والبربرُ من بين الأمم الستِّ أو السبع التي سيطرت على البحر المتوسط وعاشت على شواطئه، وأما مَنْ بَقِيَ حيًّا من هؤلاء الأقوام فيشابه رجلًا عظيمًا يَأْمُل أن يداوم على التمتع بما قد رَكَمَه وأن يحافظ على ذكرى ما قام به من تجاريب.

ولا يُبْدِي الأغارقةُ، ولا الطلاينة، ولا الإسبانُ، ولا الفرنسيون، ولا التركُ، ولا المصريون، من الحرارة العسكرية وشهوةِ الفتح كالذي كان يَشْعَلُ قلوبَهم فيما مضى. ولأمم البحر المتوسط التي تتفاوت في كثيرٍ من صفاتها طبعٌ مشترك، فهي محافظةٌ، وإذا ما نَشِبَتْ بينها ثَوْراتٌ فإنها تنشأ عن الطبقات الدنيا كفَوَرانات البراكين، وتكون الاضطراباتُ الاجتماعية عموديةً في زماننا كالزلازل، وهي قد عادت وقائعَ غيرَ أُفُقِيَّة في سبيلِ ولاياتٍ أو مُدُن.

ويمتاز جَنوب فرنسة أيضًا بموقعه المبخوتِ دومًا بين سلسلتين عاليتين من الجبال، وفي الأزمنة القديمة كانت تصل بين البحر المتوسط والأطلنطيِّ طريقٌ مارَّةٌ من بقاع لَنْغدُوكَة الضيقة مجاوزةً خطَّ المياه الفاصلَ المرتفعَ قليلًا من أَرْبُونَة إلى بُورْدُو في وادي الغارُون، وأهمُّ من هذا هو وادي الرُّون؛ أي النهرُ الذي هو من أجمل مناهج العالم والذي يَرْبِط مَرْسِيلْيَة بلِيُون وبالشمال من هنالك، ولولا هذان الواديان لظلَّ تاريخُ فرنسة إقليميًّا، ولو حال الإلهان فُولْكَن٤٨ وبلُوتُون،٤٩ اللذان يتنازعان أمرَ خَلْقِ الجبال، دون نفوذ هذين الواديين إلى الساحل بوصلهما ما بين جبال البَرَانِس وجبال الأَلْب لبَقِيَتْ فرنسة بعيدةً من الحضارة كألمانية. وكانت البغال التي تَقْطَعُ جبالَ الألب الوسيلةَ الوحيدة التي استطاعت الحضارة أن تستعيرها لِتُوغِل في ألمانية، ومع ذلك كانت تُوصِل إلى فِينَّة طريقٌ تجاريةٌ عريضة فتجعل من هذه المدينة، كما في هذه الأيام، مركزًا أمدنَ من جميع ألمانية.

وتُعَدُّ إسبانية أسوأَ توزيعًا بشكلها الثقيل وسلسلتي جبالها الصعبتين وهِضابِها المنعزلة وسواحلها الضيقة. وتشتمل جبال البرانس وسِيرَّا على هضبتين مُثَلَّثَتَيِ الزوايا فتَفْصِلهما عن البحر بصخورهما القائمة الوَعْرَة في كلِّ مكان تقريبًا، وتبدو شبهُ جزيرة إيبِرْيَة إِذَنْ مثلَ حِصْنٍ بحريٍّ ذي أسوارٍ قاتمةٍ تُبْعِدُ عنه جميعَ العالم. وفي الشمال يجعل جدارٌ جبليٌّ من هذا البلد جزيرةً، وذلك لاتجاه الشِّعَاب متوازيةً، لا نحوَ مركزٍ كما في لُنْبارْدية، وذلك إلى أن البرتغاليين والقَطَالونيين الذين هم مَلَّاحُو شبه الجزيرة الحقيقيون قد اضْطُهِدوا من أمم الداخل مع أن أمم الساحل هي التي كانت مسيطرة في إيطالية. وهكذا جابت ثلاثُ أممٍ إسبانيةَ في ألفي سنة لتَدْخُل أوروبة أو لتَخْرُج منها، ولم تكن فيها طريقٌ أُممية كالرُّون أو البو يُمْكِن أن تَصِلَ أوروبة بالبحر المتوسط أو أفْريقية الغربية.

ويتألف من جبال دَرَن أطولُ سلسلةِ جبال في تلك المِنْطقة وأعلاها، ويَتَفَرَّعُ بين ذُرَاها أوديةٌ طويلةٌ عريضةٌ لا ترى مثلَها في إسبانية، وما هو واقع من نزولها بغتةً نحو الصحراء في الجَنوب لا يَرْبُكَ الحضارة المحلية أبدًا؛ وذلك لأن السهول والأودية العريضة سهَّلَتَا بلوغَ البحر، ولا سيما مَرَّاكِشُ، على الدوام، وتَقِلُّ فُرَضُ الساحل في الشرق، فيَظَلُّ تاريخ مِنْطقة سَرْت نَمَطِيًّا كالمَنْظَر. ومَن يُلْقِ نظرةً على الخريطة يَتَبَيَّنْ سببَ عدم اشتراك مصرَ في حياة البحر المتوسط وسببَ نشوءِ معارك البحر المتوسط وتجارته وروحه وفنونه في السواحل الجبلية من الجُزُر وأشباه الجُزُر.

وهكذا يتضح ما بين البحر والبرِّ من صراع؛ وذلك لأن الجبلَ أقوى صُوَرِ البَرِّ؛ ولأنه يتجلَّى به مع سطح الماء تضادٌّ مؤثر، ويَحْدُث على جميع سواحل البحر المتوسط، حيث يتعارض العنصران، تَوَتُّرٌ كالذي يكون بين طبعيْن مختلفين اختلافًا أساسيًّا.

٨

والمطر هو العنصر الثالث، وعلى المطر تتوقف المحاصيل التي تُغَذِّي الإنسان، وتوازنُ البحر المتوسط كاملٌ من هذه الناحية، ويتناوب حوضَه بين الشمال الماطر والجَنوب الجَدِيب جفافٌ في الصيف وغَيْثٌ في الشتاء فيُعَيِّن ذلك نباتَه وحيوانَه. وهكذا يَنْقُصُ عددُ الأنهار الدائمة نازلةً نحو الجَنوب، وتكون المِلاحةُ محدودةً هنالك، حتى إن الجُسورَ، التي تَقْصُر في الخريف وتَطُول في الشتاء قليلةُ العَدد، وفي أوائل فصل الأمطار تُجَرُّ أكداسٌ من الحَصَى إلى مجاري الماء الجافَّة، وتَزْخَرُ الأنهار ثم يَقِلُّ ماؤها سريعًا، ويَفْصِل النهرُ ما يَرْبِطه عادةً فيجب أن يُعْبَر على ظهور الخيل، وتَجِفُّ الآبار في الجَنوب أيضًا مع أنها أكثر عمقًا، غير أن الينابيع الطبيعية تُعَدُّ مُقَدَّسَةً لأنها وحدَها هي التي تبدو خالدة.

وكان المنظرُ أكثرَ جمالًا في الأزمنة القديمة غير أن الإقليم كان أشدَّ بردًا، وكان يوجد على طول البحر المتوسط في تلك الأحايين غاباتٌ كبيرة ذاتُ نباتٍ غنيٍّ بالصيد فوجب أن تُحْيَا. وكان قدماء المؤلفين، من أرسطو إلى أوفيد،٥٠ يَتَوَجَّعون من الثلج والبرد، ويتكلَّم فِرْجيل حتى عن الصخور التي صَدَعها الصَّقِيع، ولكن لا يَغِبْ عن البال كونُ المفكرين في كلِّ زمن وَجَدُوا عدمَ زيادة الحَرِّ. والواقعُ أنه كان يُنْشَأُ في الحدائق الرائعة التي حَوْل رومة ضُرُوبٌ من المنابِت الزُّجاجية، وأن الرومان كانوا يسيرون على غِرار إِيزِس فيَغْطِسون في نهر التِّيبر «الجامد صباحًا»، وما كان من زوال الغابة البِكْر هنا كما في كلِّ مكان يُعَدُّ نتيجةَ الحضارة. وكانت آسية الوسطى في زمن الصليبيين مستورةً بالغابات التي أبادها البدويون في نهاية الأمر، ووُجِدت في بادية الشام الحاضرةِ معاصرُ زيتٍ متينةٌ فتدلُّ على تَحَوُّلٍ يمكن تفسيرُه جزئيًّا بنقص الأمطار وتقلُّص حدود الثلوج، وترى كَليفُورْنيةَ في وَضْعٍ مماثل.

وكان طمعُ الناس وغُفُولُهم هنا كما في أمريكة أسوأَ عوامل التخريب في غضون القرون. ونشأ عن النار وفأس الإنسان وعن المَعْز تخريبٌ في مِنطقة البحر المتوسط أكثر مما في بلاد الشمال؛ وذلك لأن الأدوار الجافة حالت دون التفريخ، ولأن الأمطار غَسَلت الأرضَ وجَرَّتها، وتزيد دِلْتَاتُ الأنهار وتصبحُ مناقعَ في كلِّ مكان، وتنهار الجُدُرُ والأرصفة التي تتألف حواجزُ منها، ويُخَرِّب الناسُ، الذين لا تُحَرِّك نفوسَهم أيةُ رغبةٍ في الزراعة، ما يزدرونه من غابٍ. وهذا إلى أن التَّآكُّلَ يزيد مع نقص الشجر، وتصير الجبالُ جُرْدًا مقدارًا فمقدارًا، واليوم يَلْمعَ لونُ صخورها الصُّفْرِ بفعل الشمس فتَبْدُو رسمًا جِيُولُوجِيًّا نتيجةً لعدم ادِّثارها بنبات. ومع ذلك كانت الطبيعةُ أقلَّ تَغَيُّرًا من الآدميين، وما يَبْدُو من ازدهار صِقِلِّية منذ قرونٍ يدلُّ على ما يمكن إقليم البحر المتوسط أن يُنْتِجَه.

وكلُّ ما ليس شجرًا، من كلأٍ وعَوْسَجٍ وثَيِّل،٥١ يلائم نظامَ الأمطار، وهو يُبَرْعِم في الخريف ويَنْمُو في الشتاء رويدًا رويدًا، ويُسْرِع في الربيعِ نُمُوًّا، فإذا حَلَّ فصل الصيف ظَلَّت الأرضُ مستورةً بحَسَكٍ٥٢ لاصِقٍ وعُشْبٍ يابسٍ معانِيَةً نُعَاسًا صيفيًّا بدلًا من الرُّقاد الشتويِّ. وعلى العكس تحتاج النباتات الخشبيَّة إلى فصلين، وذواتُ الأوراق الدائمة من الأشجار هي التي تُعَيِّن صورةَ المَنْظَر، وهي تَجْتَنب الجفافَ بقِشْرٍ قاسٍ أخضرَ أو أسمرَ، لامعٍ في الغالب، وهي تَحْفَظُ نفسها أيضًا بالزيوت العِطرية وبالأشواك التي تقوم مقام الأوراق كما في السُّهُوب.
وتَظْهَر أوراق العَفْص والزيتون الجافةُ المُجَلَّدَة٥٣ من القِصَر ما تقاوم معه التَّبَخُّر، ويُعَدُّ ورق الغار من أطول الأوراق، ولهذه الأشجار الدائمة الخضرة وِقايةٌ بشكلها وتركيبها ولونها وبطبقةٍ لِبْديَّةٍ أيضًا، فيمكنها أن تَنْبُت في أماكنَ ترتفع عن سطح البحر ١٨٠٠ متر، وهي تنتصب متباعدةً كما في السُّهوب فيَصْعُب نموُّ نباتٍ تحتها، حتى إن الأشجارَ ذاتَ الأوراق السريعة الذبول تميل إلى الحياة متباعدةً، ولا سيما أشجارُ البَلُّوط والكَسْتَنَاء.

بَيْدَ أن البحر المتوسط يشتمل وحدَه على عنصرٍ جوهريٍّ بكثرة، يشتمل على مُنْحَدَراتٍ مستورة بأعشابٍ تُعَيَّن برائحتها وطعمها وتركيبها الكيماويِّ عاداتُ جميع البلاد المجاورة وطِهايتُها وصَيْدَليَّتُها.

ويَدْنُو المَلَّاحون من ساحل جَنوب إسبانية أو من قُورْسِقَة، فيَعْرِفُون بلدَهم الأصليَّ من رائحته التي تنتشر إلى مدًى بعيد، حتى إن الأجانب يَشْعُرون بذلك في بعض الأحيان، وهذه رائحةٌ مُرَكَّبة حادَّةٌ قليلًا، وهي نصفُ عَذُوبٍ نصفُ مُرَّة، وهي قويةٌ تارةً خفيفةٌ تارةً أخرى، ولكنها عِطْريةٌ طيبةٌ على الدوام، ويمكن أن يُسَمَّى هذا المزيجُ بأريج البحر المتوسط، ويَسْتُر معظمُ النباتات التي تتركب منها منحدَراتٍ حجريةً ذاتَ حَشْوٍ ناعمٍ لَبَدِيٍّ، وتَعِيش هذه النباتات ضِمْنَ شركةٍ وثيقةٍ لا تَرَى مثلَها في غير الغابة البِكْر، ويَخْرُج الصَّعْتَرُ باقاتٍ سُمْرًا خُضْرًا من الحجارة وفُطُورِ٥٤ الصخور فتَفُوح رائحته بشِدَّة كلَّما دِيسَ بالأقدام فيَلُوح أنه يُقَدِّم نفسه إلى الزائر الغِطْرِيس.٥٥ وليس زهرُ اللَّيْلَك٥٦ ذو الألوان هو الذي يَنْشُر شذًا، بل أوراقُ الدَّلَبُوث٥٧ هي التي يَسْطَع منها ذلك، ويُعَدُّ العَبَيْثُران،٥٨ ويُسَمَّى «نَدَى البحر» أيضًا، أكثرَ توترًا ووُثُوبًا من القُوَيْسَة٥٩ ذاتِ الزُّرْقة الفِضِّيَّة، ويَعْرِفه الأطباءُ والسَّحَرَةُ والسَّوَاحِر والصَّيَادِلَة، ويُتَّخَذُ الحَبَق،٦٠ مع زهره الذي على شكل المظَالِّ المستطيلة الزُّرْق الوردية، تابِلًا في أطباق السمك الذي يأكله الطلاينة، ويُنْتَفع به قاعدةً لعِطْر الباريسيين الصَّعْتَرِيِّ فيما مضى، ويشابه غرامَ أهل البحر المتوسط برائحته القوية اللطيفة.
وبين ذلك تَتَمَوَّج شجيراتُ الشِّبِتِّ٦١ والحَوْكِ٦٢ أو عُشْبَةِ الملوك التي يُتَبِّلُ بها أهلُ جِنِوة معجوناتِهم والإسبانُ مقانِقَهم،٦٣ وبين ذلك يُرَى النَّعْنَع ذو الأوراق الخُشْنِ والذي ينتفع به الإنكليز في صُنْع صِبْغٍ٦٤ لهم والذي ينتفع به الأمريكيون في تعطير العِلْك٦٥ والذي يُحَوِّله الفرنسيون إلى شراب أخضرَ مُقَوٍّ لِلْبَاه، ويَنْبُت البَقْدُونَسُ البريُّ على المنحدَرات بجانب أخيه الضارِّ: الشَّوْكَرَان٦٦ الذي شَرَّفَه سُقْراطُ إلى الأبد، وإليك الخُزَامَى الأكبرَ من ذلك قليلًا والأكثرَ من ذلك عِطرًا والذي هو ذو أزهار حادَّة كالسِّهام تَخْرُج من سُوقِه السُّمْرِ الفِضية القَصِفَة راجيةً اجتذابَ بعضِ الرُّطوبة، وفيما هو أعلى من ذلك وأَحَدُّ تَتدلى إبَرُ العَرْعَر،٦٧ وهو حين يتحول إلى حَبٍّ يُحَوِّل نساءً كثيراتٍ إلى حُمْقٍ، وذلك على حين يَنْبُت الآسُ بجانبه فيجعلهن رشيدات.
وتنتشر فوق تلك النباتات طليقةً موافقةً مُفَرِّقَةً للظلِّ شُجَيْرةٌ ذاتُ فروعٍ رَماديةٍ مُبَقَّعَةٍ قليلًا مزخرفةٍ بأروع الأوراق، وهي تَحْجُب حَبَّاتٍ زُرْقٍ في أعماق أوراقها المُشْبَعَة، وقد كان الشعراء يُكَلَّلُون بها في زمن أَبولون،٦٨ ولكن مع استعمالٍ في الطِّهاية أيضًا، وهي الغار الذي كانت قد تَحَوَّلَت إليه الحُورِيَّةُ دَفْنَة؛ أي رمزُ البحر المتوسط الذي يَجْمَع بين حياة المَرَح وأطايب العيش والغرام ونِعَم الفكر والمجد والخلود، وهذا المُوَكِّدُ المزدوجُ للحواسِّ والروح هو الذي يَمِيزُ هذه الإنسانيةَ السليمة المُتَجَمِّعَة حَوْل بحرنا.

وتَخْرُج من جميع السواحل روائحُ العَوْسَج والنباتاتِ العِطْرية، وهي في الغالب خيرُ مُعِينٍ للعِطَارَة في بلاد العرب وباريسَ، وتستطيع جميعُ هذه الأعشاب والشُّجَيْراتِ وجميعُ النباتات الثَّيِّلِيَّة أن تنموَ بلا رطوبة كالبَرْدِي الذي دخل من مصر إلى صِقِلِّية، فتقوم بين طرفي العام مقامَ مُرُوج الشمال حيث لا تزدهر إلَّا بانحطاط الرطوبة.

وتوجَدُ حول البحر المتوسط أشجارٌ عظيمة أيضًا، وبما أن ارتفاع أضخم الأشجار يَزِيد نحو الجَنوب فإن غاباتِ العَفْص في جبال دَرَن المرتفعة ٢٨٠٠ متر تَبْلُغ من عُلُوِّ المكان ما لا تَجِدُ في مثله من جبال الألب غيرَ أشجارِ الصَّنَوْبر والسَّرْو، ومع ذلك لا تنتصب الأشجار في الغالب مُتَجَمِّعةً على شاطئ البحر كما في الشمال، بل تنتصب مُتَفَرِّقةً كما لو كانت تماثيل. ومن ذلك أن الأَرْز الناصعَ الخُضْرَة والقليلَ الشَّعَث، والذي حاول رسمَه كثيرٌ من المصورين، ينتصب منحرفًا فوق البحر ذي الزُّرْقة مُوَجِّهًا للنظر، وذلك كلُّه كالصَّنَوْبَر الذي يَنْبُت في كلِّ مكان من البروفنْس، أو كالسَّرْوِ الشائع في القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط.

وأُدخِلَ إلى مِنْطقة البحر المتوسط منذ الإسكندر، وبعد كُولُنْبُس بزمنٍ، نباتٌ كثيرٌ من أقاليمَ مماثلةٍ لإقليمه، فتُحْدِث اليوم منظرًا يختلف عن الذي كان يشاهده القدماء، وما كان يوجد هنالك أَرُزٌّ قبل الأغارقة، ولا كَرَزٌ قبل لُوكُولُّوس،٦٩ ولا تُوتٌ قبل جُوسْتِينْيَان، ولا قصبُ سُكَّرٍ وأشجارُ لَيْمُون قبل العرب. ويمضي زمنٌ طويلٌ فيَجْلُب البرتغاليون من الصين شجرَ البرتقال الذي لولاه ما كانت شواطئ البحر المتوسط كما هي في الوقت الحاضر. ويجيء الأمريكيون بالذُّرَة والبطاطا والتَّبْغ، وبالأَغَاوِ٧٠ ذي المَرْأَى التَّوْرائِيَّ الذي يلائم منظرَ فلسطين جيدًا فيَروُقُ المصورين أن يَرْسُموه بجانب القِدِّيس يُوحَنَّا. ويحتاج جميعُ تلك النباتات إلى الرِّيِّ تقريبًا، وقد أُتْقِنَت هذه الصِّنَاعة في لُنْباردية وفي بعض أقسام إسبانية، كما كان بمصرَ في الماضي وعلى درجةٍ معادِلة.

وتَجِدُ كثافةَ سُكَّانٍ في رياضِ صِقِلِّية كما تَجِدُ في وادي النيل، وتَبْلُغ الأَرَضون ذاتُ الرِّيِّ في تونس أثمانًا عالية. وكانت منحَدرات جبال دَرَن من ارتفاع القيمة ما وَكَّدَ معه غُزَاةُ العرب بأسلوبهم الرائع سَفَرَ الإنسانِ من طرابلس إلى طنجة من غير أن يفارِق ظلَّ البساتين.

بَيْدَ أن نباتاتِ البحر المتوسط المُمَيِّزةَ تُزْهِر بلا ماءٍ على الدوام، كانت تُزْهرُ قبل أوميرس وموسى بزمن طويلٍ على ما يُحتمل، وهذه النباتات هي القمح والكَرْمة والزيتون.

وكانت التوراة تُفَرِّق حتى بين الحَبِّ السَّقِيِّ والحَبِّ البَعْلِيِّ، ولا يزال الأغارقة يَصْنَعون خبزهم كما في زمن أُومِيرس، ويُبْذَر الحَبُّ في أثناء أمطار الخريف، ويُحْصَد في أوائل الجفاف، ويُدْرس في العَرَاء على صَلْصال٧١ مُكَثَّفٍ تحت حوافر الخيل وظُلُوف البقر، ثم يُنْقَل على ظهور الحمير ليُخْبأَ في المطامير، ويُصْنَع جميعُ ذلك بما هو أقلُّ سهولةً وأكثرُ خَطَرًا في الشمال حيث يجب تطهيرُ الأرض من الحجارة قبل كلِّ شيء وحيث يمكن المطرَ الشديد أن يُفْسِد الأمرَ بعد الحَصَاد. ويجب على المرء في الأمكنة التي يأتيها الجَفَاف باكرًا، كمصرَ، أن يَكْسِب عَيْشَه اليوميَّ بمعاناتِه أعمالَ الرِّيِّ، ويُباع الماء في بَلَرْمَ مثلًا موزونًا في آنيةٍ، وتُحْجَز الأنهار بالأسداد، ويُتَصَرَّف في القَنَوات والنواعير كما في بعض أجزاء إسبانية وسورية. والذُّرَةُ التي تَزْهو تحت الشمس في المَكْسِيك وكَنَدَة، كما بأمطار الصيف، تزهو في شمال إيطالية وهُنْغارية، لا في الجَنوب حيث يجيء الحَرُّ والجفافُ معًا، وتُبْذَرُ الذُّرَة في شهر مايو، وتُحْصَد صيفًا في سهل الْبو وبعض أقسام البلقان، وهي في هذه البِقاع تقوم مقام القمح خبزًا وحَساءً.

وعلى العكس يكون البُرُّ في بِيئته بمِنْطَقة البحر المتوسط، وهو لا يتطلب تحت دَرَجات العَرْض هذه غيرَ أمطار الشتاء، ويمكن حَصادُه عند انقضاء ١٧٠ يومًا مع أنه يقتضي ثلاثمائة يوم في الشمال؛ ولذا يكون خبز البُرِّ الغالي، المتعذرُ نَيْلُه أيام الحرب، في الشمال غِذاءَ الفقير في مِنطقة البحر المتوسط فيأكلُه هذا المُعْوِزُ مع جُبْنَةٍ وزيتونٍ، ولا يبتغي وراء ذلك غيرَ قَدَح خمرٍ خفيفة، وكلُّ شيءٍ يَنْضَج هنا بأسرعَ مما في شمال جبال الألب، سواءٌ أكان ذلك حَبًّا أم خمرًا أم إنسانًا أم حكمةً، والحياةُ هنا أكثرُ بساطةً، والرجلُ هنا أقلُّ اطِّلَابًا، والسياسةُ هنا لا تُزْعج الرجل، ويُمْكِنُ الرجلَ هنا أن يزدهر حتى بعد هبوط الأمم. ولم تَعْرِف هذه البِقاع الجافَّةُ غيرَ قليل من البلايا الطبيعية، وذلك مع استثناء الزلازل المشابهة بفُجَاءَتها لنَوْبَة الغَرَض المباغت الذي إذا ما استحوذ على الإيطاليِّ التَّوَّاق حَطَّم كلَّ ما حوله.

والاضطراباتُ الاجتماعية هي التي كانت تُقَلِّل زراعة الحبوب في إيطالية أكثرَ مما تؤدي الموانعُ الطبيعية إليه. وما كان الرومان ليموتوا جُوعًا بغير فتح مصرَ التي صارت نِبْرَ٧٢ بُرٍّ لهم. أَجَلْ، إن شهوة السلطان، في ذلك الحين كما في هذا الزمن، كانت تُثَارُ بالفِكْرة القائلة إن المجاعة تشتدُّ بلا فُتُوح، غير أن زراعة الحقول في عهد القياصرة من الإمبراطورية الرومانية قد تقهقرت لاحتياج الأباطرة إلى جنود، ولأن الجنود بعد تسريحهم كانوا يزدرون الفِلاحة.

وصار يجب في مِنْطقة البحر المتوسط منذ قرونٍ أن تُنْشَأَ أرصفةٌ قَبْل الزِّراعة، والأرصفةُ مما ينهار عند عدم العناية، وبما أن الزِّراعاتِ متنوعةٌ فإنه يتعذر حدوث مجاعاتٍ هنا كما في روسية ما لم يُوقِد ذوو الطموح من الملوك نيرانَ الحروب أو ما لم تُوَزِّع الحكومات الفاسدةُ امتيازاتٍ جائرةً مثيرةً لفتنة الشعب الجائع. واليومَ لا يحتاج بلدٌ من بلاد البحر المتوسط إلى مستعمراتٍ ليعيش؛ وذلك لسهولة ابتياع كلِّ شيء ونقلِ كل شيء على هذا البحر المشترك بينها، وهنا، حيث يعمل الرجل منسجمًا مع الطبيعة، ينال خيرًا هو وبلده، وتبلغ مِساحة الأَرَضين المزروعةِ بإيطالية ٨٥ في المائة (قبل حرب سنة ١٩١٤)، وتَبْلُغ الأرَضُون المزروعةُ ببلاد اليونان ٤١ في المائة، ونصفُ أسباب هذا التفاوت جغْرافيٌّ ونصفُها الآخر اجتماعيٌّ.

والكرمةُ، كالقمح، تُزْرَعُ اليوم كما في عصر أُوليس، ولا تزال بلاد البحر المتوسط محتويةً أحسنَ كُرُوم الأرض، ويأتي أطيب الخَمْر من فرنسة على ما يُحتمل، ومع ذلك نُقِلَت أشجارُ العِنَب إليها من الخارج فيما مضى، واليومَ لا تزال خمرُ البحر المتوسط صالحةً للمَزْج، وأخيرًا ليست الصفةُ هي التي يُبَالَى بها هنا، وليس لخمر فالِرْن التي تأتي من المنحدَرات البركانية ولا لخمرِ مَرْسَالَة التي تَنْضَج في بلدٍ بحريٍّ، ولا لخمر كِيرِس الإسبانية، أن تخشى أيةَ مزاحمة، وأكثرُ ما تنكشف أخلاقُ البلد بعدم الاكتراث الذي يَبْدُو قَبْل قطف العِنَب، وذلك حين الجَفَاف الذي يُتقَبَّلُ مع تسليم سَهْل، وذلك من حيث أكثرُ النماذج اعتيادًا على الخصوص. وهكذا تَظْهَر قوةُ وسعادةُ أحد الشعوب والرجال والأرَضين، ويَعِيش الراعي الإغريقيُّ الذي لا يَعْرِف حتى القراءة، والذي لا يَصْنَع غيرَ الإنشاد، كأميرٍ إقطاعيٍّ إذا ما قيسَ بفَلَّاحٍ روسيٍّ من طبقته، وقُلْ مثلَ ذلك عن خمر تِرَّاسينَة، أو خمرِ كِيرِس الأندلسية التي لم تُمْزَج ولم تَعْتُق فتُنَال كما تَسِيل من العِنَب، فهي تُهَيِّجُ المُهَجَ التي تَنْفِر من خمر مُوزيلَ الخفيفةِ.

ويجب أن يُجْتَنَب في مِنْطقة البحر المتوسط غَرْسُ أشجار العِنَب على التلال لانحدار الماء عنها، وتُجْمَع أمطارُ الربيع بعنايةٍ حَوْل الأَجْفُن،٧٣ ولا تُرَى فائدةٌ من المساند الخشبية والدعائم الحجرية، وتتدلى أشجار العنب في أطراف فِيسِنْس أو بيزَهْ بين دَرْدارٍ٧٤ ودَرْدارٍ كأكاليلَ من أزهار، وتَنْمُو أشجارُ العِنَب في الأندلس وكُورِنْث طليقةً بين القمح والزيتون في الغالب، وكذلك بين التين الذي نَصَّ عليه الكتابُ المقدَّس حين نَصِّه على الخمر والذي كان القدماء يسمونه «أخا الخمر».
وفي هذه البلاد الجَنوبية، حيث تتطلب الكرمة عملًا أقلَّ مما تقتضيه البطاطا التي يجب سقيُها عند احتباس المطر، يَقِلُّ ميل الناس إِلى الرَّبالة٧٥ ويَبْدُون أكثرَ حريةً من أهل الشمال، ويَخُصُّ الطلاينةُ الكرمةَ بسُبْع أَرَضِيهم، ويَخُصُّ الأغارقةُ الكرمةَ بربع أَرَضيهم، فيَدُلُّون بذلك على أنها تؤلِّفُ جزءًا من حياتهم كما يُؤَلِّف الخبز. ويُرَى في مِنْطقة البحر المتوسط سِكِّيرين أقلَّ مما في الشمال، وتُحْدِث الخمرُ في الشمال جَوَّ عيدٍ يُقْضَى به على نَمَطِيَّة الحياة القاتمة، وتُعَدُّ الخمرُ في مِنْطقة البحر المتوسط عنصرَ حياةٍ يَتَّزِنُ به الإنسان كالخبز والحُبِّ.

٩

الزيتونُ مُقَدَّسٌ لدى جميع أمم البحر المتوسط، ومن النادر أن تَجِد رمزًا جامعًا لمنافعَ ومحاسنَ كثيرةٍ كالزيتون، ويَلُوح أنه لا يوجد منبعُ حياةٍ غيرُ الزيتون خَلَدَ ألوفَ السنين، حتى إن العيش لا يتوقف على السِّنْدِيَان والزَّين٧٦ والزَّيْزَفُون والقان٧٧ في البلدان التي هي مصدر هذه الأشجار، فيمكن أن تتوارى، ولكن الحياة هي التي تتوارى عن البحر المتوسط بلا زيتون. والنخلُ ضروريةٌ أيضًا وذلك لأنها تُجَهِّزُ قبائلَ في أفريقية بالمأوى والثياب والغِذاء. والزيتونُ، من جميع أشجار العالم، هو الذي ينفع ثَمَرُه مادةَ عيشٍ لأكبرِ عددٍ من الآدميين، والزيتونُ لا يستلزم شيئًا تقريبًا، لا يستلزم مطرًا ولا شمسًا ولا عنايةً، والزيتون يُعْطِي من الثِّمار ما لا يَقْدِر غيرُه على إنتاجه. وكانت التوراةُ عارفةً بذلك، ففي سِفْرِ القضاة ذِكْرٌ لاختيار الزيتون ملِكًا من قِبَل الأشجار.

ويُقدَّر عددُ أشجار الزيتون في إسبانية بثلاثمائة مليون، وفي إيطالية بأكثرَ من مائة مليون، ويُحْسَبُ مَهْرُ البنت في بعض أقسام آسية الصغرى بالزيتون، ويُعَدُّ التونسيُّ الذي يَمْلِك ألف زيتونة غنيًّا، وفي تونسَ يمكن ١٨٠٠ شخص أن يعيشوا من مزرعةِ زيتونٍ مِساحتُها ميلٌ مربع، على حين لا يَصْلُح المِيل المربعُ من الأرض البُور إلَّا لإعالة خمسةَ عشرَ نفْسًا. وما في إسبانية من أسوارٍ فاصلة يدلُّ وحدَه على أن البلد ليس غابةً بَرِّيَّة، بل ذات غِرَاس، ويُمْكِن أشجارَ الزيتون في الأماكن التي تَنْمُو فيها طليقةً أن تَبْلُغ من الارتفاع عشرةَ أمتار، ومن أشجار الزيتون في قُورْسِقة ما يَسْتَغَلِظ فلا يستطيع ثلاثة رجال أن يحتضنوه.

ويقترن تاريخُ شجرة الزيتون بتاريخ البحر المتوسط تقريبًا، وفي البلاد التي نشأ فيها كلٌّ من التوراة والأُوذِيسة بجانب الأخرى، ظَلَّت أقدمُ أشجار الزيتون حَيَّةً لتكون شاهدة على صحة الأقاصيص، ولَمَّا فَتَح العربُ القدسَ فَرَضُوا صَبَّ مُدَّيْن للسلطان عن كل زيتونة. وفي ذلك الحين كان عُمْر بعض الأشجار يزيد على ثلاثة قرون، ومن هذه الأشجار كانت ثمانيةٌ في بستان جَثْسَيْماني فحافظ عليها الصليبيون، وكان السلطان يَجْبِي منها ثمانية أَمْدادٍ في كلِّ عام حتى الحرب العالمية التي اشتعلت سنة ١٩١٤، ولا تزال هذه الشجراتُ قائمةً هنالك، ومن المحتمل أن كان يسوعُ جالسًا تحت إحداها في أفجع ساعاته.

ومن يَعْرِفْ حيويةَ شجرة الزيتون، ويُدْرِكْ علائمَ الخلود في الأوراق الجديدة التي تَنْمُو في أطراف الفروع، يُمْكِنْه أن يُبْصِرَ في شمال الأَكْروبول بأثينة أشجارَ زيتونٍ كان أفلاطونُ يُعَلِّم تلاميذه تحتها على ما يُحتمل، وكان سقراط يشتري منها زيتًا مؤدِّيًا ثلاثة أَفْلُسٍ ثمنًا لكلِّ لِتْرةٍ، وفي ذلك الحين كان كلُّ مَنْ يختبط أكثرَ من زيتونتين في العام يُلْزَم بدفع مائتي درهمٍ غَرَامةً فيُعْطَى الواشي نصفَها مع الأسف. وبما أن زيت الزيتون في بعض البلاد كان المادةَ الدُّهنيةَ الوحيدةَ التي تُستعمل كان من الممكن قهرُ العدوِّ عند إبادة زيتونه.

ودِيانتا البحر المتوسط، اليونانيةُ واليهوديةُ، قاومتا طريقةَ إِهلاك العدوِّ تلك، وذلك لعَدِّهما الزيتونةَ شجرةَ الحياة. قال سُوفُوكل في مأساة «إديب في كوُلُون»: «إِن الزيتونة ذاتَ الأوراق السُّمْرِ هي التي تُغَذِّي أولادَنا، ولا ينبغي للشبان والشِّيب أن يُبِيدُوا هذا النباتَ الذي تَحْمِيه الإلهةُ ذاتُ العينيْن الشَّهْباويْن والذي يُعْنَى به غارسُه.» وما هو مُحَرَّم في هذه العبادة عن خوفٍ من انتقام الآلهة مُحَرَّمٌ في التوراة عن سببٍ خُلُقيٍّ خالص، وهذا وحدَه يكفي لبيان ما بين الأدبيْن من تباين، وكلتا الشريعتين كانت تُبيح لبرابرة ذلك الزمن استعمالَ جميع الأسلحة خلا واحدًا، وذلك كتحريم الغازات السامة في أيامنا وإن لم تكن هذه غيرَ وجهٍ آخر للقتل من حيث النتيجةُ. ومع ذلك الحَظْر كانت أشجار الزيتون في ذلك الزمن تَسْقُط تحت فأس الفاتح كما أن الناس يذهبون ضحيةَ الكيمياء في الوقت الحاضر، فلا معنى لمبدأ الحرب الإنسانية في ذاته.

والزيتُ أيضًا كان مقدسًا في تينك الدِّيانتين، وذلك لِمَا كان من وَضْعه على هيكل أَتِينَا٧٨ ومن تَمْلئة القَرْن الذي كان يَحْمِلُه صموئيل عندما مَسَحَ شاوُلَ مَلِكًا، وقد صَبَّه أحد الأساقفة الأولين على رأس ملك الفَرَنْج الأول، واليوم لا يزال يُسْتَعْمل في دهن جِبَاه المُحْتَضَرين، وفي التوراة يُشَبَّه الوثنيون بالزيتونة البرية التي تتحول إلى زيتونة مُثْمِرة بعد تطعيمها. وعلى العكس كان أهلُ فلسطين يحاولون تجديد شباب الزيتونة المُسِنَّة بتطعيمها بجَذْرٍ بَرِّيٍّ وُصُولًا إلى إعادة خِصْبها؛ أي كانوا يأتون ما يشابه العمليةَ التي تُصْنَع الآن لبعض الشِّيب حتى يعودوا إلى شبابهم والتي كان الرسولُ بولس قد حَدَّثته نفسه بمثلها.

وفي كلِّ مكانٍ يُكَلِّل الزيتونُ صَفَحاتِ التاريخ القديم، وفي كلِّ مكانٍ يُعَدُّ ورقُ الزيتون علامةَ السَّلْم والسعادة، وهل هذا من أَجْل فُتُونه أو من أَجْل خَيْرِه؟ وفي الوقت نفسه، ومع عدم وجود زمنٍ للأساطير، أَتَتْ حمامةُ نوح بغُصْنِ زيتون، كما دَفعتْ أَتِينَا زيتونةً فوق الأَكْرُوبول في أثناء مقاتلتها نِبتُون لِمَا وَجَدَت في ذلك أثمنَ هدية إلى بلدها، ولَمَّا هلكت هذه الزيتونةُ في أثناء تحريق الفُرْس لأَثينة أخرجت منها فرعًا جديدًا في يومين. وهذه الزيتونةُ، التي قيل إن أولَ إكليلٍ أُلَنْبيٍّ كَسَبه هِرْكُولُ قد أُخِذَ منها، كانت تُقْطَعُ منها عصائبُ جِبَاه الفائزين في الألعاب الأُلَنْبيَّة في غُضُون القرون، ولا تزال مُومْيَا أحد ملوك مصر تحْمِل حَوْلَ جبينها بقايا تاجٍ من زيتون.

ومهما بَعُدَ عهد الأسطورة فقد صَلَحَت شجرةُ الزيتون للآلهة كما صَلَحت للآدميين، وقد وُجِدَت في جزيرة سَنْتُورَنْ قِطَعُ مِعْصَرَةِ زيتٍ خَرِبَت قبل إنشاء الأهرام بزمن طويل، كما وُجِدَت نَوَى زيتونٍ في قبور ملوك مِيسِين. وفي الإلياذة أن النسيج مُلِّسَ بخشب الزيتون، وأن أُوليس صنع سريرَ عُرْسِه من جذور زيتونة برية. وفي العصر نفسه دَفَعَ الملكُ سليمانُ عشرين ألفَ لِتْرَةِ زيتِ زيتونٍ إلى نَجَّارِي لُبنان الذين صنعوا من الأَرْز جُسُورًا لهيكله. وكان العالِم اليونانيُّ طالِيسُ أولَ مَن أثبت كيف يمكن العلمَ أن يُغْنِيَ أحد الأساتذة، فمما حدث ذات عامٍ أن أبصر بما يَعْرِف عن الرياح مجيءَ محصولٍ جيد فامتدح جميع معاصر مَلَطْيَة كما يضارِب في أيامنا وكيلٌ خبير على قهوة البرازيل فيَرْبَح كثيرًا. وكان غُصْن الزيتون يُتَّخَذُ لتكريم الفائز الأفلاطونيِّ من رجال المجمع الأدبيَّ كما يُكَرَّم الفائز في الألعاب. وكان لغُصْن الزيتون محلٌّ في وِلادة أبناء الوطنِ وموتهم، وكان بُومُ أَتِينَا واقعًا على زيتونةٍ في قِطَع النقود.

ويَغزو الزيتون إيطالية والبرُوفنْس باسم الدِّيانتين، ويَبْلُغ لنباردية في عهد أباطرة الرومان، وذلك حينما كانت السفن الكبيرة تَنْقُل أَوْساقَ زيتونٍ من طرابلس إلى رومة، وكان دِيمقْرطيس وبلِينِي يقولان مُوَكِّديْن إن صحتهما تتوقف على الزيت. ولما سأل أغسطسُ الفيلسوفَ المئويَّ بولْيُون رُومِيلْيُوس عما يَصْنَع للمحافظة على حُسن صحته، أجابه هذا الشيخُ الحكيم بقوله: «عليك بالخمر والعسل داخلًا وبالزيت خارجًا.»

وتقول إحدى القِصص إن أقدم أشجار الزيتون حافظ على شبابه مع ألوف السنين. ومما يُثيرُ الدَّهَشَ ما يُرى في الغالب من مشيب أشجار الزيتون الشَّابَّةِ بما يَبْدُو من تَخَشُّن قِشْرها وكثرةِ عُجَرِها٧٩ كشَرَاسة بعض الشباب الذين يَرْغبُون عن إظهار حُنُوِّهم، وبما أن أشجار الزيتون تُشَذَّب في فرنسة على عُلُوِّ ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار فإنها تَتَّسع مقدارًا فمقدارًا، فيضيق بذلك ما بينها من مساوفَ كانت صالحةً لزراعة الحبوب والكَرْمة. ويَظْهَر من جميع المناظر التي يُزَيِّنُها شجرُ الزيتون جَوٌّ هادئٌ رعائيٌّ داعٍ إلى الراحة أكثر مما إلى النُّزْهَة خلافًا لغابات الشمال، ويُوحِي ما عليه الأشجارُ من شكل القُبَّة بمنظرِ بناءٍ رومانيٍّ، على حين يُلْقِي السَّرْوُ أو الصَّنَوْبرُ في الرُّوع مشاعرَ غُوطِيَّةً متعالية.

وكما أن شجرة الزيتون تصْبِر على الجَفافِ وتَرْتَضِيه يَتَّصِف ابن البحر المتوسط بصفاء أفكاره وجَلَاء مشاعره وبساطة عواطفه، وهو لا يكون ضَجُورًا ولا كئيبًا ولا عبوسًا كأهل الشمال، وما تنطوي عليه الكتدرائية القُوطية من صَبَابَةٍ إلى الوطن أمرٌ غريب عنه، وقد ظَلَّت نصرانيته نصفَ وثنية. وإذا كانت الأرضُ خصيبةً رطيبةً أخرجت زيتًا رديئًا. والواقعُ أن أطيب زيتونٍ يَنْضَج حول بحيرة غارْد هو ما يَنْتِجُ على رَدْم الصخور في أطراف حقول الجليد، ويُعَدُّ هذا نصرًا للجَنوب على الشمال، حتى إن السهل بالغُ الثِّقَل على الزيتون الذي يُسَرُّ بالمنحدَرات حيث يُجَدَّدُ الهواءُ وتسيطر أشعةُ الشمس كما يُسَرُّ بالأرض الكلسية المَسَامِّيَّة. وتَنْضَج ثمرةُ الزيتون على شجره في سبعة أشهرٍ من أشهر الحَرِّ وعدم المطر، وذلك مع فيضٍ لا يؤثِّر فيه ما قد يقع بعد ذلك من نزول ماءٍ ولو طال أَمَدُه.

وبما أن شجرة الزيتون أقدمُ الأشجار وأغناها فإنه يُقْبَل كلُّ ما يصدر عنها، حتى ما يبدو غريبًا، شأنُ الشائب العبقريِّ. ومن ذا الذي يَتَوَقَّع أن يَرَى زيتونًا بريًّا، يَرْجِع أصله إلى جبال دَرَن على ما يُحتمل، فينمو أملسَ بلا شَوْكٍ مع فروعٍ مُدَوَّرَةٍ كالذي يُرى في مزارع الزيتون بمِيُورُقة أو الجزائر؟ وعلى العكس يشتمل الزيتونُ المغروس على قشرٍ خَشِن وغُصُونٍ مربعة الزوايا، وإليك إِذَنْ شجرةً رائعةً مُحِصَت بتطعيمٍ من شجرةٍ أخرى شائكة. وقد وَرِث بعض «القبائل» في شمال أفريقية صِناعةَ التطعيم من كُهَّانٍ وثنيين كانوا قد تَعَلَّمُوها من تجار أفريقيين قبل ذلك بزمن طويل.

ويتمُّ ذلك الاصطفاءُ في شجرة الزيتون ببطوءٍ، وذلك على مِرْقاةِ ما تَصْنَعه أو تعانيه هذه الشجرةُ الطويلةُ العمر كثيرًا. وإذا ما غُرِست زيتونة بَرِّية في الثامنة أو العاشرة من سِنِيها، اقتضت مثلَ هذه السنين حتى تَبْلُغ الغايةَ من الإنتاج. وتُقَلَّم الأشجار في فرنسة في كلِّ عامين تسهيلًا للقطف، ويَنْتظر أهلُ الجزائر عشرين عامًا في بعض الأحيان، وهم عندما يُسْأَلون عن زمن تقليم الشجرة يجيبون مع الابتسام بأن آباءهم شَذَّبوها مرةً واحدة أيام صباهم. وتَجِدُ من الرجال في تونسَ مَنْ يتخذون التقليمَ مِهنةً لهم، فهؤلاء يُشَذِّبون شجرة الزيتون حتى أصلِها آخذين ما يَقْطَعون أجرًا لهم، وهم يُعْطَوْن نقدًا في الوقت الحاضر نفعًا للمالك وللشجر لا المُشَذِّب. ومن شأن بُنْية الزيتون القويةِ احتمالُ كلِّ شيء، احتمالُ التقليمِ الطائش وعُمْقِ الكُلُومِ٨٠ وشدةِ الزوابع التي لا تكاد تَقْلَعُها. وتَجِدُ شجرةُ الزيتون للعمر علاجًا لا يستطيع أمهرُ الناس أن يُقَلِّدَه، وذلك أن ساقَها إذا ما تَجَوَّفت انقسمت إلى شجرتين أو ثلاث شجرات فيَنْمُو القِشر من الداخل إلى الخارج في محلِّ الانفتاق حتى يَكْسُوَ الأجزاءَ المتَجَرِّدة ويَلْحُمَها.

وزيتونُ البحر المتوسط، كابن هذا البحر، لا يحتاج إلى غير نصف زراعة حتى يَنْمُوَ ويُثْمِر، وما كان الإغريقيُّ ذو الحضارة الرفيعة، سياسيًّا كان أو بستانيًّا، ليطالبَ فَلَّاحيه وأشجارَ زيتونه بسوى أقصى الضروريِّ؛ أي بشيء لا يُذْكَرُ تقريبًا، وكلُّ ما سَنَّه سُولُونُ في الأمر هو أنه لا يجوز غرس أشجار الزيتون على مساوفَ تَبْعُد بها الزيتونةُ عن الأخرى أقلَّ من ثلاثة أمتار، وهذه هي القاعدة المُتَّبَعَةُ الآن في البروفنْسِ تقريبًا، وتكون المساوفُ بين الزيتونة والأخرى خمسةً وعشرين مترًا في صفاقس وفي جَنوب تونس حيث يَنْضَج أطيبُ الزيتون. ويُسْقَى الزيتونُ هنا سَقْيًا خفيفًا عندما تَقْضِي الضرورة بذلك، وتُسَمَّدُ الأرضُ هنا في الغالب، ولا يكون التسميدُ في غير هذا المكان إلَّا في كلِّ خمس سنين. ويَنْبُت الزيتونُ في جبال دَرَن، وفي جَنوب إسبانية، حتى على ارتفاع ١٥٠٠ متر، ولا يزيدُ محلُّ نُمُوِّ الزيتون على أربعمائة مترٍ عُلُوًّا عند بحيرةِ كُومَ، حيث حَدُّه الشماليُّ، ومما يَحْدُثُ في سِنِي البرد الشديد داخلَ البلاد أن تَجْمدَ مزارعُ زيتونٍ بأَسْرِها، مع أنك لا ترى شيئًا يُهَدِّدُ مثلَ هذه المزارع على ساحل البحر حيث اعتدالُ الشتاء يدلُّ على بِيئَتها الحقيقية.

ولم يَقْتَصِر ثمرُ هذا الشجر الجليل وطِرَازُ اقتطافه على عدم التغير في ألوف السنين فقط، بل ترى في بعض جهات سورية بقاءَ مِعْصرةِ الزيت على ما كانت عليه في زمن الفنيقيين أيضًا، فمتى حَلَّ وقت القَطْف بَسَطَ نساءُ الوقت الحاضر ملاحفَ كَبيرةً وجلسن تحت الشجر الذي يختبطه الرجالُ ويَهُزُّونه، فيكون بذلك منظرٌ رمزيٌّ عَميقٌ، ولم يَلْبَثُ اللِّحَافُ أن يمتلئ بثمارٍ يترجح حجمها بين الكَرَزة والمِشْمِشَة على حسب الشجرة ونوعها. وقد تَحْمِلُ الشجرةُ نفسُها زيتونًا أخضرَ وأحمرَ وأسودَ، وقد يكون الزيتونُ أبيضَ في سورية أحيانًا، وأكثرُ الزيتون قَدْرًا هو ما يتحول من الأحمر إلى الأسود، ولكن من النادر أن تُخْرِج الأشجارُ المُثْقَلَةُ ثمارًا جيدةً جدًّا، شأنُ النساء الوُلَّدِ. وتُدَارُ المِعْصَرَةُ في الوقت الحاضر، كما في زمن أُومِيرس، بحيواناتٍ تَسِير على بَيْدَرٍ مُدَوَّر، فتَسِيلُ العُصارةُ السوداءُ في حَوْضٍ حجريٍّ واقعٍ تحت ذلك، وتُصْنَعُ المِعْصَرَةُ في الغالب من ساق زيتونةٍ قديمةٍ ثخينةٍ، فيُقَالُ والدةٌ تُربِّي صِغَارَها بقسوة حتى إنها تَخْنُقُهم.

وتختلف قيمة الحدائق باختلاف الأزمان، واليوم تَبْلُغ أربعةَ آلافِ فرنكٍ ذهبيٍّ عن كلِّ هِكْتارٍ من الأرض الجيدة، وقد تُعْطِي الشجرةُ الحَسَنةُ المحصولِ أربعةَ عشرَ كيلوغرامًا من الزيت، وفي فرنسة تعيشُ اثنتا عشرةَ مديريةً من زيتونها كما تعيش قُوْرسِقة وكُورْفُو. غير أن زمن الإصدار الأكبر قد انقضى، وذلك بفعل رجلٍ واحدٍ، بفعلِ أَمرِيكِيٍّ أَبْطَل وحدَه سببَ ذلك الإصدار، فقد أطفأَ إِدِيسُن مصباحَ الزيت إلى الأبد، حتى في الأمكنة التي لم يُعْتَمَدْ فيها على الغاز بَعْدُ. وحتى زمن أجدادِنا كان عالَمُ الظلام يَغُوص في دُجْنَةٍ مُدْلَهِمَّةٍ لو جَفَّ زيتونُ البحر المتوسط. وكانت إيطالية في القرون الوسطى تُرْسِل زيتَها إلى الفلَانْدِر، وإلى الصين أيضًا.

واليومَ عاد الزيت لا يُضِيء شيئًا، واليومَ لا يكاد الزيت يُغَذِّي مَنْ يُنْتِجُه. وكانت جميع المنازل القائمةِ على طول البحر المتوسط تشتمَل في قرونٍ كثيرةٍ على جِرَار زيتٍ كبيرةٍ كالتي تُرَى في بونْبي أمام حانوت التاجر.

واليومَ عاد الزيت لا يُعَيِّش أحدًا تقريبًا، واليومَ يقضَمُ الأمريكيُّ المُتَدَلِّلُ زيتونًا في أَثناء عَشَائه، وما يُصْدَرُ الآن من زيتون البحر المتوسط يتدحرج ضِمْنَ براميلَ في المصانع التي تستعمل الزيتَ الصافيَ في صُنع الصابون والعُطُور والأدوية. بَيْدَ أن فَلَّاح البحر المتوسط يَجْلِس دومًا تحت زيتونته القديمة ويتغذى بما كان آباؤه يتعهدونه من زيتونه وخمره وبُرِّه، فإذا لم تَنْطَوِ ملامحه على خِداعٍ تمتعت نفسُه بسكونٍ مُتَّزن.

ولا يجوز قياسُ الزمن وَفقَ المعارك، ولا قياسُ الأمم وَفْقَ القياصرة، فبَيْنَ زوابع البحر وحروب الشعوب، وفي غضون تاريخٍ دامٍ، وفي أثناء هَزَّات الأرض وتلاطمِ الأمواج وغرَقِ المراكب يحافظ ابن البحر المتوسط على صَفَائه، وابنُ البحر المتوسط هذا، إذا كان سليمًا خَلِيًّا مقيمًا بالأرياف، عاش بما تُنْتِجه الأرض ولاءم إقليمًا يُنَاسبه.

حتى في المُدُن يَقْنَعُ بلحمٍ قليلٍ وبعَرَقٍ، فيَقْضِي حياةً طليقة، واليومَ لا يزال المعملُ هو المستثنى، والمعملُ يَدَعُه حُرًّا يومين في كلِّ أسبوع، وما يَبْدُو به المنزل مع شُرَفهِ المكشوفة والكانونُ في الشتاءِ والمسكنُ في طرف الميدان حيث يَتَرَدَّدُ بلا عمل أو يُدَخِّن أو يقرأ جريدتَه أو يَجْلِس أمام قهوته كما كان أجدادُه يصنعون في الساحة العامة أيام بركْلِس، أمورٌ تَمُنُّ عليه بحياةٍ فَعَّالة مُشْمِسَة مَرُوحٍ٨١ لا يَعْرِفها الشمالُ ولا البلادُ الحارَّة.

ومن هناك تأتي مُرُونة ابن البحر المتوسط اللَّبِقَةُ والنشاطُ في سَيْرِه وذكائه وأَدبه وحركاته وفنِّ خَطَابته. ومن هناك أَيضًا يأتي الزهو والشَّغَب والحياةُ العامة المعدودةُ لَعِبًا والمحاباةُ وفَتُّ المشاريع القومية إلى مائة تركيب ومقاومةُ السلطة وتعذُّرُ سيطرة الزعيم على الجُمهور عندما يصبح عاجزًا عن إِلهائه. وذلك هو أمر جميع أبناء البحر المتوسط، وذلك لكون الفرنسيِّ من أهل مَرْسِيْليَة أكثرَ مشابهةً للإيطاليِّ من أهل مَسِّينَة أو الإغريقِيِّ من أهل بتْراس من مشابهته لأهل الهافر أو من مشابهة كلِّ واحدٍ منهما لأبناء وطنه من أهل مِيلَانُو أو لارِيسَّة، فجميعهم متقاربون بفضل البحر الذي تَمَسُّه منازلُهم أكثرَ مما بالبَرِّ الذي أُنْشِئَتْ عليه.

١٠

ترى الحيواناتِ أكثرَ تَجَرُّدًا من الحِيَل بين جميع المهاجرين الذين اجتذبهم البحر المتوسط أو الذين تركهم يغادرونه، وهي تدلُّ على أن البحر يَفْصِل مرَّة ويَصِلُ مرة أخرى. وكانت الأسود والضباع تطوف في البلقان في زمن غير قريبٍ من تاريخنا، ولكن مع بقاء ابن آوَى هنالك، وقد أقام القِرْدُ بجبل طارق، وقد استقرَّ الدُّلْدُل٨٢ بإِيطالية.

وقد اقتسمت القارَّاتِ هذه الحيواناتُ المُجْتَرَّةُ الدَّوَّارة، غير أن الوُعُول والغِزْلان ظَلَّت في أفريقية، ويلوح أن الجَمَلَ الذي كان يَعْرِفه الفنيقيون لم يأتِ إِلى الغربِ إِلَّا في زمن قيصر، وكانت مَرَّاكِش في ذلك الحين لا تشتمل على جِمال بل على فُيُول، ويُمْسِك القرطاجيون بالفِيَلَةِ لاستخدامها في الحرب، وكان الملك جُوبَا يَتَلهَّى بالكرْكَدَّن والتماسيح.

وأُنِّسَ الحمارُ قبل الفرس، وكان الحمار يَحْمِل صاحبه في مصر وأَقْرِيطش بصبرٍ لم يُقَدِّره الناس إلَّا بعد أن فَرَغ، وأولُ ما استُخْدِمت الحُصُن المصرية الصغيرة كان في جَرِّ العِجَال الحربية، ثم اتُّخِذَت مَطِيًّا، وقد أَلْقت الرُّعْبَ في أثناء مغازي البرابرة الجريئة، وذلك كالغَرَمَان الذين كانوا يَجُوسون خلال سهول إسبانية فِرَقًا رُبَاعيةً، وقد نُقِصَت قاماتُها فصارت خيلًا صغيرةَ الجسم قصيرةَ القَدِّ في العصر نفسه وفي بعض الجزائر الإغريقية؛ حيث كانت تعيش هذه الأفراسُ وحشيةً.

وتَغْدُو الحياةُ غيرَ موجودةٍ في بِقاع البحر المتوسط الواسعة بلا بغال، حتى في هذه الأيام، وذلك لعدم قدرة السَّيَّارة على تَسَلُّق هذه الْمنحدَرات وهذه الصخور، والبغالُ نادرةٌ غاليةٌ لعدم تناسلها، وعلى البغل أن يُثْبِت أفضليةَ أبيه لِعالَمٍ جُنَّ بمسألة العروق ما دام وليدَ حِصانٍ وأَتَان.٨٣ ولا تُدْرَك مَهْزأة مسائل العروق، التي تؤدي إلى جعل الخيل قومًا من السادة وجعل الحمير قومًا من العبيد، إلَّا من قِبَل مَن يَقْدِر على تقدير قوة الحمار الأبيض ونشاطه وجَمَاله ثم قياسه بفرس الحقل الهزيل. وفي كلِّ مكانٍ تَجِدُ نماذجَ عاديةً، وفي كلِّ مكانٍ تَجِدُ نماذجَ رائعةً، ولا يُثْبِتُ الجوادُ العربيُّ، الذي هو أجمل حيوانات العالَم، أفضليةَ جنس الخيل بأحسنَ مما صنع غُوتِة في إثبات أفضلية عِرْق الجرمان.

وصارت الضأنُ والمَعْزُ، كصغار الحمير وأنصاف الخيل، أكثرَ قوةً، بفعل غِذَاء البحر المتوسط وإقليمه، من البهائم الكبيرة التي نَقَصت تربيتها. ومنذ زمنٍ قليل كان البَقَر في جهاتٍ من آسية الصغرى يَجُرُّ المقطوراتِ في الطُّرُق الضيقة لمناجم الفحم، ويُقال في سَرْدِينْيَة إنه يوجد من الرجال مَنْ يَقْدِرون على امتطاء البقر، وقد قَلَّ طول البقر ومَزِيَّتُه نتيجةً لنُدْرَةِ المُرُوج وتَعَذُّرِ العَلَف. وبَيْنَا كان يوجد في ألمانية سنة ١٩٠٠ عشرون مليونَ رأسٍ من المواشي لم يكن في إسبانية سوى مليونين، وعلى العكس يوجد في بلاد اليونان من الضأن والمعز عشرةُ أمثال ما في سويسرة.

وتكاد المَعْزُ في مِنْطقة البحر المتوسط تكون نافعةً للإِنسان كالزيتون، فهي تَمِيرُه باللبن والجُبْن والكِنِّ٨٤ وصُدْراتٍ من الجلد، وتكون المَعْزُ أو الضأن أكثَر عددًا على حسب البِقاع، غير أن رِعاء الإغريق يخلطون اللَّبَنَيْن ليصنعوا منهما جُبْنَهم، ولا يُحْصَى مقدارُ ما أصابت هذه الحيواناتُ به الغابَ من ضررٍ منذ وصول أعداءِ الأَيْكِ النُّورمانِ ثم التُّركِ، فهم، إذا ما حَلَّ فصل الخريف، نَزَلُوا من الجبال لدوام الرَّعْيِ في الخارج وإِتلاف المنظر بذلك، لا للذهاب إلى الزِّراب كما في سويسرة.

وبما أنه لم يمكن هنا تقويةُ ما بين الزراعة وتربية الحيوان من صِلةٍ وثيقة فإن الرُّعَاة يعيشون كما يشاءون فيَقْضُون جميعَ حياتهم في الخارج تقريبًا كمواشيهم. وانْظُرْ إلى أَلْبانْيَة وتسَالْيَة، وانْظُرْ إلى أقسام فرنسة الجَنوبية وأجزاءِ إسبانية الكثيرة السكان والحَسَنة الزراعة فيما مضى، تجِدْها اليوم معمورةً بقبائلَ بدويةٍ وبمواشي هذه القبائل التي كانت منتشرةً حول البحر المتوسط في القرون الوسطى.

ولم تَنْجلِ مسألةُ فَصْل البحر أكثَر من وصله إلَّا بمخلوقٍ طائر، ويجب أن يكون لدى الطائر المهاجر، الآتي من سِيبِرْية وغَرِينْلَنْد مُحَلِّقًا فوق البحر الأسود متوجهًا نحو النيل أو مارًّا من وادي الرُّون إلى الجزائر، أحسنُ الخرائط ظاهرًا، وذلك لانتفاعه بجميع الرءوس البرية ومجاوزته البحرَ في أضيق أماكنه، ومن الجَنوب يَصْعَد أبو مِنْجَل والنُّحَامُ٨٥ والبَجَعُ، وهكذا تتكرر في ألوف السنين هجرةُ الطيور التي اخْتُبِرَت غريزتُها قبل غريزة الإنسان بزمن طويل. وكانت الطيور المهاجرة تُهْرَع إلى الشواطئ المعروفةِ لدى أجدادها قبل أن تطير حمائمُ الزمن القديم المسافرةُ نحو المَحَالِّ المقصودة بوقت كبير، وكان الحمامُ يطير إلى معاشقه الخاصة مجاوزًا البحر قَبْلَ أن تُدْخَل إلى ريشه أولُ بطاقةٍ ناعمة.
ومع ذلك لم يَعُدْ إلى الشمال ما لا يُحْصِيه عَدٌّ من الطيور لوقوعها في حبائلَ كان يَنْصِبها اليونان والرومان على الشواطئ والجُزُر. ومن ذلك أن ظَهَر أنبياء ومفكرون من البحر المتوسط دومًا ليحملوا أفكارهم إلى البلاد البعيدة، غير أنهم اضْطُهِدُوا وقُتِلُوا بعد أن وَقَعُوا في أشراك الكهان أو في دِبْقِ السلطات القائمة، فرجمهم أبناء الطبقة الوسطى الدُّنُق٨٦ الذين يَوَدُّون منعهم من الوصول إلى أهدافهم البعيدة المدى، ومع ذلك كان يعيش أحدُهم أو يَظْهَر تلميذٌ أو نصيرٌ لهم على الدوام. وهكذا سَرَت حكمةُ مذاهب البحر المتوسط، كالمذهب الربَّانيِّ ومذهب الحقيقة ومذهب الجمال، في العالَم وأثَّرَت في الأمم التي لا تزال تُقَدِّس لها.

١١

أتت أولُ سفينة من الصحراء، وكانت هذه سفينةَ نهرٍ في بدءِ الأمر، وما كانت مصرُ العاطلةُ من الغاب لتستطيع فتحَ البحر، ولكنها كانت مُضْطَرَّةً إلى السَّفَر على النيل الذي كان أبا البلد وإلهَه معًا، وكان خشب السِّدْر الجبليِّ نادرًا، وكان خشب السَّنْط ثقيلًا، وبما أنه لم يوجد سوقٌ أو قشورٌ غيرُ ذلك، فإن حُزَمًا من البَرْدِيِّ كانت تُرْبَط في الأزمنة الأولى وتُجْمَعُ على شكل القَرْن في الأمام وفي الخَلْف وتُشَدَّ بلَوْح. وكان هذا الزورقُ الذي هو بلا خَدْفٍ٨٧ ولا مِقْذَفٍ يُحَرَّك بغواديف،٨٨ فيمكنه أن يَحْمِل رجلًا مع بَقَرةٍ على الأكثر. ويَتَقدم الزمنُ، وتُمْكِنُ حيازةُ الخشب، ويُحَافَظُ على صورة الفُلْكِ هذه، ولا يُقال إنه «يُنْشَأُ» مركبٌ، بل يُقال إنه «يُرْبط»، ويُسْتعمَل الجُمَّيزُ والسَّنْطُ لمزاياهما الخاصة.

ويغامر المصريون في البحر سنة ٢٨٠٠ قبل الميلاد ويَجْلِبُون من آشُورَ أربعين سفينةً مشحونةً بخشب الأَرْز. وإذا ما نظرتَ إلى التصاوير الجِدَارية وجدتَ الجُدَّاف وُقُوفًا مُدِيرين لخُدُوف الذَّيْل؛ أي المُؤَخَّرة. ويمضي زمنٌ قليل فيخترعون الدَّفَّةَ الثابتة مُعَلَّقَةً في حَلْقَةٍ فوق المَرْكَب فيكون الماء لا الإنسان هو الدافعَ بذلك. ولم تَلْبَث الأَشْرِعَةُ أن ظهرت على النيل، وعلى مياه ساحل البحر على ما يُحتمل، ولم تلْبَث المراكبُ أن أخذت تسافر على النهر المُتَغَيِّر دائمًا، ولم يَزَل يوجد مُجَهِّزون للمراكب حوالَي سنة ١٥٠٠.

وفي كتاب «النيل» ذكرنا ماذا أنجز قدماء المصريين وأهملوا في معاركهم ضد الآشوريين وضدَّ القَراصين. وهنا، حيث نبحث في مصير البحر المتوسط، نقتصر على ذكر الرجال الذين كانوا أولَ مَن حاول إخراجَ البحْر من الحدود التي حصره القَدَرُ فيها، ولِمَ لَمْ يَنْتَهِ الفراعنة، الذين أقاموا الأهرام والمِسَلَّات غيرَ مستعينين بآلات رفع الأثقال وما إليها، إلى حَفْر بَرْزَخ السويس؟

هم قد خَدَعوا البحر المتوسط، وهم، لكي ينقلوا ذخائرَ الهند نحو الشمال من غير تغيير السُّفُن، لم يحتاجوا إلى حفر البَرْزَخ ما استطاعوا أن يُحيطوا به. وذلك أن رَمْسِيسَ الأكبرَ اتخذ قبل لِسِّبس بثلاثةِ آلاف سنة طَريقةً بسيطةً بساطةَ بَيْضَة كُولُونْبُس، فأقام نظامَ قَنَواتٍ مُحْكم يَصِلُ دِلْتا النيل بطرف البحر الأحمر الشماليِّ فتستطيع السفينة في أربعة أيام أن تسير من بحرٍ إلى بحرٍ، مع أن هذا الأمر يتطلب الآن سفرَ يومٍ أو يومين في قناة السويس.

ولكن بما أن معنى البحر كان يَفُوت المصريين، وكان المصريون لا يفكرون في غير نهرهم المقدس، فقد خَرِبَت القناة، وتمضي سبعمائة سنة فيُصْلِحها نِخَاوُس مع هلاك ١٢٠٠٠٠ عبد في هذا العمل.

وليس هذا هو الذي أَزعجَ فرعونَ، وفرعونُ هذا كان في الحقيقة تَوَّاقًا إلى حيازة أسطول، وتبلغ الدُّعابة في سنة ٧٠٠ قبل الميلاد درجةً يَحْمِلُ معها سيداتُ البَلاط سُفنًا صغيرة على شكلِ مشابِكِ صدرٍ، ولِمَ لَمْ يُصِرَّ على ما تَصَوَّره؟ لم ينشأ هذا عن الرمل الذي لم ينفكَّ يَهْبِط، ولا عن موت عبيده، وإنما نشأ عن قول هاتف الغيب له: «أنت تقوم بعملٍ في سبيل البرابرة»، وهكذا يَحْمِلُ الكهنة الماكرون الإله على الكلام حينما كان نصف العمل مُنْجَزًا. ومثلُ هذا أمرُ النَّفَق بين دوفِرْ وكالِهْ، وكَونُ خوف إحدى الأمتين من غزو الأخرى هو الذي يَحُول دون صُنعه. وهكذا كان يمكن في ذلك الحين جمعُ شَتات نظام القنوات الذي كان يَصِلُ فرعَ دِلْتا النيل الشرقيَّ بالبُقعة القريبة من الإسماعيلية في أيامنا.

ويَتَحَقَّق قولُ الهاتف، فلما مَرَّ قَرْنٌ ظهر دارا الفارسيُّ واستأنف أعمالَ القناة ليَفْتح مصر، ثم قطعها مُتَّبِعًا فكرة مهندسيه الوهميةَ القائلةَ إن القناة تَغْمُرُ مصرَ بأَسْرِها.

وكانت المِلاحة في عُرْض البحر أمرًا عَرَضيًّا لدى المصريين على الدوام، وما كان البحر ليجتذبهم بل كان يحميهم فقط، ويظهر أن إِله النهر سحرهم فحصرهم في واديهم الخصيب بدلًا من اجتذابهم نحو الخِضَمِّ. وكان المصريون يَشْعُرون بأنهم في مَأمَن، ولكن بما أنهم لم يُوَسِّعُوا سلطانهم البحريَّ، فقد خَسِرُوا سيادتهم حينما اكتشف المِلاحةَ والتجارةَ شعبٌ آخر، وبينما كانت عظمةُ مصرَ آخذةً في الأُفول رويدًا رويدًا حَوالَي سنة ١٢٠٠ قبل الميلاد، ظهر الفنيقيون فلاحَ أن تجارتهم حَلَّت محلَّ المصريين سَلْمِيًّا.

وكان كثيرٌ مما هو ناقصٌ في مصرَ يَفيضُ لدى الفنيقيين، ونَذْكُر خشبَ لُبْنان من ذلك، والواقعُ أنه لم يكن عند الفنيقيين نِيلٌ يَبْهَرهم، وإذْ ضَغَط الفنيقيين أقوامٌ آخرون ودحروهم من الشرق، وإِذْ أقام هذا الشعبُ الصغيرُ بأرضٍ ضيقة يترجح عرضها بين فرسخين وعشرة فراسخ، فإنهم اضْطُرُّوا إلى مجاورة البحر ليَجِدُوا ما ضَنَّت به عليهم أرضٌ جدبيةٌ غيرُ خصيبة. وهكذا صار الفنيقيون أولَ المستعمِرين، ومن المحتمل أنهم من ذرية حام الذين أنبأت لَعَانِيَةُ التوراة ببقائهم عبيدًا إلى الأبد، ومع ذلك كانت قبيلةُ حام هي التي أقامت أقوى الدول، أقامت مصرَ وبابلَ وفنيقية وقَرْطاجة، وكانوا يُسَمُّون بلدَهم كنعانَ؛ أي البلدَ الأدنى، وهذا هو الاسم الذي تدعوهم به التوراة، ولم يتكلم الأغارقة عن فنيقية؛ أي بلدِ البِرْفِير٨٩ إلَّا بعد حين، ويدعوهم الرومان بالبونيين ثم بالقرطاجيين.

وكان يمكن أن يُسَمَّوْا بَرْمَائِيين، وذلك لأن صُورَ وتروادة كانتا أولَ مرافئ العالم الغربيِّ، فينطلق منهما شعبٌ بَرِّيٌّ إلى البحر للتجارة والفتح، وقد امتدحهم أَشَعْيَا وهيرودوتس، وهم، لِمَا كانوا عليه من ازدهار أيام الإسكندر، يمكن أن يُقَدَّر دوامُهم بألف سنة. وإذ كان الفنيقيون أقلَّ شهرةً من المصريين والأغارقة فإنهم يُتَّخَذُون دليلًا على أن الخلود يُضْمَن بالدِّين والحكمة والفنِّ؛ أي بأمورٍ ثلاثةٍ كانت مفقودةً لدى الفنيقيين.

ولو كانت الفتوح والتجارة كافيتين لنيل المجد لظَفِر الفنيقيون بالمقام الأول، ولا عَجَبَ، فلم يُقِمْ أحدٌ قبلهم مستعمرةً كطرابلس وقرطاجة، ولم يكن لأحدٍ قبلهم بحريةٌ حربيةٌ. وهم قد اكتشفوا فنَّ المِلاحة وعلمَ الفلك والحساب من غير استعارةِ شيءٍ من المصريين، وهم قد اخترعوا الزجاج ونسيجَ الكتان والصِّبَاغَ الأُرجوانيَّ، والأبجديةَ أيضًا، وكانت تَرِدُ إليهم سِلَعُ العالم بأجمعه، فتأتيهم الفِضة من طَرَسوس والذهبُ من طاشوز واللُّبانُ من بلاد العرب والعاجُ من الهند.

ومن الضروريِّ أن كانت روح التجارة فِطْرِيةً لدى هؤلاء اللاساميين، كما يَصِفهم الخُبَراءُ المعاصرون، وإلَّا لَقَامت مقامَهم أممٌ مجاورةٌ أرقى منهم وقائمةٌ في موقع جغرافيٍّ ملائم مثلَ موقعهم كالعبريين. وظَلَّ الفنيقيون لعِدَّة قرونٍ أولَ الناس وأمهرَهم في جعل الأمم الأجنبية تهتدي بنشاطهم الاقتصاديِّ، وذلك كما تَصْنَع المصارفُ الكبرى التي تُمثِّل دورَ التاجر السارق الدَّوَّار فلم يَلْبَث أن يَبْدُوَ سيدَ السُّوق ومثلَ الأمير الإقطاعيِّ الكبير، وقد أعانهم على ذلك عَطَلُهم من الروح القومية كما يُعِين أربابَ البنوك. وقد رَوَى هِيرُودُوتْس أنهم كانوا في كلِّ مكان يستوردون أحسنَ ما تُنْتجه البُلْدان، وقد كانوا يستغلون لُبْنان ويبيعون الخشبَ مما وراء البحار كما كتب حِيرامُ يقول لسليمانَ: «عبيدي يُنْزِلُون خشبَ الأرْزِ وخشبَ السَّرْو من لُبْنَان إلى البحر، وأنا أجعله أَرْماثًا في البحر إلى الموضع الذي تُعَرِّفني عنه، وأَنْفُضه هناك وأنت تَحْمِلُه.»

وتدلُّ النقوشُ المصريةُ البارزة على أن سُفُنَهم كانت، حوالَي سنة ١٢٠٠ قبل الميلاد، مُجَهَّزَةً بمُقَدَّمٍ مُتَمَدِّدٍ من الحَيْزُوم٩٠ وأن أتراسًا كانت معلقةً في الشَّبَكة، وقد دام تقليد ذلك قرونًا، دام حتى عهدِ الإسكندر، حتى زمن الوِيكنْغ،٩١ ولنا بهذه الأقاصيص التي وُجِدَت في التواريخ القديمة، ولنا بهذه العادات التي انتقلت مع الأجيال إلى أممٍ كثيرةِ البُعْد، ما نَصْحُو به. وتُشَابِهُ الأتراسُ المعلَّقة التي انتقلت من الفنيقيين إلى الوِيكِينْغ شجراتِ النَّسَب التي تُسْفِر دراستُها عن نشاط حفيدٍ بعيدٍ غارقٍ في خَوَاءِ٩٢ مصيرنا العامِّ.

وكان الفنيقيون يُنْشِئُون سفنهم عريضةً عَرْضًا كافيًا لتكون واسعةً مع عدم طول، والفنيقيُّون هم الذين خُيِّلَ إليهم أن يَنْضِدوا صَفَّيْن أو ثلاثة صفوف من الجُذَّاف في السفينة الواحدة. وكانت هذه السفن تَنْقُل من البحر الأحمر ومَصَبِّ النيل ذهبَ كُوشَ وأَبْنُوسَ النوبةِ أو الفِضةَ التي كانت ثمينةً كالذهب في ذلك الزمن، وكان يُؤْتَى بجميع هذه السلع قيامًا بما يقتضيه تَرَفُ الملوك والكهنة والخليلات. والحقُّ أن سُفُنَ ذلك الزمن هي كطائرات هذه الأيام في عدم اتساعها لنقل البُرِّ على البحار. والحَقُّ أن كِبَار التجار كانوا لا يكترثون لغير نقل ما غلا ثمنه من الأدوات، وكلُّ ما يَجِدُونه من الحُلِيِّ والذهب كانوا يؤدون ثمنه سِلَعًا من النوع الأدنى اللامع، وذلك كالخَرَز الذي صار يُعْرَض بعد زمن طويل على الزنوج من أهل أفريقية، وهم يستحقون أن يُدْعَوْا ﺑ «الإنكليز الأَوَّلين» لِمَا كان من براعتهم في إبداع احتياجات جديدة لدى الهَمَج.

ومَن يقرأْ ما كتب هِيرُودُوتس عنهم يَتَمَثَّلْهم، فكانوا إذا ما أنزلوا سِلَعَهم إلى مكانٍ ما في ليبية تركوها حيث وضعوها وعادوا إلى سفنهم ورفعوا عمودَ دُخانٍ إشارةً إلى الأهالي، والأهالي يأتون من ناحيتهم ويضعون منتجاتِهم وينصرفون، ويرْجِع التجار وينادونهم مستزيدين، وتدوم المفاوضات، وكانت مِنْطقة الحياد حَرَامًا، وكانت تَتَمَتَّع بحماية الآلهة التي يَدْعوها كلُّ واحدٍ بأسماءٍ مختلفة. وكان طِرازُ التجارة التاريخيُّ الأول هذا يقتضي درجةً عاليةً من الأخلاق ودرجةً عظيمةً من مبادلة الثقة بين شعوب غريبٍ بعضُها عن بعض، فلا ترى مثلَها اليوم؛ أي بعد مرور ثلاثة آلاف سنَة من ذلك الحين، فسُوءُ الظنِّ هو السائدُ في الوقت الحاضر، لا في الشارع الخامس وحدَه، بل عند اقتراب طائرة من غرِينْلاند أيضًا.

وكان أمرُ استقرارهم لاستغلال الموادِّ الأولية أو لصُنع السلع نتيجةَ سابقِ إعدادٍ أو متروكًا للمصادفة. وهم بعد نزولهم إلى مالطة وصِقِلِّية نَيْلًا لمحاصيلَ محليةٍ استقرُّوا بهما فَعُنُوا بزراعة الزيتون والكَرْمة والحِنْطَة، ورَبَطوا القواعدَ الجديدة بغيرها، ووصلوا إلى جزيرة إلبة في الشمال. والواقعُ أنهم كانوا أولَ مَنْ بَلَغَ المحيطَ الأطلنطيَّ، وأسسوا قادسَ (الحِصْن) وراء جبل طارق لِمَا كان يوجد فيها من الذهب والفِضة والقَصْدِير ومَحَار الأُرجوان، ويَلُوح أنهم انْتَهَوْا إلى جزائر القصدير، إلى إنكلترة، وفي ساحل مَرَّاكِش كانوا يستبدلون بالتُّنِّ المُمَلَّحِ ريشَ النَّعَام وما يُجْلَبُ إليهم من جلد داخل البلاد، وكان يقع جميعُ ذلك حينما كانت إيطالية في فَجْرِها وحينما كاد الأغارقةُ يُفِيقُون من رُقادهم.

١٢

وأولُ يقظةٍ تَمَّتْ للعالَم الإغريقيِّ كانت في أَقْرِيطش، وكانت هذه الجزيرة زاهرةً في دور الفنيقيين الأوَّلين، ويظهر أن قليلًا من المغامرين حاولوا السفر حتى سورية التي يُوصَلُ إليها اليومَ جَوًّا بأقلَّ من أربع ساعات. وهذا أمرٌ مُحَيِّرٌ، وهذا لأن كثرة الخشب في أَقْرِيِطش أَدَّت إلى إنشاء سُفُنٍ متينة باكرًا؛ وهذا لأن ما كان عليه أهل البلد من أخلاقٍ جَزَرية لم يُعَتِّم أن أوجب نشوء فن الدفاع عندهم. وما حدث من أعمال حفرٍ في هذه البُقعة أبان حضارةَ البحر المتوسط الأُولى، وأظهرَ بأحسن من قبلُ أحوالَ الحياة في ذلك الدور الذي ظلَّ تاريخُه محاطًا بالغموض. وليس من المُحَقَّق استقرارُ الأَقْرِيطِشيين بهذه الجزيرة قبل الأغارقة الحقيقيين، ومن هؤلاء الأغارقة كانت تتألف قبائلُ بدويةٌ جاءت من الشمال الشرقيِّ فاستقرت ببلاد اليونان قبل الميلاد بألفي سنة؛ أي في أثناء الغزو المعروف باسم الغزو الهنديِّ الجِرْمانيِّ.

وإذا كان من الصحيح ازدهارُ أَقْرِيطش قبل زمن أُومِيرس، فإن قصور غنُوسَ٩٣ ومعابدَها مع بلاليعها وحَمَّاماتِها جديرةٌ بالإعجاب كالآنية المزخرفة والخناجر البرونزية ولا سيما الأقداحُ الذهبية.
ومع ذلك لا تَعْدِل آثارُ الأقرِيطِشيين جمالًا ما ابتدعه المصريون قبلهم من مبتكَرات الفنِّ أو ما صَدَرَ بُعَيْدَهم عن الأغارقة من الصِّنَاعات التصويرية والشعر. وترانا نميل إلى خَلْط قِدَم الحضارة بجمال مُنْتَجاتِها الحقيقيِّ كما نُعْجَب بالصبيِّ عند نبوغه قبل الأوان. أَجَلْ، إن المبدأ والجمال يتغيران، وإن الأناشيد التي يُتَغَنَّى بها تمجيدًا للفن الكلاسيِّ٩٤ حفَّزت الشابَّ المعاصرَ إلى إنكار حقيقتها عن سَأَم، ولكن لنعترفْ بأن ما بَقِيَ من الفنِّ الأقريطشيِّ من وجوهٍ بشرية، ولا سيما وجوهُ النساء في مسارح الضحايا المشهورة، هو من الشَّنَاعة ما يُثِير النفورَ والهُزُوء، والمَطَاويعُ الذين يَضَعُون دُمَى زنوج الكُونْغُو في مرتبة آثار متفننٍ كتِيسْيَان ورِينْوار هم الذين يُمْكِنُهم أن يُعْجَبُوا أمام مَطْلِ الأبدان وطولِ الذُّرعان وأمام المقاتلين الذين يُزَيِّنُون أوانيَ الخزف وأمام الفتْيانِ من رَصاصٍ وأمام أوثانِ النساء في غنُوس.

وإذا ما قيست أَقْرِيطش بمِيسِينَ التي عانت نفوذَها بُهِتَ الإنسان كما لو كانت إلهةُ الجمال قد تَشَبَّثَت باليونان الصغرى. ويبْدُو البلوبونِيزُ الواقعُ في جَنوب مِيسِين قريبًا من أَقْرِيطِش فيستطيع المِدْفَع البعيدُ المَرْمَى أن يُصِيب الشاطئَ الآخر بقنابله. ويرتفع هنالك حِصْنٌ ذو قِبَابٍ ابتدائية حجرية غيْرِ مصقولة تقريبًا عاطلةٍ من النوافذ، ويُسَمِّي أوميرسُ ذلك الحِصن ﺑ «مملوء الفَيْء»، ويختلف هذا الحِصن عن قَصْر أَقْرِيطِش المَلَكيِّ الزاخر بالهواء والنور. ولنُنْعِم النظر في الأسديْن مع ذلك، أو ليَرِنَّ في آذاننا نشيدٌ من الإلْيَاذة تَمَخَّضَتْ عنه أرضٌ يونانيةٌ لا ريب، لِنَكُونَ شهودًا على بعث الفنِّ الإغريقيِّ.

ويظهر أن أهل أَقريطش، الذين جاوزوا البحر جَلْبًا للمعادن الثمينة، لم يؤسسوا مستعمراتٍ، وهم، على العكس، قد غُزُوا حَوَالَي سنة ١٤٠٠ قَبْل الميلاد من قِبَل الشعب الإغريقيِّ: الآكِيِّين بعد الغزو الهنديِّ الجِرْمانيِّ بزمن قليل.

ونشأ عن هذا السَّفَر سيلُ مِدَادٍ في زماننا بمقدار ما سال من دَمٍ في الزمن الذي حَدَث فيه، وذَهَبَ ذلك هَدْرًا، فلم يَتْرُك الدمُ أثرًا ولم تُقَدِّم القضايا دليلًا، وتَتَقَدَّم تلك المغازيَ وتَعْقُبُها عشراتُ قرونٍ من البربرية. وإذا كانت القبائل الجِرْمانية والسلافِيَّة قد أتت من الهند حقًّا، فإنها قَضَتْ في ألف سنة، أو ألفي سنة، حياةً فطريةً ناميةً في الغابات مع أن سُنَنَ الأخلاق والجمال كانت تنعكس على مياه البحر المتوسط المُشْرِقة. ولَمَّا حاول أستاذٌ مأجور لدى أحد الطُّغاة أن يُثْبِتَ، في مئاتٍ من الصَّفَحات، نظرياتِ أستاذه «الآريةَ» ناقَضَ نظرياتِه التي طَبَخَها بعد جُهْدٍ كبير، وذلك حينما أضاف إليها في آخر الأمرِ قولَه: «ليس لدينا عن ذلك الدور الذي دام قرونًا كثيرةً أيةُ وثيقةٍ حَوْل مُعْظم سورية واليونان والجُزُر.»

والسائحُ الذي يبصر نباتاتٍ سَحْلبيةً بغتةً، بعد أن يسير من خلال ظلام الآجام على طريق ضيِّق يَشُقُّه زنوجٌ في طينٍ مستور بغِيَاضٍ كثيفة، يُمْكِنه وحدَه أن يدرك المشاعر التي تستحوذ علينا عندما نكون فجأةً في حضرة أُوميرس بين عَوْسَج التاريخ الذي لا يُمْكِن نفوذُه. والحقُّ أنه لاحظ كلَّ شيء وأنه أوضح كلَّ شيء، فكان صريحَ الحديث متينَ الرواية، وكان المكان الذي تَمَّ فيه العمل من جَلَاء الوصف ما وُجِدَ بعد بحثٍ، وقد بَلَغ من قوة الإقناع في قَصَصِه الحوادثَ ما يبدو معه الهَزَجُ الأُومِيريُّ من عمل مؤرخ، مع أن علماءَ وصف الإنسان المعاصرين يأتون، عند القياس، بصُوَرٍ وهمية، وما يَصِفُه الشاعر، وما يُنْطِقُه، من الآلهة ينطوي على حقائقَ أكثرَ من أصدق الأطلال وأوثق القبور التي يَسْتنبط الأستاذُ الغِطْرِيسُ نتائجَ منها عن أصل الجِرمان والنورمان، فيجيءُ بهم من جبال هِمالْيَة في القرن الثالثَ عشرَ قبل الميلاد إسكانًا لهم حولَ برلين.

وتقوم الأُسطورة المُدَوِّخة للأسفار في بحر إيجه على حقائقَ تاريخيةٍ بالغة، وما قام به أولئك الأغارقةُ المسافرون من مغامرات وما احتملوه من أخطار فيما بين البحر الأسود والصحراء، وإزميرَ وجبلِ طارقٍ، أعظمُ من فتح الهند وأَمريكة إذا ما نُظِرَ إلى اتساع البحار المجهولة وإلى الألواح البسيطة التي كانت تُسَمَّى سُفُنًا في ذلك الحين. ومع ذلك فقد نُسِيَ أبطالُ ذلك الزمن، ومن ذا الذي سَمِعَ حديثًا عن أُوتُولِيكَ المَلَطِيِّ مولدًا والسَّنُوبِيِّ٩٥ مؤسِّسًا؟ لم يتَّفِق لهؤلاء الأبطال من يَتَغَنَّى بهم مثلُ أُومِيرس، أو إِنهم لم يَعْرِفوا أن يَفْتِنُوه، وإن لم يكونوا أقلَّ عظمةً من أُولِيس. وهنا نُدْرِك السببَ في أن الأباطرة والقُوَّادَ، منذ عهد الإسكندر الأكبر، أحاطوا أنفسَهم بمتفننين وصِحَافيين يتوقف على قرائحهم ونيْلِ الحُظْوَة لديهم كلُّ مجد.

ولم يفتح العالَم متفننو الأغارقة ومستعمروهم بين عَشِيَّةٍ وضحاها، فالأغارقة كانوا يسافرون بين جزيرةٍ وجزيرة في البُداءة متعلمين حِرْفَةَ المِلاحة مقدارًا فمقدارًا، فلما كان القرن السادسُ قبل الميلاد استَقَرُّوا بجميع سواحل البحر الأسود واستولَوْا على أَقْرِيطِش وقُبْرُس وصِقِلِّية، ولم يُعَتِّموا أن فتحوا شاطئَ البروفنس، وهذا إلى أن ما كان يمازجهم من روح الاطلاع الممزوج بالفلسفة والنشاط حَفَزهم إلى مآثرَ جريئةٍ أكثرَ من مآثر الفنيقيين، ويلوح أنهم كانوا أقلَّ طمعًا في الثَّرَاء من الفنيقيين وأقلُّ ميلًا إِلى الملاذِّ البدنية من أهل أَقْرِيطِش، أَجَلْ، كان في مِنْطقة إيجه أولُ تَخَرُّجِهم، غير أن رغبتهم الغريزية في المعرفة أَلْهَبَتهم فنشأ عن هذا تَفَوُّقُ جغْرافييهم. ومجملُ القول أن ما كان عليه الأغارقة من عبقريةٍ فطرية عَلَوْا بها جميعَ أمم التاريخ جعلهم يمتازون في كلِّ أمرٍ قاموا به. والأغارقةُ بَدَوْا أكثرَ خِصْبًا في الأفكار من الأمم الأخرى حتى في حياتهم السياسية التي كانت تُكَدَّر بمنازعاتهم المستمرة.

ولِمَ سيطروا على جميع الملَّاحين الآخرين، وبِمَ كانوا أَسْمَى منهم؟ ولِمَ اكتشفوا البحر المتوسط وقَهَرُوه، وكيف تَغَلَّبُوا على أهل السواحل الأخرى من غير أن يخوضوا غِمَارَ معركةٍ كبيرة؟ لم يَقُصَّ أُومِيرس علينا نبأَ أيةِ معركة بحرية، ولم يتَغَنَّ أُومِيرس بمحامد البحر، ومع ذلك ترى الأُوذِيسة شِعْرًا بحريًّا، ومن يَرْجع البصر إلى صُوَر المعارك البحرية على الآنية التي هي أحدثُ تاريخًا من ذلك تَتَمَثَّلْ له ألعابًا حربية. وكلُّ شيء بين أيدي الأغارقة وأدمغتهم، من لغةٍ وفنٍّ وحكومة، كان يغدو أهيفَ رائعًا، وما بين الشجاعة والحيلة والإحساس والروح العملية من تمازج ينطوي على أُوليسَ وأَشِيلَ في نَفْس كلِّ إغريقيٍّ. والأغارقةُ قد وُلِدوا للحياة البحرية؛ أي للقَرْصَنة التي لم يَتَحَرَّج تُوسِيدِيدُ في دعوتها باسمها مضيفًا إليها قولَه: «لا يُرَى فيها ما يُخْجَل منه.»

وحياةُ القراصين والتجارِ هذه، وهذه الغريزةُ التي كانت تَدْفَعهم إلى مباغتة ضحاياهم، وهذه المنازعاتُ والمخادعاتُ التي وصفها أُومِيرسُ وصُوِّرت على الأواني الخَزَفية، أمورٌ كانت تَتَّفِق في نفوسهم مع دوام البحث فتَمْنَح نشاطَهم شكلًا فنيًّا، فأصبح مغامرو الأمس آلِهَةً وأبطالًا بذلك. وقد أدرك الأغارقة قبل كلِّ شعب، وبما هو أعمق مما عند كلِّ شعب، أن العمل لا يُعَدُّ شيئًا ما لم يكن مُقْتَرِنًا مُمَثَّلًا بشكلٍ خاصٍّ. وإذا كانت مفاتيح الجمال والحكمة لا تزال موجودةً في تاريخ اليونان، وإذا كان العالَم الغربيُّ قد حَفِظَ أسماءَ ملوكٍ لم يكونوا في الحقيقة غيرَ رؤساءِ قراصين، فإن فَضْلَ ذلك يَرْجِع إلى شعراء اليونان ونَحَّاتيهم وحكمائهم، وما تنْشُرُه الدولة العصرية من الأقاصيص بآلاتٍ دَوَّارة كانت الأمة تَعْهَد به في ذلك الزمن إلى بضعة رجالٍ من العباقرة مع تَحَلُّلٍ في معاملتهم بلا رِعايةٍ بعدئذٍ.

وقد خُلِّدَت القَصَبَةُ القديمة العادية الحصينة: تِرْوَادةُ بأناشيدَ كان بعض المَلَّاحين يُشِيدُ فيها مع المبالغة بمغامراتهم على نمط الصَّيَّادين والرُّوَّاد المعاصرين، وقد نقلوا هذه الأقاصيصَ إلى أبنائهم الذين ما انْفَكُّوا يُعْمِلُون فيها خيالَهم حتى جُمِع جميعُ ذلك من قِبَل أعقاب أُوميرس في جزيرة ساقز٩٦على ما يُحتمل. ولم تَهَبْ قبيلةُ تسالْيَة الصغيرة، أو الأغارقةُ الذين لم يَكَدْ أوميرس يَذْكُرُهم، اسمًا لكلِّ جمال فقط، بل نشأ الشعر عن الأسطورة أيضًا، ونشأ التاريخ عن الشعر أيضًا. والحقُّ أن الأسماءَ والخيالاتِ والصورَ والأساطيرَ، التي كان الشعراء يُوَحِّدون بها جميعَ القبائل اليونانية، أدت إلى اتحاد جميع الأغارقة، ولولا أوميرس ما وُفِّقَ الأغارقة لقهر الفرس بعد حين.
وترى الأمرَ القائل إن الأغارقةَ غَدَوْا أعظمَ المَلَّاحين مَدِينًا لفنِّ كَذِبهم من بعض الوجوه؛ أي لعبقريتهم الشعرية. وقد جَسَّمَ أوليسُ وشعراءُ الأَرْغُنُوت٩٧ فَرِحِين مآثرَهم فحَوَّلوها إلى أكاذيبَ عجيبةٍ كان سامعوهم يدركون حقيقتَها إدراكًا تامًّا. وقد بَلَغُوا من حُبِّ المجد ما كان الحُضُور يلتهبون معه راغبين في مغامراتٍ جديدة محاولين سبقَ هؤلاء الأبطال؛ وذلك لاختلاط الأبطال بالمُغَنِّين في نهاية الأمر. ومما حدث أن أحد رجال السياسة كان شاعرًا وجنديًّا معًا فاتُّهِم بجنايةِ فأخذ يُنْشِد روايتَه الجديدة لأسطورةٍ قديمة فَفُتِن القضاة وحكموا ببراءته، وما كان يتصف به من روح المبالغة أثبت به عبقريتَه لدى القضاة وإن لاح أنه يناقض صِدْق شهادته. حتى إن حَفَدَةَ أبطال الأغارقة الأباعد كانوا يَوَدُّون أن يطمئنوا إلى أن الشَّادِيَ٩٨ قام بما يجب من تحية أجدادهم حينما كان يُنْشِدُ «دليل السُّفُن» الذي هو أكثر آثار أُوميرس نَمَطيَّةً.

ذلك ما كان عليه سلطان الشعراء في بلاد اليونان. وما كانت سيطرة الأغارقة في البحر المتوسط لتقوم على الطُّغَاة وعلى رؤساء جُمهورياتهم الصغيرة، وإنما كانت تُشْتَقُّ من أُومِيرس وإِزْيُود وهِيرُودُوتس وتُوسِيدِيد وأفلاطون وإشِيل وفِيدْياس، وفي التاريخ هذا هو المثلُ الوحيد الذي أدت الروح والفن فيه إلى إيجاد سلطة عالمية، وقد جعلت حَمَاسِيَّةُ الأبطال من بعض الكَسَالَى والقراصين، الذين كانوا يَدَّعون بأنهم ملوك، مُثُلًا لأشدِّ الرجال والنساء طموحًا إلى المجد لدى الأجيال القادمة. وتكتسب الآلهة، التي لم يَلْبَث الأغارقة أن خَلَّصُوها من رءوسها الحيوانية الكريهة فأَعْطَوْها وجوهًا بشريةً للمرة الأولى بفَضْلِ خيالهم، أشكالًا بَدَتْ ثانيةً في تصاوير مِيكل أَنْجلو الجدارية حَوْلَ إلهه الوحيد الأب.

وما كان نَيْلُ ذلك ليمكنَ إِلا بفضل البحر؛ وذلك لأن البحرَ وجُزُرَه وفُرَضَه وسواحلَه أشياءُ تَعْرِض على حيال الأغارقة العمليِّ ما يحتاجون إليه من مَسافةٍ وفُرْصةٍ لقياسها، وما في بلدهم من غاباتٍ كثيرة منذ أدوار ما قبل التاريخ حَفَزَهم إلى إنشاء حيازيمَ ابتدائيةً، ثم نَجَم عن رشاقة أيديهم صُنعُهم للمرة الأولى سفينةً خفيفة متحركة تُقَابَل بسفن النيل الثقيلة كما تقابَل التماثيلُ الإغريقية بالتماثيل المصرية، وقد ظلَّ ذلك المَرْكَبُ في جميع القرون القديمة على البحر المتوسط ذا مُقَدَّم وَطِئ ومؤخَّرٍ عالٍ ويَسَارٍ مرتفع وطرفيْن ناهضين ورأسٍ بارزٍ إلى الأمام ونصفِ جِسْرٍ يستطيع الرُّبَّان أن يَنْظُر منه إلى الخارج، وقد جلست أتِينة مع تِلِمَاك على الجسر الخلفيِّ الذي لا يزال جزءًا جوهريًّا في المركب حتى اليوم. ثم أَدَّى استعمال الحديد إلى بناءِ سفنٍ طويلة بالتدريج، وهنالك صار من الضروريِّ أن يكون الرُّبَّان في مركز السفينة حتى تُسْمَع أوامرُه من مُقَدَّم السفينة إلى مُؤَخَّرها. وكانت المجاديفُ في كلِّ مكانٍ تقوم مقام عمل الريح التي تَنْفُخ الأشرعة. ولم يكن القسم المركزيُّ ذا سطحٍ تامٍّ، فاستطاع أُولِيسُ أن يَجُرَّ رفقاءَه وأن يَدْفَعهم تحت المقاعد، وكان يُنْتَفَعُ من الجانبين بسُكَّانَ السفينة المُعَلَّقَ على الجانب بالقرب من الجسر، وكان في العصر الأوميريِّ يوجد في السفينة خمسون جَذَّافًا على الأكثر.

وبعد أُولِيسَ وغيرِه من المغامرين الذين كان يَسُرُّهم أن يطوفوا في البحر، جاء التجار والمستعمرون الذين تَوَجَّهُوا إلى كلِّ جهة كما صنع الإسبان والإنكليز بعد زمن طويل، ويَظْهَر أنهم وَصَلُوا باكرًا؛ أي قبل الميلاد بسبعة قرون، إلى صِقِلِّية ونابل من الغرب، وبحر مرمرة والبحر الأسود من الشمال، حيث كان الأَرْغُنُوت قد سبقوهم. وفي سَرْت وجدوا المصريين الذين انْتُخِب أحدُ أمرائهِم مَلِكًا مستعينًا بمَلَّاحين من الأغارقة، وقد مَنَح هؤلاء الملاحين نُقْراطيسَ الواقعةَ على الفرع الغربيِّ من النيل، وهكذا كان القراصينُ أولَ مَنْ وَصَل بين الأمتين اللتين هما أهمُّ أُمم ذلك الزمن فوضعوا جسرًا ثَقافيًّا ثمينًا بينهما.

وهنا، وفي كلِّ مكان، حتى بين أفجع الارتباكات، يَعْرِض تاريخُ الأغارقة من الأحوال ذاتِ اليُمْنِ ما يُلْقِي نورًا على ذوي العبقرية من الناس، كما يَعْرِض من الأوقات المُشْرِقة ما يُوَكَّدُ به فضلُ الآلهة. ويَنْسَى علماءُ الاقتصاد، الذين يَعْزُون، مختارين، مصايرَ الأمم إلى نِعَم الطبيعة، أن البِيئة المادية التي يَعْظُم فيها الشعب أو الرجل تتأثر برعايةِ موجوداتٍ علوية أو لُغَتِها. وما كانت إحصاءات تصدير الزيتون أو الفحم لتدلَّ على سَجِيَّة جماعةٍ إلَّا عند استقرار أناس قادرين على هذا العمل الخاصِّ بأرضٍ مشتملَةٍ على هذا الفحم أو تُغَذِّي شجر ذلك الزيتون، وسواءٌ أسِيقَ أولئك الناسُ عن ذكاءٍ أم مصادفةً يظلُّ أمرٌ واحدٌ باقيًا، وهو أنهم سِيقُوا إلى هنالك. وفي الأمثال التركية؛ أي أمثالِ البحر المتوسط، أن الرجل القدير ذو حَظٍّ مستمر، ولكن هذا لا يُعَبِّر عن غير نصف الحقيقة، وأما نصفُها الآخر ففي كون الرجل ذي الحظِّ يَنِمُّ على قدرته المستمرة.

ووَجَد الأغارقة، الذين كانوا من ذوي الحظِّ والقرائح معًا، في كلِّ مكان كانت أسفارُهم وتجارتهم تدفعانهم فيه إلى تأسيس مستعمرات جديدة، أصلحَ الأحوال للمِلاحة، كرأسٍ ومرفأين أو ثلاثةِ مرافئَ مختلفةٍ اتجاهًا. وفي أَقْرِيطِش كان يَبْرُز رأسٌ للأمام ونحو الغرب، وقُلْ مِثْلَ هذا عن رودس ومَلَطْية، وهنالك، حيث كان اشتباكُ الطُّرُق الآتيةِ من الشرق والغرب يَتَطَلَّبُ مركزًا، قامت كُورِنْث الواقعةُ في محلِّها الراهن المثاليِّ. والواقعُ أن شِبْه الجزيرة مانعةٌ لكل تجارة، وذلك لوجوب نقل المراكب الحربية من البرزخ، وكان من الممكن إنشاء قناةٍ كما رُئِي منذ القرن الخامس، ولم يَحُلْ دون ذلك غيرُ غَيْرَة كُورِنْث التي كانت تدافع عن نفسها بما عندها من بحرية حربية. وفي ذلك الحين كانت جماعةٌ قوية تَعْتَرِض وحدَها دون وَضْع نُظُم، كنظام جمعية الأمم الحاضرة، يمكن أن تكون نافعة للجميع.

ولكن الأغارقة كانوا يبدون ماهرين كلما اقتتلوا. وقد أنشأ الأغارقةُ في مركز جميع الأَرْخبيل: دِلُوسَ، وذلك منذ القرن الثامن، أولَ مَحَطَّةٍ للبضائع في العالَم الغربيِّ طولُها ثمانون مترًا وعرضُها ثمانيةُ أمتار، فضلًا عن معبدٍ لهم وعن سُوقِ المعبد الدنيا، وقد اتُّخِذت الحَصْباءُ والحجارةُ غيرُ المُهَنْدَمةِ موادَّ تَمْلِئَةٍ. وكانت السُّفن تُرْبَطُ هنالك فلا تُجَرُّ على الرمل كما في الماضي، وقد بُنِيَ رصيفٌ من حجارة ضخمة طولُه ٢٨٠ مترًا وعرضه خمسة أمتار يبدأ حيث يكون الشاطئ الوَعِرُ سِيفًا٩٩ رمليًّا.

وفي دِلُوسَ وَضَعَتْ معشوقةُ زُوس أَبولونَ وأَرْتِمِيسَ ما كانت الجُزَيِّرَةُ تعوم وَفْقَ هوى البحر فتَفَلَّتَت من لَعْنَة هِيرَا، وقد أُقِيم على أكثر الجزائر عدمَ رُسُوخٍ أولُ مرفأ أُعِدَّ للخلود ما دام يُرَى حتى اليوم. وكان أغارقةُ الأدوارِ القادمة يعُدُّون من عمل الآلهة رصيفَ ذلك المرفأِ القويِّ الذي وضع المهندسون الأوَّلون مشروعه، واليوم يُحَاوَلُ رفعُ القِناع عن أعمال الآلهة لتُعْزَى إلى فَنِّ المهندسين.

وأُنْشِئَت في القرن السادس أرصفةٌ على ذلك الطِّراز لتُتَّخَذ متاريسَ للمدن، وما أُنشئ من أحواضٍ للموانئ التي حُفِرَت على ذلك الوجه داخلَ أسوارِ المُدُن كما في سامُوس، وما جُهِّزَت به من مَظَالَّ خشبيةٍ للمراكب، دام حتى عصر النهضة وَفْقَ تصاميمَ وضعها الأغارقة الأولون. وهكذا ذاعت شهرتهم البحرية في جميع أنحاء البحر المتوسط، ذاعت في البُسْفُور الذي اكتشفه الأَرْغُنُوت، ومن الأرخبيل الذي سَمَّوْه «البحر المسيطر»، إلى ما وراء جبل طارق. وقد انتقلوا من التجارة إلى الصِّناعة؛ وذلك لأن مُعْظَم المعادن كان يوجد في الجبال المجاورة، وكان الحديد الخام يوجد في سورية وفي بَرِّ اليونان، والنحاسُ في قُبْرس وآسية الصغرى، والقَصْديرُ في جَنوب إيطالية وإسبانية، وكان يوجد في الجزائر الإيجية ذهبٌ ورَصاصٌ خام مشتملٌ على فِضة وزِئْبَقٌ أيضًا، وكان جميع هذه المعادن يُسْتَخْرَج بصِناعةٍ زاهرة لم تأخذ في الانحطاط إلَّا في القرون الوسطى. وكان الأغارقةُ يَحْبِكُون النسائجَ في مَلَطْيَة، ويَصْنَعون الخزف في كُورِنْث، ويُعْنَوْن بالأعمال المعدِنية في خالْكِي، وهم في الوقت نفسه كانوا يبتاعون عددًا كبيرًا من العبيد الذين سُنَّتْ قبل الميلاد بخمسمائة سنة قوانينُ لتقييد الاتِّجار بهم، ولكن مع قليلِ نجاحٍ كما هو الأمر في إثيوبية في الوقت الحاضر.

ولَمَّا تَقَدَّمت تجارتهم صاروا يَضْرِبون نقودًا، وجاء دور القروض فَوْرَ ضرب النقود، وظهر الرِّبا مع الديون، فبلغ ما كان الدائنون يأخذونه منه ثلاثين في المائة بسبب مخاطر المِلاحة.

وكان تجار المُدُن البحرية ومُرَابوها في ذلك الدور يتمتعون بحياة ناعمة على حين يجب على الفَلَّاح أن يبيع حريتَه وحريةَ أُسْرَته. وكانت قوانين سُلُون تشتمل على عبارة مُحْكمَة تَهْدِف إلى إلغاء كلِّ دَيْنٍ عامٍّ وخاصٍّ، وكانت تُنْصَبُ أعمدةٌ حجرية في وَسَط الحقول فتَكْشِف لكلِّ مارٍّ عن ديون الفَلَّاح، وقد يجب علينا أن نُجَدِّد هذه الكتاباتِ على جُدُر البنوك حتى نُظْهِر للزائرين ما يستتر وراء المُقَدَّمات العظيمة من الحقائق.

١٣

لَقِيَ الأغارقةُ في البحر المتوسط خصمين: الفنيقيين والإتروريين، وطَفِق هؤلاء الأقوام الثلاثة يتصادمون بعيدين من أوطانهم الأصلية، وقد كانت مصادماتُهم حروبًا استعماريةً حقيقيةً يُكْتَب الفوز فيها للأكثر مهارةً.

ويُفْتَرَض أن هجرةً مُهِمَّةً تَمَّتْ قبل الميلاد بألف سنة فجاءت إيطالية بالإتروريين الذين هم ثالثُ أمةٍ بحريةٍ من أمم البحر المتوسط. ويمكن المؤرخَ، إذا ما لاح له، أن يُقَرِّب بين غَزْوِ الإترُورِيين من الشمال وحَمْلَةِ الأَرْغُنُوت التي هي أولُ حملةٍ بحرية ذاتِ مَسْحةٍ شعرية حماسية. ويرى بعضهم أن الإتروريين منحدرون من التُّوسْكان الذين يُعْتَقَدُ مجيئُهم من آسية الصغرى والذين هم شَعْبٌ من القراصين ظريفٌ قليلُ العَدَدِ نَزَل إلى إيطالية حَوالَي السنةِ الألف قبل الميلاد، كما هو أمرُ النورمان في السنة الألف بعد الميلاد. ومن الإنصاف أن تُصَدَّق الأسطورةُ القائلَةُ إن إينِة وَصَل من تروادة إلى إيطالية وصار جَدَّ الرومانِ الطلاينةِ فكانت رابطةً بين دَوْرين أُسطوريين.

ومهما يكن الأمر فإن الشعب الإتْروريَّ البارعَ الماهرَ سيطر على المِنْطقة الواقعة بين البو وخليجِ سالِيرْم بعد نَزْعها من الأغارقة والفنيقيين. ومع ذلك فإن الإتروريين أنفسَهم كانوا عُرْضةً من الشمال لهجوم السِّلْت، ومن الجنوب لهجوم اللاتين الذين يُوَسِّعُون نِطَاق فتوحهم ببطء وطيد.

وفي تلك القرون نُضِّدَت طبقاتٌ مُتَجَدِّدةٌ على الدوام في قالب إيطالية، واليوم تُقَطَّع كالأقراص، فلا يُعْجَبُ إِذَنْ إذا ما غدا تَبَيُّنُ مختلفِ الطبقات أمرًا متعذرًا بعد ثلاثة آلاف سنة. وكلُّ ما يمكن الباحثَ أن يَجدَه في أرض تروادة الصغيرة ليس سوى أُلْهِيَّةِ خيالٍ عند النظر إلى ذلك البَلد الواسع. ومن ذا الذي يستطيع أن يُعَيِّنَ الدورَ الذي اختلطت به عروق إيطالية اللاآريةُ الأصليةُ؛ أي اللِّيغُوريُّون والتِّيريِنيُّون، وعروقُ سَرْدِينْيَة وقورْسِقة بالمهاجرين من إتْرُوريين وفنيقيين، وأن يُبَيِّن نسبةَ جميع تلك العروق؟

وكيفما كان الحالُ، فإن سكان رومة لم يكونوا آريين خُلَّصًا، فليس من الرأي أن يُنْظَر إلى الأمر من حيث الدمُ بل من حيث اللغةُ.

وكانت رومة، حوالَي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، تَبْدُو مدينةً إتروريةً، وكانت كلمة «رومة» تدلُّ على معنى «العالي»، ومن الصواب أن يُرَى أن الإتروريين، لا الأغارقةَ، هم مُرَبُّو رومة. ولَمَّا طَرَدَت قبيلةُ الرومان بعدئذٍ هؤلاء الزُّراعَ والرعاةَ الجُفَاةَ فابتلعت الإتروريين، كانت قد تعلمت الشيءَ الكثير منهم، كانت قد تعلمت منهم حتى فنَّ المِلاحة الذي كان معلومًا لديها قليلًا في بدء الأمر.

ومن نتائج سيطرة ملوك الإتروريين في قرنٍ أن تَخَلَّقَت رومة بأخلاق الأجانب، بأخلاق اللُّوديين على الراجح، وليست العِيَافةُ والطِّيَرَةُ بطيران الطيور وكبدِ الحيوانات، وليس لُبسُ الحُلَّة، وكرسيُّ الحُكَّام، والحُزَمُ١٠٠ التي اشْتُقَّ منها اسم الفاشِيَّة، والقوسُ المُدَوَّرةُ التي عُرِفَت فيما بعد بالقوس الرومانية، إلَّا أمورًا إتْرُورِيَّة. ومن الواضح كذلك أن الانتصاراتِ التي تنتهي بقتل الأسارى، وأن الطقوس الدامية، من أصلٍ آسيويٍّ؛ ولذا تختلف أخلاق رومة الفطرية عن أخلاق الأغارقة.
وهكذا تُفَسَّر المتناقضات في حياة الإتروريين، كما يَدُلُّ عليها ما وُجِد في القبور من الآثار، ما وُجِد من خُمَارٍ١٠١ دامٍ في النصر تَشهد به المظاهر المشئومة ويلازم ما اتَّصَف به من أخلاقٍ عمليةٍ هذا الشعبُ الرومانيُّ ذو الفضائل المتينة والذي كان يتقدم عن سَعْيٍ بعيد من العَيَاء. وفي ذلك الزمن كان جفافُ الأرض يجعل هؤلاء القومَ، كما تجعلهم أخلاقهم، مشابهين لبروسِيِّي هذه الأيام، وإلى هذا أضيفوا النفوذَ الإغريقيَّ الذي ينشأ بما لا يمكن إنكاره عن بعض التماثيل الصغيرة والذي يُثْبِتُ فوزَ الروح حيث كلُّ دراسةٍ للعرق تُصَابُ بحبوطٍ مُحَقَّق. وقد ترك الإتْرُورِيُّون وراءَهم آثارًا رائعة، ومنها تلك التماثيلُ الصغيرة البرونزية التي صُوِّر بها مُقَاتلون بلغوا من الهَيَف ما يُرَوْن معه أنهم عَذَارَى مُتَنَكِّراتٌ مستعيراتٌ أسلحَتهن وخُوَذَهن من إخوتهن. ومنها ذلك الرأسُ النِّسْوَيُّ المُصَوَّرُ على جدارٍ إتروريٍّ بتَارْكِينْيَة. ومنها «مارْسْ تُوجِي» ذو المظهر الجافي والشكلِ الغَبيِّ، فجميع ذلك من الآثار الإتْرُورِيَّة التي استوحت روحَ الإغريق.

وما كان من صراعٍ بين الأغارقة من جهةٍ والإتروريين والفنيقيين من جهة أخرى أوجب عقد محالفاتٍ دائمة مع القرطاجيين، وقبل ذلك كان القومُ المَلَّاحون القرطاجيون قد عَظُموا وتَقَوَّوْا تجاه وعيد الأغارقة. وهنالك، في ملتقى حَوْضَيِ البحر المتوسط، وهنالك، حيث أقام الفنيقيون معسكرَهم للاستيلاء على لُجَيْن إِسبانية ومُنْتَجاتِ أفريقية، قد أنشئوا أهمَّ مُدْنهم، وهنالك قد بلغوا سلطانَهم العالَميَّ في بدءِ الأمر، وهنالك قد بادُوا في نهاية الأمر. وقد كانت قرطاجةُ قديمةً قِدَم رومة، وعلى ما في تاريخ شَيْدِهما حَوالَي سنة ٨٠٠ قبل الميلاد من شكٍّ يدلُّ كلُّ شيء على كونهما معاصرتين. وخَلْفَ رأسٍ يَبْلُغُ من العَرْض نصفَ فرسخ، وفي خليج تونس، يمتدُّ مرفآن على مَهْلٍ مع وِقايتهما بعُمق هذا الخليج وبكثير من الصخور العالية، وأحدُ المرفأين تجاريٌّ طويل ذو أرصفة عريضة، والمرفأُ الآخرُ حربيٌّ مستديرٌ يُشْرِف عليه سُورُ المِصْر، وفي أيامنا، حين يُنْعَمُ النظرُ في هذين الميناءين، لا يُحَرِّك النَّفْسَ أكثرُ من تَبَيُّنِ صِغَر أَبعادهما الذي قرنه الخيالُ بفكرة القُوَّة كما فَعَلَ بتروادة.

وإذا نُظِرَ إلى الأمر رَمْزِيًّا وُجِدَ كلُّ واحدٍ من تلك الشعوب مَدِينًا بسلطانه حتى لأعدائه. وكان الفنيقيون في بَدْءِ الأمر قد دُحِرُوا من داخل آسية إلى سواحلهم المنخفضة ونحو البحر، وكذلك الأغارقة كانوا قد دُحِرُوا إلى شبه جزيرتهم ونحوَ الأَرْخبيل، ثم أَوْغَل الفنيقيون، بسبب هؤلاء الأغارقة أنفسِهم، في البحر المتوسط حافزين الرومان إلى السَّيْر على غِرَارهم. وهكذا حَمَلَ الضغط المستمرُّ أحسنَ شعوبِ ذلك الدورِ مَوْهِبةً على تَحَوُّلِ بعضها من تجارٍ إلى محاربين وتَحَوُّلِ الآخرين من فَلَّاحين إلى بحريين، والشعبُ الرابعُ وحدَه؛ أي العِبْرِيُّون، هم الذين ظَلُّوا غريبين عن البحر تمامًا.

ولم يكن أيُّ واحدٍ من تلك الشعوب مفطورًا على غريزة الفتح، وهي لم تَقُمْ بفتح إمبراطورياتِها مُكْرَهَةً إلَّا دفاعًا عن النفس. وكان أعظمُ فاتحي العالَم القديم، الإسكندرُ وقيصرُ، من أممٍ لم تَحْفِزْها الغريزةُ الحربية ولا الاحتياجُ إلى التوسع. وقد أرادت هذه الأممُ في البُداءَة أن تدافع عن نفسها فقط، أن تعيش فقط، ومع ذلك جاوزت إمبراطورياتُها من حيث الاتساعُ، ومن حيث الدوامُ عند النظر إلى رومة، ما أقامته قبائلُ البرابرة البدويين من الإمبراطوريات في مِنْطقة البحر المتوسط بعد زمنٍ، سائرةً في هذه المرة وراء الغريزة الحربية والمَيْلِ إلى التوسع.

ولَمَّا سار الأغارقةُ الأولون إلى الغرب بحرًا بَلَغُوا صِقِلِّية حوالَي سنة ٧٠٠ قبل الميلاد، وبلغوا شمالَ أفريقية حوالَي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، فشَعَرُوا آنئذٍ بأنهم وارثو قدماء الفنيقيين، ومن قَوْلِ الهاتف، وهذا لا يزال صحيحًا في أيامنا: «مَنْ يَصِلْ إلى ليبية متأخرًا لتوزيع الأَرَضين يَنْدَمْ فيما بعد.» وكان الأغارقةُ قد أُعِدُّوا للوصول في الوقت المناسب فاستقرُّوا بسَرْت وأنشئوا قُورِينَ وبَرْقة. وقد بلغ الفُوسِيُّون، الذين هم أمهرُ مَلَّاحِي الأغارقة، وذلك مع تعاطي السلب والتجارة، نواحِيَ مَصَابِّ الرُّون، فأقاموا، أو وَسَّعُوا، مَرْسِيلْيَة، ثم مَرُّوا من جزائر البَلْيار إلى إسبانية ونزلوا إلى قُورْسِقة، وقد كانوا يَرْكَبُون زوارقَ رشيقةً ذاتَ خمسين جَذَّافًا، لا سُفُنًا تجارية ذاتَ جُدْران مستديرة كما زَعَم هِيرُودُوتس. وقد ساعد مَلِكُ طَرْطِسُوسَ الإسطوريُّ، الذي يلوح أنه مَلَكَ الساحلَ الأطلنطيَّ الواقعَ وراء جبل طارق ثمانين سنةً، فريقَ الفُوسِيِّين الذين كانوا يحاربون الإتروريين واللاتين أو يحالفونهم مناوبةً.

ثم نهضت قرطاجة لتَرُدَّ الضربة، وهي، إذ غَدَت سَيِّدَة عِدَّةِ مُدُنٍ فنيقيةٍ وقبائلَ إيطاليَّةٍ، هاجمت الأغارقة، وهي قد غُلِبَت نصفَ غَلَبٍ في أول معركة بحرية في الغرب جديرةٍ بهذا الاسم، ولكنها وُفِّقَتْ لإنقاذ قسمٍ من أسطولها، ثم حالفت الإتروريين، ثم عقدت قرطاجة معاهدتين مهمتين، وقد احتفظت في إحدى المعاهدتين لنفسها بجميع الحقوق على جبل طارق. فمما ريب فيه أن اجتذبتهم الصخرة التي يَفْصِلها عن القرطاجيين جميع البحر المتوسط الغربيِّ؛ وذلك لأنهم كانوا يَحْلُمون بالبحر المجهول الذي يمتدُّ وراء ذلك. وكان القانون القرطاجيُّ يَحْظُر دخولَ جزيرةٍ واقعةٍ في المحيط الأطلنطيِّ معاقِبًا بالقتل مَن يَصْنَع ذلك؛ «وذلك لأنها مقامُ الآلهة أكثر من أن تكون مَسْكَنًا للآدميين»؛ وذلك لأن الإقامة بتلك الجزيرة مما يُوَجِّه إليها نظرَ الإتروريين، فيُحْسَبُ هذا القانونُ دليلًا على الأَثَرَة أكثر من دلالته على خِصْب الروح.

وأما المعاهدةُ الثانية فقد عُقِدَت بين قرطاجة ورومة القديمة (سنة ٣٥٠ قبل الميلاد كما يُظَن) التي كانت عاصمةَ العالَم اللاتينيِّ. وفي هذه المعاهدة صار يَحقُّ للقرطاجيين أن يُتَاجِروا في الأَرَضين الرومانية، ولكن على ألَّا يُقِيمُوا حصونًا ولا أن يَتَلَبَّثُوا ببعض الأماكن ليلًا، وفي مقابل ذلك وُضِعَتَ حدودٌ لمِلَاحةِ الرومان في اتجاه الغرب.

ولم يلبث جميع أولئك المَلَّاحين الغربيين أن ضَغَطَهم عدوٌّ قويٌّ جاء من الشرق، فقد أرسل دارا الفارسيُّ رُسُلًا لتهديد قرطاجة ومطالبتها بكتائبَ مساعِدَةٍ. وقد فَرَض هذا الفاتحُ الآسيويُّ بأعْجاله الهائلة المُجَهَّزَة بالمناجل على القرطاجيين تَرْكَ بعض الأفعال، ولا سيما تقديمُ القرابين البشرية وأكلُ الكلاب وتحويلُ ما يجب عليهم دفنُه من الموتى إلى رماد.

ويَظَلُّ ظِلُّ الفتح الفارسيِّ، الذي أقْتَمَ به البحرُ المتوسط، من أقاصيص التاريخ الوهمية، ويمضي قرنان فيلوح ظِلُّ المحارب الإغريقيِّ أمام الفُرْس، وهنالك يَقْهَر الإسكندرُ سليلَ المَلِك الأكبر كما كان يَتَسَمَّى به دارا أيضًا.

وقام كلا المتنافسيْن بعملهما الحاسم في وَسَط البحر المتوسط بحكم الضرورة، وكانت صِقِلِّية الفاصلةُ بين الحوضين ميدانًا لقتالٍ بَيِّن، ويُنْصَرُ القرطاجيون في معركة هِمِيرَة في سنة ٤٨٠ قبل الميلاد ولكنهم يُغْلَبُون نهائيًّا عن خيانة.

وهنالك يُسْمَعُ للمرة الأولى أحدُ تلك الأسماء التي هي كلُّ ما بَقِيَ من قرطاجة، ويَتَّفِقُ ما لاسم هَمِيلْكار من رنينٍ رُجُولِيٍّ شديد مع اللفظين الشديدين المُتَوَعِّديْن الدالَّيْن على أمته: القرطاجيِّ أو البونِيِّ، وهنالك، حيث لا يُوجَدُ أيُّ أداةِ فنٍّ، ولا أيةُ صورةٍ مهمة، يجب أن يقوم الرنين في أُذن الأعقاب مقامَ ما حُرِمَتْه العينُ، ولهذه الأسماء فينا تأثيرُ اندفاعِ الأمواج البعيدة، وهي: هَمِيلْكار، وهَسْدروبال، وهَنِيبَال …

ويكابد القرطاجيون استعبادَ الألوف من رعاياهم الذين سُلِّموا إلى العدوِّ عبيدًا ثمنًا لهزيمتهم، وقد بدأ هؤلاء العبيد يقيمون معبدي سِلِينُوت وأَغْرِيجَانْت اللذين لا يزالان يفوقان كلَّ ما تركه الفاتحون في صِقِلِّية بعد ذلك. ومع ذلك ظلَّ القرطاجيون من شِدَّة البأس ما لم يَجْرُؤ الأغارقةُ معه أن يَهْجُموا عليهم في عُقْرِ دارهم.

ومن المحتمل أن مَثَّلَت للمرة الأولى في تاريخ أوروبة امرأةٌ دَوْرًا في ذلك اللقاء الأول الذي كان في ميدان القتال بصِقِلِّية. وقد كانت دامَارِيتُ زوجًا لرجلٍ من سَرَقُوسة فأدت دسائسُها وخيانتُها إلى هزيمة هَمِيلْكار وقتله. ولَمَّا غُلِب القرطاجيون أُلْزِموا بدفع جزيةٍ، بدفع مائة مَنَا،١٠٢ إلى الغالب «في مقابل مساعدتهم على نَيْل السَّلْم»، وذلك زيادةً على ألفي مَنَا غرامةً،١٠٣ ويُحْملُون على ضرب نقودٍ فِضية مشتملةٍ على صورة الغالب. ويبقى اسم هذه المرأة سائرًا على أفواه القوم قرونًا كثيرة لِما وُفِّقَت له في حَرْبٍ طاحنةٍ من عملٍ لم تَسْطِع امرأةٌ أن تُكَرِّره في أيامنا.

١٤

وفي اليونانِ أيضًا كان عالَمُ أُومِيرُسَ الأريستوقراطيُّ قد تطَوَّر إلى نظامٍ شِبْه شيوعيٍّ، وقد وَصَف أوميرسُ ملوكَ ذلك العصر الوِراثيين على العموم، وطرازَ عيشهم في قصورهم، بالبروج الجَبَّارة كالذي كان برْيَامُ وأولادُه يَشْغَلون فيه اثنتين وستين غرفةً. وكان الغِنَى يتوقف على المواشي خاصةً، ولكن الأرضَ كانت تُزْرَع منذ دَوْر الأبطال مع ذلك، فيُزْدَرى البرابرةُ لجهلهم كلَّ ما هو خاصٌّ بالفِلاحة.

وكان يُوجَدُ في الدول الإغريقية التي نشأت بعد أوميرس طائفةٌ من العادات الشيوعية، كالمروج البلدية، حافظت عليها بعض الأمم حتى أيامنا كالسويسريين والروس مثلًا. وأَدخل المهاجرون إلى جزائر لِيبارِي عادةَ العمل والأكل معًا؛ أيْ أدخلوا هذه العادةَ الإغريقية المناقضةَ لعادة أعدائهم الإتْرُوريين الذين كان يُؤَلَّف من أشرافهم طبقةٌ منفصلة. وكان فريقٌ من القوم يكافح القراصين، وكان فريقٌ آخرُ يزرع الأرض، فكان بعضُ الشعب يَحْمي بعضَه الآخرَ فيُغَذِّيه هؤلاء مقابَلةً. ثم قُرِّرَ توزيعُ الأرض ثانيةً في كلِّ عشرين سنة لكيلا يؤدِّيَ الثَّرَاءُ الموروث إلى الكسل، ثم ظهر فَلَّاحُو لِيبارِي مَرِنين، وإن شئت فَقُلْ ماكرين، فصاروا يُعْطُون القراصينَ جِزْيةً سنوية ليتمتعوا بالسَّلْم في حقولهم.

وأهلُ أَثِينَة، وإن لم يخترعوا النقودَ ولا ضربَ النقودِ، ما عُزِيَ هذا الاختراع إلى اللُّوديين، وما استعملوا النقودَ في القرن السابع قبل الميلاد، لم يَلْبَثُوا أن فاقوا الأغارقةَ الآخرين بروحهم التجارية. ولم يَقُم مبدأُ الشَّرَف، الذي نَمَا بتَحَوُّلِ التملكِ العَقاريِّ إلى تملكٍ وِراثيٍّ، على غير التصرف في الأرض مع إضافة السلب والقرصنة إليه. ومنذ هذا الدور أخذت طبقةُ الأشراف بأثينة وكُورِنث وساموس وغيرِها من المُدُن تُقْبِل على التجارة البحرية مع أن ذلك كان يُعَدُّ نزولًا عن المرتبة. وهكذا حَدَث بين دَوْرِ أُومِيرس ودَوْرِ سُولُون تَحَوُّلُ الشريف إلى تاجرٍ كتحول لُوْردات الإنكليز السابقين إلى اللوردات المعاصرين. وبما أن الأغارقة كانوا يَجُوبون سواحلَ إيطالية وأفريقية؛ أي كانوا يَنْهبون ويقايضون ويتاجرون، فقد كانوا يُغَيِّرون نُظُمَهم السياسية بسرعةٍ بعد ابتلاء.

وكانت القبائلُ اليونانية الكثيرةُ تُلاقي في كلِّ مَحَلٍّ، تلاقي في البحر المتوسط وفي مكانٍ بعيدٍ من غَرْبِه، مستعمراتٍ فنيقيةً قديمةً فتدحرها بوسائلَ سَلْميةٍ في بعض الأحيان. وكان الأغارقةُ يَحْصُلُون على سِلع أفريقية الغربية من مصرَ ولِيبْيَة، وعلى سِلَع سورية من قُبْرس، وعلى قمح سُهُوب روسية وعبيدها من البحر الأسود، ومما كان يَحْدُث أحيانًا أن تُسَوَّى الأمور تسويةً ودِّيةً بين مستعمِري الأغارقة والقرطاجيين فيَعْمَلون معًا كما في قُورِين، ومع ذلك فقد قُهِر الأغارقةُ من قِبَل القرطاجيين كما قُهِرُوا من قِبَل الإتروريين.

وفي كلِّ مكان كانت تجاوز البحرَ وتقتحم المخاطرَ مُدُنٌ وقبائلُ منعزلةٌ، وتتَجلَّى فَرْديَّةٌ جامعةٌ، نشأت عن الأَرخبيل، في المئات من الحروب الصغيرة التي كانت تشتعل بين الأغارقة في أثناء المغازي البحرية، ويَمْضِي زمنٌ فتنْجُمُ هذه الفرديةُ عن كثرة الفلسفات والمذاهب السياسية أيضًا.

وبما أن البلد كان عاطلًا من السهول المركزية والأودية العريضة فإن كلَّ عَقيقٍ١٠٤ يودُّ لو يَبْقَى، أو يصيرُ، مستقلًّا فيَنفرد بين الجبال، وذلك على حين كان السُّكان يتلاقَوْن في أثناء أسفارهم البحرية، وإذا ما قَدَّ الأولادُ خريطةَ شواطئ اليونان المُمزَّقة ووضعوها تِجاه الضَّوْءِ حَصَلُوا تقريبًا على رسمِ ورقةِ القَيْقَب١٠٥ التي جَفَّفَها الخريف، وما انفكَّ تاريخُ اليونان يُوحِي بمثل هذا الرسم.

ومع ذلك، ومع كثرة فِتَن الأغارقة، كان هؤلاء يختلفون عن المستعمرين الآخرين بجلبهم الروح فضلًا عن تجارتهم ورغبتهم في الغِنَى، وكان هذا كهُذْبٍ إغريقيٍّ يُثَبَّتُ في حاشية ثوب البرابرة حول البحر المتوسط. وما الذي كان يُمْسِك هؤلاء النَّفَر بعيدين من أوطانهم لولا أوميرسُ ومغامرةُ تروادة ومصلحةُ وَحدة اليونان؟ وكانت توجد أيضًا معابد دِلوس ودِلْف، كان يوجد هذا «الوطن المُشْتَرَك» كما يسميه بلُوتَارْك الذي وَكَّد نفوذَ الكُهَّان في قرون. وفي الواقع أن أمرَ دِلْفَ لم يَقُمْ على هاتف نَبَويٍّ، بل كان أيضًا سلطانًا أدبيًّا وسياسيًّا موزِّعًا للنصائح، فَوضَعَ حوالَي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، وعلى وجهٍ غير مباشرٍ على الأقل ومع اتحادٍ بمعبدٍ آخر، أُسُسَ أولِ اتحادٍ إغريقيٍّ، أُسُسَ حِلْف الأَنْفِكْتون.

وبذلك الحِلْف الدينيِّ يكون أولُ نَموذجٍ تاريخيٍّ لجمعيةِ أممٍ قد وُضِع على شواطئ البحر المتوسط، وسيُسَار على هذا النَّمُوذج بعد حينٍ فيُقَام حِلفٌ آخر. وقد اتَّحَدَ اثنا عشرَ كَنْتُونًا مستقلًّا، أَو اتحدت شعوبٌ من الفلاحين وصيادي السمك، لحماية بعضهم بعضًا قبل أن يَصْنَع السويسريون مثلَ ذلك ﺑ ١٨٠٠ سنة، وقبل جمعيةِ الأمم بجنيف ﺑ ٢٥٠٠ سنة، وقد فَصَلُوا فَصْلًا ودِّيًّا جميعَ المسائل الخاصة بالحدود ونظام المياه، وسَنُّوا ما يُؤَيِّدُ ذلك، وفرضوا من العقوبات ما يُجَازَى به الباغي بعملٍ مشتركٍ يَقُوم به جميعُ الأعضاء. وليست مبادئ القانون الدَّوْليِّ الأساسيةُ مدينةً للرومان، بل للأغارقة الذين هم قومٌ من المَلَّاحين والفلاسفة، وهذا إلى أنها كانت تصدر عن البحر المتوسط كصدور كلِّ صالح عنه. والحقُّ أن ذلك الحِلْفَ الهجوميَّ الدفاعيَّ أُبْرِم، كما يلوح، قبل وَضْع القوانين المدنية، وكان قد قُدِّس للمشترعين الأولين كآلهة، وهم لم تُطْلَقْ عليهم أسماءُ رجال، بليكورغَ ودرَاكُون، إلَّا بعد زمن. وكان من المذهب الإغريقيِّ أن يُؤَنَّسَ وليُّ الأمر بدلًا من أن يُؤَلَّه على المذهب الرومانيِّ، ولم يكن الإغريقيُّ الوحيدُ الذي أُلِّه، ولم يكن الإسكندرُ الأكبرُ إلَّا نصفَ يونانيٍّ.

وأثينة وحدَها هي المدينة التي سَمَتْ في ذلك العصر فوق الدويلات المتحاربة على الدوام.

ومن النادر أن تسِيرَ مصايرُ أفذاذ الرجال وَفْقَ خِطَّة مُبَيَّتَةٍ، حتى عند توجيه تربيتهم بحكمةٍ كما تقتضيه قابلياتُهم، فلا تَلْبَث الفُرَج والصُّدوعُ أن تَقَع، ولا يُمْكن أن يُبْصَرَ مَنْ يكون مختارًا بين جمعٍ من فِتْيَانٍ موهوبين، وأن تُعْرَف السُّرْعةُ التي يَنْشَأ بها، وأن تُعْلَم سرعةُ ما يُحْتَمَلُ مِنْ تقهقره، وأن تُدْرَك القُوَى التي تَهْدِمُه في نهاية الأمر. ولو كان الأمر غيرَ ذلك لغدا التاريخُ منطقيًّا، ولَبَدَا مُمِلًّا، ويُحَاوَل، عندما يُدْرَس شبابُ أعاظم الرجال، أن يُسْتَنْتَج كونُ كلِّ شيء أَتَوْهُ كان مُقَدَّرًا مُقدَّمًا منذ البُداءة، وكذلك يَصْعُبُ علينا أن نتمثَّلَ دورًا لم تكن أثينة فيه غيرَ إحدى الجُمهوريات الثلاثين الصغيرة المتقاتلة نَيْلًا للمجد والسلطان.

ومع ذلك فإن نظرةً تُلْقَى على خريطة اليونان وعلى رَسْم أثينة تدلنا على أن من مقتضيات موقعها وطبيعة أرضها أن تزدهر كما أن مواهبَ الشابِّ مع مساعدة أحوال مَنْبِته مما يُعِدُّه لعمل باهر، وبين مدن البحر المتوسط تقع بِزَنْطَةُ وحدَها في مكانٍ مباركٍ كذلك، ويمكن تشبيهُ أثينة من حيث موقعُها بناظرٍ يَسْمح لجَمْعٍ من الأولاد أن يغتسلوا في البحر، فهو يَرْقُبهم من فوق مَرْصَده، وهو يَحْمِلهم على نظام شديد مع أنهم يأتونه بأصدافٍ أو سُفُنٍ. وإذا صَحَّ تعيين الجُزُر لمصير اليونان في الحقيقة فإنها لم تُوَفَّقْ لذلك إلَّا لقُرْبِها من قارَّةٍ تتصرف في مائة ساعد لتَقَبُّل السُّفُن وفي مائة جبل لاتِّقائها.

ووُلِدَت الحضارة الأوروبية على تلك المِزَقِ من الأرض التي نَدْعُوها بلادَ اليونان، وهي لم تُولَدْ على غير القسم الشرقيِّ من تلك المِزَق التي وَضَعت الطبيعةُ أثينة على مركزها. ومن العبقرية أن يُسْتفاد دَوْمًا من بعض نِعَم الطالع فتُنْمِيها العبقرية بعدئذٍ بنفسها. وهكذا أُعِدَّت أثينة لتسيطر ولتكون وطنًا ساطعًا، مع أن رومة لم تَسْطِع أن تنمو إلَّا بعنادٍ بطيء وعلى الرغم من أحوالٍ غير ملائمة. وبهذا يُفَسَّر سبب إتمام أثينة ارتقاءَها المَجِيد في قرن واحد مع أن ذلك لم يتفق لرومة إلَّا في خمسة قرون، ومن الواقع أن رومة حافظت على سلطانها مدةً أطولَ من التي اتفقت لأثينة.

وفي الأرخبيل، الذي يُسَمَّى الأرخبيلَ الإيجيَّ، تُعَدُّ ٤٨٣ جزيرة، مع أنه لا يوجد عند شاطئ اليونان الغربيِّ غيرُ ١١٦ جزيرة، ولكن لا أهمية للعدد. وفي الغرب يَفْصِل بحرٌ عريضٌ عميقٌ، يَفْصِل البحرُ اليونانيُّ، تلك الجزائرَ عن جَنوب إيطالية، والمَضِيقُ الوحيد هو في كُورْفُو. والجزائرُ في الشرق هي، على العكس، بقايا بَرْزَخٍ، فلا تزال تُؤَلِّف مَمَرًّا يَبْلُغ من السهولة نحو آسية الصغرى ما تؤدي معه جزائرُ سِيكْلاد وجزائرُ إِيجه من أندروس إلى رودس فيَسْهُل على العملاق أن يَخْلُصَ بأن يَثِب من بَرٍّ إلى برٍّ كما يَمُرُّ من جدولٍ ذي حجارة بارزة، وذلك إلى أن الرياح تُعِين السُّفُن التي تصل بين القارَّتين كأَقْرِيطش، ومقدونية والدردنيلِ في الشمال. وتُعَدُّ أثينة مَدينةً بنصف عظمتها وفوزها للجُزُر والرياح ومدينةً بالنصف الآخر لموقعها الداخليِّ، وتَقَع الأرض القليلة التي كانت تَشْغَل مُعْظَمَها، والتي كُتِبَ باسمها الخلود للجمال الأَتِّيكيِّ والروحِ الأَتِّيكية، على الساحل الجبليِّ الممتدِّ من الشمال حَوْل خليج إيجين المشتملِ وحدَه على ٦٢ جزيرة، ويَحْفَظ الأَتِّيكَ من جهة الشمال جبالٌ ومن جهة الغرب برزخُ كُورنث الذي لا يُجَازُ إلا بمضايقَ صعبةٍ وبطُرقٍ ضيقةٍ بين الصخور. والأَتِّيكُ، على العكس، مَكْشُوفٌ من ناحية الجَنوب، والأَتِّيكُ مُشْمِسٌ جافٌّ، وهو أقلُّ صلاحًا لزراعة الحبوب مما لزراعة الزيتون والكَرْمة والتين، وهو إذَنْ لا يستطيع أن يتجه إلى غير الشرق؛ أي البحر. ويُقَيِّدُ هذا الأمرُ شَكْلي حضارته الأساسييْن، وموقعُ أثينة من الناحية التجارية أرفعُ من موقع كُورِنث المحصور بين الخليجين والمُعَدِّ ليكون ميناءَ مرور.

ولنُقَابِلْ بين الأَتِّيك وجارته الشمالية بِيُوسْيَة المقتطَعةِ من البحر، والمُرَصَّعةِ ببحيراتٍ والرطيبةِ الجَوِّ والباردةِ الشتاءِ والخصيبةِ الأرض، لنُبْصِرَ أنها أنشأت شعبًا من الفَلَّاحين الرُّزَناءِ المُتَحرِّزين.

ثم لنُلْقِ نظرةً إلى ما وراء كُورِنث، إلى الأرْكادية، إلى بلد الرُّعاة الجبليين الذي لا يزال فَلَّاحوه محافظين على مظهرهم القديم، وذلك مِثلُ رمزٍ مُنْسَجِمٍ لقصيدة رِعائية خالدة، وبين الاثنتين يقع الأَتِّيك الذي يجتذب خليجُه الجَنوبيُّ جميعَ مَنْ يَأْتُون من وراء البحر والجُزُر بَحْثًا عن مرفأٍ وإنشاءً لأماكنَ تجاريةٍ ومَحَالِّ لَهْوٍ. وهكذا سَطَعَتْ أثينة على الأرخبيل ثلاثةَ آلافِ سنة فبَدَتْ منارًا نَيِّرًا يُلْقِي نيرانَه على الشواطئ وعلى السُّفُن ويَنْشُر في العالَم، وعلى أفواه مَلَّاحيه، أُسطورةَ ضيائه حتى قبل أن تَصِلَ أعمالُه وأفكاره إلى السواحل البعيدة.

ومع أن هذه المدينة البحرية صارت عاصمةَ حلفٍ لم تكن مالكةً لميناءٍ طبيعيٍّ، وهي قد كانت منذ البُداءة، أقربَ إلى البحر من رومة، غير أن تِمِسْتُوكْل لم يُحَوِّل المستنقَع إلى ميناء عالميٍّ إِلَّا بعد حين، وذلك بفضل مهارة مهندسي العصر، وهو أولُ ما مُلِئَ بالأنقاضِ والحجارة، ثم جُعِلَ مدخلهُ خمسين مترًا بعد أن كان ثلاثمائة متر، ثم وُسِّع مُجَدَّدًا في زماننا.

وفي مقابل ذلك حَبَتِ الطبيعةُ أثينةَ بمَوْهِبةٍ ألزمَ من مرفأٍ لتوسِّعها، وكانت تَبْرُز من السهل، وعلى ارتفاع ١٥٠ مترًا، صخرةٌ منفردة ذاتُ ذُروةٍ مستويةٍ محاطةٍ بهُوًى عميقة، وكان طول هذه الصخرة ٣٣٠ مترًا، وكان عرضُها ١٣٠ مترًا. وقد أُقيمت المستعمرة الأولى على هذا الحِصن الطبيعيِّ، وقد وَجَدَت هنالك موقعًا مثالِيًّا يُذَكِّرُ بمأوى قُطَّاع السابِلَة في عصر الفروسية. بَيْدَ أنه اتَّفَق لهذا التَّلِّ من الطالع الساطع ما لم يتفق لحصون الأرض طُرًّا، فقد أُقيم فوقَه البارتِنُون منذ القرن الخامس قبل الميلاد.

١٥

أثبت تاريخ أثينة أنه يمكن شعبًا أن يُحِبَّ المالَ والذهنَ والتجارةَ والجمالَ معًا، والشيءُ الوحيد الذي أَقْسَى الأممَ وحَطَّها مع الزمن هو إرادة التَّسَلُّط، وتكاد تكون منابعُ حياتنا الذهنيةِ كلِّها صادرةً عن اليونان لا عن الرومان مُطلقًا. والرومانُ، بعد أن قهروا الأغارقة، بَدَوْا تلاميذَ وارثين لهم، ومن الأغارقة تَعَلَّمُوا الشعر والحكمة والنحتَ، غير أن آثارهم لم تكن سوى تقليد مُمَهَّدٍ لأساتيذهم، وهم لم يُضيفوا إليها شيئًا جديدًا أو مبتكرًا، وهكذا يَتَجَلَّى تَفَوُّقُ الذهن على القوة، ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نأمُل ذلك في عصرنا الذي يفوز فيه البرابرةُ مُجَدَّدًا.

ولولا الروحُ التجارية ما وَجَدَتْ عبقريةُ أهل أثينة أساسًا متينًا، ولولا البحرُ المتوسطُ ما استطاعت بلادُ اليونان الفقيرةُ أن تنال الذهبَ الذي حُوِّل بعد حين إلى أوابدَ من الفن. ويَحْسُن أن يُحْكَم في أمر الأغارقة بآثارهم الانتقادية التي نشأت عن روحهم الساخرة، لا بِفَنِّهم وحدَه، وذلك إذا ما أُريد اكتناه الأَثَنِيِّين. ويمكن ابنَ البحرِ المتوسط، كما لا يزال، أن يُحْكَم في مشاعره وذوقه الفنيِّ بتماثيل العصر الكلاسِيِّ١٠٦ وجَوْقاتِ مأساته، ولكنْ يُعْوِزُنا هِجَاءُ الحياة المألوفة وتصاويرُها إدراكًا لمَكْرِه وبِشْرِه ومَيلِه إلى المال والثَّلْب، وميلِه كذلك إلى الكُنُود والحقدِ اللذين يتألف منهما طَبْعُ الرجلِ، الملَّاح والتاجر، فخَلَّدَه أَرِسْتُوفانُ والآنيةُ الإغريقية.

وأهلُ أثينة هم الذين اخترعوا تعبير «عَمَل المال»، وهم الذين كانوا يُصَفِّروُن ويُنْشدون بيتَ الشعر القائل: «أَجَلْ، المال، والمالُ هو الذي يَعْمَل الرجال!» وكان تُوسِيدِيد يقول عن أبناء وطنه: «إن الأَثَنِيِّين دائمو الحركة، وهم يسافرون دائمًا إنْماءً لثَرَوَاتِهم، ومن النادر أن يستطيعوا التمتعَ بها هادئين ما فَكَّروُا في أرباحٍ جديدة على الدوام.»

ويتشابه تُوسِيديدُ وهيرودوتس اللذان خُلِّدَت ملامحُهما بهِرْمسَ ذي الرأسين، وذلك مع كون الأخير أخفَّهما وأكثَرَهما تأمُّلًا وكونِ الأولِ أشدَّهما قُتُومًا وأعظمَهما مُجُونًا. وكان أولئك الذين هم أقدمُ حَضَرِيِّي أوروبة يتصرفون في قليل من الأَرَضين الخصيبة حول مدينتهم، ولكن سفنَهم كانت تَحْمِلهم في جميع العالَم القديم، وكان حُبُّ المال يلازمهم في جميع التحولات السياسية، حتى عند تَحَوُّل حكومة الأعيان، التي خَلَفَت الملوك، إلى ديموقراطية. وقد أصاب أرسطو حينما عَرَّف هذين النظامين فقال إن أحدهما ذو حُظْوَة لدى الأغنياء وإن الآخر عزيزٌ على الفقراء، وهذا ما كان قد حَفَزَ أفلاطونَ إلى نَبْذِهما.

وإذا ما سيطرتْ أثينة في جميع الأدوار بروح أبنائها التجارية وحُبِّهم للمال؛ أي بهذين الأمرين اللذين كانا يأتلفان ائتلافًا عجيبًا مع حُبِّهم للجمال والحكمة، فإن هذه العناصرَ كلَّها كانت تنشأ عن مَيْلٍ جامح إلى الحرية، ويمكن تشبيه الأَثَنِيِّين بالفرنسيين المعاصرين من هذه الناحية. والحق أن الغَدَاء في أثينة القديمة كثيرُ الشَّبَه بغَدَاءٍ يُتَنَاوَل بباريسَ الحاضرةِ أو باريسَ الأمسِ. والحقُّ أن الأَثَنِيِّين، كالفرنسيين، كان يجاورهم عدوٌّ فيَغْلِبُهم في الحرب أحيانًا. والحقُّ أن الإسْبارطيين هم بروسِيُّو ذلك الدور، والإسبارطيون قد توارَوْا عن مَسْرِح العالم تواريًا تامًّا في نهاية الأمر على الرغم من انتصارهم.

وكيف استطاعت إسبارطة القاتمةُ الجبليةُ المُقْتَطَعَةُ من البحر أن تُنْشِئ مذهبًا سياسيًّا داخليًّا أخصبَ من المذهب الذي دُعِيَ بالأدب الإسبارطيِّ منذ ذاك؟ كان يرتفع جبلان مستوران بالثلج إلى سماء واحدة تنعكس عليها جُزُرٌ وخُلْجان كما تَبْدُو من تلِّ أثينة، فأنتج هذا البلدُ الحَجِيرُ الفقير شعبًا جِدِّيًّا ضَيِّقَ العيش، وقد أسفر صِغَرُ أرضه عن عزمه على قَهْرِ جيرانه، وقد أدى هذا العزم إلى ازدياد سلطان الدولة على حساب الفرد، وقد حَوَّل هذا النظامُ شِبْهُ الشيوعيِّ وشِبْهُ الاستبداديِّ عبيدًا غِلاظًا إلى جنود، كما حَوَّل الجنودَ إلى فاتحين زالوا في نهاية الأمر.

واليومَ تُقْطَع المسافة بين المدينة القديمة المتبربرة وأثينة في ساعة طيران، وهذه هي الأرضُ الصغيرة التي كان يتقاتل عليها أبطالُ صِبَانا والتي يُعْرَض عنها فصلٌ من التاريخ العامِّ الذي تَحَوَّل إلى أسطورةٍ لا تزال تُغَذِّي قلبَ جميع أمم العالم ودماغَها، ولا شيء يُحَرِّك النفس أكثر من منظر الأُلِنْب بضيقه واستداراته اللطيفة.

أَجَلْ، لم يكن الإسبارطيون من البرابرة لدى الأغارقة ما دامت اليونانيةُ لغتَهم، غير أننا نرى الأَثَنِيِّين أنفسَهم من البرابرة لِمَا كانوا يملكونه من العبيد. وقد تَغَيَّر معنى الكلمة كما تَغَيَّر معنى كلمة الطاغية ما دام عهدُ الطاغية بِيزِيسْترات الذي دام ثلاثًا وثلاثين سنة قد سُمِّيَ فيما بعد بعَهْدِ أثينة الذهبيِّ. ويُتَّخَذُ هذا دليلًا على أن الطاغية نفسَه ليس مذمومًا بحكم الضرورة، وأن النظامَ الاستبداديَّ الحكيمَ العادلَ كان أفضلَ من نظامٍ يؤدِّي إلى تنازع الأحزاب ودسائسها في القرون القديمة على الأقل، ولا ينبغي أن يُحَدَّث عن الروح الديموقراطية الإغريقية إلَّا بتحفظٍ كما يُحَدَّث عن جميع الديموقراطيات عند تَمَسُّكها بنظام الرِّقِّ. قال غوتة: «أَجَلْ، كان الأغارقةُ أصدقاءَ الحرية، غير أن كلَّ واحد منهم لم يُحِبَّ سوى حريته؛ ولذا كان يوجد في كلِّ إغريقيٍّ طاغيةٌ تُعْوِزُه الفرصةُ لِيَنْموَ.»

حَقًّا كان يسود إسبارطةَ ضَرْبٌ من النظام البروسيِّ على الطراز القديم، كانت تسيطر عليها حكومةٌ أريستوقراطية رؤساؤها من القُوَّاد والضباط، وكان المذهبُ الحديث القائلُ بجعل مصلحة الدولة فوق مصلحة الأفراد قد لُطِّفَ في إسبارطة بتناول جميع أبناء الوطن، رجالًا كانوا أو نساءً، وَجَبَاتِهم معًا، وبحقِّ كل واحدٍ منهم في حيازة خيلٍ وكلابٍ وغِلَالٍ، وعبيدٍ في بعض الأحوال، ثم كانت الأَرَضُون التي تُفْتَتَحُ تُوَزَّع بين جميع الجنود حِصصًا متساويةً. ومما رُوِيَ أن الرئيس المشترع لِيكُورْغ كان يطوف ذاتَ يومٍ في الحقول التي يُحْصَدُ زرعُها فقال: «يُخَيَّلُ إلى المتأمل أن هنالك مُلْكًا خاصًّا بإخوةٍ يقتسمون ميراثًا.» وإذا كان الفقير لا يغتني في إسبارطة فإنه كان لا يجوع فيها بفضل الدولة، ولكنه إذا ما كان كثير المرض أو كثير الهَرَم أمكن قتلُه وَفْقَ مبادئ التناسل.

وكان مبدأ حماية الأقوياء مِنْ قبضِ الضعفاء على زمام الأمور يتجلَّى أيضًا في أمر المال والمُلك، ولنا بكلمة إيزوقراطيس الآتية التي انتقد بها أهل أثينة ما يَكْشِف عن هذه الحال النفسية، فقد قال: «يخاف الناسُ أعداءَهم أقلَّ من خوفهم أبناءَ وطنهم، ويُفَضِّلُ الأغنياءُ قذفَ أموالهم في البحر على توزيعها بين الفقراء، والفقراءُ لا يَرْغَبون في أمرٍ بحرارةٍ مثلَ رغبتهم في سَرِقة الأغنياء.»

ولم يكن النظام الإسبارطيُّ في تقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية أكثرَ إنصافًا من النظام الأَثَنِيِّ، ولكن روح الشعب بأسْره لم تكن أقلَّ ميلًا إلى صِناعة الأسلحة من ذلك، فكلُّ طموحٍ كان يُوَجَّه نحو الحرب بمثل الروح الفاشية الحاضرة، وكذلك كان تمازجُ الروحِ الرياضية والروح الحربية من بُعْدِ المَدَى في إسبارطة ما لا يأخذ الشُّبَّان معه غيرَ دراهمَ قليلةٍ دفعًا لهم إلى السَّرِقة بمهارة، وما يشترك الفتيات والفتيان معه في الألعاب الرياضية، وإن حُظِرَ على هذين الجنسين أن يأكلا معًا، وعكسُ هذا ما كان يقع في زمن جَدَّاتنا.

وإذا ما بَدَتْ إسبارطةُ شعبًا مدجَّجًا بالسلاح، عاطلًا من كلِّ تربيةٍ غيرِ التدريب الحربيِّ، مزدريًا للحياة الذهنية، خاضعًا لنظامٍ يُعَيِّن الزمن الذي يجب على ابن الوطن أن يتزوَّج فيه والذي يُؤْخَذُ فيه من أُسْرَته، تابعًا لنظام يُقَيِّد حريةَ السَّيْر، قائلًا بحكومةٍ تَضْرِب نقودًا من الحديد، رُئِي أنها نَمُوذجٌ كاملٌ لِمُثُلٍ يُبَشَّرُ بها اليوم في بلادٍ جَمْعِيَّة.

ولكن بما أن أثينة كانت تَعْرِف أيضًا ما يُسَمَّى النظامَ الاستبداديَّ، وبما أن إسبارطة كانت تَعْرِف التفاوتَ الاجتماعيَّ كذلك، فإن ما بين إسبارطة وأثينة من اختلافٍ كان يقوم قبل كلِّ شيء على الوجه الذي تبْدُو به الدولةُ لكلٍّ منهما. ومن مقتضيات وِجْهة نظر إسبارطة حَوْل الدولة أن كان يُبَاحُ لفُوهِرِرِها تَدَخُّلٌ لا حَدَّ له في حياة ابن الوطن باسم مصلحة الدولة، وذلك على حين كان من النادر أن يساور جُمهورية التجار الأَثَنِيَّة مَيْلٌ إلى الفتح، فكانت تقتصرُ على الدفاع في الغالب راغبةً في وِئام جميع العالم، ولكن مع القول بحقِّ الانتقاد وتعاطي الفلسفة، ولكن مع منح جميع أبناء الوطن حريةً تامَّةً تقريبًا. وهكذا غابت الحرية والجمال وبهجة الحياة غيابًا تامًّا عن دولة إسبارطة البَرِّيَّة والحربية إلى أن زال أَثَرُها، وهكذا كان كلُّ واحدٍ في دولة أثينة البحرية يَرْجِع أَصلَه إلى حُبِّ الحرية، فكُتِبَ الخُلُودُ لليونان بذلك، وما تَمَّ لإسبارطة من نصرٍ حربيٍّ لم يكن غيرَ فاصلةٍ قصيرةٍ في مجد أَثينة الخالد.

١٦

قال هاتف دِلْفَ لتِمِسْتُوكْل: «أَنْشِئ أسوارًا من خشب!» وقد أدرك تِمِسْتُوكل معنى ذلك فأبدع بحريةَ أثينة الحربية، وحَصَّن في الوقت نفسه مرْفأ البيرِه، وبنى ميناءَ فُرْضَةِ فاليِر الحربيَّ، وهكذا أعَدَّ النصرَ على سَرْخس في سَلَامِين وما أَدَّى إليه من تحرير اليونان من سلطان الفرس (٤٨٠ قبل الميلاد).

وبينا كانت الدولةُ الآسيوية تقمع كلَّ عصيانٍ يقوم به أغارقة آسية الصغرى، وبينا كان جميع اليونان يدفع جِزْيةً إلى الفرس، تلوح فكرة الجامعة الإغريقية، فكرةُ اليونان، وفي الوقت نفسه تُولَدُ فكرةُ عَدِّ كلِّ من لا يقاتل الفرسَ من الأغارقةِ مقترفًا جُرْمَ الخيانة العظمى، وتنضمُّ إسبارطة إلى الحِلْف اليونانيِّ وإلى الجيش الإغريقيِّ الأكبر لزمنٍ مُعَيَّن، بَيْدَ أن الأسطول هو الذي ينال النصر الحاسم.

ويحزَن المُفَكِّر المعاصر باسم الروحِيِّ حينما يُبْصِرُ أن ضمان أَعَزِّ الأمور، من حريةٍ وعدلٍ وصحةٍ وحياةٍ، يتوقف على صُنع الطائرات والدَّبَّابات. ومنذ ألفي سنة يشترك برِكلِس بنفسه في معركة سَلَامين. وإنَّا لنرتجف عندما نُفَكِّر في أن ما يُسَمَّى «عصرَ برِكلِس» يتوقف على إنشاء السفن، وفي أن فَنَّ المِلَاحة والحرب هو الذي قَرَّر النصرَ بين البرابرة وبين أمدن أمم الأرض، وإن ما عُومِلَ به مُنْقِذُ قومه ومنقذُ التمدنِ بأَسْرِه برِكلِس من جُحُودٍ فيما بعد، هو مما يُدْخِلُ اليأسَ إلى النفوس حتى في أيامنا فنَشْعُر بإنكارنا كلَّ إيمانٍ وطموحٍ سياسيٍّ.

ومن مطالعة أنباء المعارك البحرية في الماضي ندرك جيدًا كيف أن تِمِسْتُوكل أنقذ حضارة البحر المتوسط في سَلَامين، وقد تَوَجَّه صفٌّ من السفن إلى أسطول العدوِّ تَوًّا، فعَمِلَت كلُّ سفينةٍ على إنْشَاب رأسها في جانب سفينةٍ للعدوِّ، وتَجِدُ سِرَّ هذا الفنِّ الحربيِّ فيما أُبْدِي من حِكْمَةٍ في السُّرْعَة. وكانت كُورِنْث قد قاتلت كُورْسِيرَ «كورفو» على هذا الوجه في أول معركة بحرية يونانية حوالي سنة ٦٦٠ قبل الميلاد، وهذا ما وقع في آخر معركةٍ حربية من هذا الطراز سنة ١٨٦٦ بالقرب من لِيسَّا حيث أغرق مركبٌ نَمْسوِيٌّ مركبًا إيطاليًّا في دقيقتين، وليست النَّسَّافة الغَوَّاصة غيرَ تَطَوُّرٍ لهذا الفنِّ الحربيِّ. وفي سنة ٥٠٠ قبل الميلاد اضْطُرَّت أثينة إلى استعارة عشرين مركبًا من كورنث لتقاتل إِيجِين، فغُلِبَت مع ذلك.

بيد أن تِمِسْتُوكل كان يعرف أن الفُرْس بحريون ماهرون وأنهم لا يُغْلَبُون إلَّا بطرازٍ جديد من المراكب، ويجازف بحُظْوته لدى الشعب فيَحْظُر ما تَعَوَّده أبناءُ الوطن من توزيع ما تنتجه المناجم من الفِضة منتفعًا بهذه الفِضة في إنشاء ١٨٠ سفينة من التي لها ثلاثة صفوف من المجاذيف في ثلاث سنين.

أَجَلْ، إن فكرة وجود ثلاثة صفوف منضودةٍ من الجَذَّافين قد أتت من الفنيقيين، ولكن الطِّراز الذي أنشأ تِمِسْتُوكل به مراكبَه قبل المعركة البحرية الكبرى كان إغريقيًّا صِبْغَةً. وقد جُعِلَ كلُّ شيء مَرِنًا سريعًا في السَّيْر، وجُهِّزَت هذه السفنُ للمرة الأولى بجسرٍ مائلٍ عن سَمْت الرأس إلى الأمام فائضٍ عن عَرْض كَتِف الرجل، ونشأ عن هذا الاختراع ضَرْبٌ من المِذْراة بارزٌ من الحَرْفِ فيُتَّخَذُ في الزوارق الرياضية حتى اليوم. وكانت المعاركُ البحرية تشابه المعاركَ البريَّة في ذلك الحين، وذلك من حيث إنه كان يحاوَلُ الوثوب من مركب إلى آخر فيقاتِل الرجلُ الرجلَ فيكون بهذا كبيرُ أهميةٍ لعدد الجَذَّافين وحِذْقهم، وفي مثل هذه الأحوال قد يكون لجسر المعركة المُسْتَوِي فعلٌ قاطع، وقُلْ مِثْلَ هذا عن امتداد السفينة إلى ما يزيد على أربعين مترًا فلم يجاوزْه حتى الوِيكِنْغ، والذي ظلَّ مُعَوَّلًا عليه حتى اختراع البواخر في القرن التاسعَ عشرَ وحتى اتخاذِ الحديد في إنشاء السُّفُن. وبما أَنه لم يكن للمركب جَوْفٌ مُغَطًّى في ذلك الحين فقد كانت تَحْفَظُ الجَذَّافين من الأمواج والشمس والعدوِّ حواجزُ من النسيج والجلد. ومن العادة أن كان يُتْرَكُ الصاري والشِّرَاعُ على الشاطئ، حتى قيل إن مارك أنطوان «أنطونيوس» عَزَم على الفرار حينما نَقَلَهما إلى سفينته بأكسيوم.

وقد خُيِّلَ لتِمِسْتُوكلَ أيضًا أَمْرُ الرُّبَّان المُوسِر مع تفويض قيادة المركب إلى آخرَ حفظًا لسلامته الشخصية، وقد جُعِلَ الوَزْنُ من أجْل الجَذَّافين لزَمَّارٍ يأتي بألحان حادَّةٍ على نَسَقٍ واحد، وكانت هذه المراكب التي تُحَرَّك بذُرْعان الآدميين تَبْلُغ من السرعة خَمْسَ عُقَد.١٠٧ وإذا ما نُظِرَ إلى العُقَد الثلاثين التي تُبْلَغ بمُحَرِّكات الزيت القوية يُرَى التقدمُ الأدنى الذي انتهى إليه تِمِسْتُوكل جديرًا بِنَيْل «الشريط الأزرق»، ولم يكن لديه في سلامينَ غيرُ أربعةَ عشرَ رجلًا مسلحين وأربعةِ نَبَّالةٍ عن كلِّ خمسين جَذَّافًا في ظهر كلِّ مركب، وبما أنه كان يُؤْكل ويُنَام في البَرِّ على العموم، فيَنْدر قضاء عِدَّة أيام في السُّفُن، لم تكن المراكب من الاتساع ما تشتمل معه على مطابخ، وكانت السُّفُن تُشْحَنُ بالماء الصالح للشرب عمومًا، وكانت تُشْحَنُ بالخمر نادرًا.
وكان إنشاء السفن يَقَعُ بأسرعَ من تدريب الرجال، وقد أنشأ هِيرون مائتي سفينة في ٤٥ يومًا، وكان قَيْصَرُ من القدرة ما أنزل معه أسطولًا إلى البحر بعد شهرٍ من تاريخ اختباط الأشجار، وكانت السفن تَبْلَى بمثل السرعة التي تَبْلَى بها السيارات في أمريكة، (وماذا يقول تِمِسْتُوكل إذا ما علم في الدار الآخرة أن السفينة التي قام كُوكُ بسياحته الأولى فيها مُبْحِرًا بين سنة ١٧٦٤ وسنة ١٧٧٤ كانت تظلُّ عائمة لو لم تَغْرَق بعد اصطدام؟) غير أن نظام تِمِسْتُوكل حَوْلَ تدريبِ الجَذَّافين كان طويلًا صارمًا، فكان الرجال يتمرنون في البَرِّ فوق صِقَالات١٠٨ خاصة فيقولون بصوتٍ عالٍ موزون: «رِي با بي»، وهم لم يُعَتِّمُوا أن دُعُوا بهذا الاسم. وقد وَصَفَ أَرِيسْتُوفَانُ جميعَ ذلك في تمثيلية خالدة، ففيها يُرَى كيف يُدرِّبُ شارونُ ديونيزوسَ على التجذيف مُسْتَصْحِبًا ضفادعَ تُغَنِّي وتَنِقُّ على الوزن، والعاصفةُ، لا الفُرْسُ، كانت عَدُوَّ الأسطول الزَّرْقاءَ مع ذلك.

وفي القرون القديمة زال كثير من السفن بفعل العاصفة أكثر مما بفعل المعارك، ومع ما كان من دخول المركب في الماء نحو متر واحد فقط، ومع ارتفاع جسر المركب مترين، كان يُنَقَّلُ الحَيْزُومُ بعشرين طُنًّا من الحجارة على غير جَدْوَى، فما كان أحدٌ ليُخَاطِر بالاعتراك في عُرْض البحر، فكان يُتَلَبَّثُ بالقرب من الشاطئ.

وأدخل تِمِسْتُوكلُ نظامَ الخدمة الإجبارية جَرًّا لأبناءَ وطنه إلى المِلاحة، ولم يَمْقُته الشعب بسبب هذا التدبير، بل صارت منزلته عند الأمة ضِعفي ما كانت عليه. ولو نظرنا إلى ما انتهى إلينا من المصادر لوجدنا أن الطبقاتِ الثلاثَ التي كانت الخدمة العسكرية وَقْفًا عليها هي التي لم يُرْضِها ذلك التدبير، فهي قد كَرِهَت مشاطرةَ الصعاليك لِمَقْعَد الجَذَّافين، ويظهر أن أَرِيسْتيد كان معارضًا لخوض معركة فاصلة، ولكنه قاتل فوق اليابسة كوطنيٍّ صالح.

كانت قُوَى الفُرْس عظيمة، والفُرْسُ قابلوا مراكبَ الأغارقة اﻟ ٣٠٠ بستمائة مركب، ولِمَ غُلِبُوا مع ذلك؟ لقد قيلَ لنا إن سبب ذلك في كون خليج سَلَامين هو من الضِّيق ما لم يستطيعوا معه أن يُدِيروا مراكبَهم، فتكفي نظرةٌ من عَلٍ إلى المَحَالِّ للدلالة على تَعَذُّر اقتتال تسعمائة مركب في هذا المدَى الضَّيِّق، ومع ذلك كانت سُفُن الأغارقة أصغرَ حجمًا وأكثرَ رشاقةً وأعظمَ سرعةً وأقلَّ دخولًا في الماء، فيُسَهِّلُ هذا كلَّ تطورٍ في ذلك الخُلَيِّج القليل العُمْقِ. وما كان من نظر سَرْخَس إلى المسرح من فوق عرشه كأنه منظرٌ بَسيطٌ يدلُّ على زهوه الذي لا يَقِف عند حَدٍّ، وما كان ليدور في خَلد هذا العاهل وجودُ إغريقيٍّ في الخامسة والأربعين من سِنِيه، وجودُ جنديٍّ بين ألوف المقاتلين، أَحقَّ منه في لُبْس الثوب الأُرجوانيِّ؛ وهذا الإغريقيُّ هو إسْشِيل الذي كان يمكنه في ذلك اليوم أن يرى مَلكَ الفُرْس جالسًا على العرش، وفي سَلَامِين يُنْصرُ الشاعرُ اليونانيُّ على ملك البرابرة، فيَا لَه من رَمْزٍ عظيم!

أُنْقِذَ اليونان من نِير الفُرْس، فازدهر الفنُّ قرنًا كاملًا، والفنُّ مما لا يتنفس مضغوطًا، ومما لا ريب فيه أن كان الأغارقة يَرْجُون نَيْلَ عطف مارس مستشفعين عرائسَ الشِّعْر، ففي سَلَامين شَقَّ إسشيل لنفسه ولخَلَفه طريقًا، على حين كان ملك الفرس يَفِرُّ من عرشه البحريِّ ليُقْتَلَ في قصره ويُنْسَى من فَورِه. وقد أَدَّى النصرُ الذي تَمَّ في سَلَامين إلى جامعة اليونان البحرية كما أدت معركةُ سِيدَانَ إلى الوحدة الألمانية.

وما ألقاه سلطانُ أثينة البحريُّ الجديدُ من رُعْبٍ جعل امتدادَه حتى برُوبونْتِيدَ أمرًا ممكنًا، وذلك مع ابتلاع أقسامٍ من آسية الصغرى. ومما يجب عزوه إلى حكمة أَريسْتِيد وأنصارِه اعترافُ مُعْظَم قبائل اليونان بمجلس الحِلْف ودَخْلِه وبَحْرِيته وتَعَهُّدُها بتأييده حتى في زمن السَّلْم، وذلك خلا إسبارطة التي لم تَرَ صُنعَ ذلك في غير زمن الحرب، وبذلك تتحول جامعةُ دولٍ إلى دولةٍ اتحادية بسرعة وللمرة الأولى في التاريخ، وتأخذ أثينة على عاتقها توجيهَ اليونان الأدبيَّ، على حين تَنْصاع١٠٩ إسبارطة مُغَاضِبَةً عاجزةً عن البَطْش لمدة نصف قرنٍ، وتضطرب الديموقراطية في أثينة نتيجةً لفساد الأحزاب وانقسامها، ويُنْفَى تِمِسْتُوكل بعد انتصاره بتسع سنين ويُحْكَم عليه بالموت، فيلجأ إلى ملك الفرس الذي يُحْسِن قبولَ قاهر أبيه هذا، ويُنْعِم عليه بإمارة، ويموت هنالك بعد زمن طويل نتيجةَ مَرَض حادٍّ على الأرجح.

١٧

وفي القرون القديمة لا يُقَاس برِكلِس بغير أغسطس، فهو مثلُه قد سيطر على دَوْر عظيم، وهو مثله يمتاز بطول عهده وجمال شخصه. والإغريقيُّ يَعْلُو الرومانيَّ من كلِّ ناحية مع ذلك، ويَنِمُّ وجهُه على رجولةٍ واتِّزَانٍ نَتَوَقَّعُهما بخيالنا من قطبٍ سياسيٍّ يونانيٍّ. ونحن يُمْكِننا، حتى عند عدم انتهاء أيِّ تمثالٍ لبرِكلس إلينا، أن نُصَوِّر رأسَه مستعينين بجَوْقات سُوفُوكل ورسوم سُقْراط وتمثالٍ لهِرْمِس، وهو حين قبض على زمام السلطان لم يكن، مثلَ أُغسطس، غنيًّا ولا وارثًا فَتِيًّا، وإنما كان مُثََقَّفًا حقيقيًّا مُسَوِّدًا١١٠ لنفسه، وهو كذلك لم يكن فاسقًا مثلَ أغسطس، وإنما كان تامَّ الحواسِّ مالكًا لعواطفه.

والذي كان يجعله فوق أغسطس، ووراء كلِّ قياس، هو نبوغُه الخَطَابيُّ، وما كان يتكلم في غير أحوالٍ نادرة، وإذا ما تكلم فبعد أن يَدْعُوَ الآلهةَ سِرًّا، بعد أن يَضْرَع إليها أن تصونه من الكلام الغَثِّ. وقد سُئِلَ أحدُ خصومه السياسيين عن كونه أَمْهَرَ من برِكلِس في المصارعة على الأقل، فأجاب قائلًا: «أَجَلْ، إنني أمهرُ منه، ولكن ماذا ينفعني ذلك؟ فإذا ما رميتُه على الأرض أنكر ذلك في خُطْبَةٍ يفوه بها، ويُقْنِع الجميعَ بذلك، حتى إن شهود الصِّرَاع يصدقونه في نهاية الأمر.»

ومع أن إمبراطورية بركلس دون إمبراطورية أُغسطس بمراحل فإن بركلس لم يكن أقلَّ منه انتصارًا، وقد تَمَّت للأسطول، الذي كان موجودًا حين ارتقائه فأنماه، انتصاراتٌ جديدة. وقد عُدَّت أثينةُ، مرةً ثانيةً، مدينةً لقوَّتها البحرية بتفوقها على جميع قبائل اليونان. غير أن الأسوار الطويلة التي أقامها بركلس ربطًا للعاصمة بمينائها وحفظًا لها في الوقت نفسه لاحت مُهَدِّدَةً للأغارقة كما كان الأسطول الجديد قد لاح، ومع ذلك كانت جميع بلاد اليونان تجتمع تحت سلطانه خلا إسبارطة. وكان سلطان أثينة، حوالي سنة ٤٤٠ قبل الميلاد، يمتدُّ إلى البحر الأسود وإلى جَنوب إيطالية، وصارت أثينة في عشرين سنةً قاعدةً لم يَتَحَدَّاها من جميع مدن البحر المتوسط غيرُ سَرَقُوسَة، وأضحت البيرةُ الجديدةُ مرفأً بحريًّا كبيرًا باحتكار قَمْح البحر الأسود وصِقِلِّية ومصر، وأنشأت المعابد التي تتصرف في ثَرَوات عظيمة نظامًا بَنْكِيًّا، ولكن من غير سماحٍ بتملك العَقَارات الكبيرة، ولم يكن هنالك تَرَفٌ خاصٌّ في المساكن، ولا ضرائبُ مُقَرَّرةٌ في أيام السَّلْم، وكانت هنالك أعيادٌ لجميع الناس.

والحقُّ أن بركلس أدرك احتياجاتِ عصره، وهو مع انتسابه إِلى أُسْرَةٍ غنية ممتازة، قد انْتُخِب من قِبَل أعداء طبقته، من قِبَلَ عُمَّال البيرة، وهو، وإن كان يقوم بشئون الحكم نفعًا للعاصمة، كان يناهض المحافظين، وكان يقيمُ أولَ وأحسنَ نظامٍ ديموقراطيٍّ في التاريخ لا ريب، ومن الحقِّ أن يُقال إنه استطاع أن يحمل أبناء الوطن على الاعتقاد بأنهم الحاكمون وإن كان مسيطرًا فعلًا مع قدرةٍ على كتم المظاهر. وقد كان من القوة، جنديًّا وقائدًا حَرْبيًّا، ما وَدَّ معه السَّلْم وحَفِظه مدةَ ثلاثين سنة، ولم يُقْطَعْ حَبْلُ السَّلْم مع إسبارطة إلَّا قُبَيْلَ موته، إلَّا حين غدا عُرْضَةً لاتهام أبناء وطنه الناكري الجميل، وهكذا أبصر بدءَ حربٍ كان يمكنه أن يَحُولَ دونها زمنًا طويلًا. وكان مطلعًا على أحوال النفس زعيمًا للجماهير فأدرك قَبْلَ الكونت مِيرَابُو بألفَي سنة أنه لا يمكن إمساكُ النظام الاقتصاديِّ القديم في سبيل الطبقات ذاتِ الامتيازات إلَّا مع كبيرِ مسامَحَاتٍ وعظيمِ إصلاحاتٍ.

وكانت حكمتُه، قطبًا للسياسة، تقوم على خِداع الشعب نفعًا للشعب، وهو حين يَدْفَع من مال الدولة بَدَلَ دخول الفقراء لمشاهدة التمثيل الروائيِّ، وهو حين يُحْدِث مناصبَ قضائيةً برواتبَ تسهيلًا لتَقَلُّدِ المُعْسِرين إِياها، يكون قد اشترى أصواتًا، وذلك لِمَا كان يجب عليه أن يَتَقَدَّم إلى الانتخابات في كلِّ عام، وقد انْتُخِبَ خمسَ عشرةَ مرةً في أثناء حكمه المُطْلَق. وقد كان يحبُّ الحُكْم كحُبِّ كلِّ متفننٍ لآلةِ فَنِّه لا رَيْب، ولكن مع شعوره بأن اشتراءه للشعب يوجب بقاءَ أقدرِ رجلٍ على رأس الدولة، ولَمَّا لامَه المجلسُ الشعبي على إنفاقه مالًا كثيرًا إنشاءً لمعابدَ جديدةٍ أجاب بأنه سيدفع ذلك من جيبه بعد الآن، ولكنْ على أن يُنْقَش اسمُه على التماثيل، وقد كَفَتْ هذه الكلمة لانحياز الألوف من سامعيه إِلى سياسته وجَهْرِهم بأن يُخَصِّصَ من أموال الدولة ما هو أكثر من قَبْل لشَيْدِ المعابد، ويأذن لأَرِيسْتُوفَان وجَوْقته في إبداء أغلظ أفاكيههم ضِدَّ صاحبته أَسْبازْيَة، ويؤدي ذلك إلى زيادة حُظْوَته لدى الشعب.

وبركلس هو اليونانيُّ الوحيد الذي تَأثَّرَتْ حياته بامرأةٍ لا بخليلٍ، وكان جميع الناس يعلمون أن أَسْبازية تحتفظ في منزلها بصواحبَ تَعْرِضُهن حتى لبركلس على ما يُحتمل، ويزورها سقراطُ وإِن كان هذا الفيلسوف لا يكترث لحبِّ النساء مثقالَ ذرة، فتؤثِّر أسبازْية فيه فيهجر زوجته الأولى ويَهَبُها لرجلٍ آخر عن تَرَاضٍ، وما كان لأي عارٍ عامٍّ أن يُحَوِّل مشاعر بركلس عن أَسْبازية.

ويَوَدُّ إِثباتَ نزاهته لأهل أثينة فيَشْري من السُّوق العامة ما يحتاج منزلُه إليه، غير أنه يبيع محاصيلَ أرضه بثمنٍ غالٍ ككلِّ مُزارع، ويأذن للمصورين الهزليين في العمل بقريحةٍ يثيرها قِحْفُه الشاذُّ بطوله والذي لم يكشفه قَطُّ للُبْسِه خُوذَةً باستمرارٍ تقريبًا. وهو على ما كان يخادِع به الشعب في موضوع دوام السَّلْم مع إسبارطة لم يَكُفَّ عن التسلُّح قطُّ. وهو في كلِّ عام كان يُبَرْطل رجالَ الحكم في إسبارطة كَسْبًا للوقت. وهو حينما كان يُلَوِّح لحلفاء أثينة بالمساواة بين جميع الأغارقة، كان يفرض عليهم جزْيةً كفاتحٍ فلا يَشُكُّون في أنه يَبْنِي الأكروبولَ المُعَدَّ لتخليد مجده بهذا المال.

ولما اقتتلت مَلَطية وساموس انحاز إلى مَلَطية حيث كانت خليلتُه قد وُلِدت فافْتَضَح كثيرًا لدى أبناء وطنه، غير أن ما تَمَّ لهم من نصرٍ على يديه في نهاية الأمر رَفَعَ شأنَ بلده وأَغْنَى أثينة، فتضاعف بهذا النصر احترامُ الناس له بعد أن كاد يَفْقِده في سبيل غَرَامِه بامرأة، وكان لا يَتَحَرَّزُ في المعارك.

وفي ساموسَ قاتل بركلسُ بجانب سُوفُوكل، وقد حَفَزَت المصلحة والشرفُ هذين الرجلين العظيمين إلى المجازفة بحياتهما البدنية إنقاذًا لحياتهما الروحية، وذلك لاتخاذهما الحكمةَ دليلًا لهما، وما الأَثَنِيُّ الحقيقيُّ إِلَّا كبُرْكانٍ مستورٍ بثلجٍ، وكان خِيارُ الأَثَنِيِّين براكينَ كإتْنَة.

وكان برِكْلِس يبدو لأبناء وطنه أُلِنْبيًّا، ومن بلوتارك نعلم أن هذا الوصفَ، الذي كان دارسًا في ذلك العصر، يناسبه مناسبةً تامةً. وكان بركْلسُ، منذ بدء حكمه المطلقِ الفعليِّ، لا يَبْدُو للجُمهور إلا نادرًا، وكان لا يتكلم إلا في الأحوال الكبرى، ولِمَ يَقِلُّ اشتعالُ النار الألنبية في فؤاده؟ ولِمَ يمتنع مُمَثِّلُ الكرامةِ الحقيقيُّ هذا عن التَّلَهِّي بالنَّمُوذجات الشابَّات في مُحْتَرَفات فِيدياس، وهنَّ اللائي لم يَزْعُمْنَ اتخاذَهنَّ أَتِينَا الحَصَانَ قُدْوَةً لهنَّ في حياتهنَّ اليومية إلَّا قليلًا، وهو الذي لم يكن عليه أن يُمَثِّل أمامهن دَوْرَ أبي الوطن القَلِقَ بالشئون العامة؟ ولِمَ لا يعترف بنغيله١١١ الموهوب ويناهضُ أمام المحاكم ابنَه الشرعيَّ الخليع؟ صارت أَسْبازية رمزًا مع أن زوج بركْلس ظلت مجهولةً في التاريخ، وكانت مشارفُ أثينة تُلْقِي نورًا شديدًا على حياة أبناء الوطن الخاصة، ومن الواضح أن حُسِب وَضْعُ برِكْلِس للأعقاب.
وكان بركلس عُنوانَ المثلِ الإغريقيِّ الأعلى، وذلك كما عَرَضَه تُوسِيديد حيث قال: «إن من عاداتنا أن نُبْدِيَ بالبساطةِ مقياسًا حكيمًا وهَيَفًا معتدلًا.» وما كان الخيال ليُعْوِز بركْلس، وكان بركْلس يحبُّ المجد ويُدْرِك أن وجودَ المجد بنصب التماثيل وإقامة المباني العامة، ولا ريب في أنه لم يكن وَلُوعًا بالجمال ممارسًا له، ولا ريب في أنه كان مهتديًا بحبِّ الجمال أقلَّ مما برغبته في إيجاد عملٍ لمَنْ هم عاطلون منه، وفي محافظة شعبٍ تابعٍ لهواه على مَرَحه، وما كان من وَلَعه بالموسيقى والأعياد المِنرْفية١١٢ يُثْبِتُ مقدارَ سُمُوِّ الثَّقافة في أثينة ومشابهتَهُ لِمَا عند رجال السياسة الفرنسيين إلى وقت قريب. وقد عَرَف كيف يكتشفُ، ويُمْسِكُ لديه، أعظمَ أساتذة زمنه، فكان يشجعهم على الكتابة والتصوير والنحت، وقد اختار خليلةً له متعمدًا، ودافع عن هذه المرأة العبقرية ضِدَّ جميع التُّهَم، دافع عن هذه المرأة المُتَّهَمةِ في عِرْضِها والتي كانت تدير كليةً لدرس الغرام، فكان له بذلك وَضْعُ مَلِكٍ يَعْلُو به مَنْ يسيطر عليهم من الرجال، وضْعُ ناظمٍ للمسرح نابغةٍ يُعَدُّ زُبْدةَ مُمَثِّلِيه، ويُقال «عصرُ برِكْلِس» عادةً، مع أن بركْلس لم يَقْبِض على زمام الأمور غيرَ ثلاثين عامًا.

وما ندركه من أمره هو مثْلُ ما نُدْرِك عند عدم انتهاءِ مذكرةٍ منه إلينا، هو مِثْلُ ما ندرك مع الخُطَبِ التي لا تكاد تبلغ الستَّ، ولمجده كسبٌ في ذلك على كلِّ حال. وإذا ما اعترض بعض الناس قائلًا إنه كان من السعادة ما وجد معه أساتذةً فُضَلَاء، قيل إنه كان من الشقاء ما قبض معه على زمام أشد شعوب الأرض إنكارًا للجميل.

ولِمَ أُسْدِلت ستائرُ النسيان على هزائم بركْلس مع المحافظة على ذكرى انتصاراتهِ؟ ولِمَ لا يلومه التاريخ على بنائه فوق أُسُسٍ ضيقة تكاد تَبْلُغ من القِدَم عشرين سنة، وعلى عدم إدراكه ببصره كونَ الفرس والإسبارطيين مجتمعين أقوى من جُمهورية أثينة الفَتِيَّة بمراحل؟ ولِمَ لَمْ يُوَجِّهْ أحدٌ إليه تهمةَ اشتراء الجماهير بمال الدولة؟ ولِمَ لَمْ تَثْقل عليه مِثلُ وطأة نَفْيِ تُوسِيدِيد العظيم عن حَسَدٍ كما ثَقُلَتْ أعمالٌ مماثلةٌ على نابليون؟ ولِمَ لَمْ يَدُرْ في خَلَدِ أَحَدٍ أن يجادل في مجده كما يجادَل في مجد الإسكندر وقيصر؟ ولِمَ لَمْ يَجُرَّ معه أيَّ ظلٍّ إلى الجحيم مع أنه خَسِر اللَّعِب في نهاية الأمر؟

وذلك أنه وجب عليه أن يختار، كفيلسوف، بين المجد والطموح، وذلك لأنه لم يَسِرْ قَطُّ ضِدَّ مصلحة شعبه ليتمتع ببريقٍ عابرٍ لنصرٍ يناله، بل كان يُكثر من العناية بشعبه طورًا، ويُسَلِّيه طورًا آخر، ويعمل لدَوْرٍ عظيمٍ على الدوام، وهو لكونه الطاغيةَ الوحيدَ عن حَقٍّ في القولِ على ما يُحتمل لم يُقِمْ أَثَنِيٌّ مأتمًا له حين موته، وهو لكونه عَرَف أن يَمْزُج بين ذكائه وشعورِه بقَدر نفسه، وبين حبِّ السلطةِ وحبِّ الجمال، صار عندنا مثالَ اليونانيِّ الكامل.

١٨

يَشْعُر السُّيَّاح الذين يَدْنُون من فُرْضَةِ أثينة من غير أن يعرفوا أين هم، وذلك عندما يستيقظون، بإحساسات كالتي ساورت أوليسَ حينما وَجَدَ نفسه من فَوْرِه، وذلك بعد مِحَنٍ كثيرة، أنه لا يزال ناعسًا على شاطئ إيتاك، ويُبْهَتُ أقل مما يُزْعَم، ويُحس أن هذا البلد، الذي كانتَ الأحلام تُقَادُ فيه بالحَدْس الروائيِّ والخيالاتِ مناصفةً، تَخْتارُ الأحلامُ مكانَ المعابد منه على التلال المُتَأَلِّقة. والواقعُ أن ذلك التلَّ الوطئَ المنعزلَ الوعرَ الواقعَ على رأسٍ مُسْتَوٍ قد مَنَحَ أثينةَ الأمانَ في بدءِ تاريخها، ومَنَحَها الجمالَ الذي حافظت عليه حتى في هذه الأيام مع أن بهاءَها ذَوَى منذ زمن طويلٍ، ولو نُقِلَ أَكْروُبولُ أثينةَ إلى السهل ما حافظ على عظمته ولشابَهَ معبدَ تِيزِة الذي يَبْدُو كالدُّمْيَةِ عند سفحه فلا نكترث له على الرغم من إتقانه، وينشأ عن امتزاج هذا التلِّ القديم وموقِعه ولونه الزِّنْجاريِّ١١٣ منظرٌ وحيد، وما أضفاه فِيدْيَاس من الأزرق والأصفر والأحمر على هذه الأشياء، وما عَرَفها به بركْلس على هذا الوجه، يَبْهَرُنا لا ريب، وتمضي خمسة قرون فلا يَبْدُو عليها أثرٌ من البِلَى كما وصفها بلوتارك، واليوم قد تَغَيَّرَ كلُّ شيء، وليس جمالُ نصفِ التمثال الفوقانيِّ مِثْلَ ما كان عليه الأصليُّ، فهذا جمالٌ جديدٌ آخر، وهذا مثلُ وجهِ المرأةِ الشائبةِ الدقيقِ الغَضَنِ الذي لا يَمُتُّ إلى صورة شبابها الناضر إلَّا بصلةٍ بعيدة.

ويَجْعَل نَقْصُه أسطورةً حَيَّةً من الأكروبول، أسطورةً أُومِيرِية، تظلُّ بشريةً على قياسنا. وأولُ ما يُرَى من الأسفل مُقَدَّمُ البارتنون الغربيُّ الذي أُحْسِنَ حِفْظُه على حين تبقى أقسامُه الأخرى الخَرِبَةُ مستورةً، حتى إنه لا يُلَاحَظُ أولَ وهلةٍ عدمُ وجود سقفٍ ما هيمنت على جميع الأكروبول أركانُ القسم الغربيِّ الثمانيةُ العظيمةُ مع عارِضَتِها، وكلَّما صُعِدَ بَدَت روعةٌ. وهنالك لا يُفَكَّرُ أبدًأ في لقاءٍ دينويٍّ كما في بعض الأماكن بالبندقية ورومة وباريس، وهنالك لا يُفَكَّرُ في غير الآلهة التي يُقْتَرَب منها. والحقُّ أن كلَّ شيء، من مَرَاقٍ وأعمدةٍ، عظيمٌ من غير أن يكون منيعًا، وهذا كالآلهة الأوميرية التي يَشْعُر القارئُ بصلةٍ مشتركةٍ معها.

وإن المرء لفي مداخل الأكروبول العظيمة؛ إذ يرى نفسه في وَسَط الأنقاض؛ أي بين التماثيل التي لا رأسَ لها، وينقطع هذا الأثرُ المختلط بمقطوعةٍ خفيفة كما عند بِتْهُوفن، فيظهر من اليمين معبدُ أتِينة نِيكِة، وتظهر أعمدتُه مع تيجانها وسُوقها، ولكنَّ الإلهاتِ مقطوعةُ الرءوس.

وتلوح أجملُها، وهي التي ترفع قَدمها اليمنى، مَحْمِيَّةً بأجنحتها، وهي إذا ما أُنْعِمَ النظرُ فيها طويلًا لاح للناظر ظهورُ رأسها. وهنالك ينطبع هذا التمثال في الذاكرة إلى الأبد، شأنَ العاشق الذي يتعلم كيف يُطارح خليلتَه المتوفاة كما لو كانت حَيَّةً على الدوام، وما أكثر ما يُنْعَش ذلك بحضور الآلهة! وبالقرب من ذلك، وفي الشمال الشرقيِّ، وعلى الإرِكْتِيُون، يثير مدخلٌ كبيرٌ ذكرى إرِكْتِه، والواقعُ أن آرِس أراد اغتصابَ أتِينة، غير أن العذراء الخالدة قاومته، فسال ماءُ آرِس على الأرض فوُلِدَ منه إرِكْتِه، والآن على وصائف أتِينة أن يَحْمِلوا معبد إرِكْتِه تذكارًا لهذا الحادث وتكفيرًا عنه وإن أَدَرْن الظَّهْر غَيْظًا، وإذا نُظِرَ إليهن من الخَلْف وُجِدْن مشابهاتٍ لأنصاف الظلال التي لم تَرَ بَعْدُ أن تصبح من الناس، وهؤلاء هُنَّ الكارْيَاتِيد، هُنَّ الفَتَيَات اللائي يَحْمِلن السقف على وسائدهنَّ الحجرية، ويا لَجُرْأَة النَّحَّات! والنَّحَّاتُ قد كَرِه أن يرى الرجلُ امرأةً تَحْمِل سقفًا، وهو الذي كان يريد إنزالَها من زَنْبِيله، ومع ذلك يبدو العمل من الخِفَّة ما يظنُّ الإنسانُ معه أنه أمام راقصةٍ تنشرُ مِظَلَّةً خفيفةً فوق رأس المَلِكة في أثناء طوافٍ احتفاليٍّ.

وأولئك عذارى سليماتٌ ذواتُ شعورٍ طويلة، ومع ذلك تكفي الفروق بينهن لدحض النظرية القائلة بوجود جمالٍ إغريقيٍّ «رمزيٍّ»، وبين أولئك تدلُّ اثنتان على معنى الحقد تقريبًا، وتبدو اثنتان مليحتين أنيستين، وتبدو الخامسة وصيفةً، وتظهر السادسة مفكرةً مُتَحَرِّزة، ويا لتكريم إلهٍ لم يُولَدْ من امرأة!

وفي البارتنونِ الواقعِ على بُعْدِ ثلاثين خُطوةً يلوح كلُّ شيء أعظمَ من معابد مصر أيضًا، وتَظْهَر تلك الأعمدة الدُّورية١١٤ نابعة من الأرض، ولكن الذي لا يُجَابُ عنه هو اللون العسليُّ، هو اللون الأصفرُ المُذْهَب، الذي يلوح جَرْيُه في ألف صَدْعٍ، في ألف فَلْعٍ رُخاميٍّ مُخَطَّط، فكأن هذا اللون يستر أعمدةَ البارتنون بلَحْمٍ حَيٍّ.

ويجب، كما في كنيسة سِيكِسْتِين الصغيرةِ برومة، أن يُنْعَم النظرُ في الإفريز الفَخْم الطويل، الذي هو من بقايا بنَاتِينِي، ليُشْتَمَل عليه، وعندما يُطَّلَع منه على الجزئيات التي تُوجَد في المُتْحَف البريطانيِّ، والتي رُئي استنساخُها ألفَ مرة، تُحَيَّى تلك الأفاريزُ المملوءةُ ظِلًّا كالصواحب الشائبات، ويَقْطَعُ هؤلاء الفرسانُ وَزْنَ الأعمدة المُطَوَّل بهَزَجِهم الأفقيِّ الخاصِّ، فيلوح كلُّ شيء مشابهًا للآلهة الشَّابَّة أو للأمراء الذين تلاطفهم الريح برَفْع معاطفهم، وتَثِبُ خَيْلُهم وتُجَاوِز وتَدُورُ ذاتَ اليمين وذات الشمال وتَشِبُّ فيُظَنُّ أنها ذاتُ حياة، ولا امرأة هنا، والجميع فِتيانٌ عراةٌ مملوءون حياةً فيَتَتَبَّعُهُم من هنا ومن هناك رجلٌ أكبرُ منهم سِنًّا، ويُسْفِر هذا العَرْضُ الرُّخَامِيُّ عن أَثَرٍ غَزَلِيٍّ ما دام جميعُ هؤلاء الفِتيانِ مجتمعين للاحتفال بعذراء، بالإلهةِ أتِينة، التي كانت تَسْطَعُ بالذهب والرُّخَام في صميم معبدها.

ومثْلُها جميعُ الآلهة الأخرى التي كانت تَجْلِس على العرش هنالك فزالت، واليومَ هي سجينةٌ في المتاحف، والحقُّ أن الآلهةَ ليست غيرَ زائرةٍ هنا، وهي ذات مِزاجٍ انتقاديٍّ كمعظم المتفننين الذين يُطْلَب منهم أن يُنْشِدوا مدائحَ الآخرين، وانظر إلى بوزِيدُون وأَبولُّون على الخصوص تَجِدْهما يَشْعُران بأنهما زائران غريبان هنا فيُفَضِّلان الإقامةَ بمعبدهما الخاصِّ، وتَلْعَب أَرْتِمِيس بطَيَّاتِ ثوبها وتدعو أَفْرُودِيتُ آرِسَ ليَرْكَعَ بجانبها.

ونلتفت فنرى امتدادَ المنظرِ الإغريقِيِّ عند أقدامنا، ويوجد بين الأعمدة المضاعفة التي حُفِظَتْ تمامًا بالقرب من مدخل البارْتِنُون عَمُود يَجْلِس عند قاعدته أجنبيٌّ فيشتمل بنظرةٍ خاطفةٍ على أفكار اليونان الأفلاطونية، ويستند إلى الفُرْضة العريضة الضاربة إلى سُمْرَةٍ في رُكن الزاوية الجَنوبية الغربية مسترخِيَ الساقين، وذلك لأن تلك الدَّرَج العظيمة صُنِعَت لكيلا تَبْلُغَها الآلهةُ والآدميون. وكانت هذه الأعمدةُ ذاتَ بياضٍ ناصع في العصر الذي تَمَثَّلَها المهندسُ الأستاذُ إخْتِينُ واختار رُخامَها من بين حجارة الجبال المجاورة، ويَبْهرنا هذا البياضُ عند فحص الوجوه الداخلية للقطع التي رفعها العمالُ المُرَمِّمُون من الأعمدة المُتَفَتِّتة فَوُجِدَتْ قطعةٌ منها أمام المؤلف حينما كتب هذه السطور، وقد لَفَحَت الشمسُ ذلك الرُّخامَ في ألفي سنة كما لو كان وجهًا بشريًّا.

وتمتدُّ أمام أعيينا سِنْفُونيَّةُ البحر والجُزُر والماءِ والجبالِ التي تُمَثِّل كيان بلاد اليونان، وهنالك، في مكان قريب، وأمام البيرِه، تُبْصِرُ جزيرةَ سَلَامين ذاتَ التلال الوديعة والفُرْضةِ التي أُنْقِذَت فيها حريةُ الإغريق في نهارٍ واحد، وفيما هو أبعد من ذلك في الجَنوب تَبْدُو أكبَر من تلك قليلًا جزيرةُ إيجِين التي تمتدُّ عليها ظلالُ بعض الأعمدة، ويزيد عدد ما يَبْدُو من الجُزُر شيئًا فشيئًا، ويَسْتُرُ بعضها بعضًا حتى يَمَّحِيَ ساحلُ كُورِنْث في الضَّبَاب المُشْمِسَة، ونحوَ الجَنوب تمتدُّ جبالُ الساحل الأَثَنِيِّ حتى النقطةِ التي يُبْصَرُ فيها صخورُ رأس كُولُون، وفي الشمال الغربيِّ تغيب تلك الجبالُ في جوار دِلف، وهكذا يتألف من الجزائر والفُرَض والرءوس والمعابد والمِلاحة والهاتف مجموعٌ رمزيٌّ. والمرءُ إذا مال إلى الخَلْف قليلًا وأمَرَّ يَدَه على طول التخاريم أبصر فوقه تيجانَ الأعمدة وبقايا نَوْبة البنَاتِينِه، وأبصر تحته السياجَ مع رقصِ الانتصارات، وأبصر عن يمينه تمثالَ الإرِكْتُوم الخارجيَّ الداعم، ثم يُشْعَرُ بغتةً بمركز العالَم الذي كان يُعَبَّرُ به عن الكَوْن.

وما كانت يد الإنسان لتُنْتِج في أيِّ مكانٍ من البحر المتوسط مثلَ البارتنون أثرًا لا يُنْسَى، واليوم لا يزال بنَّاءو جميع العالم يستوحونه ويستنسخونه على مقياس صغير بإقامتهم على طرازه كنائسَ ومصارفَ وبرْلُمَاناتٍ.

ومن مُدُن اليونان الأخرى شادت إلِيسُ وأكْراغَاسُ وسَرَقُوسَة معابدَ رائعةً في القرن الخامس فلا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم، وفي جَوٍّ روائي حُفِظَ معبدُ فِغَالْيَة بمِنْطَقَةٍ من الجبال المُوحِشة في سواء البلُوبونيز.

وفي جَنوب إيطالية تُوحِي بسْتُوم دوسِجِسْت بالعصر الإغريقيِّ أيضًا، ومع ذلك لِمَ تُقْرَنُ فكرةُ الأَكْرُوبول بأَثِينَة فيَجْهَلُ مُعْظَمُ الناس وجودَ أكروبولاتٍ أخرى جهلًا تامًّا؟ ولِمَ قُبِلَ هذا المعبدُ الحِصْنُ في زُونِ البشر على غِرَارِ ثلاثةٍ أو أربعةٍ من أنبيائه؟ ذلك لأن حضارةً أَلْفِيَّةً بلغت ذُروتَها في هذا المكان، وذلك لأن كلَّ حجرٍ رُخاميٍّ فيه على شكل طَبْلٍ يَسْتَدِقُّ فينْضَدُ على حجرٍ آخرَ في شَيْدِ هذه الأعمدة الواسعة فيَكُونُ مثلَ بناءٍ قائمٍ تكريمًا للروح التي أَبْدَعت تلك الحضارةَ وحافظت عليها؛ وذلك لأن سلطانَ الدولة وحسَّ الجمال كانا يتوافقان في ذلك الأثر كما في هندسة قصور دُوج بالبندقية وقصرِ فارنِيز برومة وأَسْكي سِرَاي باسْتَانبُول، وتختلط قوةٌ ثالثة، قوةُ الإيمانِ بالآلهة، بالقوتين الأُخريين فتعلو الأَكْرُوبول. وكان مَلِكُ الفُرْس قد حَرَّق المعابد القديمة التي هنالك فيما مضى فأقام قاهرُ الفرس بعد ذلك أسوارًا طويلةً تَرْبِط أثينة بمينائها مع حمايتها، ويَحلُّ الوقت الذي يُجْمَع فيه بين المفيد والمُبْهج، وبين الضروريِّ والوافر.

وفي ذلك الحين وحدَه؛ أي حوالي سنة ٤٥٠، أمكن بناءُ الأكروبول، وقد جَرُؤ بركلس وحدَه على هذا الأثر فأنفق في سبيله ما يقابل ثلاثة ملايين دولار في أيامنا، أَوَلَمْ يكن نَسَق هذا المشروع فوق العصريِّ ما دامت أروقة برُوبيلِه قد أُكمِلَت في خمس سنين وما دام البارْتِنُون قد أُكْمِلَ في تسع سنين، وذلك من غير استعانةٍ بآلاتٍ لرفع الأثقال ولا بأية آلةٍ أخرى؟ لقد شِيدَت الأهرام بمصرَ في خمسين سنة أو مائة سنة، ولا تزال أعمال الإنشاء التي شُرِع بها في أثينة بمال رُوكفلر وبأحدث الآلات الفنية قائمةً منذ عشرين عامًا، ولْنُضِفْ إِلى هذا قولَنا إن أعمال بركلس الإنشائية تمت بأسلوب حديث كان غير معروف قبل ثلاثين سنة.

وتمضي خمسمائة سنة على الفراغ من الأكروبول فيقول بلوتاركُ كلمتَه الجميلة: «إذا ما حُكِم في كلِّ واحدٍ من آثار برِكلِس من حيث جمالُه، وذلك منذ إتمامه، عُدَّ قديمًا، ولكنه إذا نُظِرَ إلى وجه الكمال فيها بَدَتْ كلُّها للأعين جديدةً ناضرةً، وذلك كما لو كان كلُّ واحد منها يشتمل على روحٍ فَتِيَّةٍ منذ الأزل.» وهكذا يُؤَيِّد شاهدٌ مَضَى عليه سبعةَ عشرَ قرنًا حكمَ زماننا.

والأمرُ عجيبٌ، فبينما كانت الرواية اليونانية نتيجةَ ثلاثة أدمغةٍ في الحقيقة، وبينما كان شعراءُ عصر أُوميرس لا يؤلِّفون غيرَ زمرة محدودة، كانت النقوش والأواني الخزفية من عمل كثير من الأيدي، وتُمَثِّلُ الأسماءُ الأربعة أو الخمسة التي ظلت مشهورةً ألوفَ المتفننين المُغْفَلِين الذين يَجْدُر إقامةُ أثرٍ تذكاريٍّ لهم كما يُقَام للجنديِّ المجهول، والذي كان يرفع الأغارقة فوق جميع الأمم هو الثَّقافةُ العامة أو المستوى العام. وقال العبقريُّ العالميُّ دِيمُقْراطيس مُوَكِّدًا: «إن الثَّقافة زَيْنٌ في السعادة وملجأٌ في الشقاء.» وكان المجد يستهوي جميعَ الأغارقة في الوقت نفسه، فقال دِيُوتِيم لسقراط: «ترى كثرةَ من يَوَدُّون أن يكونوا من الخالدين، وتراهم جميعًا مستعدين للتضحية بأموالهم وأولادهم وبسعادتهم كلِّها، وبأنفسهم أيضًا، في سبيل هذا المثل الأعلى، أَوَتعتقد حَقًّا أن أَلْسِسْت ماتت إنقاذًا لأَدْمِت، أو أن أشيل طلب الموت من أجل باتْرُوكلْ؟ إنهم كانوا يعلمون أن الخُلُود يُكْتَب لذكراهم بعد موتهم …»

وأَعجبُ من ذلك في تلك الأحوال عملُ ألوف الرجال في أثينة حُبًّا للجمال مع أن مَجْدَ آثارهم غَدَا وَقْفًا على بضعة أسماء، ولا ريب في أن فِيْدياس لم يَنْحت وحدَه تمثال أتِينة ولا إفريزَ البنَاتِينِي الرُّخاميَّ البالغَ من الطول مئاتٍ كثيرة من الأمتار، ولا ريب في أن فِيْدياس وضع رَسْمَ الأثر وأشرف على عمله، غير أن مما لا مراء فيه أنه لم يساعِدْ على الجزئيات أكثر مما صَنَع بركلس الذي أعانه في رسم الإفريز.

وأسهلُ على المرء أن يَعْرِف أثر أيدي مِيكل أنجلو الماهرة في فلورنسة ورومة من أن يُبَيِّن ما بَقِيَ من آثار مِيرُون أو فيدياس أو بَرَكْسِيتل الشخصية.

وتقيم الأمم معابدَ وكتدرائياتٍ بعبقريتها في غضون القرون مستعينةً بمهندسين مجهولين، وذلك كما في طيبة وأثينة وستراسْبُرْغ، ويُثْبِت طابع الأكْرُوبول المُغْفَلُ غِنَى نُبُوغِ أهل أثينة؛ وذلك لأن الفنَّ في أثينة مُزِج بالصانع؛ ولأن النَّقْدَ والرأيَ العامَّ أثَّرَا في تَقَدُّمِه، وأُنْجِزَت جميع آثار الفن في أثناء الهُدَن التي تفصل بين الحروب. وحاول بركلس، العارفُ بشدة إنكار شعبه للجميل، أن يَحْمِيَ مُقَدَّمًا، ولكن على غير جدوى، صديقَه فيدْيَاس بأن تُوزَن له كلُّ أُوقِيَّةِ ذهبٍ تُطَبَّقُ على ثوب الإلهة أتِينة، وهذا لم يَحُلْ، في نهاية الأمر، دون اتهام المُعَلِّم بالسَّرِقَة وهلاكه في السجن، ورأى المهندسُ إِخْتِينُ أن يَفِرَّ، وكُتِب الهلاك لفِيدْيَاس في آخر صنعته نتيجةً لقضية شائنة.

وتتجلى روح الأَثَنِيِّ بما رُفِعَ من القضايا ضدَّ فِيدْياس وأَسْبازْيَة؛ أي ضدَّ صديقِ بركلس وخليلته، في وقتٍ واحد تقريبًا، وفي كلتا القضيتين كان رئيس الدولة هو المتهَمَ الحقيقيَّ، وبلغ أريستوفان من التحامل ما لام معه بركلسَ على إيقاد حرب البلوبونيز مع أنه كان يَعْمَل على تأخير نشوبها زمنًا طويلًا.

ويتهم أهل أثينة بركلس بأنه جَعَلَ فيدياسَ يُصَوِّرُه على تُرْسِ أتِينة بملامحِ شيخٍ أصلَعَ، وكان هذا بعيدَ الاحتمال جدًّا؛ وذلك لأن بركلس كان حريصًا في جميع حياته على إخفاء قِحْفه الطويل تحت شَعْره وخُوذَته. وكان مُتَّهِمو بركلس يَوَدُّون أن يَعْرِفوا أيضًا أين يوجد الذهب الذي اختلسه فِيدْياس في أثناء إنشاء التمثال … وأين كان يمكن أن يذهب إن يَتَسَرَّب لدى الخليلة أَسْبازْية؟ ومع ذلك لم يكن تمازج الدولة والحضارة العجيبُ الذي هو سِرُّ تاريخ اليونان ليَظْهَر بأبلغَ مما في تلك السنين، وقد تَجَمَّعَ كلُّ شيء في ذلك العصر؛ وذلك لأن أَثينة لم تَبْقَ في الأَوْج غيرَ أربعين عامًا، وذلك كدور النهضة الإيطالية الذي وَقَع بعد ألفي سنة.

كُسِبَت معركةُ سَلَامين، وظهر بركلس ظافرًا، واتخذ جميع فلاسفة اليونان المادةَ قاعدةً لمذهبهم، فذهب أحدهم من الماء، وذهب آخرُ من النار، وذهب الثالث من التراب، وذهب الرابعُ من الهواء، وهؤلاء الفلاسفةُ هم الذين مَهَّدوا السبيل للفلسفة الراقية قبل كَنْت بألفي سنة. وقد استخرج الأغارقةُ وَحدةَ الفكر من تَعَدُّد الحوادث، ومع ذلك استطاعوا من غير خطر أن يحافظوا على آلهتهم الكثيرة.

١٩

ومَنْ كان يُقيَّضُ له في سنة ٤٤٠ أن يَصْعَد الأكروبولَ، وأن يَجْلِس على إحدى دَرَج البارْتِنُون الذي كان قد تَمَّ تقريبًا، يسمع في ساعةٍ مَجيدةٍ دَقَّ المطارق وصوتَ مَن لم يُحْصِهم عَدٌّ من العمال، ويشاهد الرجالَ القليلين الممثلين لأثينة في ذلك الزمن فيُعَدُّون رمزًا لمجد العالم، وإنه لأمرٌ فريدٌ في التاريخ أن يكون الرجل مشهورًا في أثناء حياته وأن يظلَّ مُقَدَّسًا لدى الأعقاب، والذي يحدث على العموم هو أن يُنْكِرَ العبقريَّ عصرُه أو أن تَنْسَى الذَّراري مَنْ رَفعه الفوزُ حينًا من الزمن، ومِن دأب الأَثَنِيِّين أن يعترفوا بالعبقريِّ وأن ينتقموا منه مع ازدراءٍ لاحقٍ، ولكن التاريخ يَجدُه بسهولة بعد حين.

يَصْعَدُ ثلاثة رجالٍ في دَرَج البرُوبيلة رويدًا رويدًا، ويَلُوحُ أحدُ المُلْتَحِيَيْن في الخمسين من سِنِيه ويَدُلُّ الثالثَ، وهو أحدثُ منه سنًّا، على الذي تمَّ حتى ذلك الحين وعلى الذي يُنْوى عملُه فيما بعد، ويظهر بركلس السائرُ بينهما مسيطرًا عليهما كلما حاول أن يَمَّحِيَ ويَبْدُو بركلس مَلِكًا أكثرَ من أن يبدوَ إلهًا، وإن كان هادئًا هدوءًا أُلَنْبيًّا يَنِمُّ عليه نَظَرُه وصوتُه، وليس من غير سببٍ أَلَّا يُخَصِّصَ وقتَه للغريب الذي هو عن شماله والذي يزور أثينة غالبًا في أثناء سياحاته الكُبْرى، ومن البديهيِّ أن ينظر الغريبُ إلى ما حوله على شاكلته، وأن يَجْمَع مسرعًا من العناصر المختلفة بما هو مفطور عليه من مَوْهبة الملاحظة والتحليل، وهو يَسْمَع ويُبْصِرُ ويسَجِّل كلَّ شيء في ذاكرته التي لا تُخْطِئ؛ وهذا الرجل هو هيرودوتس الذي يرجو بركلسُ أن يُحْسن معاملتَه في مؤلَّفاته؛ وذلك لأن من عادة هذا المؤلف أن يَتْلُوَ مُقْتَطفاتٍ منها على الشعب حين الألعاب الأُلَنْبية؛ ولأن كلَّ أَثَنِيٍّ مُثَقَّف يَسْعَى في نَيْل نسخةٍ من مخطوطاته.

والرجلُ الثالثُ صامتٌ بعيدٌ من الاثنين، وهو يَتَسَوَّر الدَّرَج، وهو ذو وجهِ بَطَلٍ، وهو يُظَنُّ أنه قائدٌ أكثر من أن يُظَنَّ أنه بركلِس لو لم يَنمَّ عُبُوسه على أنه مُفَكِّر، وهو صاحبُ قِحْفٍ طويلٍ كقِحْف بركلِسَ وإن كان أنصعَ منه، وهو صاحب لحية قصيرة أيضًا، غير أن شعرَه أكثرُ تَجَعُّدًا وفمَه المُتَّزِنَ أقلُّ شَهْوَةً، وهذا هو سُوفُوكل، وقد بَلَغ من الجمال في صِبَاه ما وَجَّه معه جَوْقَةَ أعياد النصر، وله بانسجام مظهره البَدَنِيِّ وآثاره ما يُدْنيه من بركلِس. وكلا الرجلين اشترك في وضع الدستور؛ وذلك لأن الفنَّ وأمورَ الدولة في أثينة متماثلان، وسُوفُوكلُ تَقَلَّدَ قيادةً حربيةً كبيرة بعدما أصاب من نجاح كبير في «أَنْتِيغُون»، وسُوفُوكلُ شاعرٌ ونشيط كما أنه مفكرٌ كرجل الدولة. ويبدو بناءُ هذا المعبد لكلا الرجلين أمرًا يُنَاط به مستقبلُهما. والواقعُ أن الشاعرَ أيضًا يفكر في المجد القادم، ومن المحتمل أن يكون في ذلك الصباح قد رَسَمَ ذهنيًّا خُطُوطَ الأُنْشُودَة عن هيرودوتس ليكتبَها بعدئذٍ.

ولما أبصر فِيدْياسُ وصولَهم خَرَج من بين الجَمْع للقائهم هو وأَسْبازْيَة التي هي أنضر نساءِ أثينة، وهو قد جاء بها لِيُرِيَها ما يُنْتَفَعُ به من الرسوم لنحت التماثيل الداعمة للأفاريز، ويَرْوِي بلوتَارْك أن من عادة بركلس تقبيلَ جبينها في كلِّ مرة يلاقيها. وكانت هذه المرأةُ العاطلةُ من الاسم والأسرة، والتي تُدْعى أَسْبازية؛ أي المحبوبةَ فقط، قد تَعَرَّف بها بركلسُ الأسنُّ منها عشرين سنةً في أَوْج مَجْدِه، واتَّبَع بركلس عادةَ أثينة التي كانت تُكَرِّم الخليلات فلم يُعَتِّم أن ترك زوجته، ومما لا ريب فيه أن كانت من العبقرية ما أغضى معه ذلك المولودُ سيدًا مطلقًا عن وجودها بجانبه.

وهنا، على الأكروبول، يحادث هيرودوتسُ أَسْبازْية كرجلٍ عالَميٍّ، ولكنه في الوقت نفسه يستعين بقدرته على التحليل فيلاحظ كلَّ معنًى في وجه بركلس، وكان أولئك الرجالُ الأربعة وتلك المرأةُ التي هي أذكى النساء يَعْرِفون أن عيونَ الجُمهورِ شاخصةٌ إِليهم، وأن جميع المدينة ستتكلم في ذلك المساء عن لقائهم، فلا ترى قومًا بلَغُوا ما بَلَغ أهلُ أَثينة ارتيابًا وانتقادًا، وهذا مع استثناء أهلِ باريسَ في زماننا على ما يُحتمل.

ويتخذ فِيدْياسُ طَوْرَ المُضَيِّف الذي يستقبل ضيوفه، ويَشْعُر باستعداده العجيب في مصانعة رئيس الدولة، وما الوجه الذي كان يخاطب به أسبازية إلا نتيجةُ تأملاتٍ ناضجة، ويَرُوق وضعُه الشعبَ، فبذلك يكون له فائدةٌ كما يكون لأسبازية وبركلس.

ولا رَيْبَ في أنه أبصر على مسافةٍ رجلًا له رأسُ الموسيقيِّ منهمكًا في محادثة غلامٍ يَدْعُوه جميعُ الناس في أَثِينَة بالشمس الطالعة في مَسْرح دِيُونِيس، وأُرِيبيدُ هو الذي فاز بجائزةٍ من أَجْلِ ابتكارٍ جديد، فقد أظهرَ امرأةً على المسرح، وهو قد أتى من سَلَامين وفَحَصَ بعينٍ ناقدةٍ تَقَدُّمَ البناء، ويُلْقِي الغلامُ بجانبه نَظَراتٍ ليست أقلَّ من تلك تَقَصِّيًا حَوْلَ هيرودوتس، وقد كان الطُّموح يأكلُ قلبَه ليكون مؤرخًا كبيرًا وقطبًا سياسيًّا فيَغْدُو مثلَ مِلِيتَاد وهِيرُودُوتْس معًا، والغلامُ هو تُوسِيدِيد. وبما أن كلا الاثنين أحدثُ من منافِسِيهما بعشرين سنة فقد كانا على بُعْدٍ من الزمرة الأخرى مع زهوٍ واحترام، ويجد هذان المتفننان زملاءهما كِلَاسِيِّين١١٥ كثيرًا، ويكترثان لضعف الرجال وشهواتهم أكثر من اكتراث هؤلاء الأكبرِ سِنًّا منهما، ومن المحتمل أن عَدَّا تلك الزمرةَ المؤلفةَ من أربعة أعيانٍ أناسًا عُنُدًا عن ذوقٍ لهم.

وفي الشمال على مسافة منهم تُبْصر رجلًا في الثلاثين من عمره جالسًا بين العمال، ويَبْرُز عند أسفل قِحْفِه الكثير النموِّ أنفٌ أفطسُ وفَمٌ باسمٌ تحت ظلِّ شجرةٍ صغيرةٍ سمراءَ في الغالب، ويَجْلِس جميع العمال على حجارةٍ رُخامية مُبَعْثَرَة، ويُحَركون سيقانهم وينظرون إلى الوادي في الأسفل، والآن يلتفتون لينظروا إلى هذا الرجل الذي يضع أحد أسئلته المعتادة الغريبة، ثم يَضْحَك أحدهم بغتةً ويُحَدِّق آخرُ حَذِرًا إلى هذا الوجه ذي الأنف الأفطس والذي يَنِمُّ دَوْمًا على السُّخْرِية والرِّفق معًا، وهذا هو سُقْراطُ الذي فُطِرَ على تَحْيير جميع الناس، والذي يُسَلِّي في الوقت نفسه جُمهورَه بأسئلته المبتذلة ولكن مع خُبْثِ اللَّقَانية.

ويُحْتَمَلُ أنه مع بصيرته النافذة لم يلاحظ الطالبَ الشابَّ الذي انساب بين الجمع ليراه عن كَثَب، ولهذا الشاب نظرٌ ثاقب وخُبْثٌ قاسٍ؛ وذلك لأنه مع فَتَائه لا يُغْضِي عن أيِّ شيء حَوْلَه فيَجِد في كلِّ مكانٍ من الضَّعف ما يُقَيِّدُه في دماغه، وهو ليس صديقًا للإنسانية كسقراط، ولا مؤرخًا كهِيرُودُوتس، ولا شاعرًا كسُوفُوكل، ولا نَحَّاتًا كفِيدْيَاس، وإنما هو مصورٌ هزليٌّ لولاه ما كانت أثينةُ أَثينَةَ، وهذا هو أَرِيستُوفان، وهذا هو العبقريُّ القادم الذي لا يَلْبَث أن يَحْمِلهم إلى المسرح جميعًا، وأن يُخَلِّدَهم بأكثرَ مما يستطيعه شعراءُ عصره ومؤرخوه.

وإِن الأمر لكذلك إذ يجاور الميدانَ لفيفٌ من الصِّبيان، ويتتابع هؤلاء الصِّبيان ويتدافعون بين الحجارة الرُّخامية ويتضاحكُون صاخبين، ويلتفت أولئك الرجالُ المتَّزِنون جميعُهم للإعجاب بما يبدو من الخُصَل المتموجة في ذلك الذي يلوح أنه يقود الجماعة، وبما يَظْهَر من وَثَبَاتِه الصائلة، وتنقطع الأحاديث في الأكروبول بغتةً، ويَقِف الغلامُ لبضعِ دقائقَ أنظارَ الشاعرَيْن والمؤرخيْن وأنظارَ أَسْبازْية وفِيدْياس، وبركلسَ أيضًا، ويتوارى الغلامُ ويعود الجميع مع قليلِ ذهولٍ إلى الحديث الذي قُطِع.

والذي مَرَّ هو أَلْكِبْيادُ البالغُ من العمر عشرَ سنين.

٢٠

وفي الدور نفسه، في عَصْرَيْ أثينة الكبيريْن، لم تُنْتِج إسبارطة نابغةً ولا فكرًا ولا أثرًا فنيًّا، وكانت تُنْتِج على الأكثر قائدًا، وكان قد غادر أثينة جَمْعٌ من الأطباء والفلاسفة والشعراء والخطباء وتَفَرَّقُوا في جميع مستعمرات البحر المتوسط، وكان أصلُ بعض أعاظم الرجال من الشاطئ الإغريقِيِّ ومن آسية الصغرى وصِقِلِّية، وكان الظلامُ يُحيط بحال إسبارطة العسكرية، وبَيْنَا كان بركلس يَدْرُس العلوم الطبيعية مرافقًا أستاذَه أَنَكْساغُورْس، وبَيْنَا كان يَبْحَث مناقشًا في مسائل الأخلاق مع بُروتَاغُورَاس، كانت إسبارطة تُغْلِق حدودها دون الفلسفة والتمثيلِ والموسيقَى، ومع قُرْبِ هذا الشعب الحربيِّ من مركز الثَّقافة العالمية كان يُجَازَى مَنْ يَجْرُؤُ على اتخاذ درسٍ له غيرِ الرياضة البدنية ورَمْي النُّشَّاب، ومع ذلك كان فِتْيان أثينة يُدَرِّبون عَضَلَهم ويتعلَّمون التجذيف والصِّراع كما كان أجدادُهم الأبطال يصنعون.

وكان بركلس قد وُفِّق لإبعاد خطر محاربة إسبارطة لزمنٍ طويل، ومن المحتمل أن كان يَجْتَنِبُها تمامًا لو لم يُنَظِّم الأَثَنيُّون، الذين أعياهم حُكمٌ بلغ من العمر ثلاثين عامًا مع حُبِّهم للتجدد وغَيْرَتهم، فِتَنًا ويقيموا قضايا راجين أن يتخلصوا من رئيس دولةٍ صار أمرُه معروفًا جدًّا.

والأحزابُ في ذلك الحين، كما في هذه الأيام، لم تتفق فيما بينها على إسقاط الرجل الذي وُضِعَ على رأسها، ويرفع الجَذْرِيُّون١١٦ في بدءِ الأمر دعاوى على الفيلسوف ثم على مهندس البناء ثم على خليلة بركلس ويُبْعِدُون الأول، ويُهْلِكُون الثانيَ في السجن، وكادوا يَقْبِضون على أسبازية لو لم يُوَفَّق رئيس الدولة لإنقاذها في الساعة الأخيرة طالبًا رحمةَ أعدائه دامعَ العينين كما يُرْوَى، ويَلُوح أن ما عُرِّض له بركلس من خطرٍ في نهاية الأمر دَفَعَه إلى الحرب فصنع كما يصنع الطُّغَاة حينما يَرَوْن تضعضع وضْعِهم.

وكان بركلس يأمُلُ اجتناب الحرب مع اطمئنانه إلى تفوُّق أثينة البحريِّ وإلى حُصونها المنيعة، ومع ذلك يحاصَرُ من قِبَل الإسبارطيين الذين تَقَدَّموا متعلِّلين بشَتَّى الذرائع، ويُضْطَرُّ إلى ترك أقسامٍ من الأَتِّيك، ولَمَّا ارتدَّ العدوُّ وعَدَّ بركلس نفْسَه قد أُنْقِذ غدا ربعُ مَن التجأ إِلى أثينة ضحيةَ الطاعون، ويسود العاصمة ارتباكٌ يَقْصُر عنه الوصف، ويُتَّهَم رئيس الدولة باختلاس الأموال مع أنه جَمَعَ للدولة مالًا لم تَنَلْه دولةٌ في القرون القديمة قَطُّ، جَمَعَ لها نحوَ عشرةِ ملايين دُولار، ويُعْزَل برِكلس، غير أن الحَسَرَاتِ والأحزانَ والسوداء لم تلبث أن ألَمَّت بأهل أثينة، ويُسْتَدْعَى بركلس حينما أَخذ العدوُّ يَغْزُو البلاد، ولكن بركلس لم يُعَتِّم أن هَلَك بالطاعون.

ودامت حربُ البلُوبونير، وظَلَّت سِجَالًا، سبعًا وعشرين سنةً، ويَمُرُّ على موت بركلس أربعَ عشرةَ سنةَ، فتأتي الحربُ بأَلْكِبْياد إلى السلطان لدَوْرٍ قصير، وكان في الثلاثين من عمره.

ولا يتسع صدر هذا الكتاب لتحليل أخلاق أَلْكِبْياد، وبألْكِبْياد تَهَبُ أثينة، مرةً أخرى، إلى أمم البحر المتوسط عبقريًّا نال من الصِّيت ما نال أسلافُه العِظام، وما اتصف به من جمالٍ وظَرْفٍ وذهنٍ ومُجُونٍ وطَيْشٍ كان يجعله فَتَّانًا ممقوتًا معًا، وهو بأخلاقه وأَهْلِيَّاته يُذَكِّرُنا باللورد بايْرُون، أو بِدَانُونْزِيو فيما بعد.

وبما أن أَلْكِبْيادَ كان محتاجًا إلى نَصْرٍ يُكَهْرِب به أهلَ أثينة الذين أعيتهم الحربُ فإنه نَظَّمَ حَمْلَةً ضِدَّ صِقِلِّية فأوقد بذلك نارَ حربٍ جديدة بين الأغارقة يَقْتُلُ الأخُ فيها أَخاه، وقد استطاع أن يجمع ١٣٤ مركبًا في سبيل هذه الغارة، ويستدعيه قضاةُ أثينة الذين كانوا أقربَ إلى الكَيْدِ مما إلى العدل والذين كانوا يحتفظون على الدوام بقضيةٍ خُلُقيةٍ احتياطًا (ومثلُ هذا ما حَطَّمَ به الإنكليزُ بايْرُونَ ووَايْلد)، فيُضْطَرُّ أَلْكِبْيادُ إلى الالتجاءِ لدى العَدُوِّ بإسبارطة، وتُسْتَأْنف حربٌ استعماريةٌ بعيدةٌ هَوْجاءُ على الرغم من إسبارطة التي تُهَدِّد حتى عند حدود الأَتِّيك، وتُغْلَب أثينة، ويُعَاد أَلْكِبْيادُ إلى وظائفه بين الحماسة العامة، ويُعْزَلُ أَلكبيادُ مُجَدَّدًا بعد هزيمته الأولى، ويَفِرُّ نحو الشمال، ويَحُوك الدسائس مع الفُرس، ويموت مقتولًا.

وإذا كان بركلس قد خُلِّد بمبانٍ، لا يزال اسمه ساطعًا في أروقتها كالنَّغْمة التي تُكَرَّرُ في الأُغْنِيَة، فإن أَلْكِبْيادَ مدينٌ بشهرته للفنِّ، وذلك بفضل أفلاطون الذي ذكره في «محاوراته»، ويَبْدُو هو وأفلاطونُ قَمَرَيْن لشمسِ العصر سقراطَ الذي يُقال إنه أنقذ حياةَ الشابِّ أَلْكبيادَ في إحدى المعارك. والحقُّ أن سقراط كان يُحِبُّ هذا التلميذَ الذي هو أحدثُ منه سِنًّا بعشرين سنةً مع أن هذا التلميذَ كان يَسْخَر من الفضائل التي يَعِظُ بها أستاذُه الجليل، ويَتَجَلَّى طابعُ العالَم الأَثَنيِّ البديع وضعفُه، الصادران عما فيه سِرُّ سقوطه من مواهب، في تلك الصداقة التي دامت حتى الممات، على أن كلا الصديقين هَلَك هلاكًا أليمًا ولكن في أحوالٍ مختلفة تمامًا.

ويَضَعُ هلاكُ أَلْكِبْيادَ حَدًّا للحرب، فقد دخل البيرِه الإسبارطيون الخاضعون لنظامٍ حديديٍّ يُعَدُّ مَثَلَ دولتهم الأعلى فكانوا يمتازون من الأغارقة الآخرين بروح الطاعة والنظام فيهم.

ويُعَسْكِرُون فوق الأكروبول ويهدمون الأسوار الطويلة، ويَقْبِضون على أسطول عدوِّهم المغلوب، ويطلبون تسليم جميع المستعمرات، ويَحْمِلون أهلَ أثينة على دخول الحِلْف اليونانيِّ بإدارة إسبارطة، ويَقْلِبُون ديمقراطيةَ أثينة بنصبهم بضعةَ رجال لرَقابة شئون الدولة، وما الوجهُ الذي انقضَّ به البرابرة في ذلك الزمن على المغلوبين من غير أن يأتوا برأي جديد انتصارًا لقضيتهم، وما الأسبابُ التي نُكِس بها الشعب الأَثَنِيُّ التَّعِب، إلَّا من نوع الحوادث التي تَجِدُها في حروب زماننا. وكان النظام الديمقراطيُّ المسيطرُ على أثينة قد فَسَدَ في الداخل منذ زمنٍ طويل، وكان الصعاليكُ؛ أي مُعْظَم القوم، قد نالوا مِنَحًا من برِكلِس، فغدت مناصبُ القَضَاء مفتوحةً للفقراء الذين كانوا في ذلك العصر أميين غالبًا، وصار بعض الأغنياء ينضمُّ إلى بعض، وكانت طبقة السِّيكُوفَان؛ أي طبقةُ المحامين الشَّرُودُ، تَظْهَر ممثلةً للشعب. والواقعُ أن أثينة لم تَبْلُغ المجد بنُظُمها الديمقراطية بل انتهت إلى ذلك خلافًا لهذه النُّظُم، والواقعُ أن الديمقراطية هي التي أدت إلى ذلك السقوط. والواقعُ أن برِكلِس لاعب الشعب فاعتقد هذا الشعبُ أنه يَحْكُم بواسطته، ودستورٌ مثلُ هذا كان سابقًا لأوانه في القرن الخامس قبل الميلاد … وكيف يمكن ديمقراطيةً حقيقيةً أن تَنْمُوَ في دولة من دول القرون القديمة مع اشتمالها على ثلاث طبقات من السكان وهي: طبقة أبناء الوطن وطبقة الغرباء وطبقة العبيد، ومع وجود حقوق خاصة لكلِّ طبقة تختلف عما للطبقتين الأخريين اختلافًا تامًّا؟ وقد سقطت أثينة ضحيةً لإسبارطةَ ذاتِ النظام الاستبداديِّ؛ لأن أثينة لم تكن ذاتَ ديمقراطيةٍ حقيقية.

والرجلُ الوحيد الذي عاش طويلًا ليرى جميع الحروب هو صديقُ الشعب وعدوُّ الديموقراطية سقراط، وما اتفق له من صيت يفوق الذي تَمَّ لجميع رجال القرون الأولى، حتى للإِسكندر الأكبر، مَدِينٌ لأحوال موته، وبين رجال البحر المتوسط الكثيري المَيْل إلى مطارحة الحياة والموت كان سقراط وحَده هو الذي ذهب إلى الموت بمَحْضِ إرادته، وذلك عن حبٍّ للحرية أو كنبيلٍ كما يمكن أن يُقال.

وما كان من انتحار أنطونيوس أو بروتوس مثلًا يُعَدُّ من أعمال المقامرين التعساء الذين لم يكن عليهم غيرُ اختيار الموت أو الرِّقِّ، ولم يُفَضِّل سِنِيكا الموتَ إلا ليَتَفَلَّت من سقوط طالعه، ولم يَعش الفيلسوف إنْبِذُقْل، الذي قيل إنه رمى نفسه في فُوَّهة بركان إتْنة، ولم يَمُتْ إلَّا متشائمًا، وخَرَّ يوليوس قيصر صريعًا في أثناء مصارعته القتلة الأنذال، ودعا يسوعُ الله في الليلة الأخيرة أن يَحْفَظَه، وسقراطُ وحدَه هو الذي رَفَضَ أن يُنْقَذ ضاربًا بغريزة حبِّ البقاء عُرْضَ الحائط، وقد كان عمره ضِعْفَي عُمْرِ يسوع بالحقيقة، وقد أرسل قضاتُه إليه مَنْ يُخْبِرُه بأنه يستطيع الفِرَار كالآخرين، وهو لم يكن مصابًا بمرضٍ أليم، وهو لم يكن محتاجًا إلى البقاء في أثينة ليداومَ على أعماله التي كان يأْمُل أن يواظب عليها في الآدِس، وهو قد كان مُنْتَحِلًا لمذهب يسوع في الأخلاق قبل ظهور يسوع بزمن طويل فظلَّ يستوحيه حتى النهاية.

ولو لم يَنْتَهِ إلينا من تاريخ اليونان وثيقةٌ عن الجمال والحكمة غيرُ رسالة «تقريظِ سقراطَ الأَثَنِيِّ» لأفلاطونَ لكان به ما تَعْلُو أثينة فوق حضارات البحر المتوسط الأخرى، بَيْدَ أن ما يساور أهلَ أثينة من خبثٍ وأسفٍ يتجلَّى رمزُه في موتِ سقراطَ المَجيد.

وكيف هلك جميع عظماء هذه المدينة في الحقيقة؟ لم يَخِرَّ أحدٌ منهم صريعًا وهو يقاتل، ولم يَمُتْ أحدٌ منهم حديثَ السِّنِّ، والواقعُ أنهم ماتوا شِيبًا بعد أن تَمَّت آثارُهم منذ زمن طويل، ومات إسْشِيل ابنًا للتاسعة والستين، ومات أُورِيبيد ابنًا للسابعة والسبعين، ومات أَرِيسْتُوفان في الثالثة والستين تقريبًا، وقل مثلَ ذلك عن أولياء الأمور وعن الفلاسفة، فقد مات سقراط في الحادية والسبعين، ومات أَنَكْساغورس في الثانية والسبعين، ومات هيرودوتس في التاسعة والسبعين، ومات فِيثَاغُورس في السبعين تقريبًا، ومات أفلاطون في الثمانين، ومات إيزُوقراط في التاسعة والتسعين. وليس من الصحيح أن الأغارقة كانوا يَجِدُون الموتَ قرينَ الشباب، فما انفكَّ الأغارقة منذ عصر أُوميرس يَتَمَنَّوْن موتًا لَيِّنًا بعد عمر طويل. وإذا ما نظرنا إلى العظماء بين الأغارقة، وهم الذين يُمثِّلُون خِيَارَ قرنٍ ونصفِ قرنٍ في أثينة على الخصوص، لم نَجِدْ سوى واحدٍ من سبعةَ عشرةَ، لم نَجد سوى سُوفُوكْل، استطاع إنماء قريحته طليقةً غيرَ مقيدة، وأما اﻟ ١٦ الآخرون فإن مصيرهم يدلُّ على ثورة المجتمع ضدَّ العبقرية، فهؤلاء الأغارقةُ ماتوا بين سنة ٤٥٦ وسنة ٣٢٢ قبل الميلاد في أعمارٍ تَتَرَجَّحُ بين اﻟ ٥٥ واﻟ ٧٥، بعد أن كانوا موضعَ اضطهاد، فمات إسْشِيل في المنفى، وأُبْعِد أَرِيسْتِيد في مَشِيبه لمدة خمس سنين ثم عُفِيَ عنه، ونُفِيَ تِمِسْتُوكل فمات في بلد الأعداء، واتُّهِمَ برِكلس فَعُزِل، ومات فيِدْيَاس في السجن، وفَرَّ إخْتِين ومات في بلاد الأعداء، وحُكِم على أَنَكْساغورس بالقتل فمات في المنفى، ونُفِيَ فيثاغورس فمات جوعًا على ما يُحتمل، ومات هيرودوتس مُبْعَدًا، ونُفِي أُوريبيد ضِمْنًا فمات في بلدٍ أجنبيٍّ، ونُفِيَ تُوسِيدِيد وقُتِل، ونُفِيَ أَلْكِبْيادُ الذي هو أحدثُهم سِنًّا وقُتِل، وحُكِم على سقراط بالقتل، وبِيعَ أفلاطون عَبْدًا في البُداءة ثم أُعْتِق، واتُّهِم أَرسطو وفَرَّ ومات بعيدًا من بلده، واضْطُهِد دِيمُوسْتين وشَرِب السُّمَّ.

وكان عملُ الحوادث في طرد هذين الأخيرين أكثرَ من عملِ أبناء وطنهم، فدلَّ ذلك على حقد الأغارقة وعدم صبرهم وعلى حسدهم وإنكارهم الجميل، ويُجْنَحُ أحيانًا إلى جعل الحقِّ بجانب أَرِيسْتُوفَان. ومن سعادة الإنسانية أيضًا أن يكون حِسُّ الجمال قد حال دون تخريب الأغارقة لآثار المُبْدِعين حين القضاء عليهم.

٢١

الموسيقَى هي أكثرُ الفنون شَهْوَانيةً، وهي تلازم تاريخ الحُبِّ في كلِّ زمان، تلازم المصريين كما في أفلام١١٧ أيامنا، ومع ذلك تظلُّ غيرَ ملموسةٍ كأنها متموجةٌ في الهواء، وهي لا تزال تَمَّحِي أكثر من امِّحاء الشعر الذي يمكن حِفْظُه وفَحْصُ ما ينطوي عليه من خيال، وليس أثرُ الرَّسَّام أكثرَ ظهورًا، والأوضحُ منه جزءٌ قليلٌ من بِنَاءٍ، والحقُّ أنه لا يمكن مسُّ غير التماثيل.

ويوحي هِرْمسُ براكْزِيتِلَ إلى الزائرين من رجال ونساء برغبته في ملاطفة أرجلهم، وقد اكتُشِف منذ خمس وستين سنة في أُلِنْبيَا، ولكنه الآن في مُتْحَفٍ يُورِثُ النَّفْسَ غَمًّا ولا يثير الفؤاد أبدًا، ولا ريب في أن هذا هو التمثال الرُّخاميُّ الوحيد الذي يَرْجِع إلى العصر الكلاسيِّ، وهنالك بضعةُ آثارٍ زُخرُفيةٍ وبضعةُ تماثيلَ يُرَدُّ تاريخُها إلى أدوارٍ لاحقة فنراها أصليةً كما يُحْتَمل أن تكون أصليةً بضعةُ آثارٍ برونزية، غير أن جميع التماثيل التي تُعْزَى إلى بعض المشاهير فنجدها على قواعدَ في مختلف متاحف العالم، والتي فَحصها العلماء والهُوَاةُ في القرون الأربعة الأخيرة، ليست سوى نُسَخٍ عن الأصول، وقد عُمِلت الأفاريزُ نفسُها، وقد عُمِلت أفاريز البارْتِنُون وفِيغَالْيه، في مُحَتَرَفاتٍ بأيدٍ مجهولة، لا من قِبل فِيدْياس ولا مِيرُون لا ريب، وتدلُّ قوائمُ نفقاتِ الأكروبولِ الإنشائيةُ على أن هؤلاء المتفننين المجهولين قَبَضُوا ما يعدل خمسةَ عشرَ دولارًا عن وجهِ كلِّ إنسان أو حِصان.

وعلى العكس ترى تمثال هِرْمس، كما هو في الأُلِنْبيا، أنه القطعةُ الرُّخاميةُ الوحيدة التي انْتُفِع بها في عمل أثرٍ نَحَتَتْه يدُ معلمٍ في القرن الرابع فظلَّ باقيًا حتى أيامنا، وذلك مع استثناء الذراع اليمنى التي أصلحها أستاذٌ مؤخَّرًا فأساء إلى التمثال بذلك، ولما أُبْرِزَ هذا التمثال كان هذا مثلَ بَعْثٍ للجمال الإغريقيِّ بعد رُقادٍ طويل، ويُبْعَثُ هِرْمِسُ كمسيحٍ انْتُظِرَ ظهورُه منذ زمنٍ. أَجلْ، تُوجَدُ تماثيلُ رجالٍ ذاتُ جمال بَدَنيٍّ كذلك، وذلك كتمثال سائق العَرَبة إلى دِلْف، أو كتمثال هِرْمس بسِيكُوبونبوس، غير أن الأولَ هو من برونزٍ مصبوب وأن الثانيَ هو نسخةٌ رومانية عُمِلَت بعد حين.

ويختلف الخبراء من حيث أصلُ هذا أو ذلك الأثر الفنيِّ، ولكنك لا تجد أثرًا يمكن أن يَنِمَّ على حَنَان حِسِّيٍّ كتمثال هِرْمِس ذلك، وما في هذا الجمال من قوة إيحاءٍ يظُنُّ الإنسانُ به إمكانَ لَمْسه قَدَمًا فاترةً عن حرارة الحياة لا عن برودة الحجر. وإذا كان من الممكن أن يُعَبَّر عن الجمال البدنيِّ بألفاظٍ عند عدم الموسيقى، فإنه يمكن تعريفُ خيالِ الأغارقةِ الرُّجُولِيِّ ﺑ «اللُّطفِ الطبيعيِّ». والواقعُ أن هذه الصفة تظلُّ سائدةً من أثينةَ برِكلس حتى بونْبي، ومن بولِيكْلِيت حتى متفنني برْغَامُون، ومما قَرَّره أرسطو عدمُ وجود جمالٍ إغريقيٍّ نَموذجيٍّ مع عَدِّه جميلًا كلَّ شكلٍ ممكنٍ للأنف أو الفم، وما هي فائدة التعاريف؟ وإذا ما رُئي شابٌّ يُقْبِلُ إلينا على طول الشاطئ فيسميه بعضنا إلهًا شابًّا إغريقيًّا عَرَف كلُّ واحد منا ماذا يعني ذلك. ويوجد هذا اللطفُ الطبيعيُّ لدى الرومان وحدَهم عندما يستنسخون آثار الأغارقة، ويُجيد الرومانُ عملَ التصاوير على خلاف الأغارقة، وكان الإسكندر من الشخصية البارزة ما يُكَوِّن معه مثلًا إغريقيًّا عاليًا.

ومن المحتمل كَوْنُ السِّرِّ في ابتداع الأغارقةِ، والأغارقةِ وحدَهم، لجميع آلهتهم على صورتهم، فهم لم يحاولوا قَطُّ أن يجعلوهم في أقصى درجات الكمال. قال إكْزِينُوفُون: «لو كانت الأُسُود قادرةً على التصوير لَصَوَّرت آلهتها على شكل الأُسُود.» وهنا تَجِدُ السبب في أن التمثالَ لإلهٍ إغريقيٍّ ليس أكثرَ من تمثال الرجل جمالًا. ومن العادة أن نقول عن إحدى الفتيات: «أليست حسناءَ كديَانَة؟» وقال إغريقيٌّ عن تمثال ديَانَة: «حقًّا إنه من الجمال كَفِرِينَتِي أنا.»

ولو جَرؤ أَحدُ الأَثَنِيِّين على عَرْضِ تماثيلِ أَشخاصٍ بالغةٍ من البشاعة كما تَبْلُغُه الآلهةُ المصرية التي لها رءوس الحيوانات أو الإلهاتُ الهندوسية ذاتُ الثُّدِيِّ العشرين أو آلهةُ أمم الشمال العُورُ بعضُها والكُتْعُ بعضها الآخر، لصُلِب بلا محاكمة. ولم تكن الآلهةُ في أثينة فوق البشر ولا دون البشر، وكانت هذه الآلهة تُصْنَع كما يُصْنَع الآدميون، ولكن بسهولةٍ ومع زيادة إتقان، وكانت الآلهةُ تخطئ وتقترف أغاليطَ، وكانت الآلهةُ لا تبصر المستقبل في كلِّ وقت وكانت خاضعةً لأحكام القَدَر. ورَوَى أُوميرس أن زُوس خَشِيَ ذات يومٍ أن يقبض أَشِيلُ على تِرْوَادة ما دام لم يُعَيِّن هذا الحادثَ في تقويمه. وكان الإغريقيُّ لا يَشْعُر بعِرْفان الجميل من أَجْل ما كانت الآلهةُ تُنعم به عليه من السعادة، وعلى العكس كانت الآلهةُ نفسُها تَشْكُرُ له تمتعَه بهذه السعادة ما دامت لا تحتمل رؤيةَ الشقاء.

وماذا كانت السعادةُ عندهم في الأساس؟ وإذا ما لُخِّصَ رأيُ فلاسفة اليونان حَوْلَ السعادة في خمسة قرون أبصرنا ظهورَ الكلمات: الصحة والنوم والمجد والجمال والتربية والصداقة والموت بلا ألم مع تقدُّم السِّنِّ. ولم يذكر أحدٌ من الفلاسفة الثَّرَاءَ من عناصر السعادة، وتَبْلُغ الآلهةُ الإغريقية من الطبع البشريِّ ما تَحْسُد معه سُعَدَاءَ الناس وتعتدي معه عليهم، ودِيُونِيزُوسُ وحدَه، وهو المعدودُ من الآلهة الآسيوية، هو أكثرُ الآلهة نفورًا وأَشَدُّها خطرًا، وبهذا تُفَسَّرُ أسرارُ هذا الإله.

وإذا ما تَمَثَّلَ شعبٌ آلهةً منتقمةً منيعةً، سواءٌ أَتَعَدَّدت هذه الآلهةُ كما عند المصريين أم كانت إلهًا واحدًا كما عند اليهود أم كانت إلهين كما عند النصارى، عَيَّن الخوفُ والإجلالُ صورةَ هذه الآلهة، وكان الأغارقةُ أنفسُهم يحاولون نَيْلَ الحُظْوَة لدى آلهتهم بما يُقَدِّمون إليها. وكان الأغارقةُ خُرَافِيِّين أكثرَ من مُعْظَم الأمم الأخرى من هذه الناحية، وما كان من كثرة أساطيرهم ومن إنعاشهم العناصرَ والنباتاتِ والحيواناتِ يُدْنِي آلهتَهم منهم ويَحُولُ دون إقامة ذلك الحاجز المنيع الذي يَفْصِل بين تعاليم الأديان الأخرى ورَبِّهم، وما كانت الآلهةُ الإغريقية تُبْدِيه من اكتراثٍ دائمٍ للآدميين الذين يستولي عليها سَأَمٌ عظيمٌ بغيرهم يُعَيِّن المظهر التَّصَوُّفيَّ والشِّعريَّ في ذلك الدِّين، وما كان من استنساخ المئات من صُوَر هذه الآلهة في كلِّ يوم يجعل هذه الآلهةَ حقيقيةً كما يَجْعَلُها أقربَ مما يُمْكِن أن يَكُونَه إلهٌ واحدٌ لا يَحْضُرُ إلَّا وَفْقَ خيالٍ مُجَرَّد.

وذلك هو السببُ في أن الدِّين الإغريقيَّ هو الدِّينُ الوحيدُ العاطلُ من عِلْم لاهوتٍ ومن أيةِ وثيقةٍ مكتوبةٍ حتى في دِلْف. وقد جَرُؤ بروتَاغُوراس، الذي هو أولُ السُّوفِسْطَائِيين والذي هو أَسَنُّ قليلًا من سُقْراط، على القول: «ومن حيث موضوعُ الآلهة لا أَعْرِفُ شيئًا، لا أَعْرِف هل هي موجودةٌ أو غيرُ موجودةٍ، كما أنني لا أَعْرِف طبيعتَها، وهنالك أمورٌ كثيرة تَحُول دون النظر جليًّا، ومنها غُمُوضُ الموضوع وقِصَرُ عمرِ الإنسان.» وما كان الخيال ليَنَالَ حريةً أكبرَ من هذه، ويمكن كلَّ واحدٍ أن يَتَمَثَّلَ آلهتَه ولا يُعْوِزُه ذلك في الحقيقة.

وباللِّواطَة يُفَسَّر تفسيرًا جزئيًّا عَرْضُ التماثيلِ بوجوهِ رجالٍ على الخصوص، وبما أن جميع المتفننين، والممثلون منهم، كانوا من الرجال، فإن من الطبيعيِّ أن يُجْعَل بَدَنُ الرجل العاري نَمُوذَجًا. وكان عددُ التماثيل النِّسْوِية العارية قليلًا جدًّا، والنساءُ كُنَّ يُخْفِين فُتُونَهن على حين كان الفِتْيان يُبْدونه، حتى إن المُتَرَجِّلاتِ كُنَّ كاسياتٍ، وما نراه من مُسْتَثْنَيَاتٍ جميلةٍ، كتمثال فِينُوس دُومِيلُو أو تمثالِ أَفْرُودِيتَ النصفيِّ الذي وُجِدَ حديثًا في قُورِين، يرجع إلى عصر لاحق، وليس تمثالُ نِيُوبِيدَ المشهورُ العاري الذي يشتمل عليه مُتْحَف تِرْمِس برومة، وهو الأثر الوحيد الذي يعود إلى دَوْرٍ كلَاسِيٍّ،١١٨ إلَّا أمرًا فريدًا، وهو يُثْبِت اتصافَ الأغارقة بقريحةٍ مُنَوَّعة. بَيْدَ أن الأغارقة كانوا يَتَشَهَّوْنَ عَرْضَ أبدان الذكور، ولهذه الروح كان الفِيَاسِينُ الأُسطوريون يتخذون من الغِلْمان حَمَلَةً للمشاعل الذهبية في قَصْر أَلْسِينُوس، والنساءُ أيضًا كُنَّ في كلِّ مكان يُفَضِّلْنَ الجمالَ على جميل الطِّبَاع، وكذلك العَذَارَى الخالداتُ، كأَتَلَنْتَة، والصائداتُ والمُتَرِجِّلاتُ كُنَّ يَقُمْنَ بمغامراتٍ غرامية في نهاية الأمر، وإذا ما صَدَّقنا اتصافَ بنِلُوب بالوَفاءِ فإننا لم نَجِدْ مثلَه عند زوجها أُولِيسَ الذي ظلَّ عِدَّةَ سنين يَتَلَهَّى مُصَاحِبًا حُورِيَّاتٍ وبناتِ ملوكٍ فبلغ من الرضا بذلك ما لم يَرَ معه أن يَعُود إلى منزله من فَوْره. وليس الحُبُّ التَّعِس من مشاعر الأغارقة، وكيف يمكن شعبًا كان يَتَمَثَّلُ حياةَ غرام كثيرةَ التَّنَوُّع أن يطالب نساءَه بالعَفَاف؟! فمن الحبِّ والجمالِ والمجد يتألف ثالوثُ الفضائل اليونانية.
وطَبَعَ الأغارقةُ معابدَهم وتماثيلَهم ومآسيَهم بأفكارهم السياسية والثَّقافية، ومُثِّلَتْ حياتُهم اليومية في الكُمِيدْية،١١٩ ولا سيما الأواني الخزفيةُ التي يمكن عَدُّ ما عليها صُورًا فُتُوغْرافية، ولا غَرْوَ، فإنه يسهل على شعبٍ موهوبٍ كهذا الشعب الكثيرِ الفراغ والهَزْل أن يُصَوِّر مظاهر الحياة اليومية على الآنية، وقد وُجِدَت مئاتٌ من هذه الآنية سليمةً، وقد انتهت مئات الألوف إلينا كِسَرًا منها، ومن هذه الآنية ما هو تافهٌ ومنها ما هو ثمين، وإذا جُمِعَتْ هذه الآنية والتُقِطَت صورُها الفتُوغرافية وجُعِلَت في كتابٍ كان لدينا دليلٌ حقيقيٌّ عن اليونان في دورٍ متأخر، وتَجِدُ لبلاد الإغريق الأولى انعكاسًا تامًّا في آثار أوميرس.

وتَغْتَسِلُ فَتَياتٌ تكريمًا لديُونِيزوس، وتكاد فَتَياتٌ أُخَرُ يُكْمِلْنَ زينتَهنَّ بدِهان، وتَهْذِر فتياتٌ أُخَرُ بالْقُرب من يَنْبُوعٍ ذي رأسِ أسدٍ، ونَرَى دِنَانهنَّ المملوءَةَ خمرًا وأَقداحَهنَّ ونَمَاذِجَ نسائجهن، ونَرَى سُرُرَهنَّ ومقاعدَهن، وإذا أمسكت امرأةٌ رأسَ زوجها في أثناء استفراغه حول المائدة وُجِدَ في الحال مَنْ يُصَوِّر هذا المنظر، ونَرَى ذهابًا إلى الصيد والوجهَ الذي يُتَمَثَّلُ به السلاحُ والطرازَ الذي تُعَلَّمُ به الشَّبِيبَةُ حُسْنَ السلوك والرقصَ، ونرى المئاتِ من مناظر المرافئ والمِلاحة، ولا شِدَّةَ هنا، ولا ما هو كلاسيٌّ هنا، ولا ما هو لاهوتيٌّ هنا، وإن كنتَ تُبْصِرُ في الغالب أسماءَ آلهةٍ معروفةٍ مكتوبةً تحت الوجوه اللطيفة لهؤلاء الفَتَياتِ والفِتْيان، ولدينا نحوُ مائةِ صورةٍ هزلية عن المَشِيب والألم والبُخْل والكَسَل والثَّمَل، ونَنْسَخ أريستوفانَ بأجمعه على الآنية قبل الحَرْف، دَعْ عنك رابْله ومُولْيِر وفَرانْزهالْز.

وتلك الوجوه تُمَثِّلُ الأغارقة الذين أقاموا في سِجِسْت، وبعد المعركة، معبدًا لعدوِّهم الأكبر فلِيب، وذلك لِمَا كان من جَمَاله الباهر، وهؤلاء الأغارقة هم الذين جعلوا أَدُونيسَ يقضي، بسبب جماله، ستةَ أشهر بجانب أفروديت وستةَ أشهر بجانب برْسِفُون مُقَسِّمين حياتَه على هذا الوجه، وهؤلاء الأغارقة هم الذين لم يحرقوا رُودُس المُحْتَلَّةَ إِنقاذًا للوحٍ رَسَمه برُوتُوجِين كانوا يَعْلَمون وجوده في حَيٍّ مُهدَّدٍ منها، وهؤلاء الأغارقة هم الذين بَرَّءوا سوفوكل لأنه أنشد في أثناء محاكمته أُغْنِيَةً جديدة من تأليفه تمجيدًا لوطنه وحَمْدًا له.

٢٢

تُرَى عناصرُ ثلاثةٌ ذاتُ مَدًى رمزيٍّ يرتبط بعضها في بعض حوالَي سنة ٤٠٠ قبل الميلاد، وهي: غارةُ إسبارطة على أثينة وغارةُ القرطاجيين على صِقِلِّية وغارةُ السِّلْتَ على إيطالية، وقد زَلْزَلت الحضارةَ كلُّ واحدةٍ من هذه الغَزَوات، وكُتِبَ الفَوْزُ للقوة البربرية والعِلْم الحِربيِّ والثَّرَاءِ على الذكاءِ في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال، وعلى أشكالٍ مختلفةٍ، ولم يكن غَزْوُ الشمال ذا نفوذ، ولم يترك غَزْوُ القَرْطاجيين أيَّ أثرٍ تقريبًا. حتى إن إسبارطة التي افتتحت أقوى حِصْنٍ للحضارة في عالَم القرون الأولى ظَلَّت خارج أبواب المغلوب على الرغم من جميع انتصاراتها، فقد أُعيد بناءُ أسوار أثينة التي خَرَّبها الغالب في عشرة أيامٍ وبعد ثمانٍ وعشرين سنةً من انتصاراتها، وقد غُلِبَت إسبارطةُ في البحر من قِبَل أثينة التي بُعِثت، وإسبارطةُ هي التي داومت، حتى في السنين التي عَقَبَت انتصارَها، على حياةٍ نَمطيَّةٍ هَوْجاءَ في عالمها العسكريِّ الفارغ الخالي من الروح، وذلك مع تأسيس أفلاطونَ لمدرسته الفلسفية بأثينة في ذلك الحين، وذلك مع استئناف برُكْسِيتِل إبداعَ تماثيله الخالدة.

ولا ترى في التاريخ مثالًا على وجود شعبٍ استطاع أن يُخْضِعَ إلى الأبد شعبًا آخر أرقى منه ذهنًا. وانظر إلى أثينة التي كانت تعلو بروحِها حضارةَ البحر المتوسط بأَسْرها تَجِدْها قد ظَلَّت زاهرةً بعد رومة الظافرة عِدَّةَ قرون، وذلك من غير أن يكون لسلاح الرومان غيرُ ظِلٍّ عليها. وفي ذلك الدور؛ أي حَوالَي سنة ٤٠٠؛ أي قبل غِياب السيطرة الإغريقية عن البحر المتوسط، تنازع شعبان قديمان، تنازع القرطاجيون والأغارقة، ليَحْرِم كلٌّ منهما الآخرَ أملاكَه مقابلةً، وقد غدا اصطراعُهما مختلطًا فاقدَ القيمة منذ ظهور دولةٍ قوية ثالثةٍ في مِنْطقة البحر المتوسط ظهورًا وئيدًا منذ ظهور رومة.

ولا مَفَرَّ من نشوب الحرب بين الأغارقة والقرطاجيين بسبب امتلاك الجزيرة الكبرى التي تفصل بين نصفي البحر المتوسط. وقد تصادمت الحضارتان في صِقِلِّية، فحارب القرطاجيون في سبيل أقرب المستعمرات إلى بلدهم، وحارب الأغارقة من أَجْل المستعمرة البعيدة نسبيًّا من بلدهم الأصليِّ. وكان من الطبيعيِّ إذَنْ أن يكون القرطاجيون أكثرَ اكتراثًا لِصِقلِّية التي يمكنهم بلوغُها في ثلاثة أيامٍ في ذلك الحين، وكان لهؤلاء التجار المَلَّاحين حَقٌّ تاريخيٌّ على هذه الجزيرة من بعض الوجوه، ولم يكن الأغارقة ليبالوا بها إلَّا لتقاليدهم في السلطان العالميِّ ولعادتهم في الاستيلاء على السواحل والمرافئ المهمة، وما كان من تَقَلُّب الطالع الذي يقاتل به كلٌّ من سَيِّدَيِ البحر المتوسط هذين من أَجْل صِقِلِّية يُثبِت عدمَ تَغَلُّب الروح التجارية على كلٍّ من الأغارقة والقرطاجيين في ذلك. وكان العامل الحاسم هو طِرازَ المراكب التي تُسْتَعْمَل، فيقابل القرطاجيون ذواتِ صفوف المجاذيف والجَذَّافين الثلاثةِ من المراكب بمراكبَ ذاتِ أربعة صفوف من المجاذيف والجَذَّافين.

ويجب البحث عن سبب هذه الحروب العميق في الزهو القوميِّ الذي كان قد استحوذ على الشبيبة الأَثَنية، وشبانُ الأُسْرَة الأخلياءُ كانوا يَبْدُون، كما في كلِّ وقتٍ، أكثرَ انتفاخًا من أجدادهم الأجِلَّاء. ولم يَطْمَعْ برِكْلِس في سيادة العالم قَطُّ، ولكن تِمِسْتُوكل كان قد سلك سبيل جنون العظمة القومية فأطلق على إحدى بناته اسمَ إيطالية مثلًا. ومما حدث أن الشبَّان «الحَرَّاقين» الذين كان يُوَجِّهُهم أَلْكِبيادُ صاروا يقيمون الدليلَ على أن القرطاجيين يُرْهِقُون أهل صِقِلِّية وعلى أن هؤلاء يَطْلُبون العون، فأخذ أولئك الشبان يتكلمون عن فتح قرطاجة. وقد حَبِطَت حملة الأثَنِيِّين التي وُجِّهَت إلى صِقِلِّية حَوالَي سنة ٤١٣ق.م نتيجةً لتلك الروح في أثناء حرب البلُوبونِيز، ولِمَا كان من تهديد إسبارطة إياهم، ومن نَقْص استعدادهم، ومن وقوعهم بين أمر وطنهم المضعضع في الداخل وبين مستعمرةٍ مذعورةٍ مُجَزَّأَةٍ غيرِ خاصَّةٍ بأحد.

ومع ذلك لم يُرِد أهلُ صِقِلِّية المقسومون بين مُدُنٍ كثيرة مستقلة أن يصبحوا قرطاجيين، وقد كانوا في مثل وضع الأَلْزاسيين الذين تجاذبتهم فرنسة وألمانية قَرْنًا فانْتَهَوْا إلى مَقْت إحداهما والاحتراز من الأخرى. وقد أسفر عدمُ انقطاع الحروب بين قرطاجة وسَرَقُوسَة على الخصوص، وقد أسفرت اندفاعات اليونان حَوالَي سنة ٣٥٠ قبل الميلاد، عن حَوْك المؤامرات وعن ضُرُوب القتل وعن فَوْز بعض الطُّغاة. وكان قطبَ ذلك الدور طاغيةُ سَرَقوسَة دِنِي الذي أقام إمبراطوريةً صِقِلِّيَّةً حَوالَي سنة ٤٠٠ قبل الميلاد، قويةً مثلَ أثينة، مشتملةً على نصف إيطالية، ممتدةً إلى مصبِّ نهر البو، محتويةً قورسقة. ويبدو لنا دِنِي كإِغريقيٍّ حقيقيٍّ بميله الشديد إلى الثَّقافة، وقد كان يمكنه أن يَشْغَل مكانًا مهمًّا في التاريخ لو أحاط نفسَه بشعراءَ ومتفننين كبركْلِس، واليومَ لا تزال رءوسُ الأُسُود المبتورة على الجُدُر المتينة في قصره الحصين، في قصر أُرْيالُوس، تسيطر على سهل صِقِلِّية.

ومع ذلك لم يبقَ شيءٌ من دِنِي الأولِ على الرغم من انتصاراته وتوفيقاته العظيمة، وهو لم يُذْكَرْ إلَّا لأن أفلاطون وافق على اقتسام الحكومة معه، وما كتبه أفلاطون من رسائلَ في سَرَقُوسة يُثْبِت أن الشخص الواحد يمكنه أن ينطويَ على فيلسوفٍ وقطبٍ سياسيٍّ معًا وأن هاتين الصفتين لا يمكن أن تتعاونا إذا ما تَقَمَّصَتا شخصين مختلفين. وقد أبدى دِنِي من الرُّوحِيَّة والاحترام والقِرَى والتعطش إلى المجد ما لم يُبْدِه الأباطرة والبابوات الذين ظهروا في القرون القادمة نحو متفنني عصرهم. وكان أفلاطون عازمًا على تحقيق أفكاره قبل كلِّ شيء، ولا ترى من الفلاسفة من هو أقلُّ أفلاطونيةً من أفلاطون؛ وذلك لعدم اكتفائه في النصف الأول من حياته بالتأملات الفكرية الصِّرْفة؛ وذلك لأنه كان يريد أن يَسِيرَ ويُبْدِع دولةً جديدة وأن يُحَقِّق مبدأً جديدًا؛ وذلك لأنه كان يودُّ أن يجعل سلطانَ الحكومة خادمًا للروح.

وتُثبت رسائلُه ورحيلُه الأخيرُ درجةَ ما مُنِيَ به من حبوطٍ تامٍّ، وما كان ليستطيع أن يُحَقِّق من بَعِيدٍ ما يُسَمِّيه «الدولةَ الثانية الصالحة»، وما كان عليه أميرُه من زَهْوٍ، وما كان يَطْمَع فيه من مدحٍ دائم ثمنًا للإعجاب الذي يُظْهره للفيلسوف، وما كان من خِفَّة أولياء الأمور على العموم، وَصَفَه أفلاطون بعباراتٍ تَحْمِل على التأمُّل فريقَ المفكرين الذين يَوَدُّون التأثيرَ في ذوي السلطان، قال أفلاطون:

لقد وجدتُ عند وصولي إلى سَرَقُوسَة وسيلةَ اختبارِ شخصٍ لأرى هل هو مشبعٌ من شُعْلَة الحياة المقدسة ومن الأفكار الفلسفية، ووجدتُ وسيلةَ اختبارِ الأغنياء الذين وجب أن يكونوا قابضين على أَعِنَّةٍ من ذلك، وهكذا يجب أن يُرُوا ماذا تَعْنِي الدراسة العميقة للأمور، وهكذا يُوضَع على مِحَكِّ الاختبار أشخاصٌ عاجزون عن السَّعْي والثبات، فلا يستطيعون بعد ذلك لَوْمَ أَدِلَّائهم، بل يستطيعون لومَ أنفسِهم وما هم عليه من كسلٍ خاصٍّ.

ومتى رُئِي أن أكبر رجال ذلك العصر مَوْهِبَةً حُصِرَ في بستان القصر فلا يستطيع أن يخرج منه إلَّا بإذنٍ من الجَبَّار، ومتى عُلِمَ أن خَطَر القتل كان يَحِيقُ به وكيف أنه كان في ذلك الحين موضعَ إكرام الأمير، أَمْكَنَ إدراكُ وضعِ كُورْناي تحت سلطان رِيشيلْيُو ووضعِ مِيكِل أَنْجِلُو تحت سلطان يوليوس الثاني ووضعِ فُولْتِير تحت سلطان فرِدرِيك الكبير.

ولكن جميع ذلك لا يدلُّ على مزاج أفلاطونَ النفسيِّ ولا على مزاج الأغارقةِ النفسيِّ وحدَهم، أَجَلْ، كان النبوغ والفنُّ وَقْفًا على الأغارقة، فإِذا وُجِدَ حجرٌ قرطاجيٌّ لَحْدِيٌّ دقيقٌ يَرْجِع تاريخه إلى ذلك الدور حُكِمَ في أنه نسخةٌ عن نَمُوذَجٍ إغريقيٍّ، غير أنه كان يُرَى في كلِّ مكان أثرٌ للأخلاق الفُرُوسِيَّة؛ ولهذا السبب كان عالَم البحر المتوسط يمتاز في القرون القديمة من البرابرة الذين يُهَدِّدون من الشرق والشمال آتين من فارس والغُول. وإذا ما نُسِيَت ذكرى حصار سِلِينُونْت وسيبَاريس، ونُسِيَ اسم هانُّون الذي هو أعظمُ قائدٍ في عصره، وَجَبَ بقاءُ الأمرِ الآتي، وهو: أن ابنَ هانُّون استُدْعِيَ من المَنْفَى في قرطاجة ليقبض على زمام السلطة فعَدَلَ عن الانتقام، ولم يقتل أعداءه الذين غَدَوْا تحت رحمته، بل اكتفى أمام الجُمهور المُجْتَمِع بوضع رجله على رِقاب هؤلاء الرجال المَبْطُوحين أمامه على الأرض ثم أَطْلَقهم.

ولا نستطيع أن نَمِيزَ متنافسي البحر المتوسط الثلاثة في القرون القديمة بعِرقهم، ولا نستطيع أن نَعْزُوَ إلى كلِّ واحد منهم صفةً خُلُقيةً أعلى مما لدى الآخريْن، وما يُبْذَلُ اليوم من جهدٍ هَزْلِيٍّ لتطهير دم الأمم التي اختلطت بمئات العروق كان غيرَ مُجْدٍ حَوالَي سنة ٤٠٠ قبل الميلاد. وقد كان يتألف من كلٍّ من الأغارقة والقرطاجيين والرومان مزيجٌ من سكان البلاد الأصليين ومن القبائل المهاجرة كما هي حال أهل المكسيك في الوقت الحاضر، والأرضُ، لا العِرق، هي التي كان يُعْتَدُّ بها.

وهنالك، حيث اختلط الدم في غضون تاريخٍ أَلْفِيٍّ من غير أن يُعْنَى بالصحة، ظَلَّت طبيعة الأرض وحدَها عاملًا ثابتًا، وكما أن جنس البقر الذي صار إدخاله إلى ضِفاف النيل التأم هو والإقليمُ والعَلَفُ الجديدان دُمِغَت شعوبُ البحر المتوسط بالعناصر أكثر مما بالعِرْق؛ وذلك لأن العِرْق يظلُّ مختلطًا مُغْلَقًا مع أن العناصر خالدة؛ وذلك لأن الخليج والميناء والشِّرَاع، ولأن الصحراء والريح؛ ولأن الزيتون والقمح والسمك، أمورٌ تُحوِّل الآدميين الذين يقيمون على طول الساحل من غير أن تُحَوِّلَ الساحل.

وفي ذلك تَجِدُ السِّرَّ في أن مغازي البرابرة لم تترك غيرَ آثارٍ قليلة في شواطئ البحر المتوسط؛ وعلى ذلك الذي يَتَلَهَّى بكلمة «الهنديِّ الجِرْمانيِّ»١٢٠ أن يَتَمثَّلَ صحارِيَ غيرَ مسكونة فيكتشفها أناسٌ من الأجانب ويستولون عليها في نهاية الأمر. والحقُّ أنه لا يوجد هنديٌّ ولا جِرمانيٌّ حَوْلَ البحر المتوسط، والحقُّ أن السكان هناك شعوبٌ أصلية اختلطت بمئاتٍ من الشعوب الأجنبية. والحقُّ أنه يوجد بين صُوَر الرومان والجِرمان من الخطوط المشتركة ما يوجد بين صُوَرِ حيوانات العصر الجليديِّ وصُوَرِ رَفَائيل، ولا غَرْوَ، فكلَا الأمرين قد تَمَّ فوق أَرَضِي الإمبراطورية الرومانية. وليس بالذي يُذْكَرُ بجانب ما في نظرة الإنسان من قوة الإيحاء جميعُ الدراسات حول الاشتقاقات اللغوية وكِسَرُ الخزف وقِطَع الصُّوَر المرسومة على الأواني. ومَنْ كان منصفًا فيُدَقِّق في وجوه سكان صِقِلِّية والبرُوفنْس وفلُورَنْسة وبرشلونة وسلانيك وإزمير وحيفا والقاهرة، يَجِدْ جميعَ هؤلاء الرجال والنساء ذوي شعورٍ دُكْنٍ وعيونٍ سُمْرٍ، وأنهم يتشابهون فيما بينهم أكثر من مشابهتهم لأولئك الشُّقْرِ الشعور والزُّرْق العيون الذين يتلاقَوْن في البندقية أو أرمينية تلاقيًا استثنائيًّا.

٢٣

وفي القِصَّة أن رومة أُنشئت يوم أُقيمت قرطاجة، ولِمَ خَرَجَت رومة ظافرةً من صِراع مائتي عام؟

من المحتمل أن تَجِدَ سببَ ذلك في كون رومة مدينةً غيرَ ساحلية، وهذه المدينة قد أُقيمت بعيدةً من البحر مائةَ ميلٍ بحريٍّ، وذلك على ضِفَّة نهرٍ صالح للمِلاحة، فكان يُمْكِن أكبرَ السفن في ذلك الحين أن تسير فيه، ولكن في مَأمَنٍ من القراصنة. واليومَ لا تزال رومة تتمتع بمثل ما للمدن الساحلية من المنافع، وذلك من غير أن تكون عُرْضَةً لمثل ما يواجِهُ هذه المدنَ، وتسيطر رومة على الطريق العسكرية الوحيدةِ بين الجبل والبحر، وهي لذلك تكون في وَضْعٍ تقاوم به غَزْوَ الإتْرُورِيين واللاتين في الشمال وفي الجَنوب، وهي لهذا الوَضْعِ الجغْرافيِّ كانت تشتمل على شعبٍ بَرِّيٍّ نشيطٍ مُتَّحَدٍ وعلى جنودٍ ووطنيين، وبينما كان الأَثَنيُّون مُفَرَّقين منذ حالهم الأولى بين مختلَف الخُلْجان والجُزُر لم يكن السهلُ الرومانيُّ ليتسع بغير الفُتُوح المُنَظَّمة كما كانت عليه الدولة البروسية في بدءِ أمرها. وما كانت مصاهراتُ الأمراء ومواريثُهم لتأتيَ بأملاكٍ بعيدة كما اتَّفَق لبروسية فيما بعد؛ وذلك لأن رومة ظَلَّت جُمهوريةً سبعَمائةِ سنةٍ؛ أي ما يَعْدِل عمرَ جُمهورية سويسرة حتى الآن.

وما كان يشترك فيه الرومان الأولون والبروسيون هو ما يشترك فيه هذان الشعبان وقدماء الإسبارطيين، ومع ذلك لم يكن الملوك الأولون الأُسطوريون، في الحقيقة، غيرَ رؤساءَ لجُمهوريةٍ كان يسيطر عليها أشرافٌ من أصحاب الأَرَضين الواسعة في البُداءة فصارت تُدَارُ بحِلْفٍ من جميع الطبقات، ويَعْدِل القنصلان، اللذان كانا يُنْتَخَبان حتى في عهد الملوك، حاكميْنِ يؤدي تحاسدهما إلى حفظ الإسبارطيين من الجَبَروت، وعلى العكس كان السِّنَاتُ ضربًا من المجالس العليا الوراثية التي تتمتع بسلطان دائم، ومع ذلك لم يُعَتِّم الفقراء أن ثاروا ضِدَّ كلِّ ضَغْطٍ فألَّفُوا بمجالسهم الشعبية دولةً ضمن الدولة التي زاد سلطانها سريعًا.

ولا يُشَبَّهُ الدستورُ الرومانيُّ الذي ظلَّ باقيًا ألفَ سنةٍ لقيامه على الحرية والنظام إلَّا بالدستور الإنكليزيِّ الذي يختلف عنه في أمرٍ واحد على الخصوص، وهو أن الحياة السياسية والتجارية لدى الإنكليز تقوم على التقاليد والشرف فلا تَجِدُ عند الإنكليز غيرَ القليل من القوانين المُدَوَّنة ومن الأوامر والنواهي، وأن الرومان بَكَّرُوا في تسجيل جميع ذلك عن ألواحٍ فأدى هذا إلى ظهور مبادئَ فقهيةٍ انتشرت من البحر المتوسط إلى جميع العالم الغربيِّ، واليوم لا يزال البتَاغُونِيُّ يتزوج ويَرِث أباه وَفْق المبادئ التي صِيغَت في رومة الفتاة منذ أكثرَ من ألفي سنة، وما كان الحقُّ ليُمَارَس على مقياس واسع بلا حرية. وبهذا يُفَسَّرُ السبب في كون إسبارطة وبروسية لم تستطيعا فتحَ العالم على الرغم من قوانينهما الشديدةِ شِدَّةَ قوانين رومة. وكلا البلدين، إسبارطة وبروسية، تُعْوِزه الحرية، وإذا ما نُظِرَ إلى الأمر من حيث النظامُ العسكريُّ والزُّهدُ والترتيبُ وُجِدَ الرومانُ الأوَّلون أكثرَ مشابهةً لأهل إسبارطة مما لأهل أثينة، وكان الرومانُ أنفسُهم يُضَحُّون بالروح في سبيل الدولة.

وذلك على خلاف مبدأ الحرية، فلم يَقُمْ إخلاصُ الرومان للدولة على ضَغْطٍ يأتي من عَلٍ ولا على قَسْوَةٍ باردةٍ، ولم تكن الطاعةُ مثلًا عاليًا كما في إسبارطة، بل كانت ضرورةً ارْتُضِيَتْ طَوْعًا، والأَشرافُ، لكي يَظْفَرُوا بذلك، اخترعوا حيلةَ دين الدولة الذي لم يكن مؤثِّرًا في غير عهد الفراعنة حتى ذلك الحين، وقد عَمَرَ خيالُ الأغارقة عالَم الآلهة، والرومانُ، لعَطَلِهم وعجزهم عن تَمَثُّل آلهةٍ جديدة، استعاروا من الأغارقة آلهتَهم وأطلقوا عليها أسماءً جديدةً وجعلوا منها رموزًا لقوانينهم الخاصة، ولا تُبْصِرُ أمةً كالرومان كَثْرةَ آلهةٍ وقِلَّةَ دِيانةٍ، والرومانُ وَضَعُوا ضربًا من حساب الدُّوبْيَا١٢١ مع الآلهة التي تقوم ببعض الواجبات في مقابل عددٍ معين من التَّقْدِمات، وكيف كان يمكن شعبًا مثلَ هذا الشعب أن يُنْتِج تماثيلَ وآنية وأغانِيَ ومآسِيَ تُقَاسُ بما أنتج الأغارقة؟

وفي مقابل ذلك وَسَّعَ الرومانُ نِطاقَ دولتهم الحربية على مقاييسَ أوسعَ مما صنعت إسبارطة، وعَرَفُوا أن يُوَفِّقُوا، ببدعةٍ جديدةٍ، بين سلطتهم العسكرية وسلطتهم المدنية، وبيانُ ذلك أنهم ابتدعوا وظيفةً جديدة تشتمل على كلتا السلطتين في الأحوال المُلِحَّةِ، ابتدعوا وظيفة الطاغية، وتعبيرُ الطاغية كتعبيرِ الإمبراطور من مبتكرات الجُمهورية فكان شِيشِرُون، مثلًا، يُدْعَى إمبراطورًا، وكان الطاغيةُ يُمَثِّل شكلًا من السلطة التي رَضِيَ بها جميعُ الأمم في غضون التاريخ بعد ذلك، وكما أن ألقابَ «السِّنَاتيين» و«القناصل» ظلت باقيةً في مختلف البلدان حتى أيامنا بَقِيَت كلمةُ «الطاغية» قائمةً منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وفي رومة جُعِلَت تولية الطاغية مقيدةً بشرطين: (١) أن يكون البلد في خَطَر. (٢) أن يَتْرُك الطاغية سلطانَه للسلطاتِ المُنَظَّمَة بعد انقضاء ستة أشهر.

وقد حافظ الشعب الرومانيُّ على تلك القواعد عن حَسَدٍ حتى عهد سِيلَّا ويوليوس قيصر، وكان العوامُّ أكثرَ من الأشراف محافظةً عليها؛ وذلك لانتخاب القنصل الشعبيِّ الأول قبل الميلاد بأربعة قرون. وكان الرومان في البُداءة قومًا عاطلين من كلِّ نفوذٍ خاصٍّ، ثم عَرَفُوا، بما كانوا يستندون إليه من القانون ونظامِ الدولة، أن يقيموا حِلْفًا مشتملًا على المدن المجاورة، ولا تزال دولُنا الاتحادية الحديثة تَعْمَلُ بمبادئ هذا النظام.

وبما أن مبدأ الرومان في الدولة يقوم على الحرية، فقد غدا النظامُ أساسَ مستقبل الدولة العالمية القادمة، ولم يَحْتَجِ الرومان لإقامة هذه الإمبراطورية إلى روح تجارية أوسعَ مما لدى الأغارقة، وإنما كانوا محتاجين إلى نظامٍ أوثقَ مما عند هؤلاء. والرومانُ أكثرُ من الأغارقة ثباتًا وإن كانوا دونهم إبداعًا، والرومانُ أشدُّ من الأغارقة وَحْدةً وإن كانوا أقلَّ منهم أفكارًا. ومع أن الأغارقةَ لم يستطيعوا طردَ غُزَاةِ الفُرْس إِلا بعد هزائمَ قاسيةٍ دَحَرَ الرومانُ من فَوْرِهم، وهم أضعفُ من الأغارقة، أولَ هجوم قام به البرابرةُ السِّلْتُ إلى خارج أسوار مدينتهم، وتَجِدُ في خُلُق الرومان الخصيب بالمبادرات جميعَ الصفات الأساسية الضرورية للسيادة العالَمية، وكلُّ ما كان يُعْوِزهم هو عِلم المِلاحة البحرية.

ولم يَلْبَث الرومان أن تعلَّموا هذا العِلم من منافسيهم القرطاجيين، وإذ كان الرومانُ شعبًا بَرِيًّا وحَرْبيًّا، ولم يكن لديه غيرُ جيشٍ صغير مؤلف من ثلاثة آلاف رجل وثلاثمائة فارس، فإنهم تركوا، عن ضرورةٍ، شواطئَ حِلْف مُدُنهم لنَهَّابي الأغارقة حتى القرنِ الرابع قبل الميلاد. وتدلُّ الوثيقة الرومانيةُ الرسمية الأولى التي لدينا على عقد معاهدةٍ مع قرطاجة حَوالَي سنة ٣٥٠ قبل الميلاد تقضي بحَظْرِ المِلاحة على الرومان في المناطق البحرية من جَنوب صِقِلِّية، وقد عَقدَ الرومان معاهدة أخرى مع تارَانْت تقضي بحظر المِلاحة عليهم في شرق البحر المتوسط، وهكذا يبدأ التاريخُ الرومانيُّ بهزيمتين كتاريخ كثير من مشاهير الرجال والشعوب.

والحقُّ أن هذه المعاهداتِ أُبْرِمت فَوْرَ غارة البرابرة الأولى، مقتضيةً تضحياتٍ ماليةً عظيمةً لتجهيز البلد بالسلاح، وقد سُحِقَ الإتْرُوريُّون من قِبَل غُزَاة السِّلْت، وقد كُسِرَ الحِلْفُ اللاتينيُّ، ومن المحتمل أن دُهِشَت شعوب إيطالية حينما أبصرتْ رئيسَ البرابرة برينُّوس يرتدُّ بغتةً آتيًا ضروبَ النهب في الطريق حين تقهقره، بدلًا من استقراره بالبلاد، وقُلْ مثلَ هذا عن أَلَارِيك وجِنْسِرِيك اللذين هما أولُ مَن شَنَّ من أهل الشمال غارةً على البحر المتوسط بعد حين، فلم يكن لهما غايةٌ غير النهب ولم يكونا ليَهْدِفا إلى الاستعمار والإنشاء. وكانت الثَّرَواتُ، التي تتجلَّى لنا اليوم في الموادِّ الأولية، تقوم عند أولئك على كنوز المعابد وذهبها وعلى مَنْ يأتون بهم من الرجال فيجعلون منهم عبيدًا.

وفي العصر الوثنيِّ الذي عُقِدَت فيه تلك المعاهدةُ مع قرطاجة كانت مبادئ الأخلاق أَسْمَى مما هي عليه الآن، وكان القراصين يحترمون القوانين التي يَسْخَر منها رَبَابِنَةُ الغَوَّاصات في الوقت الحاضر، فكان لا يمكن بيعُ التجار الذين يُقْبَضُ عليهم في البحر عبيدًا في البلاد الصديقة لرومة وقرطاجة، وكان يوجَد في رومة مبدأٌ قانونيٌّ قديم يَحْظُر بيعَ الإنسان عبدًا في البلد الذي وُلِدَ فيه أو البلد الذي عاش فيه حُرًّا.

ومع ذلك فإن هذه المنازعاتِ كُسِفَت كغيرها بين شعوب البحر المتوسط الثلاثة، وذلك بحادث جَوِّيٍّ ظهرَ في سماء هذا البحر لم يَلْبَث أن توارى في الشرق البعيد.

٢٤

وُلِدَ الإسكندر الأكبر في ظلِّ غابةِ مقدونية البِكْرِ، لا في كَنَف الأَكروبول البهيِّ، وأبصر في صباه الأسدَ، لا البومَ الذي هو رمزُ الحكمة، وعَرَف أغانِيَ الصائدين البرِّية والجموع الخاضعة، لا الأجواقَ الأَثَنِيَّة والخطباءَ الشعبيين، وقد رأى ملوكًا وأمراءَ يسيطرون كما في زمن أوميرس. وقد كان أبوه أولَ مَنْ أراد تنويرَ هذا البلد الهمجيِّ الذي لم يختلف جوهرًا عن جِرْمانية في زمن يوليوس قيصر. ويُنَشَّأُ الشابُّ الإسكندر في وَسَط المجادلات الأُسْرِيَّة القاسية وفي سواء الأخلاق البربرية، فيشاهد تطليق أبيه لأمه التي هاجمها بنفسه في نَوْبَة سُكْر، وهذا يُفَسِّر ما بين الرَّجلين من حقدٍ وتحرُّزٍ كما يُفَسِّر السبب الذي لم يكن الإسكندرُ به غريبًا عن قتل فليب، ومن المحتمل، كما يلوح، أن فليب لم يكن أبًا حقيقيًّا للإسكندر. وجميعُ ذلك قد ترك أثرًا بربريًّا في حياة الإسكندر وعملِه فكان يمكن أَلَّا يَغْدُوَ غيرَ نظيرٍ لجنكيزخان وجِنْسِرِيك اللذيْن كانت إمبراطوريةُ كلٍّ منهما قصيرةَ العمر كإمبراطوريته.

وما نراه من كون الإسكندر أحدَ رجال التاريخ الخالدين مَدِينٌ، في الدرجة الأولى، لفكرة فليب الرائعة في دعوة أعظم مفكري الزمن إلى بَلاطه ليكون مُرَبِّيًا لابنه، وبَدَا أرسطو الذي كَوَّن روحَ الأمير الإسكندر فيما بين الرابعةَ عشرةَ من سِنِيه والسابعةَ عشرةَ من سِنِيه رسولَ حضارةِ القرون القديمة العليا في بلدٍ كثير البربريةَ، ويُمْكِن تشبيهُ عملِه بعمل ريح البحر التي تَنْثُرُ ثائرةً بعض الحبوب من خلال التلال والأودية لتُنْتِج أكرمَ نباتٍ في الغابة الابتدائية.

وقد أَعَدَّت أفكارٌ إغريقية ابنَ البلد الهمجيِّ هذا لأعمال الكَرَامة والمُروءة والبدائع الثَّقافية التي عَدَّها مُقَلِّدُوه أهمَّ من فتح الهند. وكان الإسكندرُ أسدًا بربريًّا يَحْضُر أمورًا فظيعة ويتِمُّها بنفسه. وكان الإسكندر يخاطر بحياته في جميع المعارك وينال انتصاراتٍ حاسمةً بحَدِّ سيفه، ومع ذلك كان الإسكندرُ يَنْشُر في الوقت نفسه أزهارَ الحضارة اليونانية في جميع البلدان المُفتَتَحة.

ولو كان هذا الأمير يتصرف، كأبيه فليب، بجنودٍ أكثرَ قوةً فقط، أوَلو كان في معاركه قادرًا كبرابرة الوقت الحاضر على الانتفاع بآلاتٍ حربية فائقةٍ فقط، ما كان أهلًا للالتفات أكثر من جنكيزخان، ولكنه إذْ هَضَمَ أفكارَ الأمة الكبيرة المجاورة قبل قهرها صار في وضع الفاتح النادر الجامع بين القوة والروح، ولم يَسْطِع يوليوس قيصر ونابليون، اللذان يُشَبَّهان به، غيرَ تقليده تقليدًا ناقصًا لِمَا كان من مكافحتهما حضاراتٍ رفيعةً في بعض الأحيان. وكانت أفضليةُ الحضارة اليونانية القريبة من غاب البلقان البِكْر قد بَهَرت ملكَ مقدونية فليب، الذي عَرَض سَلْمًا لَيِّنَةً على أثينة المهددة من قِبَله بعد أن قَهَرَ تِبْ. وفليب كان بالحقيقة مؤسسَ أولِ جمعيةٍ للأمم عندما جَمَعَ جميعَ القبائل الإغريقية، خلا إسبارطة، في مؤتمرٍ بكُورِنْث، وهكذا يصبح ملكٌ أجنبيٌّ رئيسًا لحِلْفٍ يونانيٍّ.

وشاهَد الإسكندرُ جميعَ ذلك عن كَثَب، مع أنه كان وليًّا للعهد، والإسكندرُ هو الذي انتزع النصر في كِيرونِه بشجاعته الشخصية، والإسكندرُ قد رأى أباه الذي هو من أنصاف البرابرة يَدْعُو الأغارقة إلى محاربة ملك الفرس الذي كان أمدنَ من هذا المقدونيِّ. وعلى ما أدت إليه أعراسُ فليب وأعراسُ ابنته الدامية من زيادة تعطُّش فليب إلى السلطان، انتهت بمذابحَ ونِهابٍ للعرش عَقَبَتْها مذابحُ جديدة، ولم يَتَقَلَّدْ السلطةَ مَلِكٌ في أحوال أكثرَ شؤمًا من تَقَلُّد الإسكندر الفَتَّان. ويذهب الإسكندر إلى مقاتلة الفرس والفتح، لا لتحرير الأغارقة منهم، ما كادت أثينة وتِبْ ترتبطان مع ملك الفرس في عَهْدٍ ضِدَّ ملك مقدونية. ويَبْدو الوَضْعُ الذي وَرِثه الإسكندر سيدًا للأغارقة من عدم الثبات ما كان عليه أن يتساهل به مع الأَثَنِيين حتى بعد أن ينال نصرًا جديدًا.

ويرى بغريزته وبحكمته، وليًّا للأمر، أن يَحْفَظَ أثينة وأن يُخَرِّب تِبْ. ولما سقطت هذه المدينة البالغةُ الشُّهرة والنُّضْج، قال معاصرٌ إن نور القمر قد انطفأ في الفَلَك كما لاح.

وتقوم شهرة الإسكندر على أن الطالع لم يَمُنَّ عليه بغير وقتٍ قصير لفتح العالَم من جهةٍ، وعلى جماله البدنيِّ من جهة أخرى، ولو كان وجه الإسكندر أقلَّ نضارة ما استطاع أن يظهر للعالَم إغريقيًّا، وكان الإسكندر يَعْرِف ذلك، فيُعْنَى بالدعاية مستعينًا بالنَّحَّاتين والصِّحافيين والمؤرخين الذين يجمعون ويُسَجِّلون للأعقاب شمائلَه وما يحوم حوله من أقاصيص. والحقُّ أن الإسكندر كان يحبُّ المجد أكثر من حُبِّه للسلطان على ما يُحتمل، وكان أجملُ أعماله يَصْدُر عن رغبته في بُعْد الصيت أكثر مما عن المعاني الخُلُقية، وما كان من سرعة مفاخره واتساع مآثره يَنِمُّ على عظمة رجلٍ يُؤْلِمُه شعورُه بالموت قبل الأوان فيَجْمَع في ثلاثَ عشرةَ سنة، كما جمع نابليون، ما قَسَّمه قيصرُ أو شارْلكِن على ثلاثين.

لم يذهب الإسكندر إلى الحرب لفتح العالم، بل لقهر الفرس، وقد قادته طريقه إلى الشرق إذَنْ. وكانت الأمم الفاتحة، الأغارقة والقرطاجيون والفُرْسُ، يُوَلُّون وُجوهَهم شَطْرَ البحر المتوسط على الدوام؛ ولذا لم ينْطلق الإسكندر غيرَ نصف انطلاق من عالم البحر المتوسط، ومن عالَم البحر المتوسط الشرقيِّ فقط، وهو لم يجاوز البلُوبونِيز طولًا قَطُّ، ولو بَدَا له أن يَعُدَّ نفسه رسولًا للحضارة اليونانية لكان من المنطق أن يُوَلِّيَ وجهه شَطْر الشرق ما دامت هذه الحضارة قد بلغت مرسيلية وجبل طارق منذ قرون. ويَجِدُ الإسكندرُ الأغارقةَ على شواطئ آسية الغربية، ويجِدُ آلهتَهم وفنونهم، ويسأل في نفسه: هل يُفَضِّلُ هؤلاء الأغارقةُ جيوشَ المقدونيين على جيوش الفرس؟ وكان الأغارقةُ يُضْطرون إلى مقاتلة إخوانهم الأغارقة في الغالب، وليس القتالُ في سبيل تحريرهم من نِير الفُرْس إِلا وليدَ تنافس مَلِكيْن قويين كانا يَهدِفان إلى السيطرة على شعوبٍ لا تَلْبَث أن تُقْهَر بالحديد، ويتصادم الإسكندر والقرطاجيون المنافسون للأغارقة، وذلك في أثناء حَمَلاتِه الأولى على صُورَ الواقعةِ في شمال حيفا الحاضرة التي كانت جزءًا من فنيقية، ويَفِرُّ ألوف الناس إلى قرطاجة عندما انتشر خبرُ اقترابه، ومما حدث أن رجلًا من أهل صُورَ رأى في منامه استعدادَ إله هذه المدينة الحامي أبولُّون لمغادرتها، فقَيَّدُوا تمثال هذا الإله بالأغلال، وهل ضحك أَبولون على الطريقة الأوميرية أو اكتفى بالابتسام على طريقة الفلاسفة؟

وفي مِنْطقة أقصى شمال البحر المتوسط وَسَّع الإسكندر نِطاقَ فتوحه من الدَّرْدنيل إلى النيل، وهنالك أتمَّ أدلَّ أعماله على سعة البصر وأبقى آثاره على الدهر. وذلك أنه عند ظهوره وحدَه حَفَزَ كهنةَ أَمُون إلى التصريح بأنه ابنُ الربِّ، وذلك أنه أنشأ بُعَيْدَ ذلك مدينةَ الإسكندرية في أصلح مكانٍ لهذا المرفأ، في أهمِّ محلٍّ على سواحل البحر المتوسط، في موقعٍ لا تزال قائمةً عليه منذ ألفي سنة. أَجَلْ، نَصَحَه المهندسون بذلك لا ريب، غير أن العبقرية التي أبصر بها هذا الشابُّ، هذا الجنديُّ، هذا الأجنبيُّ، مستقبلَ ذلك الشاطئ المهجورِ فوضع فيه أُسُسَ مدينةٍ عصرية ليست أقلَّ إثارةً للعجبِ، والإسكندرُ هو الذي عَرَف في ذلك الرأس الغربيِّ الخالي من دِلْتا النيل ما لم يُبْصِرْه أحدٌ من سادة مصرَ الذين ظهروا قبله، والإسكندرُ هو الذي عَرَف المكان الذي يُمْكِن ميناءً أمينًا فيه أن يَصِل مصرَ بالبحر المتوسط، من غير أن يَبْلُغَه غِرْينُ النيل، والإسكندرُ هو الذي يَلُوح أنه أدرك ببصيرته صورةَ تجارٍ من الأغارقة يَشْحَنون قمح مصر، والإسكندرُ هو الذي وضع، كما يصنع أمريكيُّ الوقت الحاضر، رسمًا لشوارعَ ذاتِ زوايا مستقيمة مُعيِّنًا الشوارعَ بحروف الأبجدية للمرة الأولى كما هي الحال في شوارع وَشِنْغتُن الآن، ومُعْلِمًا مكانَ معابدِ إِيزس وزُوس اللذين هما إلهَا ذلك المكان المتنافسان، وما فتئت مصرُ تكون من بلاد البحر المتوسط منذ ذلك الحين، وتقول القصةُ إن الإسكندر وضع رَسْمَه أمام مهندسيه على أساسٍ من دقيق فوق مِنْضَدَةٍ في الهواء الطَّلْق فأتى طيرٌ كثيرٌ فنَقَّرَت الدقيقَ فَعُدَّ ذلك فأْلًا.

وفي تاريخٍ للبحر المتوسط يَجِبُ أن يُذْكَر، عند البحث في موضوع حَمْلةِ الإسكندر من فارسَ إلى الهند، ما هو الوجهُ الذي نَقَلَ به الإسكندرُ روحَ الأغارقة إلى آسية؛ وذلك لأن إمبراطوريته العالمية كانت قَصِفَةً غيرَ ثابتةٍ من حيث ظهورُها عُنوانًا للقوة، وهنا تنكشف طبيعة الإسكندر الثُّنائية، ولا أحد يستطيع أن يقول مُوَكِّدًا إن أسد الغابة البكرِ الهمجيَّ تَغَلَّب في عَرِينه على تلميذ أرسطو.

ويُرَبَّى الإسكندرُ جنديًّا فلا تكون الحياةُ اليومية عنده غيرَ جهادٍ متصل تقريبًا، ويشابِه سَيْرُه في الحياة سَيْرَ سُوفُوكل في ميدان القتال، فكان يحارب في الصفِّ الأول دومًا راكبًا حِصانًا شاهرًا سيفه على العموم، وكان له حَقُّ القتل من الناحية الأدبية ما عُرِّض للخطر على الدوام. وكانت مِهْنَتُه تقوم على القتل ونَيْل النصر، وهكذا يُمْكِن أن يُرَى مصوَّرًا على ناوُوسٍ فَخْم يحمِل اسمَه فيُحْفَظُ اليوم في اسْتَانبُول، وهكذا تَجِدُه مصوَّرًا على فُسَيْفَساء تُمَثَّلُ بها معركةُ إِيسُّوس حاسِرَ الرأس متموجَ الشعر مُغِيرًا بِحصانه على ملك الفُرْس.

وأثبت الإسكندرُ عبقريتَه بما وُفِّقَ له من دَفْع الخطر مجاهدًا ومجادلًا مناوَبَةً، وحَدَثَ أن ظَهَرَتْ مؤامرةٌ في الجيش بغتةً فخَطَبَ في الكتائب قائلًا: «لكم جميعُ ما رَبِحْتُ، لكم سورية ومصر والعراق أيها الأصحاب، أنتم المرازبةُ أيها القواد! ماذا تركتُ لنفسي؟! لقد حَرَمْتُ نفسِيَ النومَ لأَدَعَكم تنامون! أروني جِرَاحَكم لأُرِيَكم جِرَاحي! مَنْ شاء الانصرافَ منكم فلينصرف، اذهبوا جميعًا، وهنالك أتَّخِذُ حَرَسًا من البرابرة المغلوبين!»

ويختلي بعد هذه الخُطبة، ويفاوِض الفُرْسَ، ويمضي يومان فيُرْسل جنودُه مَنْ يَطْلُب مُوَادعةً، ولا يُجَازَى العُصَاةُ.

وهذه هي من الأحوال التي استحقَّ بها الإسكندر لقب «الأكبر».

وفي أوقاتٍ أخرى يُذْنِبُ تِجاه الأخلاق اليونانية والفلسفة اليونانية ذَنْبًا يَبْدُو به ذا خُنْزُوَانة،١٢٢ ومن ذلك أنه دمَّرَ عاصمةَ العدوِّ: بِرْسِبوليس١٢٣ بلا سبب ثم أَرْسَلَ جُثَّة دارا لتُدْفَن مع الإكرام، ومن ذلك أن جعل الجيش المجتمع يحكم على قائدٍ عاصٍ فأمر من فَوْرِه بقتل أبي هذا القائد المتمرد مع براءة هذا الأب ومع كونه صديقًا له. أَجَلْ، كان صاحبُ النفس العالية الإسكندرُ يُحِبُّ محادثةَ أصحابه بالفلسفة عند تعاطي الراح، ولكنَّ أحد أصدقائه المخلصين لاجَّهُ ذاتَ مرةٍ حول أصله الإلهيِّ المزعوم فقتله حالًا في أثناء نوبةِ جنونٍ مفاجِئةٍ جافية، وما كان الأعقاب ليَنْسَوْا هذا مع وقوعه في أثناء سُكْرِ الصاحبيْن.

وما كانت تربيةُ الإسكندر الإغريقيةُ لِتَقِيَه من جنون العظمة الذي لم يَنْجُ منه سوى القليل من الأقوياء، وقد بلغ من جنون العظمة ما كان يَعُدُّ نفسه به سليلَ هِرْكُول وأشِيل كما يَعُدُّ نفسه ابنًا لديونيزوس وأمون، ولم تنتشر هذه الأسطورةُ من قِبَل الملك في البُداءة إلا للدعاية. وتُسْفِرُ هذه العَمَاية عن استياءِ حَرَس الإسكندر القديم وتمردِه لحمل الإسكندرِ إياه على السجود أمامه على الطريقة الفارسية، ويؤدِّي عزمُه على مزج العادات الإغريقية بالعادات الآسيوية، بتزوجه عِدَّة أميراتٍ فارسيةٍ وبأَمْرِه أكابرَ ضباطِه أن يتزوجوا نساءً من طبقة الأشراف الفارسية، إلى إلقائه بذورَ الارتباك في الأمتين بدلًا من أن يُوَفِّق بينهما. ومن الممكن أن كان حبوطُ الإسكندر هذا يَصْلُح نذيرًا لنابليون وواقيًا له من كثيرٍ من خيبة الأمل.

وتَكْثُر المؤامراتُ مقدارًا فمقدارًا، ويدعو المَلِكُ ابنَ أخي أستاذِه أرسطو إلى كتابة تاريخ مآثره، فيَبْلُغ من الصراحة ما يتكلم معه ضدَّ السجود فيُقْتَل جَزَاء جُرْأته، ويَنِمُّ هذا القتل مرةً أُخرى على همجيِّ غابِ الإبير ورائِضِ الخيل والعاطلِ من حِلْيَتِه اليونانية الرائعة، وعملٌ مثلُ هذا يَضَع الإسكندرَ على مستوى أيِّ فاتحٍ فارسيٍّ كما يَضَعُه عليه إدخالُه طقوسَ عبادةِ المَلِك.

وما يراه الأعقابُ من الشأن في الصفات الخُلُقيةِ التافهةِ ظاهرًا والبارزةِ حقيقةً يُثْبِت من جديدٍ كَوْنَ المعاركِ الحربية والفتوحِ أمرًا زائلًا، ونَقْشُ الأخلاق وفَتْحُ القلوب هما اللذان يدومان، ولا تُسْفِرُ وقائع الإسكندر بين الأنهار والجبال، ولا يُسْفِر سَفَرُه إلى الهند واستيلاؤه على قسم من الشرق، عن غير ذكرى طاغيةٍ يسير إلى الأمام على الدوام، وذلك وَفْقَ ناموسٍ فاجع، لا للقيام برسالةِ تَمَدُّن. ونرى الإسكندرَ في نهاية الأمر، وبعد سنةِ استراحةٍ ذاتِ بَهْرَج، يستعدُّ لفتح بلاد العرب سدًّا لثُغْرَةٍ بين مركزين يسيطر عليهما وهما مصرُ وبابل، والواقعُ أنك تَجِدُ في كلِّ وقت ثُغْرَةً يجب على أحد الفاتحين أن يملأها ولو بَذَلَ في سبيل ذلك جُهُودَ حياته.

وكان عهدُ الإسكندر في أواخره من الانبساط والهَوَى ما لا ترى مثلَه في التاريخ. وكانت الوفودُ، في زمنٍ خالٍ من وسائل النقل ومن الطُّرُق في الغالب، تأتي من سُهُوب جَنوب روسية فتتدافع في إيوان سيد العالم هي ووفودٌ أخرى آتيةٌ من منابع النيل الأزرق كما تتدافع هي والإيبريون والسِّلْت والإتْرُورِيون والرومان والقرطاجيون … وكان الجميع مُتَسَوِّلًا مُلْحِفًا، وكان مهندسو الملك يعملون معًا في وضع مشاريعَ للمِلاحة حول جزيرة العرب ورِيِّ بلد الفرات واستعمارِ جزائر الخليج الفارسيِّ، وكان يقوم بَنَّاءون آخرون في البلد المَلَكيِّ بزخرفة معابدَ جديدةٍ في مُدُنٍ بالغةِ القِدَم، وذلك إلى وجود مُمَثِّلين للمآسي ومُشَخِّصين من اليونان.

ومات الإسكندر في الثالثة والثلاثين من سِنِيه بغتةً، وذلك بعد أن قام بأعمالٍ عظيمة مع أنها مُجَزَّأةٌ غيرُ قائمةٍ على خِطَّةٍ مُوَحَّدة.

ومع ذلك كان لطوافه القصير في الأرض من النتائجِ ما لا يُحْصَى، ومن ذلك أن انتشرت حضارةُ العصر وأغنى لغاتِه في مصرَ ونصفِ آسية، وأن انْتُحِلَتَا من قِبلَ أناسٍ مثقَّفين ومن قِبَل ملاحين من بعض الوجوه، وذلك على حين عاد سلطانُ الإسكندر السياسيُّ، سلطانُ نصف الإغريقيِّ هذا، لا يكون إلَّا من ذِكْرَيات الماضي منذ زمن طويل، وقد ظَلَّت لغة الأغارقة وحضارتُهم في أقسامٍ من جزيرة العرب ستَّمائة سنة، وفي سورية ومصر ألفَ سنة؛ أي إِلى حينِ الفتحِ العربيِّ. أَجَلْ، وَجَدَ الرومانُ، عند ظهورهم على مسرح التاريخ ممثِّلين لدَوْرِ فاتحي العالم بُعَيْدَ وفاة الإسكندر، الفُرْسَ والهندوسَ باقيين عِرْقًا، غير أنهم أبصروا الثَّقافة اليونانية منتشرةً فوقَهم كبساطٍ ثمين، أَجَلْ، لم يُدْخِل الإسكندر هذه الثَّقافة، غير أن الإسكندر كان أولَ من وَطَّدَها على مقياس كبير.

وكان الإسكندرُ، قبل أن يُخَامره خُمَارُ الفتح العالميِّ، قد قام بمآثرَ خالدةٍ تُعَدُّ دليلًا على ثَقَافته اليونانية، ففي تِبْ صانَ بَيْتَ الشاعر بنْدار، وفي فارسَ عامل أُمَّ الملك وزوجَه وابنتَه كما كان فرسان القرون الوسطى يعاملون نساءَ أعدائهم، وفي صُورَ سَمَحَ لسفراءِ قرطاجة بالعودة إلى بلدهم أَصِحَّاء سالمين، وفي الألِنْب نَشَر في أثناء الألعاب مرسومًا حَمَلَ فيه مُدُنَ اليونان على استرداد جميع مُبْعَديها السياسيين، فأحدث هذا الأمر ذُعرًا في أثينة لِمَا كان من توزيع أموال مُبْعَديها منذ عشرات الأيام، ويتقاطر المهاجرون إلى الأُلنب لكي يسمعوا ذلك التدبير المُحَيِّر الذي اتخذه ملكٌ عادل.

ومهما يكن من أمرٍ فإنه يظلُّ حَسَنَ السُّمْعَة ما كُسِرَت الحواجز بين الأغارقة والبرابرة، وما نُقِلَ تُراثُ اليونان من قِبَل رجلٍ غير إغريقيٍّ ولا نصرانيٍّ، وقد حَمَى هذا الرجلُ بحرارةِ الهمجيِّ الفتيِّ تُرَاثَ اليونان الذهنيَّ تِجاه فِتَنِه وحروبه الأهلية الدائمة.

٢٥

الإسكندريةُ هي عملُ الإسكندر الوحيدُ الذي ظلَّ باقيًا حتى أيامِنا، وفي آسية زالت المدنُ الثلاث أو الأربع التي شادها هذا العاهل وشَرَّفها باسمه كما زال أبناؤه وأزواجُه وأمُّه؛ أي جميعُ هؤلاء الذين قُتِلُوا، وكذلك لا ترى أثرًا للنُّصْب الذي أقامه في الحدود على الهِيفَازِيس بالهند ليَرَى الأعقابُ أين وَصَل عاهل البحر المتوسط الأولُ. وعلى العكس ظلت الإسكندرية باقيةً، لا لأنها ميناءٌ وحيدٌ على البحر المتوسط حيث تَكْثُر الموانئ؛ بل لأنها تَنِمُّ على فكرة عبقرية، على دستورٍ جديد؛ بل لأنها أولُ مدينة عصرية في العالم القديم ونَمُوذَجٌ للمرافئ في المستقبل.

وذلك الميناءُ جعل من الإسكندرية عاصمةَ العالَم الثَّقافيةَ في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد مع أن رومة كانت أقوى مدينة، وتَرْبِط الإسكندريةُ بين ثلاث قارَّاتٍ أحسنَ مما تَرْبِط أيةُ مدينة أخرى. وفي الإسكندرية كانت تُوجَد مكتبةٌ أشهرُ من مكتبات التاريخ وأكملُ من مكتبات العالَم الحاضر، وتُحْرَق هذه المكتبة بعد ثلاثة قرون من تاريخ إنشائها فيزول بذلك أثرٌ لا يُعَوَّض من آثار العالم القديم، ويمكن تشبيه بَلِيَّتِها بالانفجار الذي وقع على الأكروبول مؤخرًا، وبلغ مؤسِّسو المكتبة من الاغتباط بما جَمَعوه درجةً منعوا بها إصدار البَرْدِيِّ عندما حاولت فَرَغامُس١٢٤ نفسُها تأسيسَ مكتبة.

وكان أغنى ملوك العالم القديم يجتذبون بالذَّهب كِبَارَ علماء العصر، وفي الإسكندرية يَجْرَعُ حكيمُ الحكماء، إبيقورُ، الشمسَ والحكمةَ، وللمرة الأولى في التاريخ يُسَارُ بالعلم في طريق التقدم ويكافَأ العِلم الصِّرْفُ الخالي من الأغراض العملية، ولا يَفْرِض الأقوياءُ على أَيِّ شخصٍ كان ما يجب أن يَكْتُب أو يُفَكِّرَ فيه، فبذلك استطاع المصريون واليهودُ بعد زمن أن يُنْمُوا مبادئهم الهَدَّامةَ بعضَ الإنماء ضِمْنَ نِطاقِ تلك المكتبة، وكلُّ ذلك مَدِينٌ للإسكندر، وظَلَّ الروح وميناءُ الإسكندرية اللذان هما رمزا البحر المتوسط الكبيران أعظمَ ما أَوْجَد.

وكانت السفنُ تَشُقُّ عُبَابَ المحيط قبل الإسكندر، وصارت التِّجارةُ البحرية عصريةً فلم تَنَلهما يَدُ التعديل في عهده؛ وذلك لأن الإسكندر كان يرى الابتعاد عن المسائل البحرية، وهذا يُفَسِّرُ سرْعَةَ العَطَب في إمبراطوريته. ومنذ قرونٍ قبل ظهوره كانت نسائج الصين الحريريةُ وحجارةُ الهند الثمينةُ وذهبُ السودان وعَنْبَرُ بحر الشمال سِلَعًا تُجْلَب إلى موانئ البحر المتوسط الغنية، وكان المِلْحُ والشَّمْع والعسل والقَمْحُ والذهبُ والعبيدُ سِلَعًا تَصِلُ إلى بحر إيجِه آتيةً من الشمال الشرقيِّ مارَّةً من البحر الأسود. وكانت مِيلِه التي هي أغنى مرفأٍ في القرون القديمة تنافس صُورَ وغيرَها من المرافئ الفنيقية، لا دِلْتَا النيل التي كانت، والتي لا تزال، غيرَ منتظمة وغيرَ سَهْلَةٍ للمِلاحة، ولم يكن للنيل، الذي هو أكبرُ الأنهار وأكثرُها اتِّباعًا للهَوَى، من الصِّلَات بالبحر المتوسط غيرُ تواريه فيه بعد جَرَيانٍ طويلٍ، وذلك كالرائد الكبير الذي يموت بعد أن يُعْيِيَه الهَرَم في أثناء سياحةٍ يقوم بها في الخارج.

وبالنقود يُسْتَدَلُّ على حُظْوَة البحر لدى الأغارقة وعلى كلِّ ما يناسبه في زمنٍ عادوا لا يكونون فيه سادته بلا نزاع، والنقودُ تتبع ذوق الزمن في كلِّ مكان. ومما نراه على نقود إِفِيز وسَرَقُوسة وإيجِين وأَبولُونْيَة وبوزِئِيدُونْيَة وغيرها من المدن الكثيرة، صُوَرُ الدُّلْفين والمِرْساة والسَّبِيدَج وثعبانِ البحر وطيرِ البحر والسَّرطان، ويُرَى على قَدَحٍ مشهورٍ دِيُونِيزُوسُ فوق سفينةٍ ذاتِ ساريةٍ تُنْبِت الكَرْمة ويَنْضَجُ العِنَبَ عليها وذلك مع لَعِب الدَّلَافِين حَوْلَها.

والبحرُ كان، ولا يزال، بلدَ الأغارقة الحقيقيَّ، ويدلُّ ما سَجَّلَه إكْزِينُوفُون من هُتافٍ مشهور على الروح الإغريقية الحقيقية، وذلك أنَّه لما أَتَى برجاله اﻟ ١٠٠٠٠ إلى البحر الأسود وأبصرَ الجنودُ البحرَ بعد عِدَّة أعوام قَضَوْها في المغامرات هتفوا قائلين: «البحر، البحر، والبحرُ أخيرًا»، ولم يبقَ من تاريخ إكْزِينُوفُون الذي يَفْزَع منه شُبَّانُ الطُّلَّاب غيرُ هذه الكلمة الصغيرة.

وكما كانت المرافئ الكُبْرَى في القرون القديمة مراكزَ صِناعيةً، كانت السفن تسير ضمنَ حدودها الصغيرة في البحر المتوسط، وذلك كما تَصْنع البواخر التي تَصِل بين شواطئ البحيرات الأَلْبيَّة. وكانت جميع المرافئ حربيةً حتى سنة ٤٠٠ قبل الميلاد لِمَا كان من تَسَلُّحها. وكانت القَرْصَنةُ مباحةً في القرون القديمة، وكانت تُعَدُّ ضربًا من الفروسية كالتجارة البحرية، ولم يكتشف الأغارقةُ إلَّا مؤخَّرًا ما يمكن التجارةَ أن تأتيهم به، وهم في ذلك كلوردات الإنكليز الذين لم يبدءوا بإدارة المناجم والمصانع شخصيًّا إلَّا مؤخَّرًا. وكان الأغارقة يَسْخَرُون في دور ازدهارهم التجاريِّ حتى من المدن التي لا تتعاطى التجارةَ البحرية، وكانوا يَجِدُون مثلًا أن سكانَ سِيمَ قد اكتشفوا مصيرهم على ساحل البحر بعد الأوان بثلاثمائة سنة.

وكانوا في الحين بعد الحين يُنْشِئُون أرصفةً حسنةَ التخطيط ويُعَمِّقُون أحواضَ مرافئهم؛ وذلك لأن حُجُومَ سفنهم صارت تُزَاد سريعًا. ومع أن هِيرُودُوتْس قد تكلم في القرن الخامس قبل الميلاد عن وجود سفنٍ في النيل تبلغ الواحدة منها ١٣٠ طُنًّا صُنِعَ من المراكب الحربية بعد نصف قرنٍ ما يبلغ الواحد منها ٢٦٢ طُنًّا، كما صُنِعَ مركبٌ واحد على الأقلِّ يشابه القلعة العائمة بأبراجه وأقسامه العالية فانطلق من أثينة إلى سَرَقُوسَة كأنه من مُدَرَّعاتنا. ولم تَبْلُغ السفينة التي سافر بها كرِيسْتُوف كُولُونْبس غير ١٥٠ طُنًّا، مع أن سفينة «الإسكندرية» التي أُنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد فَعُدَّت أكبر سُفُن القرون القديمة، كانت ١٠٥٠ طُنًّا إذا ما نُظِرَ إلى وَسْقِها.

وكان يقابل تلك الحُجُومَ من السرعة ما يُقْضَى منه العَجَب حتى في زمن مُحَرِّكات دِيزِل الحاضر. ومن ذلك أن فريقًا من قراصين الفنيقيين كان يَقْطَع ما بين رُودُس وصور في ثلاثة أيام، أَي كان يَقْطَع ثلاثَ عُقَدٍ في الساعة الواحدة. ومن ذلك أن كان السَّفَر حَوْلَ صِقِلِّية يدوم أسبوعًا واحدًا بالسُّفُن الشِّراعية، ولم يكن في هذه السفن من السُّكَّانات غيرُ ما هو صالحٌ للتوجيه والدُّنُوِّ من الساحل. ويَرَى أرسطو أن المركبَ التجاريَّ الذي يَتَقدَّم بالجَذَّافين هو كالحشرة التي تكون أجنحتها من الضعف ما لا تحملها معه. وكان الرَّبَابِنَةُ يستعينون بالقُلُوس،١٢٥ التي ظَلَّت تُسْتَعْمَل إلى وقت قريب، لإلقاء مراسي السفن الكبيرة في الخُلْجان، ومع ذلك فقد بُكِّرَ في اتخاذ سلاسِل رَسْوٍ من حديد، ويظهر أن الإسكندر كان أولَ مَن استعملها؛ وذلك لأن سفنًا مربوطة بقُلُوس قد حاصرت مرفأ صُورَ فغَطَسَ في الماء جنودٌ من هذه المدينة المحصورة وقَطَعُوا قُلُوسَ سُفُنِ العدوِّ، فهنالك استبدل الإسكندرُ سلاسلَ بها. ويمضي زمنٌ طويل فيَرْوِي يوليوس قيصرُ أمرَ استعمالِ المراسي ذاتِ السلاسل من قِبَل غُولِييِّ الشمال على أنه خاصٌّ بهؤلاء!

ولم تبدأ جغْرافية البحر المتوسط إلَّا حوالي سنة ٥٠٠ قبل الميلاد في الحقيقة. وكان العبريون والأَرْغُنوت، ثم الملكُ سليمان، والشاعرُ أوميرس، يعتقدون أن الأرض قُرْصٌ مَبْسوطٌ محاطٌ بالبحر المحيط مع عَدِّ الأُلَنب مركزَه. وقد انهار هذا الرأي عند ظهور الخرائط الأولى التي رُسِمَت وَفْقَ الطبيعة، ومن دواعي الدَّهَش أن صُنِعَت هذه الخرائط من أجل أحد البرابرة، أن وضعها علماء اليونان من أجل الملك دارا. ومما وقع في ذلك الدور أن سار هِمِلْكُونُ القرطاجيُّ وشاطئَ أوروبة الغربيَّ فاكتشفَ الجُزُرَ البريطانية، غير أن الحكومة القرطاجية كانت من ضِيق الأفق كإحدى الحكومات العصرية ما أنكرت معه كرِيسْتُوف كُولُنْبُوسَها مُصَرِّحةً، عن حسدٍ أو عن مَكْرٍ، بأن الأطلنطيَّ غيرُ صالحٍ للملاحة.

وتمرُّ ستون سنةً، فيَعْرِض هيرودوتس على قومه صورةً جديدةً عن ذلك العالَم البعيد، فيصف المئاتِ من الجزئيَّات المنظورة أو المَرْوِيَّةِ بما عُرِف به من براعة القَصَص جامعًا بعض الأفكار المهمة، وكان على الشعراء في القرون القديمة أن يكونوا من علماء الفيزياء والتاريخ، ومن النادر في أيامنا أن يجمع الرجل في شخصه بين القابليات الأدبية والأهليات العلمية، وهذا ما يجعل مطالعةَ أشهر الآثار العلمية أمرًا شاقًّا. وكان هِيرُودُوتْس وتُوسِيديد وبلُوتَارْك من أكابر العلماء، وكانوا في الوقت نفسه من الشعراء الحقيقيين مع أنهم لم يركبوا مَتْنَ الخيال قَطُّ.

وبما أن الأغارقة قد ساروا بالعلوم الرياضية نحو الكمال فإن فنَّ صُنع الخرائط الجغرافية بلغ من التقدم السريع ما يثير الحَيْرَة. والمرءُ، حينما يفكر في أن غَلِيلُو وكِيبلِر أُصِيبَا بكثيرٍ من الأذى والألم والإهانة لاكتشافهما النظامَ الشمسيَّ، يرى أن البشرية رَجَعت القَهْقَرى بعدما كان من جَهْرِ فِيثَاغورس وأفلاطون بكُرَوِيَّة الأرض وما كان من إثبات أرسطو ذلك من غير أن يَعِنَّ لكاهنٍ أن يُعَارِض ذلك. وكان الإسكندر، ككلِّ فاتح، لا يبالي بغير ما استولى عليه من البلدان، فأمر بوصف آسية الغربية وبوصف الهند ولكن من دون أن يُرْسَمَا على الخريطة.

ولم يَحْدُث إلَّا بعده؛ أي في القرن الثالث قبل الميلاد، أن أُضيف إلى المناهج الدَّارجة منهاجُ قياس الدَّرَجات؛ أي الحسابُ الحقيقيُّ لأيِّ مكانٍ كان. ويُرَى المستوى العالي الذي بلغته الجغرافية عند اليونان بالمثال الآتي: فقد حَسَبَ إراتُوسْتِنُ موقعَ جبلِ طارق الجغرافيِّ فوجده ٢٦° ٢١ ٢٥ مع أننا نُعَيِّنُه في الوقت الحاضر ﺑ ٢٦° ٠ ٦ . ٣٠!
وإذ لم يكن عند مَلَّاحي القرون القديمة بوصلةٌ فإنه كان يتعذر عليهم أن يُعَيِّنُوا الاتجاهَ وَفْقَ الخَوَافق،١٢٦ وإنما كان يمكن هؤلاء المَلَّاحين أن يَدُلُّوا على ما يُسْتَطاعُ، أو لا يُسْتَطاع، النزولُ إليه من الرءوس والذُّرَى والصخور والأشجار كما كان يمكنهم أن يُعَيِّنُوا المحالَّ العالية؛ حيث يُمْكِنُ نَيْلُ الماءِ الصالح للشرب وحيث يمكن اتقاءُ الرِّيح. وكان لا يمكن في غير الصيف تَعَرُّفُ البروج التي عَرَفها الفنيقيون قبل غيرهم، ولا سيما الدبُّ الأصغرُ الذي يُنْتفَعُ به في تعيين الاتجاه، فكانت المِلاحة تَقِفُ في الشتاء لهذا السبب تقريبًا. وقد وضع الأغارقةُ مبادئ المِلاحةِ هذه وَضْعًا مضبوطًا، فلما أُنْشِئَت أولُ مدرسة بحرية في شَلَمنْقَة حوالَي سنة ١٥٠٠ بعد الميلاد انتفعت بمعارف أُقْليدس وبَطليموس التي بلغت من القِدَم ثمانية عشرَ قرنًا وأربعةَ عشر قرنًا.

وإذا ما قابلنا بين ما وقع من تقدُّمٍ في القرون القديمة وفي زماننا لم نَجِدْ اختلافًا عظيمًا بين أثينة وباريس في النهار، وأما في الليل فعلى العكس يَبْدُو ليلُ عالَمِ القرون القديمة مظلمًا محزنًا، وما كان المَلَّاح العصريُّ ليستطيع أن يَعْرِف الجهاتِ إذا لم يُبْصِرِ الشاطئ المُنَار من مَسافة كيلومتراتٍ كثيرة إذا أبصر الخطَّ الداجنَ الذي كان ينتظر طلوعَ الشمس مُكْتَئِبًا في ذلك الزمن، حتى في أكبر المرافئ كانت النار التي تَسْطَعُ قاتمةً في الهواء الطَّلْق تقوم مقام المِصباحِ العجيب الدَّوَّارِ الذي تَعَوَّدناه، ويلوح أن أُولَى هذه النيران قد أُوقِدَت في البيرِه على ذُروة عمودٍ كورنثيٍّ حَوالَي سنة ٤٠٠ قبل الميلاد. وكانت تَسْطَع نارُ القُرْبان المُخَصَّص لأتِينة في الأسفل قليلًا وعلى هيكلٍ مستدير، فبذلك كانت الآلهةُ الحامية للنار تُرْسِلُ نورَها الخاصَّ إِلى المَلَّاح الذي يقترب باديةً رمزًا لمنبع الأفكار الملائمة للإنسان بما يُورِّث العجب.

وكان منارُ الإسكندرية أشهرَ مناور القرون القديمة وأدعى ما في تاريخ جميع البحار إلى العجب، وكان ميناءُ الإسكندرية يستحق الإعجاب فضلًا عن ذلك، وكانت أسوارهُ قد أُنْشِئَت موازيةً للشوارع وَفْقَ نَهْجٍ جديد في ذلك الحين. وكان يتألف من رصيفٍ فنيٍّ متين بالغٍ من الطول فرسخًا مرفأٌ مزدوج ينتهي إِلى قِبَابٍ ذوات مخرجين، ومع أن الممرَّ الغربيَّ لا يتصل بمياه النيل صار المرفأَ الرئيسَ لسهولة الدفاع عنه، وفُصِلَ الممرُّ الأصغر فَحُصِّن حتى في زمن أنطونيوس على حِدَة. وكان المرفأ الأكبر من اتساع المكان ما يَصْلُح معه ملجأً لأكبر السفن ومحطًّا لسلعها، وهو في ذلك كنِيُويُورك التي يمكن أن تكون مأوى لبواخرَ ﮐ «النُّورْمانْدِي».

وكان المنار يَبْرُزُ في أقصى الرصيف من ناحية الغرب فيُشْتَقُّ اسمه من جزيرة فاروس التي يَصِلُها رصيفٌ بالشاطئ. وقد دُعِيَ كثيرٌ من الأبراج المُنَارة في كثيرٍ من اللغات ﺑ «الفنارات»، كما أن كلمة قيصر أتت من كلمة سِزَار. وكانت ناطحةُ السحابِ الثانية في التاريخ هذه (وقد كانت ناطحةُ السحاب الأولى قائمةً في صورَ منذ زمنٍ طويل) بالغةً من الطول ١١٠ أمتار، وكانت من طِراز البناءِ ما يُوصَلُ معه إلى بابها الذي يَعْلُو مستوى البحرِ خمسةَ عشرَ مترًا ركوبًا على الحِصان فوق سُلَّمٍ مائل، وما كان من شكل هذا البرج الجليل المُثَمَّنِ الزوايا في الطبقة الثانية والأسطوانيِّ في الطبقة الثالثة يُعَدُّ بِدْعًا في فنِّ البناء. وكانت نارُ المنار مُغَطَّاةً بسقف؛ أي مُصَانَةً من المطر والعاصفة بعضَ الصِّيَانة، وبما أن نار الحطب والقَطْرَان لا تُرَى إلَّا من مسافة سبعة أميالٍ بحرية على الأكثر فقد صُنِعَت مرآةٌ مُقَعَّرةٌ يصير بها مدى النُّور عشرين ميلًا بحريًّا، فكان هذا الاختراعُ من الأهمية ما يُقاس معه بالنور الكهربيِّ.

وقد عُدَّ بُرْج الإسكندرية من عجائب الدنيا مدة ستةَ عشرَ قرنًا، وقد أَنْقَذَ حياةَ ما لا يُحْصيهم عَدَدٌ من المَلَّاحين، وقد طال أَمَدُه على الرغم من جميع الزلازل، فلما كانتَ سنة ١٣٠٠ انهار، وجاء هذا الانهيارُ مطابقًا لِما مُنِيَتْ به آثارٌ يونانيةٌ أخرى.

٢٦

ظَلَّت حياة الإسكندر حادثًا بسيطًا في تاريخ البحر المتوسط، ومع ذلك كانت أمم البحر المتوسط تتلقى أوامرَه مرتجفةً ضارعةً إلى آلهتها أن تُبْعِدَه عنها بأن تجعله يُوغِلُ في الشرق، فلما مات وانهارت إمبراطوريته عادت رومة وقرطاجة إلى الاصطراع ولكنْ بوسائلَ واسعةٍ في هذه المرة.

وقد صارت دولةُ الفَلَّاحين البريةُ رومةُ دولةً بحريةً لضغط قرطاجة إياها، وذلك كإنكلترة في أثناء كفاحها ضدَّ النورمان، وكلٌّ منهما مَدِينٌ بعظمته لضرورة الدفاع عن النفس، وكلٌّ منهما اقْتَصَّ من الخصوم الأقوياءِ في نهاية الأمر. ففي مدرسة الضرورة الكبرى تَخَرَّجت الأمم كما تَخَرَّج الأفراد، ولم يَتِمَّ أعظمُ الاختراعات حينَ الرَّغَد، بل وقتَ الضِّيق، شأنَ أصحابِ السجايا العظيمة الذين يكون الخَطَرُ عاملَ ثباتٍ لهم في الغالب. وقد استطاع بعض الأقوام كالمصريين، وبعضُ العباقرة كسُوفُوكل وغوتة، أن يَنْمُوا نموًّا متوازنًا منسجمًا، وهم، حتى في هذه الحال، كانت تُخامِرهم فِتَنٌ باطنيةٌ غيرُ بادية ولكنها حقيقية.

وقد دام اصطراع رومة وقرطاجة في سبيل سيادة العالم ١٢٠ سنة وانتهى بانتصار رومة. وكانت رومة تتمتع بثلاث مزايا في البُداءة، وهي أنها كانت صاحبةَ قاعدةٍ في وَسَط البحر المتوسط، وأنها كانت قادرةً على تطبيق عَتَادِها الطبيعي في المعارك البرية على المعارك البحرية، وأنها كانت تشتمل على أهلٍ أشدَّ فقرًا وأكثرَ طموحًا وأعظمَ مُرُونًا على الحرب وأظهرَ إخلاصًا من أغنياء قرطاجة وتجارها الذين كانوا راغبين في التمتع بغناهم آمنين ظانِّين إمكانَ الدفاع عن بَيْضَتهم بجنودٍ من المرتزقة. وكان القرطاجيون كأغنياء مانشستر الذين ظَلُّوا حتى سنة ١٩٠٠ يزعمون قدرتَهم على مزاحمة ألمانية الفتاة بآلاتهم القديمة، فحافظ القرطاجيون على أساليبهم الابتدائية التي تَرْجِع إلى القرن الخامس قبل الميلاد مُقَدِّرين أن ما استقرَّ من تقاليدهم واحتكارهم يدوم إلى الأبد، ومع ذلك حَلَّ الوقت الذي أبصر فيه زُبُنُهم من الإسبان أن الآلاتِ في صِقِلِّية من أحسن جنسٍ وأن الآنيةَ في صِقِلِّية من أجمل نوع.

ومع ذلك وُفِّقَت قرطاجة البالغُ أهلُها أربعَمائة ألفِ إِنسان، وذلك بما لديها من الذهب؛ ليكون عندها من الجنود، الذين كان عددهم ستين ألفًا، ما يُشَلُّ به، لِقَرْنٍ آخرَ، ملايينُ السكان الأربعةُ الذين هم أهلُ مستعمراتها الأفريقية والإسبانية، وذلك كما فَعَل الإنكليز إلى وقتٍ قريب.

ويموت الإسكندر حَوالَي سنة ٣٠٠ قبل الميلاد فتظلُّ قرطاجة ورومة وحدَهما دولتي ذلك الزمن الحقيقيتين. وكان الأغارقة قد خَسرُوا من سلطانهم البحريِّ بمقدار ما رَبِحُوه من النفوذ الثَّقافيِّ في عهد الإسكندر الأكبر. وقد جَرَّب بعض الأغارقة المغامرين، كأغَاتُوكل الصِقِلِّي، حَظَّهم ضد قرطاجة فاستولَوْا على تونس ووَتِيكَة اللتين لم ينزل إليهما عَدُوٌّ منذ أقدم الأزمان، غير أن هؤلاء الأغارقة رُمُوا من هذه الشواطئ في نهاية الأمر كما رُمُوا من مُعْظَم صِقِلِّية. وقد بلغت قرطاجة من بُعْدِ الصيت ما صار كثيرٌ من المستعمرات الإغريقية يرى معه أن من السعادة وقوعَه تحت حماية قرطاجة. وفي ذلك الحين كانت الإمبراطورية القرطاجية تشتمل على جزائر البَلِيار، وعلى مالطة ونصفِ مَرَّاكِش وإسبانية، وعلى قُورْسِقة، وعلى قسم كبيرٍ من صِقِلِّية وسَرْدِينْيَة، وعلى لِيبْيَة. وكانت اللغة البونِيَّةُ؛ أي القرطاجيةُ، لغةَ هذه البلاد الرسمية، وكانت جميعُ هذه الأممِ تابعةً وإن كان يُطْلَق عليها اسمُ «حُلَفاءَ» مداراةً.

وكانت بحريةُ قرطاجة الحربية مؤلفةً من مَلَّاحين منتسبين إلى الشعوب الأجنبية: الإسبان والسِّلْت والقُورْسِقيين والنُومِيدِيِّين، ولم يكن القرطاجيون ليشتركوا في المعارك إلَّا عند غَزْوِ بلدهم؛ أي كانوا لا يشتركون فيها أبدًا. وكان «الجيش المقدَّس» المؤلف من فِتْيانٍ هِيفٍ يُبْدِي من المظاهر الحربية ما كان يَمِيسُ معه حاملًا تُرُوسًا مذهبةً وأسلحةً ثمينة. وكان هؤلاء الشُّبَّانُ يَعْرِضون أمام النساء غُمُودَ سيوفِهم العاجيةَ من غير أن يستعملوا هذه السيوفَ أبدًا على ما يُحتمل. ومع ذلك كان هذا الجيش يُلْقِي هَوْلًا بفضل ما عنده من فُيُولٍ يُمْكِن تشبيهُها بالدبَّابات الحاضرة، فتَعَلَّم القرطاجيون وجهَ الانتفاع بها على غِرار الإسكندر الأكبر الذي كان قد أتى بفيولٍ من السِّنْد، ولما بَدَت الفِيَلَةُ الأولى في إيطالية أمالت الميزانَ إلى ناحية قرطاجة.

وكان القرطاجيون مَلَّاحين مرهوبين، وقد انتفعوا في هذا المضمار بما للفنيقيين من تقاليدَ تالدةٍ. وكانت سفنهم التجارية قد تَحَوَّلت إلى مراكبَ حربيةٍ رائعة، وذلك لأنهم أولُ من جَعَلَ هذه المراكب ذاتَ أربعةِ صفوفٍ وخمسةِ صفوفٍ من الجَذَّافين على مقياس واسع. وكان القرطاجيون يَشْعُرون، وهم على المراكب، بأنهم في منازلهم، وكان المِقْذافُ أحبَّ إلى القرطاجيين من المِزْراق، فيُفَضِّلُ القرطاجيُّ، كالإنكليزيِّ، أن يَخْدُمَ في السفينة على الخدمة في عَرَبَةٍ حربية. وقد كان الأسطول القرطاجيُّ من القوة البالغة ما خَسِر معه خمسمائة مركب في معركة بحرية ضدَّ رومة من غير أن يَخْرُج من الميدان. ولَمَّا أنشأ الرومان أولَ أسطولٍ حربيٍّ لهم استوحَوْا مركبًا قرطاجيًّا ذا خمسة صفوف من الجَذَّافين دَخَلَ في الرمل بالقرب من مَسِّينة.

وكانت الطبيعةُ تُمَثِّلُ دورًا حاسمًا في تلك المعارك التي تَهُزُّ عالَمَ ذلك الحين، فكانت الغاباتُ الكثيرة في إيطالية الوسطى في ذلك الزمن تَمُنُّ على الرومان بخشبٍ أمتنَ في إنشاء السفن من خشب صِقِلِّية الذي يَنْتَفع به خصومُهم. وكانت قرطاجة في مركزٍ دون مركز رومة من ناحيةٍ أخرى، وذلك أن موانئها كانت تُفَلْطَحُ فتكون في وضع صعبٍ للدفاع، ومع ذلك ما أصغر هذا وما أضيقَه! يَعْسُرُ على السائح الذي يكون أمام هذه البقايا التي تثير الشفقة أن يُدْرِك كيف كان يمكن دولةً عالميةً أن تَجِدَ هنالك مركزًا لها، ولا بُدَّ من أن يكون تاريخ كلٍّ من قرطاجة ورومة غيرَ ما انتهى إليه لولا رملُ المرافئ القرطاجية وخشبُ الأرياف الرومانية القاسي.

ومع ذلك فإن كلَّ واحدة من المتنافستين، رومة وقرطاجة، قاتلت الأغارقةَ بجانب الأخرى في صِقِلِّية، وذلك قبل تصادمهما، فاستعان الأغارقة بأحد ملوك البلقان بيرُوس، وكان بيروسُ، هذا الآتي من الشمال الشرقيِّ، يَعُدُّ نفسه خليفةَ الإسكندر الأكبر فيَطِيرُ من نصرٍ إلى نصر، ولكن بيروسَ هذا، الذي يدلُّ ظاهرُه على أنه من الصَّقالبة، لم يكن في الأساس غيرَ أفَّاقٍ عاطلٍ من الأرض والإيمان، فلم يَلْبَث أن أضاع جميعَ ما نال في بدءِ الأمر. وتظلُّ صِقِلِّية، التي هي مركز البحر المتوسط والتي هي أروعُ رِهَان، قبضةَ الحليفتين، وستكون مدارَ صِرَاعٍ قاطع لا ريب.

ونُدْرِك ما اشتملت عليه الحربان البونِيَّتان الأُولَيَان اللتان دام أمرهما ثلاثًا وستين سنةً فقُضِيَت أربعون منها في العمل الحربيِّ، فانْظُرْ إلى الأرقام تجد ١٥٠٠٠٠ جنديٍّ رومانيٍّ وأربعمائة سفينة حربية، وانظر إلى المساوفِ المُصَغَّرَة كثيرًا وإلى عدد السُّكان تَجِدْ ما تقول معه مُؤَكِّدًا إن هذه الحروب فاقت حروبنا الحاضرة بنسبة عشرة في مقابل واحد من حيث الديمومةُ وما انْتُفِع به من الجنود.

ولِمَ ضَحَّت الأُمتان المتنافستان بأجيالٍ كاملة في سبيل تَيْنِك الحربين؟

ذلك لأن أمةً فَتِيَّةً حازمةً كانت ترغب في السيطرة على البحر المتوسط فَتُذيع أنه «بَحْرُنا» بعد انتصارها البحريِّ الأول في مِيلِه سنة ٢٦٠ قبل الميلاد، وأخيرًا يُنْصَرُ الرومان في البحر بعد أن غُلِبوا عِدَّةَ مراتٍ في سنين كثيرة، وذلك بمَكِيدَة جديدة، وذلك بما رَمَوْه من جُسُورٍ على ظُهُورِ مراكب العدوِّ بغتةً.

وتصبح صِقلية أولَ ولايةٍ لرومة الفتاة فيما وراء البحر، كما تصبح أولَ هُريٍ١٢٧ ليَسَارِها، وتصبح سَرَقُوسَة التي هي أكبرُ من رومة وأجملُ منها مستعمرةً رومانية. ورومةُ هي التي لم تكن حُرَّةً في إرسال سُفُنها إلى حيث تريد فصارت اليوم قادرةً على إلزام قرطاجة بتقليل مستعمراتها، وصارت اليوم دولةً بحرية في القسم الغربيِّ من البحر المتوسط، وهي ستنمو بسرعة، وهي ستدوم ستَّمائة سنة. وقد أنشأت رومة أسطولًا جديدًا بالغرامة العظيمة التي أخذتها من منافِستها الغنية، وقد صنعت رومة ذلك من غير أن تُبْدِيَ أممُ البحر المتوسط الأخرى أيةَ مقاومةٍ كانت، وما كان من الحروب الدائمة بعد موت خلفاء الإسكندر أَلْهَى قُوَاها وصَرَف أبصارَها عن قوة رومة الحربية الناشئة، وما كان من فسادٍ في ناحيةٍ ومن ازدهارٍ في الناحية الأخرى أنْسَى ما في القضاء على المنافس الجديد الخَطِر من فائدة. وما كانت تتمتع به مصر من رخاء كبير حال دون اتخاذها أيةَ مبادرة كانت، ومصرُ، التي هي أغنى دول البحر المتوسط في ذلك الحين، صارت خاضعةً للقائد بطليموس بعد موت الإسكندر، كما أن ذرية هذا القائد سيطروا عليها في القرون الثلاثة قبل الميلاد.

وكانت رومة في دور إقبالها تُبْدِي جميعَ صفات الشعب السليم الصَوَّال الوَلُوع بسيادة العالَم، فتحاول توسيع رُقْعتها في الشرق من غير أن تقاتل الأغارقة في ذلك الحين، وهي، على العكس، قد عاهَدَت الأغارقة ضدَّ المقدونيين في أول الأمر. ولَمَّا استقرت أولُ سفارةٍ رومانية بأثينة وكُورِنْث رَضِيَ الأغارقة أن تكون رومة شريكتَهم في اللَّعِب بالدرجة التالية ووافقوا على قبولها في الألعاب البَرْزَخِيَّة. ومن المحتمل أن كان لا يتكلم غيرَ اللاتينية ذلك البطلُ الرومانيُّ الأولُ الذي اشترك في تلك الألعاب الإغريقية التقليدية حوالَي سنة ٢٣٠ قبل الميلاد ففاز بإكليلٍ من الغار مثيرًا إعجاب حُضُورٍ منحطين، ومما لا ريب فيه أن كان ذلك البطلُ يَرْمِي الإطارَ إلى ما هو أبعد من منافسيه أو كان يَضْرِب الرَّقْم القياسيَّ في السرعة، بَيْدَ أن هذا البطل كان يَرْمُز إلى وعيد الغرب الشابِّ، بَيْدَ أن هذا البطل جاء رسولًا لينذر الأغارقة بالدَّوْر الجديد.

وكانت قوة رومة الفتاة تُلْقِي أشعتها نحو الشمال فضلًا عن الغرب والشرق. ورأى الرومان أن يدافعوا عن أنفسهم من تلك الناحية تجاه هَجَمات الغوليين فأبرموا معاهدةً مع القرطاجيين مقتسمين وإياهم إسبانية ومناجمَ فِضَّتها مُثِيرين بذلك حربًا أخرى ستؤدي إلى إخراج وجهٍ خالدٍ من تاريخ البحر المتوسط.

والأُسَرُ الكبيرةُ التي يَزِيد الأبناءُ والحَفَدَةُ فيها تُرَاثَ آبائهم الفنيَّ أقلُّ من الأُسَرِ التي يُبَدِّد الأبناءُ فيها تُرَاثَ الآباء، ويتألف من تَنَضُّد تُرَاث الجيل الفنيِّ فوق تراث جيلٍ آخرَ منظرٌ عجيب بين النَّحَّاتين والموسيقيين لا يمكن تبديده، وعلى العكس يُبَدَّد سريعًا تُرَاثُ الآباءِ حيث يكون السلطانُ والمالُ في الأُسَرِ المالكة أو أُسَرِ التجار الكبرى، ومثلُ هذه الأُسَرِ كثيرٌ في القرون القديمة، ولكن على قِلَّةٍ بين الملوك ومع عدم وجودٍ بين «العصاميين» …

ويَشْغَل هنيبال وهَزْدرُوبال وهَمِيلْكار مكانًا عاليًا في تاريخ البشر مع أن أبناءَ الأسرة الآخرين لا يمتازون أبدًا، ويوجد حول رءوس هؤلاء الأشبال، كما كان أبوهم يدعوهم، إكليلُ مجدٍ كإكليل الإسكندر، ولكنه أكثرُ فَجْعًا، وقد كانوا أبطالَ مأساةٍ بارزين فرُفِعَ شأنهم بحبوط خِطتهم العظيمة. ومن الواضح أن هَمِيلْكار الذي هو زعيم الطبقة الوسطى وقائدها في قرطاجة هو واضع الخِطة الحربية ضِدَّ رومة، ثم نَقَلها إلى ابنه الذي نَفَّذها، ولا رَيْبَ في أن هَمِيلْكار كان يَشْعُر بموته قبل الأوان، وذلك لطلبه من ابنه هنيبالَ البالغِ من العمر تسعَ سنين أن يُقْسِم على تنفيذ خِططه فيما بعد. ويُدْرِك هَمِيلْكارُ ما في التوسع الرومانيِّ من أخطار على قرطاجة، وذلك بُعَيْدَ حروبٍ قاسيةٍ ناجحة اضطُرَّ القرطاجيون إلى شَنِّها ضدَّ قبائل ليبية ومَرَّاكِش العاصية. وقد قاتل هذا القائدُ القرطاجيُّ الرومانَ في البحر وفي عشرات الأيام، وذلك بين جزيرةٍ وجزيرةٍ وعلى الشواطئ وفي المرافئ، ومع ذلك فقد تمَثَّلَ خِطةً تَهْدِف على مقياسٍ واسع إلى الهجوم بَرًّا على أحدث دولةٍ بحرية من قِبَل أقدم دولة بحرية، وقد قضى أعوامًا في إسبانية لوَضْع أُسُس تلك الخطة. ولما قُتِل في إحدى المعارك آلَتْ قيادة جيشه إلى ابنه هنيبال الذي كان في الخامسة والعشرين من سِنِيه، وقبض هنيبال على زمام القيادة بعد انتصارات الإسكندر الأولى بمائة سنة، فكان يمكنه أن يُشبِّه نفسه به عن فَتَاءٍ، وهل كان جميلًا كهذا العاهل الأكبر وقد وَرِث مثلَه سلطانًا وإِن لم يَرِثْ عرشًا؟ تتعذر معرفة ذلك؛ وذلك لأن التمثال الموجودَ بنابل والذي يَحْمل اسمه لا يشابهه في الحقيقة، وهو قد رُبِّيَ جنديًّا كالإسكندر. وكان نصفُ الهمجيِّ هذا خفيفَ الجسم فارسًا مسايفًا عنيفًا فنال تربية يونانية كالإسكندر، ولا سيما من قِبل مُعَلِّمٍ إسبارطيٍّ، وإذا لاح أن هنيبال قد فاق جميع جبابرة اليونان بمَكْرِه فقد وُصِف بأنه أكثرُ إنسانيةً من خصومه الرومان على الأقل، ويظهر أنه أَبْطَل القرابينَ البشرية.

ولا ريب في أنه كان قد تعَلَّم من مُعَلِّمه الإسبارطيِّ فنَّ قيادة الرجال الذي امتاز به، وقد اقتبس عن أبيه علم الأسلحة والتعبئة، وما كان ليَجِدَ معلمًا خيرًا منهما. وكان يخامر الأبَ والابن شعورٌ تاريخيٌّ بأن صِراعًا يقع بين الأمتين حتى الموت، وبأنهما اخْتِيرَا للسَّيْر بهذا الصراع حتى النصر. وكان يخالج كلًّا منهما مشاعرُ شرف وانتقام؛ وذلك لأن رومة كانت قد جَرَّدت قرطاجة من سلطانها في أفريقية واغتصبت منها جزيرةَ سَرْدِينْية بالتهديد.

ولم يكن ذلك الذي تَمَثَّلَ له، حَوالَي سنة ٢١٨، أن يستولِيَ على إيطالية بأن يَجُوبَ إسبانية والغُولَ فيجاوز جبال الأَلب والأَبنِينَ أقلَّ إقدامًا من الإسكندر في القفقاس.

وكانت حَيْرَةُ إيطالية عظيمة، ومما زادها حيرةً عدمُ امتلاكِ الحِلف الإيطاليِّ لِسُفوح الألب بَعْدُ، وكونُ هذه السُّفوح مُلْكًا لقبائلَ سِلْتِيَّةٍ. ويظهر أن هنيبال قد مَرَّ من شِعْبِ سان بِرْنار الذي سار عليه نابليون بعد ألفي سنة، غير أن الثلج قد دِيسَ بفيُولٍ كانت أقلَّ إيلافًا للشتاء من شِبَاه الإسبان المرتزقين الذين كانوا يَعْرِفون قَرَّ جبال نِيفاده على الأقل.

وقد نُقِشَت في ذاكرة الرجال ذكرى هذه الفُيُول التي نُقِلَت على أطوافٍ فوق نهر الرُّون وجابت جبال الألب فصُوِّرَت على طبقٍ قديم مع وجودِ أبراجٍ عليها يقوم بالرَّقابة منها رجلان مُسَلَّحان كما لو كانت من دبَّاباتنا. وقد تَكَلَّم بحماسةٍ تِيتْ لِيفُ وغيرُه من مؤرخي الأعداء عن تلك الرِّحلة الكثيرة الخَطَر على ذلك الإفْرِيقِيِّ المِقْدام، وما هو عدد ما هَلَك من هذه الحيواناتِ الهائلة التي أُتِيَ بها من قارَّةٍ أجنبية، وذلك بفعل الجوِّ وبما كان من سقوطٍ في المسايل، وذلك حين المرور من دُرُوبٍ لم يتعودْها غيرُ البغال. وقد جَلَبَ هنيبال من الرُّون حتى جوارِ تَورِن نحوَ أربعين ألفَ رجلٍ في ستة وعشرين يومًا فهَلَكَ نصفهم في أثناء مقاتلة السُّكان، وقد استولى الرُّعْب على السُّكان في بدءِ الأمر، ثم لم يَلْبَثُوا أَن أبْدَوْا عنادًا ضاريًا، ولا يُقَاس هذا الاجتيازُ الذي تُعَدُّ حملةُ بونابارتَ بجانبه تَوَقُّفًا إلا بمجاوزة بُولِيفار لجبال الأَنْد في سنة ١٨١٥.

وتدلنا الصورة الثانيةُ التي انتهت إلينا من تلك الحرب على أَرْشِميدِس بسَرَقُوسَة وهو يُبِيدُ من الشاطئ سفنَ الرومان بمراياه المحرقة ومَجَانقه، وهو يضرع إلى الجنديِّ الرومانيِّ الذي يريد قتلَه أن يَمْنَحه بضعَ دقائقَ لحلِّ مسألةٍ رياضية. وتدلنا الصورة الثالثة على كُلَّابٍ اخترعَه هنيبال؛ أي على نظامٍ جديدٍ للقتال استطاع به أن يَحصُرَ ويُبِيدَ، في كان جيشًا رومانيًّا أقوى من جيشه مرتين.

وما أَغْنَى هذه الحربَ، التي يتطلب وصفُها مجلدًا خاصًّا، بالمناظر الروائية! وأروعُ الجميع هو الصِّراع في سبيل سيادة العالم وَتَجَلِّي هذا الصراع في مبارزةٍ بين غُلَامين. والواقع أن سِبيُونَ الرومانيَّ كان في الثامنةَ عشرةَ من سِنِيه عندما شاهد انتصارَ عَدُوِّه الأكبرِ هنيبالَ في تِيسَّنَ للمرة الأولى. وكان المُعَلِّمَ لِسِبيُونَ أيضًا أبوه الذي قُتِل في معركةٍ بإسبانية فيحاول الانتقامَ له، ويَدَلُّ على النساء مع ملامحَ روائيةٍ وخُصَلٍ طويلة فيَبْدُو شابًّا من الطراز الأول ويُعامَل على هذا الوجه، وكان يَصْدُر عنه شُعَاعٌ كشعاع هنيبال فيتمادحان كما لو كانا من الشعراء الجَوَّالين. وتُطْبَعُ هذه الحربُ بوقائعَ كثيرةٍ أدت إلى تخريب إيطالية في ستَّ عشرَةَ سنة، ويَرَى هنيبالُ المنصورُ أنه وُقِفَ أمام رومة في الساعة الأخيرة، ويُعَاق في صَوْلته ويَهْجُرُه إخوانُه الأغبياءُ نهائيًّا ويَعُود إلى وطنه تَعِبًا شائبًا عن غَمٍّ فينصحُ قومَه بالصلح.

ويُكْرَه على مغادرة وطنه خائبًا مُبْعَدًا.

وكان يمكن هذه الحياةَ الفاجعةَ أن تُوحِيَ إلى شكسبير، وقد سَجَّلَ التاريخ عنادَ الرومان ووطنيتَهم كما سَجَّلَ براعَتَهم في تلقِّي دروسٍ من العدوِّ، فقد اقتبسوا طِرَازَ المراكب الحربية القرطاجية واقتبسوا فنَّ القرطاجيين الحربيَّ فاستطاعوا أن يقاتلوا في إسبانية وأفريقية وأن يَحْمِلوا هنيبالَ، هذا البطلَ الذي أُسِئ جزاؤه، على الفرار إلى آسية الصغرى للبحث عن حلفاءَ ضدَّ رومة.

وتمضي أربعون سنةً على بدءِ هذه الحرب العالمية، ويُنْسَى هنيبالُ تقريبًا، ويؤلمه أن يُبْصِر جلاوزةَ١٢٨ الرومان أمام بيته فيزدرد السُّمَّ.

ومن الراجح أن يكون سِبيُونُ، الغالبُ في هذه الحرب والذي وُفِّقَ لإقامة دولةِ رومة العالميةِ نهائيًّا، قد مات في السنة التي مات فيها هنيبال، وهو قد تُوفِّيَ في مَنْفًى اختياريٍّ مُشَاطِرًا بذلك مصيرَ كثير من أبطال القرون الأولى، وهو قد أوصى بألَّا يَرْقُدَ في أرضٍ رومانية.

٢٧

ولانتصار الرومان نتائجُ لا تُحْصَى، فقد صار البحرُ المتوسط بعد الحرب البونية الثانية؛ أي جميعُ العالَم المعروف في ذلك الحين تقريبًا، مُلْكًا لهم، وظلَّ قبضتَهم خمسة قرون، وداومت قرطاجة على العيش، وعاشت مُرَفَّهَةً حينًا آخر، وغدت مدينةً تجارية بلا مستعمرات. بَيْدَ أن هذا الشعبَ لم يُنتج غيرَ تجارته، فلم يكن عنده، كما عند أثينة، حضارةٌ، ولا شعراءُ وقِصَصٌ فاجعة، ولا معابدُ وتماثيلُ، ولا فلاسفةٌ وعلومٌ طبيعية، وقد زال اسمه سريعًا مع أن الأغارقة الذين نُزِعَ سلطانُهم السياسِيُّ منهم لا يزالون ذوي نفوذ يزيد قوةً مقدارًا فمقدارًا.

وأخذت رومة الظافرة ترسل مراكبَها الحربية وكتائبَها ضِدَّ اليونان، ورومة هي التي كانت تَلْزَم خِطَة الدفاع تجاه قرطاجة وتُهَاجَمُ كثيرًا حتى سنة ٢٠٠ قبل الميلاد فصارت تبحث لنفسها عن فُتُوح. ولما وُحِّدَت إيطالية تقريبًا وتقدمت نحو جبال الألب في الشمال واستولت على لُنْباردية ثم على لِيغُورْية، كانت الضرورة هي التي تدفعها إلى حماية نفسِها تجاه الغوليين والسِّلْت الآخرين، وعلى العكس لم تكن مغازي الملكِ الشابِّ فليب المقدونيِّ في الشرق غيرَ ذريعةٍ للرومان. والحقُّ أن هؤلاء القوم الذين هم أمهر مَنْ في البحر المتوسط أخذوا يُدْفَعُون إلى حروب جديدة في البَرِّ والبحر عن رغبةٍ في السيادة العالمية. والحقُّ أن الرومان استطاعوا بين سنة ٢٠٠ قبل الميلاد وسنة ١٠٠ بعد الميلاد أن يُقِيمُوا أعظمَ إمبراطوريات القرون الأولى وإمبراطوريةً من أوسع ما عَرَف التاريخ.

وترى هذه الإمبراطوريةَ الأولى مدينةً في قيامها لتطبيق ناموس السكون على الأجسام المتحركة، وفي هذه المرة لم يكن الموضوعُ موضعَ برابرةٍ كالفُرْس ولا تجارٍ كالقرطاجيين، ولم يكن الرومان مرتجلين عن عبقريةٍ كالأغارقة فيذهبوا من جزيرةٍ إلى جزيرة وَفْقَ هواهم ووَفْقَ وَحْيِ الساعة عاطلين من خِطةٍ معينة ومن مركزٍ للقيادة ومتعاركين على الدوام، ولم يكن ذلك مِثْلَ رأي أحد الفراعنة الذي عَزمَ بغتةً على سَوْق جيوشٍ عظيمة ليَدَعها بعدئذٍ تَهْلِك في الصحارى أو البحار، ولم يكن ذلك كالغزو الخيالِيِّ الذي قام به بعض الفاتحين كالإسكندر عن حُلُمٍ في السلطان إلى أقصى حدود الدنيا، وإنما شاد الرومانُ إمبراطوريتهم في تلك القرون الثلاثة عن عَزْمٍ مُنَظَّم فكانوا يستولون على الولاية بعد الولاية متطاولين رويدًا رويدًا كما استطاع الإنكليز أن يقلدوهم به بعد زمن.

وإذا وُجِدَ من يَشُكُّ في أن بعض البصائر المنظمة سيطرت على السياسة الإنكليزية، وإذا وُجِدَ من يفترض أن كلَّ شيءٍ قُرِّر عندهم وَفْقَ وَحْيِ الساعة، فإنه لا يُقال أكثر من تَفَتُّحِ نظامٍ ذرائعيٍّ في رأس رجلٍ مثلِ سِبيُون أو يوليوس قيصر، وعلى العموم تُبْصِرُ رُؤَى الأكابر التي نُظِرَ إليها متفرقةً شخصيًّا قد حُفِظَت بعد حينٍ في القِصص والشعر والفلسفة. وما كان من انتظار الرومان حتى سنة ٣٠٠ قبل الميلاد لاختراع أسطورة انتسابهم إلى أُسُود تروادة هو من الرَّمْزِيَّة كتقليد قُوَّاد الرومان للإسكندر حينما وَلَّوْا وجوهَهم شَطْرَ القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط. أَجَلْ، كانت مقاومة قُوَى الرومان أمرًا متعذرًا، غير أن هذه القُوَى كانت تُعَدُّ غيرَ ذات معنًى لولا تعاقب الفتوح تعاقبًا رائعًا، ولولا هَدْف كلِّ شيء إلى سيادة العالم السَّلمية تحت شعار «السِّلْم الرومانيِّ».

ولم تَدُم الإمبراطورية الرومانية، التي لم تأخذ في التكوين إلا بعد سقوط قرطاجة، إلَّا بفضل سلطانها المُسَلَّح، وذلك كما اتفق للإمبراطورية البريطانية فيما بعدُ.

وكان سَيْرُ القُوَى في بحر إيجه وآسية الصغرى يختلف اختلافًا مُوجِبًا للارتباك، وإن ملكًا، كفليب المُتَعَوِّقِ وأَنْطِيُوخُسَ القويِّ، قد قاتل الرومان في مقدونية وسورية مُقَدَّمًا فأُمْسِكوا بعيدين من مصر. وبعدما قُهِر هنيبال طلب العَوْنَ لقرطاجة من فنيقية التي يَرْجِع إليها أصلُ أجداده، ولَاحَ كمن هو في ذِكْرٍ شِعْرِيٍّ حين عاد إلى الشرق ليبحث فيه عما كان محتاجًا إليه فلم يَجِدْه في الغرب، ولكن ملكًا شرقيًّا خادعًا قد خانه، ولكنه أضاع حياته في الحين نفسه. وكان النَّصْرُ يُكْتب للرومان في كلِّ مكان فوق البَرِّ وعلى البحر، ولما نُصِرَ الرومانُ لأول مرة في بحر إيجه سنة ١٩١ قبل الميلاد عُيِّن مصيرُ البحر المتوسط بأَسْرِه لقرونٍ كثيرة.

وكان الرومان دُهَاةً حينما كانوا يظهرون بمظهر المنقذ للأمم التي لم تَطْلُب منهم أن يُحَرِّرُوها قَطُّ، ولكن الأغارقة، أو ساستَهم الأذكياءَ على الأقل، كانوا من اللُّطْف ما لم يُبْدُوا معه عواطفَهم الحقيقية فاحتفلوا بعيد إنقاذهم مع الغالبين في الألعاب البرزخية كما لو كانوا غيرَ شاعرين بأن الكتائب الرومانية التي تتقدم تدوس حريتَهم تحت أقدامها. وكان النظامُ الرومانيُّ الجديد يقوم على حماية الدول الصغيرة تجاه الدول الكبيرة وعلى احتلال المراكز المهمة من غير فتحٍ للأملاك وعلى إضعافٍ للخصم في الداخل، فاتُّخِذَ هذا النظام مثالًا من قِبَل الفاتحين في المستقبل. ومَنْ يَنْظُرْ إلى وجه أَنْطيُوخُس الكبير في مُتْحَف اللوفر يُبْصِرْ ما يَنِمُّ عليه من مرارةِ أحدِ التابعين الأوَّلين لرومة وشَغْلِ باله، ولا بُدَّ من أن يكون فليب الخامس الملقب باليونانيِّ الأخير قد شَعَرَ بمرارة الهزيمة هذه.

ومع ذلك بلغت رومة من قوة الجَذب ما نَقَلَ معه مَلِكا دَوْلتَيِ القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط سلطانَهما إلى الرومان، مُوجِدَيْن بذلك ولايةَ آسية، وكان هذا قَبْلَ طَرْد القراصين من قِبَل بونبي وقبل تعميم القانون الرومانيِّ، وكان السِّرُّ يتجلَّى في القيام بفتوحٍ دائمة لجعل الناس يعتقدون تعَذُّرَ القهر. وكان الرومان، الذين وَرِثُوا كلَّ شيء من الأغارقة فانتحلوا آلهتَهم وفلسفتَهم وتماثيلَهم، يَرْقُبون هؤلاء الأغارقةَ الأمدنَ منهم كما كانوا يَرْقُبون شعوبَ القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط. وقد بلغ الرومان هذا المقامَ بما لديهم من نظام وقوة عسكرية، ولم يكن هؤلاء القوم الذين هم أقلُّ تمدُّنًا ليستطيعوا السيطرة على أممٍ كثيرة مدةَ ثلاثةِ قرونٍ إلا لانتحالهم حضارةَ مَنْ قَهَرُوهم.

وكان الرومان مَدِينين بنجاحهم من بعض الوجوه لإقدامهم على المغامرة في البحر، فلما باع رومانيٌّ حقلَه للمرة الأولى حتى يشتريَ سفينةً غَيَّرَ تاريخُ البحر المتوسط وَزْنَه وقياسَه، وما كان من تَحَوُّل سلطان رومة البرِّيِّ، الذي ثَبَتَ أمرُه في القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميلاد، إلى سلطانٍ بحريٍّ أيضًا هو من الغرائب التي تُفَسَّرُ بنظام رومة الفَنِّيِّ والاجتماعيِّ.

والواقعُ أن الرومان المُدَقِّقِين لم يَسْلُكوا سبيلَ الخيال الذي هو صفةُ اليونان المهيمنة، والرومانُ كانوا يَحْذَرُون حتى سَرَابَ الهَوَى، وإذ تَعَوَّد الرومان معاركَ البَرِّ فإنهم لم يهدأ لهم بالٌ قبل اختراعهم في المركب طبقةً بين جسريْن غيرَ قابلةٍ للعَزْلِ بالغةً من الارتفاع ثمانيةَ أمتار في يسار المركب. ولما انْقَضَّ هنيبالُ في المعركة الأولى على مراكب العدوِّ وَفْقَ عادته ذُعِرَ؛ إذ وَجَدَ نفسه أمام تلك المراكب، فلم يَرَ غيرَ النجاة من الأَسْر. وكان هذا الانتصار البحريُّ الذي نالته الدولة البريةُ رومة على القرطاجيين انتصارًا للآلات والعِنَادِ على التجرِبة وسهولة الحركة، وفي الحين نفسه أثبت الرومان ما فيهم من روح التضحية عندما أنشئوا أسطوليْن جديدين غاليين بعد هزيمتهم الأولى.

وهنالك سببٌ آخرُ لفوز الرومان، وهو روح الاقتصاد التي هي فضيلة الأفراد والأقوام العاطلين من الخيال، وما نالته رومة من ثرَوَات في البلاد المفتوحة اقْتُصِدَ فيه اقتصادًا مُنْتِجًا في السنين المائة أو المائتين الأولى، وذلك من قِبَل الدولة كجماعةٍ أو من قِبَل التجار كأفراد، فكانت تلك الثَّرَوات عاملَ زيادةٍ في القوة التي هي مصدرُها. وبينما كان الزيت والقمح يَرِدان كثيرًا إلى صِقلِّية، وبينما كانت الفِضَّة والذهب والمعادن الأخرى تأتي من إسبانية وآسية الصغرى، لم يَكْتَفِ الشعبُ الطَّمُوح في ذلك الزمن بامتلاك الأرَضين، بل كان يُنْشِئ سفنًا جديدة أخرى ويقيم بالولايات البعيدة مُؤَسَّساتٍ تجاريةً جديدةٍ، وذلك على حين كانت الحكومة تُعَبِّدُ طُرُقًا وتَبْنِي مراكبَ حربيةً.

وإن الجَمال الذي كان يُعَبَّرُ عنه بالآلات والإنشاءَات لدى الرومان، كما عند الأمريكيين في الوقت الحاضر، لم يكن ليُسْرَفَ على الأواني والرُّخام كما في بلاد اليونان، وكان الجمال عمليًّا على الدوام، وكانت الآلهةُ تُحْمَلُ على النَّفْع في المعابد، وقد أدى النظام والعملُ اللذان هما من لوازم الأمزجة النائرة إلى فتح العالَم بأسرعَ مما يؤدي إليه الروح والخيال. وقد عَرفَ الرومان أن يُحَسِّنوا زراعةَ الأرض وأن يُسَمِّنوا الدواجنَ بدلًا من إبداعهم تماثيلَ ورواياتٍ. أجَلْ، كانت الإوَزُّ تُسَمَّنُ في الأكْرُوبول، ولكنه لم يُعْجَب بالذي كان يقوم بهذا العمل.

ولم يكن المالُ ليُعْبَد في دَوْر إقبال رومة من أَجْلِ المال نفسه، وذلك خلافًا لِمَا كان عليه الأمر في قرطاجة، والمالُ الفاعلُ المُحَوَّلُ إلى قِيَمٍ منتجةٍ هو الذي كان محترمًا وحده، وما كانت نقود الاعتماد كالصُرَر الجلدية المختومة التي لا يَعْرِف أحدٌ ماذا تحتويه لتُخْتَرَعَ في غير قرطاجة، ثم انْتُحِلَت من قِبَل دولٍ أخرى، ومَنْ كان يَفْتَح صُرَّتَه عن فُضُولٍ يَخْسر قيمتها لعجزه عن خَتْمها ثانيةً، وبما أن الدولة كانت تقبض هذه الصُّرَرَ ثانيةً بثمن الإصدار فإن أحدًا لم يُبَالِ بقيمتها الحقيقية، وقد كانت رمزًا تامًّا لتأليه المجهول ووجهًا لِمَا كان الكهان يخادعون به العَلْمانيين١٢٩ في معبد المال.

وأظهرت رومة للعالَم في ذينك القرنين مَثَلًا عن النشاط والتضحية مضافيْن إلى عطفٍ عميق على خَيْر الدولة. فكانت هذه المُقَوِّماتُ الثلاثُ صالحةً لرفع الشعب فوق مستوى الشعوب الأخرى وإن عَطِلَ من العبقرية. وكانت السماءُ الصاحيةُ، التي تَسْطَع فوق رومة فتأبَى النجوم المُذَنَّبَة والظاهراتِ الجويةَ، توحي إلى الأعقاب بالحيرة، لا بالإعجاب إلا نادرًا، ولا بالعاطفة على ما يُحتمل. والحقُّ أن الرومان، مع جميع فضائلهم ومع جميع ما أَتَمُّوه، لم يتركوا غيرَ نَمُوذجِ أبناءٍ للوطن مُعَيَّنين، وغيرَ أمثلةٍ لا تُمَسُّ ولا تُلْمَس فتوجَدُ في مبانيهم فقط، وكلُّ ما يُلْقِي شُعاعًا في العالَم الرومانيِّ هو من أصلٍ يونانيٍّ.

وأروعُ ظاهرةٍ هو ما كانت تَجْهَرُ به رومة القوية من عبادةٍ عَلَنِيَّة لأُمِّها الروحية اليونان المغلوبة، فقد كُتِبَت دساتير تحرير المدن الإغريقية في روح المأثورات الفخمة. وقد كان متفننو الرومان يَشْعُرُون بأنهم مقلدون طَوْعًا لِمَا لأثينة من خُطوطٍ كِلَاسِيَّةٍ، وكان فلاسفة الرومان ومفكروهم يقلدون نَماذجَهم اليونانية في طراز حياتهم، حتى في معايبهم، حتى في الانتحار، ووَدَّ شِيشِرون أن يُعَبِّر عن رَمْزِ مَزْج الحضارتين فاخترع كلمة «الإنسانية». وكان أقصى طموحٍ في فِرْجِيل هو أن يَضَعَ «أُوذِيسِّةً» جديدة، ولكنْ يا لَلسُّخْرِية! فهو لم يكن دَرِبًا بالمِلاحة فضلًا عن أنه ليس مثلَ أوميرس، فَغَدَت قصتُه الكبرى عن البحر روايةً بَرِّيَّة، وقد قهرت رومة جميعَ خلفاء الإسكندر الأكبر من الملوك، مناوبةً، في أثناء الحروب الآسيوية الكبرى في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد، جاعلةً من ممالكهم ولاياتٍ رومانيةً، مؤسِّسةً بذلك إمبراطوريةً في البحر المتوسط لم تُساوِها إمبراطوريةٌ أخرى، وقد وَقَف توسعُها في عهد ترَاجَان، ولم تُوجَدْ هذه الإمبراطوريةُ في أيِّ حينٍ وَفْقَ رغبةِ طاغيةٍ واحدٍ في الفتح، ولم يكن الرومان محتاجين إلى ممتلكات مُتَفَرِّقةٍ فيما وراء البحر. وكان الرومان يهاجَمُون في الغالب كما حدث مع هنيبال وأَنْطيُوخُس وفليب، وما كان من أمر معركة بيدْنَا الكبرى التي هُزِم فيها ملكُ مقدونية، برْسِه، فُرِضَ على الرومان، وكلُّ ما كان الرومان يطلبونه هو وجودُ دولٍ زُبُنٍ؛ أي دولٍ غيرِ خاضعة، لكنْ غيرِ مستقلة.

ولم يكن في ذلك الدور مستعمراتٌ رومانيةٌ وحلفاءُ كما يوجد اليوم في الإمبراطورية البريطانية، وكانت إسبانية مستعمرةً كما هي جزائر البِرْمود، وعلى العكس كانت أفريقية والإغريق دولتين ضعيفتين مع استقلالٍ اسميٍّ، كحال كَنَدا في الوقت الحاضر.

والرومانُ مع ذلك، وعلى الرغم من كونهم سادةَ شواطئ البحر المتوسط، لم يكونوا سادةَ هذا البحر، وكان شِيشِرُون يمتدح رومة لأنها غيرُ واقعة على الساحل. وكان هوراسُ قد أُصيب بدُوَار البحر مثلَ حامية أغسطس فوضع قصيدةً لَعَنَ فيها مخترع المِلَاحة، وهنالك، على المَسافات الكبيرة وعلى الأمواج الزُّرْق أو الرَّمَادية، لم يكن في القرن الثاني قبل الميلاد غيرُ سلطةٍ واحدة، غيرُ القُورْسِقِيِّين الذين كان مأواهم في الغالب بأقريطش، بهذه الجزيرة التي كانت «غيرَ مُلْكٍ لأحد». وكان هؤلاء القراصين حلفاءَ تجاريين لتجارٍ مَلَّاحين يَشْرُون منهم أحسن العبيد، وصار أحدُ العبيد ملِكًا في كليكية الواقعة بالقرب من الإسكندرونة الحاضرة، فاتفق مع القراصين كما يتفق طغاةُ اليوم مع الجواسيس. وكان الخوف من القراصين يَرْبُك التجارة في جميع البحر المتوسط فيُبْتَسَم حين يُقْرَأُ أن التجار كانوا يُفضِّلون سَيْرَ سفنهم في فصل الشتاء الذي يستريح فيه القَراصين عادةً.

وأخذت قرطاجة المغلوبة تزدهر مع ذلك ومع انتشار سلطان رومة، وظَلَّت عاملَ تهديدٍ لرومة، وكان الرجلُ الذي يُبْغِض قرطاجة أكثرَ من أن يخشاها هو كاتُون الذي هو رومانيٌّ أكثر من الرومان إن لم يكن أعظمَهم.

وكان مثلُ الرومانِ الأعلى يَتَقَمَّصُ هذا الرجلَ السليمَ العَضِلَ الضامِرَ المدبوغَ الجلد والكثيرَ الجُرُوح والأزرقَ العينين والثاقبَ البصر مع فتورٍ والأشقرَ الشعر والمعدنيَّ الصوت. والحقُّ أن هذا الرجلَ كان لا يبحث عن الملاذِّ ولا عن الثَّرَاء، بل كان واقفًا نفسَه على الأُسرة والأُمة. والحقُّ أن هذا الرجل كان يذكر فضائله الخاصة أكثر من أن يَنْشُد السلطان، وكان يستشهد بفِيثَاغُورس الذي يوصي بالاعتدال أكثرَ مما بالاستمتاع، وكان مِثَالِيًّا في إدارة ملكه فلا يتناول غيرَ الحَسَاء والذُّرَة مع خَدَمه، ولا ينام على فراشٍ وَثِير، وكان يقوم بأعماله لتكون مثالًا للآخرين أكثر من أن تكون مثالًا للآلهة على العموم، وكان يُحِبُّ أن يكون قدوةً في البساطة فيتَّهم الآخرين فيما يُلقيه من خُطَبٍ مثالية، أو يُعْلِنُ فضائلَه الخاصة في أحاديثَ لاذعةٍ.

وكان الحَنْبَلِيُّ١٣٠ الأولُ في التاريخ كاتون لا يُبْدِي لأبناء وطنه صورةً عن الغِنَى أو العِرْفان أو الحكمة، وإنما كان يُرِيهم فضيلتَه، وهو مع بساطته لم يُحِبَّ أن يعيش فيلسوفًا مُعْتَزِلًا كذِيُوجَانِس مثلًا.

وهو إذا باع بِسَاطًا ثمينًا موروثًا من أُسْرَته سَعَى في إذاعة النبأ، وكان كلُّ واحدٍ يَعْرِف أنه لا يَلْبَس من الثياب ما يزيد ثمنه على مائة درهم، وأنه كان لا يَشْرِي من الإماء من هُنَّ فَتَيَاتٌ حِسَان بل كان يَشْرِي غِلْمانًا للإصْطَبْل، وأنه لم يَدْهُنْ بيتَه باللون الأبيض مرةً ثانية. وكانت رومة بأَسْرِها تَقُصُّ خبرَ عدول كاتُونَ، حين نَصْبِه قنصلًا لإسبانية، عن حِصانه ليُوَفِّرَ على الدولة نفقاتِ النقل، وكانت رومة تقصُّ خبرَ استغنائه عن العَرَبة مسافرًا رسميًّا إلى سَرْدِينْية على الفَرَس متخذًا خادمًا واحدًا رفيقًا له. وكان كاتون جريئًا لهذه العلَانية فيقول في نفسه إن الذين يُبْصِرونه وهو يجاهد يَرَوْن أن الأمةَ مَدِينَةٌ لكاتونَ أكثرَ من دَيْنِ كاتونَ للأمة، حتى إنه حين يلوم نفسه لا يفعل ذلك عن نَدَم.

ومن قول كاتون: «لا أَلوم نفسي إلَّا على ثلاثة أمور: إفشائي سرًّا لزوجتي، وقضائي نهارًا بلا عمل، وسفري إلى مكانٍ بحرًا مع إمكان السفر إليه بَرًّا.»

ومن سعادته أن كان يستطيعُ بما له من حَقِّ الرَّقابة أن يَرْقُبَ أخلاقَ أبناءِ وطنه، وأن يتعقب زُمَلَاءه الفُسَّاق، وأن يضع حدودًا للتَّرَفِ بالعَرَبات والحُلِيِّ والثياب والأَقْوات؛ أي إن ينتقم من الآخرين لعجزه الشخصيِّ عن التمتع بالحياة. ومن ذلك أن طَرَدَ أحدَ أعضاء السِّنَاتِ من مجلسٍ لتقبيله زوجتَه في وَضَحِ النهار وعلى مرأًى من ابنته، مضيفًا إلى ذلك قولَه في لائحته الاتهامية إن زوجته لم تعانقه غيرَ مرةٍ واحدةٍ عند شِدَّةِ الهيجان، ولكنه عندما آمَ١٣١ تَزَوَّجَ فتاةً صغيرة، فوجد لابنه الحائر التفسيرَ الآتي وهو: «أَوَدُّ أن أترك للوطن أبناءً آخرين مِثْلَك.»

وكان عارفًا بأمور الدنيا، فكان يَغْتَنِي مقدارًا فمقدارًا على حين يَحْرِم الأغنياءَ ما تحتاجُ إليه حدائقُهم من الماء، حتى إنه استفاد من التجارة البحرية بتأليف شركة مِلاحةٍ مع دائنيه. وكان يحاول إلقاء بذور الفساد بين عبيده منعًا لهم من مخادعته، ومع ذلك لم يَحْدُث أن قَضَى على أحدهم من غير أن يعترف العبيد الآخرون بذنبه، وهو مع وصفه سقراطَ بالثَّرْثار كان يستشهد في كتاباته بأقوال اليونان المأثورة كما كان يكتب ويتكلم بلغةٍ لاتينية مُصَنَّعَة، وهو كان، كأول مؤلِّفٍ قومِيٍّ، يُنْذِر أبناء قومه بأن وطَنَهم يَخْسَر سلطانَه السياسيَّ إذا ما قَلَّدوا الأغارقة في حُبِّ العلوم.

وكان كاتونُ الذي أراد في تسعين سنةً أن يكون صاحبَ الكلمة الأخيرة أكثرَ الرومان صلاحًا وأشدَّهم وطأةً، وكانت مزيتُه تتجلَّى في تخريب قرطاجة، ومع ذلك أتُعَدُّ هذه مزيةً؟

وفي أفْرِيقية خَلَفَ هنيبالَ الكبيرَ التَّعِسَ همجيٌّ عُصْلُبيٌّ جَبَّارٌ قادرٌ مُدَرِّبٌ حقيقيٌّ لأمته، وقد دام سلطانُه ستين سنة، وقد مات في التسعين من عمره تاركًا ابنًا بالغًا من السِّنِّ تسع سنين. وقد طَمِعَ هذا الرجل، الذي عُدَّ أسعدَ مَنْ في عصره، في جعل قرطاجةَ الجارَةَ عاصمةً لمملكته البدوية فكانت هذه ذريعةً لتدخُّل رومة، وقد ذُعِرَ ديمقراطيُّو قرطاجة من ذلك فَفَضَّلُوا فتحَ أبواب مدينتهم للعدوِّ التقليديِّ على أن يَحْكُم فيهم ذلك الهمجيُّ الماهر، وأراد كاتون أن يزور العدوَّ مُوَدِّعًا قبل أن يُهْلِكه فَوصَل إلى قرطاجة بنفسه وَفْقَ أطواره الحنبلية.

وأَنقذت قرطاجة شرفَها في ساعة اليأس، وحَرَّر مجلس المدينة جميعَ العبيد مثبتًا عَطَل السلطات من المبادئ الخُلقية في غير ساعة العُسْرَة، وتَسَلَّح جميعُ القرطاجيين حتى آخرِ صُعْلوك، وذهبوا إلى الموت مقاومين جيشَ رومة العظيم بشجاعة، وسار القرطاجيون على غِرَار أجدادهم الذين قاتلوا الإسكندرَ في صورَ فماتوا أبطالًا في إحدى قواعد القرون القديمة المرهوبة، وبِيعَ من لم يَهْلِكوا منهم عبيدًا، ودَمَّرَ الرومانُ جميعَ قرطاجة غيرَ تاركين فيها منزلًا، وما كانت اللعنةُ الخالدة التي نطق بها مجلسُ السِّنَاتِ الرومانيُّ إلَّا لتَهُزَّ القائدَ المنصورَ سِبيُونَ.

واليوم لا ترى في المكان، الذي ازدهرت فيه تلك المدينةُ، فعُدَّت من أقوى مُدُن القرون القديمة مدةَ خمسة قرون، غيرَ مروجٍ ومَرَاعٍ، ولا ريب في أن حُلُمَ كاتونَ العبوسِ قد تحقق، ولكن قرطاجةَ غَدَت موضعَ عطف العالم منذ ذلك الحين.

وقد صَبَّ الرومان مثلَ تلك اللعنة على مدينة كُورِنْث بعد بضعة أشهر، وعلى ما كان من بُعْدِ هذه المدينة من وسط البحر المتوسط أُصيبت بمثل نصيب قرطاجة. والرومان في سنة ١٤٦ تلك عادوا إلى ما كان في الأزمنة الأولى من عادات همجية، والرومانُ حَرَّقوا، من غير سبب وعن حسدٍ وحقدٍ، مدينتين من أقدم المدن وباعوا أبناء أُسرِهما القديمة عبيدًا، وهم لم يتركوا وراءهم غيرَ أطلالٍ مع إمكان قيامهم بإدارة مُدُنٍ عظيمة زاهرة، ويمضي قرنٌ فيحاول يوليوس قيصر إعادةَ بناء هذه المدن على غير جدوى، وتزول كُورِنْث في الزمن الذي زالت فيه قرطاجة، وبلدُ أَفْرُودِيتَ كورنث كانت عاصمَة الحِلْف اليوناني، وإذا عَدَوْت بِزَنْطَة لم تَجِدْ في مِنْطقة البحر المتوسط مِثْل كوُرِنْث مدينةً رائعةً واقعةً بين بحرين جليلةً جميلةً مثل أثينة.

أَجَلْ، كان الإسكندر قد عامل تِب بمثل ذلك، ولكنك لا تَجِدُ يونانيًّا أصاب العدوَّ المغلوبَ بمثل ذلك.

ومع ذلك مضت قرونٌ بعد الإسكندر، مضت قرونٌ مملوءَةٌ فلسفةً يونانيةً وتسامحًا إغريقيًّا.

وهكذا أثبت الرومان أنهم من البرابرة.

٢٨

ومع ذلك كان عملُ الرومان مهمًّا في تعبيد الطرق وإنشاءِ الموانئ على الخصوص. وكان الرومان قد تَعَلَّموا فنَّ المِلاحة، غير أن عبقريتهم الحقيقية تَجَلَّت في البَرِّ، ولا سيما الأماكنُ التي يتصلُ البَرُّ بالبحر فيها؛ أي تَجَلَّت في بناءِ المرافئ والأرصفةِ وكاسراتِ الأمواج وإقامة الجُزُر المصنوعة.

وقد سُئل هاتف الغَيْب عندما أنشأ الرومان للمرة الأولى في بتْيُولِي القريبة من رومة رصيفًا بحريًّا منحنيًا مُطَبِّقِين القوسَ المستديرَةَ التي اخترعوها على الإنشاءات البحرية، ومن الطبيعيِّ أن حَدَثَتْ بعضُ الأغاليط في البُداءة، فقد انهار مرفأ أَفْسُوس ومرفأ سِلُوقية بفِعل الغِرْين، وكيف يَعْرِف الرومانُ سُنَنَ الغِرْين وتكوينِ الدِّلْتات ولا يزال علماءُ الماء يجادلون في هذه المسائل؟

ولم يمكنهم عَدُّ أنفسهم سادةَ العنصرِ البحريِّ وحَمْلُ هذه السيادة إلَّا حين أخذوا يَفْصِلون موانئهم من مُدُنهم، وكان هذا حادثًا شبيهًا بإنشاءِ أول مَطِيرٍ في الصحراء، ويوجد مركزُ مِيلِه الرومانية في طرفه كما كان الأغارقة يقولون مُنْدِرين،١٣٢ وتُنْشَأُ مُقَدَّماتُ بناءٍ رائعةٌ أمام البحر، وتُنْشَأُ على أرصفةٍ باحاتٌ عامةٌ تَبْلُغ من الارتفاع ستة أمتار في بعض الأحيان، وتُشَادُ مبانٍ وآثارٌ على طول الساحل. وكانت مِيزينُ أولَ ميناءٍ بلا مدينة، ولم تَظهر هذه المدينة إلا بعد زمنٍ طويل، وقُلْ مثلَ هذا عن مرفأ رافِين الذي أُنشئ في الوقت نفسه، ويبدو فنٌّ جديدٌ للإنشاءِ بالغٌ من التأثير في النفس ما بَلَغَته الأسدادُ الكبيرة الحاضرة، فنتبَيَّنُه بالقَنَوات المحفورة من خلال الضَّحَاضِح برَافِينَ كما في الآرْل، والتي كان يجب حفظُها من الغِرْين باستمرار.

وأُوسْتِي هي الأثرُ الرومانيُّ الخالد الذي شاده أبو نِيرُونَ، وفي البُداءة كان يمكن السفنَ الكبيرة أن تَصِل إلى رومة، ثم تراكم الغِرْينُ فحال دون المِلاحة، وصار كلُّ ما يَرِدُ إلى رومة يُنْقَل إلى مراكبَ صغيرةٍ، ولم يُوَفَّق الأَخَوان غَراخُوس ويُولْيُوس قيصرُ للسيطرة على هذه الرواسب المتجمعة في أسفل رومة مع ما بُذِل من الجهود لجعل تنزيل القمح والخمر والزيت؛ أي المحاصيلِ التي تحتاج إليها رومة، أمرًا ممكنًا مباشرةً، ثم أنشأ كلودْيُوس، في نهاية الأمر، مرفأً وقناةً بشمال مصبِّ التِّيبِر وبَنَى رصيفًا رائعًا نِصْفَ دائريٍّ، وقد أَجرَى هنالك مركبًا كبيرًا كان يَحْمِل مِسَلَّةً من وراء البحار، وقد وضع ثلاثةَ ألواح ضخمةٍ سميكة فضلًا عن ذلك فأقام على تلك الأُسُسِ جزيرةً مع مَنَار، ثم يمضي زمنٌ فيستولي الرملُ على جميع ذلك مُجَدَّدًا، أَجَلْ، حاول ترَاجَان أن يَعْزِل ذلك، غير أن مُوسُولِّيني هو أول من وُفِّق لذلك.

وكذلك يُولْيُوس قيصرُ طَبَّق على البحر فَنَّه الرومانيَّ رئيسًا للجيش، فاستطاع أن يَجْلُبَ كتائبَه بحرًا منشِئًا سفنًا على طرازٍ جديد، وهو لم يَكْسِبَ معركةَ فَرْسالوس الحاسمةَ إلَّا لنجاحه في نَقْل أربعين ألفَ رجلٍ من برِنْدِيزِي بحرًا، وهو قد غَلَب الفِنِيتَ على الشاطئ الغربيِّ من الغُولِ بحيلةٍ جديدة، وذلك أنه أراد أن يواجِه سُفُنَ هؤلاء الشراعيةَ العالية فأنشأ في مصبِّ اللُّوَار مراكبَ خفيفةً سريعة تَسِيرُ بالمقاذيف مع مَلَّاحين كثيرين مسلحين بسكاكينَ طويلةٍ معقوفةٍ ثابتةٍ في خُشُبٍ دقيقة، فبهذه السكاكين قَطَعَ الرومان حين المرور قُلُوعَ سُفُنِ العدوِّ وصَوَارِيها فقبضوا على هذه السفن.

ومع ذلك لم يَسْطِعْ يوليوس قيصرُ أن يَقْتصَّ من القراصين، والقراصينُ قد ظَلُّوا باقين بعد كلِّ حضارة في البحر المتوسط، فكأنه يوجد نَسَبٌ بين ملك قُبْرُسَ، الذي شكا أمرَه إلى فرعونِ مصر أَمِنُوفيسَ سنة ١٣٧٠ قبل الميلاد، والقراصينِ الذين تَكلَّم عنهم أُومِيرُس، وكذلك بينَ أَسْلَاب الفنيقيين ونِهَاب الفلسطينيين والكتبِ الحديثة حول المِلاحة التي تُحَذِّر الرَّبَابنة من الإشارات المُزَوَّرة التي يُعْطِيها قراصينُ ساحل شمال أفريقية الْمُكتَمنين وراءَ الصخور، وليست النِّخاسةُ في جزائر المَرْجان بالبحر الأحمر، وهي التي لم يكافحها نجاشي الحبشة جِدِّيًّا قَطُّ، إلَّا جزءًا من أعمال القراصين الذين تَحَوَّلوا قليلًا نحو الجَنوب. وكان القراصينُ في عصر قيصر يَنْزِلُون بغتةً إلى بعض المراكز كرجال المظالِّ المعاصرين نَيْلًا للخبز والماءِ ومبادرةً إلى الاستيلاء على بابٍ للمدينة أو على بُرْج، وهنالك كانوا يَنْتَهبون مخازنَ المرافئِ ومعابدَ الجُزُر، وما كان من كثرة ديون مُعْظَم الجمعيات اليونانية يُعْزَى إلى القراصين. قال شاعرٌ رومانيٌّ: «بلغ أَبولُّون من الفَقْر بفعل القراصين ما لم يَسْطِعْ معه أن يُرِيَ خَطَّافًا أصغرَ حَبَّةٍ من الذهب.»

ومن المُمْتِع أن يلاحَظَ أن بعض المبادئ الخُلقية كان يسود القراصين، وكانت دولةُ القراصين التي كُوِّنَت حوالي سنة ١٠٠ قبل الميلاد وأُلِّفَت من الفارِّين والعبيد والجنود المُسَرَّحين تَفْرِض روحَ الإخاء والكِتْمان والشَّهَامةِ فتشابه بعض المشابهة قاطعي طرقنا الذين يُذَكِّرُوننا بما جاء في الروايات.

وكان يجمع بين هؤلاء القراصين مبدأُ الانتقام من مجتمعٍ بُرْجوَازيٍّ١٣٣ نَبَذَهم من بينه، وكانوا يَذْبَحون أَسْراهم مُسَوِّغين عملهم هذا بقولهم إنهم كانوا يعانون مثلَ هذا المصير لو قُبِض عليهم في ميناء. وكان البحر المتوسط إمبراطوريتَهم، ولو رُسِمَت خريطةٌ لهذه الإمبراطورية لشابهت خرائطَنا البحرية التي يلوح البحر فيها زاخرًا بألف إشارة على حين يَبْدُو البَرُّ فَلَاةً، وكان هنالك نظامُ بُرُدٍ وإشاراتٍ يدلُّ كلَّ لِصٍّ بحريٍّ على المخابئِ الأمينة التي يُمْكِنه أن يَجِدَ فيها القُوتَ والنقودَ ويُخْفِيَ فيها النساءَ والأولاد، وكيف يمكن ألَّا يَرْقُص أولئك القراصين مع طِباعهم في خيال الفِتْيان؟ وهنالك يتحول الجيلُ الجديدُ، المُشْبَعُ من الأمور الذهنية والتَّعِبُ من النظام والنَّمطية، إلى وَلُوع بالمخاطر والمغامرات الجريئة وبالمجد. وقد نهب القراصين جزيرةَ دِلُوس على الرغم من لوكولوس وأسطولِه، وكان القراصينُ يطالبون جزائر لِيبارِي بجِزْية سنوية في مقابل صَوْنها، وكان القراصين يَغْزُون المرافئَ الكبيرة كَسرَقُوسة مثلًا، ومما حدث أن «الوالي» أتى بسلاسلَ ليُقَيِّد بها فرُبط بهذه القيود بساريةِ مركبٍ رومانيٍّ قَبَض عليه القراصين، وصارت الجمعية الظريفةُ بِبَايِس لا تجرُؤ على السباحة، والحَقُّ أن سيادة البحر قد انتقلت إلى شعبٍ لم يكن شعبًا ولم يَمْلِك بلدًا، فكان كدولةٍ عائمة.

ويُقَسِّم بونْبي في سنة ٦٧ قبل الميلاد مِنْطقةَ البحر المتوسط إلى ثلاثَ عشرةَ ولاية بحرية، بما عُرِف عن الرومان من دقةٍ، ويؤلف كلٌّ من هذه الولايات جزءًا من ولايةٍ بَرِّيَّة، ويَضَعُ خِطَّةً لاستئصال القراصين كما يكافَح الوَباء في أيامنا. وبَيْنَا كان هذا الرومانيُّ يطارد القراصين صَوَّب إلى أعدائه سلاحًا خُلقيًّا جديدًا تَمَّ له الفوزُ بفضله، فقد بَدَا حليمًا نحوهم مانعًا صَلْبَ مَن يُؤْسَر منهم محافظًا على جَذَّافيهم، حتى إن أشدَّ رؤسائهم فَتْكًا، حتى إن الذين يُخْفُون نساءَهم وخزائنهم في حصون جبال طُورُوس، كانوا يَرْقُبُون بونْبي على طول ساحل آسية الصغرى فينالون عفوه عند خضوعهم، وبذلك طُهِّرَ القسمُ الشرقيُّ من البحر المتوسط في بضعة أشهر. وقد خَرَّب هذا الرئيسُ الرومانيُّ ١٣٠٠ مركبٍ وأتى بأربعمائة مركبٍ إلى رومة، وافتخر بأنه لم يَقْتُل أكثر من عشرة آلاف لصٍّ بحريٍّ!

وقد يكون هذا النصر البحريُّ المُغْفَل أعظمَ من جميع ما كَسَبَتْه رومة، وقد كان لتلك المعركةِ أن تُسَمَّى بحقٍّ «معركة البحر المتوسط»، وصار يمكن إيطاليةَ الجائعة مع غِنَاها أن تستقبل مُجَدَّدًا سُفُنَها التجارية بلا قيد، ويُعْجَب العالمُ كلُّه بالديمقراطية التي أُعيدت إلى رومة مُقَدِّمةً لازمةً لتلك الحَمْلةِ الكبيرة. وكان في أثناء سيطرة القراصين قد هَزَّت الإمبراطوريةَ الرومانيةَ ثورةٌ خفيةٌ وثورةٌ علنية. وكان انتصار هذه الإمبراطورية العالمية الجديدة قد أتى بالمال، فأسفر المال عن الترف فَعَمَّ الفسادُ هذه الأمةَ التي كانت مقتصِدةً حتى ذلك الحين، وقَوَّضَ الأخلاقَ البُرْجوازيةَ القديمة وغدا من الممكن رَشْوُ قُوَّادٍ وأعضاءٍ من مجلس السِّنات من قِبَل أمراء من الأجانب، ويُثِيرُ السادةُ بما يقيمون من الوَلائم المخالفة للصواب مَنْ يَخْدُمهم من العبيد مع صَمْتٍ يُورِث الغَمَّ، وتصبح الحربُ الأهلية بين الفقراء والأغنياء قريبةَ الوقوع.

ويُلِمُّ الفقرُ بالفَلَّاحين الذين كانوا أركان سلطان الرومان؛ وذلك لأن الفَوْضى التي عَمَّت القسم الشرقيَّ من الإمبراطورية الرومانية كانت تُسَهِّل صَيْدَ الإنسان، وتؤدي إلى نزول ثمن العبيد باستمرار. وكان صَيْدُ الإنسان، الذي يتعذر تَمَثُّلُ حضارةِ العالَم القديم بغيره، يَبْلُغ من الأهمية ما بِيعَ معه في مرفأ دِلُوس، في مركزِ تجارةِ الشرق الكبير هذا، ما لا يَقِلُّ عن عشرة آلاف عبدٍ في يوم واحد، وما كان يُعْطَى من قليل خبزٍ وبُرٍّ أُجْرَةً، وما كان من استمرار الحروب، يُسْفِر عن فقر الفَلَّاحين. وفي سنة ١٠٠ قبل الميلاد يَصْرُخ خطيبٌ رومانيٌّ قائلًا: «تَرَوْن لحيوانات إيطالية الوحشية عَرَائِنَها ومغاورَها، وأما أنتم، أيها الفَلَّاحُون والجنودُ الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل إيطالية، فليس لكم غيرُ الهواء والشمس! أَجَلْ، إنكم تُدْعَوْن سادةَ العالم، ومع ذلك لا يَمْلِك الواحدُ منكم فِتْرَ أرض!»

وصوتٌ مثلُ هذا، وقولٌ مثلُ هذا، ينطوي وحدَه على نَغَمٍ موزونٍ يَرِنُّ من خلال ألحان القرون القديمة الرائعة.

ويَرُوقُ بعضهم أن يحوك قِصصًا عن الصِّلات الوِدِّية بين العبيد وسادتهم في رومة كالتي قِيلت عما في جنوب الولايات المتحدة، ومع ذلك لم يكن مثل هذه الشواذِّ ليُفِيدَ العبيدَ الآخرين الذين كانوا مُقَيَّدين بالأغلال مُهَدَّدين بالسياط فيَقْضُون نهارَهم في الفِلاحة ويَقْضُون ليلَهم في الأصابل أو السجونِ الخاليةِ من الهواء والضياء، ومع ذلك ظَهَر من بين أولئك البائسين مَنْ أسعده الحظُّ قليلًا، مَنْ قَيَّضَ الطالعُ له سيدًا صالحًا فَأُتيحَ له أن يُنْمِيَ مواهبَه الفطرية. وكان هذا هو العبدَ اليونانيَّ أَنْدرُونِيخُوس الذي جاء من تارَانْت إلى رومة فتَرْجم أوميرس وحَوَّل إلى اللاتينية رواياتٍ تمثيليةً إغريقيةً، وأَلَّف تاريخًا لرومة، وكان اسمُه ليفيوس.

وكان الرومان يَبْنُون قصورهم فوق السُّجون، وكان من نتائج الثراء المفاجئ الذي نشأ عن الانتصارات المستمرة، وعن خضوع البلاد التابعة التي صار عددُها يزيد مقدارًا فمقدارًا، أن ضُعْضِعَتْ فضائلُ الزُّهْد التي صارت المدينةُ الصغيرة الثانويةُ، الفقيرةُ حتى في زمن الحروب البونية، رومةُ، دولةً عالمية بها، ورومة هذه استولت في ١١٠ من السنين على صِقِلِّية وسَرْدِينْية وإسبانية ومقدونية واليونان وفَرْغامُس وقرطاجة، وصارت تجارة الشرق، التي كانت تَنْصَبُّ قرونًا كثيرةً في مِيلِه ورودس وأنطاكية ثم في الإسكندرية، تَتَّجِهُ إلى رومة حيث ظلت مُتَجَمِّعَةً ثلاثةَ قرون، أي بين سنة ١٥٠ قبل الميلاد وسنة ١٥٠ بعد الميلاد.

وكان التجار الجُدُد يَلْعَبون بالملايين في تجارتهم مع الولايات، وكان العَشَّارُون ومُيَّار١٣٤ الجيش والصَّرَّافون يُقْرِضون الأمراءَ الإقطاعيين مالًا حتى يُعْطُوا الجِزْية، وبما أن جميع أولئك الموظفين كانوا يقومون بالقضاء في الولايات فإن من غير المُحَيِّر أن تراهم يَظْلِمُون الناس وصولًا إلى تغطية مضارباتِ أصدقائهم. وكان أبناء الأغنياء يُعْفَوْن من الذهاب إلى الحرب في مقابل ما يدفعونه من النقود، والحربُ قد غَدَت عملًا يأتي بأعظم الأرباح بعد أن كان جميع الشعب يشترك فيها، وصار حلفاءُ إيطالية أنفُسهم يُهَدِّدون بالنُّكُوص، وأصبحت جميع العَلَامات تدلُّ على اقتراب نشوب ثورة.

ويَبْرزُ بعضُ الرجال ليَحُولُوا دُونَ نُشُوب هذه الثورة، ومن بينهم يَجْمُلُ أن نذكر الأخويْن غَراخُوس على الخصوص، ونرى أنهما كانا إكليلَ مجدٍ لصراعٍ رفيع في سبيل العدل وتاجَ فَخْرٍ للشهداء، وهما قد خَرَّا صريعَي هَجَمَاتِ أبناء طبقتهما في الحقيقة، وذلك بعد كفاحٍ عظيم عن إيثار تام.

وأقدمَ الأَخوان على أَخْذ ما يزيد على خمسمائة فَدَّانٍ رومانيٍّ١٣٥ من أَرَضِي الأغنياء وتسليمه إلى الفقراء، وتدبيرٌ مثل هذا كان يَبْدُو في ذلك العصر ثقيلًا على أبناء الأُسَر وعلى أصحاب المصارف.

وكان أصغرُ الأخوين غراخُوس أعظمَ ثائري القرون القديمة، وكان رصينًا بسيطًا كأبيه، وقد انْتُخِب محاميًا عن الشعب سنة ١٢٣ قبل الميلاد فنال شُكْرَ الشعب لسنِّ قانون الحبوب وقانون إعانة العاطلين من العمل، وهو، على ما كان من اعتماده على الجماهير، عَرَف كيف يجتذب عواطفَ فريقٍ من الأغنياء الجُدُد بأن جعله يشترك معه في مناهضةِ مجلس السِّنات المحافظ، ويؤسِّسُ وراءَ البحار مستعمراتٍ من أبناء الوطن معالَجةً لزيادة السكان في رومة، ويحاول منحَ اللاتين حقَّ الوطنيِّ الرومانيِّ، وهو يُغَيِّر حزبَه السياسيَّ وينتفع بأبرع الذرائع لكي يحقق مبادئه الاجتماعية، وهو، وإن كان مثاليًّا، استطاع أن يَبْدُوَ سياسيًّا ماهرًا إلى الغاية، فلا يزال يُرَى ابنَ بَجْدَتها.

وقد أَدَّى حبوط ما حاوله الأَخَوان غراخُوس من فِتن، وقد أَدَّى انتصار الأقلية الغنية القوية على الأكثرية التي لم تكن صاحبة السيادة في غير الظاهر، إلى سيطرة العسكريين حتمًا؛ أي إلى أزمة الجُمهورية الرومانية، وهنالك أبصر الفَلَّاحون والصعاليكُ أنهم مُضْطَرون إلى شَهْرِ الحرب على الرأسمالية. وقد امتدَّ مَدَى هذه الحروب إلى خارج إيطالية فدامت نصفَ قرنٍ، دامت إلى الدور الذي عَقَبَ موتَ يوليوس قيصر، ثم حدث ما نُسَجِّلُه في الغالب حين الأزمة الداخلية الشديدة، وهو تَدَخُّلُ ملوكٍ من الأجانب، ومهردادُ وجُوغُورْتَه هما اللذان تَدَخَّلَا في النضال مُتَعَلِّلَيْن بحجة مساعدة المضطهدين، وفي رومة يقوم ما يُدْعَى التطوعَ مقامَ الجندية. وفي ذلك الدور يُؤَلِّف العاطلون من العمل نَوَاةَ الجيش الرومانيِّ، ويُسْفِرُ هذا عن تبديل حاسم، يُسْفِر عن تطبيق طائفةٍ من المبادئ السياسية على الحرب، وقد توقف تموينُ الكتائب وإخلاصُها وبسالتُها على وضع البلد السياسيِّ.

وأوجبت الثورةُ الاجتماعية ظهورَ أول طاغية في التاريخ كما في أيامنا، وانتفع الأريستوقراطيُّ سِيلَّا بجيش الصعاليك للقضاء على سلطان الطبقة الوسطى، ويُثْبِت هذا الحِلْفُ الغريبُ الذي كُرِّرَ في التاريخ الحديث كيف أن ذوي الطموح من الزعماء يُفَرِّطون في مبادئهم الخاصة ليَقْبِضوا على زمام السلطة، ويُنْتَخَب الديمقراطيُّ ماريوس قنصلًا سبعَ مراتٍ فيَغْلِبُه الرَّجْعِيُّ سِيلَّا في شوارع رومة، وذلك إلى أن سيلَّا كان يمكنه أن يَبْدُوَ منقذًا للوطن لقضائه على فِتَن الشعوب الإيطالية، وسِيلَّا قد أظهر من المهارة البالغة ما سَمَحَ معه لمندوبي الأمم الغريبة بأن يتكلموا بلغاتهم في مجلس السِّنَات الرومانيِّ؛ أي منحهم رخصةً لا تُبِيحُها أيةُ دولةٍ كبيرةٍ معاصرة في عاصمتها، وقد غَدَت مستعمراتُ البحر المتوسط الرومانيةُ الجديدةُ؛ أي الولايات، ضمانًا لسلطان رومة العالميِّ؛ وذلك لأن برابرة الجرمان لم يَلْبَثُوا أن هَجَموا من الشمال؛ ولأن الأغارقة لم يَلْبَثُوا أن هجموا من الشرق تِبَاعًا، ويقاتل كلٌّ من ماريوس وسيلَّا جيوشَ الأعداء من ناحيته، ويُعَدُّ كلٌّ من هذين الخصمين المستأسدين منقذًا لوطنه إذَنْ.

ويُكَرَّرُ حادثٌ عَرَضيٌّ على البحر الأسود ثم على بحر إيجه، وذلك أن رجلًا من أنصاف البرابرة أَعْتَق الأغارقة بعد الإسكندر بمائتي سنة، وذلك أن ملكَ بُنْطُش، والفارسيَّ الإغريقيَّ، مِهرداد اغتنم فرصة الحروب الأهلية الرومانية فأراد أن يقهر رومة محالفًا القراصين واليونان، وتصبح سيادةُ البحر المتوسط مَدَارَ نزاعٍ بين الرومان والأغارقة للمرة الأخيرة، وهنالك يَبْذُل الرومان جهدهم في عدم سَيْرِهم كالبرابرة. فبينما كان ملك الفرس يأمر بقتل الألوف من الطلاينة المستقرين بآسية الصغرى كان سِيلَّا يَحْقُن دماءَ أهل أثينة بعد انتصاره مُعْلِنًا أنه يريد حفظَ الأحياء إكرامًا للأموات. أَجَلْ، خَرَّب كلا الفريقين تلك المِنْطقة، غير أن الأغارقة لم يكونوا ليَرْتدعوا عن ذلك في غضون تاريخهم، وما كان من هَجْوِ الروسيِّ بوجود تَتَرِيٍّ يَشِفُّ وراءَه يُمْكِن إطلاقُه بأن يُقال إن كلَّ متمدنٍ ينطوي على وحَشِيٍّ فلا يُعَتِّم هذا الوحشيُّ أن يَظْهَر من فَوْره!

ودَلَّ سِيلَّا، الذي كان قائدًا من الأشراف أكثر من أن يكون قطبًا سياسيًّا، على أنه ذو خيالٍ أكثر مما لدى الرومانيِّ عادةً، وكان سيلَّا الغنيُّ الأهيفُ إذا ما ظهر للناس على حِصانه الحربيِّ كَفَى ظهورُه وحدَه لإثارة الحسد. وكان يُرَى، في الغالب، جالسًا أو ضاجعًا على عرشٍ كَمَلك، محاطًا بمغنِّين وراقصاتٍ، متأجِّجًا وفاترًا مناوبةً، متكبرًا وماجنًا دومًا، بالغًا من الشِّدَّة ما لم يبلغه رومانيٌّ قبله، قابضًا في كلِّ وقتٍ على قوائمَ بقتل أعدائه الشخصيين أو سجنهم بلا محاكمة، والخلاصةُ أنه كان على النقيض من كاتون ومن ماريوس الذي أدى موته إلى جعل سيلَّا السيدَ الوحيد.

وتَقِفُ الجُمهوريةُ الرومانيةُ قوانينَها للمرة الأولى مُفَوِّضةً إلى القائد المنصور سلطةً مطلقةً معانيةً لها في سنين بلا معارضة ولا انقطاع، ومع ذلك كانت التقاليد من القوة ما حَفَزَت معه سِيلَّا إلى الانزواء طوعًا قبل موته بسنةٍ. ومن المحتمل أن اتخذ سِيلَّا هذا القرارَ عن تعبٍ، ومهما يكن من أمرٍ فإن مثال هذا الطاغية الذي عَدَلَ مختارًا عن السلطان مما قَلَّ تقليده.

وما كان سِيلَّا المستبدُّ ليكترث للثورات الاجتماعية التي اشتعلت ثانيتُها أيام مراهقته، وتَجِدُ نَسَبًا في العالَم البُرْجوَازِي بين فِتْنَتَي عبيد الرومان حوالي سنة ١٣٠ وسنة ١٠٠ قبل الميلاد ومغازي القراصين، وتَجِدُ العدلَ يؤدِّي إلى العنف مرةً أخرى، وذلك أن كثيرًا من محاكم صِقِلِّية أَحَسَّتْ تحولًا في مناحي العصر فنطقت في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، وفي ثمانمائة قضيةٍ، بأحكامٍ ملائمة للعبيد ضِدَّ سادتهم، وهنالك تُلْغِي الحكومة الجديدة هذه الأحكامَ إلغاءً تامًّا، وهنالك يَثُورُ ألوفٌ من المُعَدِّنين ويلجئون مع عبيد آخرين إلى الجبال، وإذْ لم يكن لدى الحكومة من الجنود ما يَكْفِي فقد استوحت سابقةً في أثناء قِتَال القراصين، فعاهدت رئيسَ عِصَابةٍ وعهدت إليه في القبض على العُصَاة، غير أن عِصابةً أخرى من العُصَاة تَسَلَّحَت، وجَعَلَ أناسٌ من السوريين الذين بيعُوا عبيدًا في الخارج من مَلِكهم محلَّ سخرية رافعين على العرش رجلًا منهم.

وإن ارتقاءَ صُعلوكٍ إلى السلطان في مِنْطِقة البحر المتوسط يدلُّ على معنًى إن لم يكن قد وقع للمرة الأولى. ومما يَجْدُر ذِكره أن وُلِدَ أولُ عبدٍ مَلِكٍ في تراكية حُرًّا، وأنه لم يَغْدُ عبدًا إلَّا بعد القبض عليه، ولم يكن لسبارْتاكُوس الذي أَرْهب الإمبراطوريةَ الرومانية حوالَي سنة ٧٠ قبل الميلاد في ثلاث سنين سوى سَلَفٍ واحدٍ، سوى العبدِ درِيمَاكُوس الذي قاد في ساقِز١٣٦ ثورةَ عبيدٍ حوالَي سنة ٣٠٠ قبل الميلاد فَوُفِّقَ لتسويةٍ عادلة، ولكنه عندما سَرَّح جيشه وَفْق المعاهدة التي أُبْرِمَت خاسَ أهلُ البلد بالعهد ووعدوا قاتل الزعيم العاصي بمالٍ. أَجَلْ، إن درِيمَاكُوس وُفِّق طويلَ زمنٍ للنجاة من ظالميه، غير أنه قُتِلَ شيخًا بيد أحد المُقَرَّبين إليه عن طَمَعٍ في الجائزة التي ينالها إذا ما أتى برأسه.

ولَمَّا فَرَّ زعيمُ العبيد السوريين، سبارْتَاكُوس، من جَلَّادِيه جَلَب معه جيشًا مؤلَّفًا من سبعين رجلًا، فلم يَلْبَث هذا الجيشُ أن عَظُم فبلغ رجالُه سبعين ألفًا، ويُعَدُّ سبارتاكُوس جَدَّ جميع الثوريين الذين ظهروا من الشعب فَهَزُّوا البحر المتوسط فكان مُوسُولِّينِي آخرَهم في الترتيب التاريخيِّ.

٢٩

يُمْكن دَرْسُ عظماءِ التاريخ وإدراكُ أمرهم من الناحية الفردية على أنهم من أصحاب السجايا الخارقة للعادة أو من ناحية البيئة التي نشئوا فيها، ومع ذلك يَكْشِفُ التحليلُ الثُّنَائيُّ عن الرجل بأجمعه، ومع ذلك ننحاز إلى هذا المِنْهاج أو ذلك تبعًا للوجه الذي نتناوله بحثًا في حياة البطل.

وإذا ما سِرْنا في رُواقٍ على الكابيتول ودَرَسْنا تماثيلَ العظماء النصفيةَ الرُّخاميةَ التي صُنِعَت في القرن الأول قبل الميلاد، أبصرنا الرومانَ يُرَاءُون الرجلَ المعاصر أكثر من الأغارقة، وهنالك، كما في هذه الأيام، لا نرى كبيرَ تقدير للجمال المُذَكَّر، وكان يُعْنَى بالذكاء والقوة أكثر مما بأيِّ أمرٍ آخر. وكان أولئك القوم لا يُبَالون بتَفَهُّم الحياةِ والتمتع بها كما كان الأغارقة يَصْنَعون قبلهم، وإنما كانوا يريدون أن يُهَيْمنوا عليها، وليست بضعةُ الوجوه التي تبدو هادئةً كملامح أَغْرِيبا اللطيفة، أَو ملامحِ أغسطس المنحطِّ اللطيفةِ، إلَّا من الشواذِّ، وينمُّ وجهُ قيصرَ الخالدُ على الذكاء والعمل مع أن وجه الإسكندر يَنِمُّ على العمل والجمال. وإذا كان يوليوس قيصر غير معدودٍ أقوى سيدٍ للبحر المتوسط فإنه أكثرُ سادته اتزانًا على الأقل، وهو إذَنْ لا يمكن تحليله إلَّا على نُورِ الوضع السائد للبحر المتوسط في أواسط القرن الأول قبل الميلاد، وذلك إلى أنه كان له منافسون كثيرون، فلا يُبْصَرُ فوزُه عن يقينٍ في عشرات السنين.

والمالُ؛ أيامَ شباب يوليوس قيصر، هو الذي كان يسيطر على الرومان أكثر من قبل حين كانوا يَقْضُون حياةً بسيطةً، أو أكثرَ من بعدُ حينَ أَوْحَى إيمانٌ جديدٌ إليهم بطراز عيشٍ أعظمَ اعتدالًا. وكانت رومة تشتمل على مليونين من السكان؛ أي كانت تحتوي من الناس ما يَعْدِل ضِعْفَ أهلِها في الوقت الحاضر؛ أي كانت أكبرَ مدينة في القرون القديمة، وقد أتى عليها حينٌ كانت أسوارُها تضمُّ فيه تسعَمائة ألفِ مُصَوِّت، وكان المال يساعد على رَقابة الانتخابات والجيش. وقديمًا كان الأغارقة مدينين بسلطانهم لروحهم التجارية الفطرية، والآن ترى الروح التجارية هي التي تضعضع قوةَ الرومان التي كانت تقوم على حياةٍ بسيطة وعلى فضائلَ حربيةٍ فيما مضى، وعلى مثل هذا النمط تحولت بروسية وألمانية الحديثة من أمم حربية إلى أمم تاجرة، والرومانُ تطوروا من أمم حربية إلى أمم تجارية كالبروسيين بعد زمنٍ، وهذا هو سببُ محاولتهم أن يتوسَّعوا من ناحية البحر مضطرين.

ولكن الرومان الذين كانوا يُنَشَّئون على حياة البحر المتوسط اضْطُرُّوا بفعل موقعهم الجغْرافي، أن يَمُدُّوا أبصارهم إلى جهة البحر حيث كان الشعب اليونانيُّ الجَزَرِيُّ يَشْعُر بأنه في بلده. وكان الرومان عاطلين من مثل روح الأغارقة المَرِنة ومن مثل خيالهم فلم يُنْتِجُوا غيرَ قليلٍ من آثار الفنِّ، وعلى العكس عَرَفوا مع الزمن سعادةً وقوةً أكثر مما عَرَفَ الأغارقة من حيث السلطانُ السياسيُّ، ووَصَلَ الرومانُ من حيثُ الحِذْقُ التجاريُّ إلى مستوى الأغارقة مع اختلاف الأمتين في عاداتهما التجارية. وصار الرومان في عهد يوليوس قيصر تجارًا أكثر من أن يكونوا محاربين، وصار الأشرافُ، الذين كَسَبَ أبناؤهم معاركَ، يتعاطَوْن أعمالًا مالية، وكان جميع الناس يضاربون على أعمال النقل التجاريِّ، وكان لجميع الناس أسهمٌ في مصانع الآجُرِّ، وكانت تُبْنَى، أو تُشْتَرَى، بيوتٌ للإيجار في رومة أو الإسكندرية، وكانت تُسْتَأْجَرُ سُفُنٌ فتُكْسَبُ الملايينُ أو يَخْسَرُ المرء جميعَ ثروته إذا ما تفَلَّتَت السفينةُ المشحونة قمحًا من القراصين أو صارت قبضتَهم، ولما أقدم لوكولوس على تحريم الربا في آسية الصغرى حال رأسمالِيُّو الرومان بينه وبين القيادة العليا.

ولِمَ يُتْرَكُ الرَّاحُ والزيتُ، اللذان هما من محاصيل البحر المتوسط، بين أيدي الأغارقة؟ ولِمَ يُشْتَرَى من القراصينِ بثمنٍ عالٍ ألوفُ العبيد من الخُبَرَاء بزراعة الكَرْمة؟ وفي رودس، في السوق العالمية، حيث كان يُخْزَن الزيتونُ والخمر، كان يُدْفَعُ مستخدمون لتَعَلُّم زراعة الكرمة وحفظ الخمر وبيعها تحسينًا للنوع في رُومانِي وزيادةً في ثمنه، وصارت الخيلُ والضأْن والحمير تُرَبَّى تربية علمية وَفْقَ المنهاج الإغريقيِّ بعد أن كانت تَرْعَى في مراعي إيطالية وحشيةً. وكان المالُ يَنْصَبُّ نتيجةً لارتفاع الأثمان فيُحَوَّلُ إلى مَغَانٍ١٣٧ وحدائقِ وَرْدٍ ومواكبِ صيدٍ وولائمَ فاخرةٍ يرفع صاحبُ المحلِّ في أثنائها قِشْرَةَ فطيرةٍ كبيرةٍ فيطير منها زوجا حمام، وقد أفسد فاتحو الرومان جميعَ العالم الإغريقيِّ، ومنه الرَّزَاةُ١٣٨ والخطباء والأطباء.

وأراد فلاسفة الرومان وأولياءُ أمورهم وخطباؤهم تحسينَ حياتهم منذ ذلك الحين، ومن هؤلاء لوكولوس، الذي كان كثيرَ الاعتدال والاتِّزان مدةَ خمسين سنة والذي كان جنديًّا فصار قائدًا، قد بَنَى بذَهَبِ الفُرْس المغلوبين قصرًا فخمًا لنفسه على مُونْتي بنْشيُو، وذلك مع مَلْءِ مَغْناه «تُوسْكُولُم» في «الرِّيف الرومانيِّ» بالتماثيل والشُّرَف واستقبالهِ أزهى مجتمعٍ فيه، وقليلٌ من الناس مَنْ يَنْظُر إلى أنه كان قد فتح نصفَ آسية قبل أن يقيم الولائم التي جعلت من اسمه رمزًا. وأما شِيشِرون؟ كان شيشرون رجلًا ممتازًا، كوزِيرٍ بريطانيٍّ وتلميذٍ سابقٍ من أُكْسفُورْد، مُضْطَهِدًا، عن نزاهةٍ، لعَدُوَّي الجُمهورية كاتِيلِينَا وفِرِّس، وكان لذلك أولَ عَصْرِيٍّ في القرون القديمة، وكان من الزُّهد الخُلقي والوثوق النفسيِّ ما داس معه رغائبَه زمنًا طويلًا، ثم ماذا؟ لقد أذعن لمُغْرِيات عصره في نهاية الأمر، وهو قد كان شائبًا حينما اقترض من كرَاسُّوس مبالغَ كبيرةً فأنشأ بها قصرًا فخمًا على جبل بلَاتَن حتى يَنْسَى فيه المنزلَ المعتدل الموروثَ عن أبيه. وكان جميع رجال ذلك العصر من القُوَّاد، ومنهم الخطيب شِيشِرون والصَّيْرفِيُّ غراكُوس. والواقعُ أنه كان يجب على مَنْ يَوَدُّ حسنَ التقدير أَن يُوَلِّيَ وجهه شَطْرَ ميدان القتال على الدوام، وماذا صَنَع بونْبي بما لَه من وجهٍ عريضٍ لنائبِ ضابطٍ فكان الأنفُ يَشْغَل فيه مكانًا كبيرًا على حساب الجبين؟ وماذا صنع ليكافِئ رفقاءه الصِّعاب؟ هو قد أمر بأن يُحْمَل أمامَه، وفي مَوْكِب نَصْره، خزائنُ الملوك المغلوبين وتيجانُهم وأصنامُهم فضلًا عن أسلحة القراصين وحَيَازيم سفنهم. وكانت قافلة بغال تَحْمِل لبيت المال في رومة أكياسًا من النقود المُغْتَنَمَة، وكان يَعْقُب هذه القافلةَ أمراءُ ورهائنُ وأولادُ مَلِكِ الفُرْس السبعةُ وأُسَارَى من العرب واليهود وعبيدٌ وأحرارٌ وتمثالُ بونبي النصفيُّ ثم القائدُ نفسُه لابسًا قميصَ الإسكندر الأكبر. وقد شاهد يوليوس قيصر جميعَ هذا وما إلى هذا من الحوادث، فكان له أن يرى نفسه فقيرًا، وهو، إذ كان ابنًا لأُسْرَةٍ رفيعة منحطة عارفًا بمواهبه الخاصة، عَزَم على عدم وَقْف نفسه على الحكمة والدِّين والأدب مع ميله إلى الفلسفة، وهو قد أراد أن يكون غنيًّا قويًّا، وهو قد كَدَّس من الديون، وهو قد بلغ من الولع والغرام بالغواني الهِيف، ما وَجَّه إليه الأنظارَ رَجُلَ دنيا، وهو قد لاقى في إحدى الرِّداه الدنيويةِ عَطَّارَ الملك مِهرداد الذي كان عبدًا فاشترى حريتَه بفضل صنعته التي يُطَبِّقُها على كُبْرَيات النساء في ضِفاف التِّيبر، وقد لَقِيَ هنالِك أيضًا طُهَاةً من اليونان وسَحَرَةً وصَاغَة ومُصَوِّرين كانوا قد نُفُوا فأَثْرَوْا سريعًا في رومة المُوسِرَة أكثرَ مما في بلادهم الأصلية المُعْسِرَة.

وكاد قيصرُ نفسُه يصير عبدًا، وذلك أنه سافر إلى رُودس تلميذًا فقَبَض القراصين على سفينته في أثناء جَوْلَةٍ بحرية، وقد ظَلَّ في الأَسْرِ خمسين يومًا قبل أن يُطْلَق بفِدْيةٍ عظيمة، وكان يفاخر في رسائلَ ساخرةٍ بأنه عاش أميرًا بين القراصين فنَظَّم ألعابًا وقرأ أشعارًا ولم يَكُفَّ عن تهديد حَرَسه بالشَّنْق، وبقيت رومة مُحَرَّمةً عليه طويلَ زمنٍ لكونه ابنًا لأخت ماريوس، وقد رَفَضَ العودة إلى رومة لجعل ذلك موقوفًا على تَرْك زوجه الفتاة، وهو لم يرجع إلى رومة إلَّا بعد موت سِيلَّا.

وكان قيصرُ في الثلاثين من عمره حينما اتخذ السياسة مهنةً له، وكان سيِّئ السُّمعة، وقد انتحل برنامجًا محافظًا قوميًّا لكي يَصِلَ إلى مبتغاه، ثم التفت نحو الحزب الشعبيِّ وصار يُحَدِّث عن قُرْباه من مارْيُوس، حتى إنه صار يُفِيق مُبكِّرًا ليكون، في الميدان العام، محاميًا عن جميع مَنْ يحتاجون إلى عريضة. وكان — على ما يُبْدِيه من إصغاءٍ إلى الشكاوَى التي يُدَوِّنها عبدُه — يُفَكِّر في فُتُون سِرْفيلْيه أو في سِحْر فتاةٍ أخرى تركها منذ هُنَيْهَة، ويصبح صديقًا للشعب فيعاشر المُنادين وباعةَ الأزهار والحُوذِيِّين١٣٩ والحَلَّاقين والزَّمَّارين، ويَطْمَع أن يكون حَبْرًا وأن يَشْغَل هذا المَنْصِبَ في سبيل الشعب بعد أن نزعه سِيلَّا منه؛ أي إن يَبْدُوَ قِدِّيسًا فيكون لهذا الزنديقِ ترويحٌ بذلك.
ولم يَبْدأ عملُ قيصرَ الحقيقيُّ إلَّا بعد أن ناهَزَ١٤٠ الأربعين، وهو سَيَعْلُو جميعَ نجوم الفلك الساطعة بهذا العمل، وما كان يُرَى بَعْدُ أن يصبح أكثرَ من رُكْنٍ في الحكومة الثلاثية؛ أي أكثرَ من العُضْوين الآخرين، بونْبي وكرَاسُوس، اللذين كانا يقيمان برومة على حين يقيم ببلاد الغول في ذلك الوقت. وكان قد أقدم على مغادرة رومة لشعوره بأفضليته ولعِظَم طموحه، وما اتصف به من الشجاعة كان يُبْرِز مزيتَه العسكرية العظيمة ما اقتضت بلادُ الغول فتحًا بالسلاح، ويجعل من الفِرَق الثلاث التي تَلَقَّاها حينَ نَصْبه واليًا لخمس سنين جيشًا شخصيًّا له، وبما أن بونْبي كان قابضًا على زمام الغرب فقد اضْطُرَّ إلى البحث في الشرق عن الفتوح والمجد لذلك، وقد وُلِّيَ من قِبَل المجلس الشعبيِّ، لا من قِبَل مجلس السِّنَات فَعُدَّ ذلك انقلابًا. وإذا نُظِرَ إلى الأمر عمليًّا وُجِدَ أن قيصر جَرَّد مجلس السِّنَاتِ من سلطانه للمرة الأولى منذ قرون، ويظلُّ قيصرُ مخلصًا لمبدأ الأخوين غراكُوس فيُقَدِّم مزارعَ جديدةً إلى رجال الشعب كما يَمُدُّ يد المعونة إلى العوامِّ وقدماء الجنود، وكان أريستوقراطيًّا مثل سِيلَّا، فَوَدَّ أن يقوم بأعباء الحكم مثلَه مستعينًا بالشعب ضدَّ طبقة الأشراف.

وكانت إقامةُ قيصرَ ببلاد الغول، حيث قَضَى عشرَ سنين تُعَدُّ خَيْرَ سِنِي حياته، تَنِمُّ على تضحيةٍ كبيرةٍ قام بها هذا الرجل الدُّنيويُّ الناعمُ العادات، وأصبح قيصرُ رجلًا عظيمًا بمصاحبته جنودًا يشاطرهم حياتَهم بعيدًا من التَّرَف والنساء مُحَاطًا بغُرَباءَ ومقاتلين وبقليلٍ من الضباط الأصدقاء وبكثيرٍ من الضباط الحاسدين، وما كان من مقاتلته الغوليين والجِرْمان وما ناله من انتصاراتٍ يُعَدُّ من الروائع لعدم قضائه شبابَه في المعسكرات كنابليون ولقضائه في المَخَادع والمجامع والميادين العامة، وكان قد قاتل قليلًا قبل حَمْلَته في إسبانية، وهو، قبل أن يأكل الطموحُ فؤادَه، لم يكن غيرَ وَلُوع، غيرَ هاوٍ غيرَ حائزٍ درجةً رفيعةً من الثَّقافة اليونانية، ولم تَبْدأ مغامرتُه الكبرى إلَّا مؤخرًا، ولم تَدُم إلَّا خمسةَ عشرَ عامًا، وكان الارتجالُ من أسرار عظمته.

وتَجدُ السبب الثاني في سهولة ملاءمته الأحوالَ وسرعةِ تغييره قراراتِه ومقاومتِه أشدَّ الهَجَمات، وهو لم يكن صَعْبًا في اختيار الوسائل التي تُتَّخذ، وهو يسير نبيلًا على الدوام مع ذلك، ومن ذلك أن ظلَّ عاشقًا لزوج بونْبي زمنًا طويلًا، فلما صار بونْبي أَيِّمًا زَوَّجَه ابنتَه، أَوَيُعَدُّ هذا روايةً هزليةً أم فكرةً عبقرية؟ ومهما يكن من أمرٍ فقد ماتت هذه البنتُ في الوقت المناسب، وكان موتُها نذيرَ خلاف بين الرجلين، ولا بُدَّ من أن يؤدِّيَ إلى نتيجة حاسمةٍ في المعتركِ تنافسُ الرجلين بعد موتها وموت كراسُوس في ميدان القتال بآسية، وصار لا يُسْأَل منذ زمنٍ عن الدستور ولا عن الانتخابات القنصلية القانونية. ولما زَحَفَ قيصر إلى رومة مع جيشه الشخصيِّ سنة ٤٨ قبل الميلاد، وجعل نهرَ الرُّوبِيكُون الصغيرَ التافهَ خالدًا، كان عنده من الإقدام ما لم يكن عند مارْيُوس وسِيلَّا، ولكن مع أغراضٍ أدلَّ على الطموح، ويَقْهَرُ بونْبي في فَرْسالُوس، ويَفِرُّ بونْبي، ويُقْتَلُ حين نزوله إلى مصر.

ثم يَقْبِضُ قيصرُ طاغيةً على زمام الإمبراطورية الرومانية العالمية، وليس من غير المشكوك فيه أن يكون قد رَفَضَ التاجَ ثلاث مرات، وإنما الذي لا ريب فيه هو أنه لم يَضَعْه على رأسه إلَّا لأنه كان يريد أن يستحقه على شكلٍ عظيمٍ باهر، ولم يترك لنا التاريخُ غيرَ صورة قيصرَ شائبًا، وعلى العكس يَبْدُو لنا الإسكندرُ شابًّا، وكلاهما حَقَّقَ مآثره ونال مجدَه في خمسَ عشرةَ سنة.

ومع أن فاتحةَ الإسكندر الباكرةَ وقصيدةَ حياته كانتا تُشْعِران بخاتمته قبل الأوان كما هو أَمْرُ رفائيلَ ومُوزَار لم ينتقل قيصرُ من حياة النعيم والدرس إلى حياة العمل إلَّا بعد تَقَدُّمٍ في السنِّ، ومع أن الجيش والقيادة والعرش أمورٌ نالها الإسكندر وِراثةً اضْطُرَّ قيصرُ إلى خدمة الأمة سنينَ طويلةً وإلى تمحيص سلطانه تِجاه منافسيه بأعمالٍ مُجَدَّدة على الدوام. وقد وَرِث الإسكندرُ السلطانَ وسار به إلى أقصى حدود الأرض تاركًا خلفه إمبراطوريةً انْحَلَّت فَوْرَ وفاته، وقد فاز قيصرُ بالسلطان بنفسه وسار به إلى حدود بَحْرِ وطنه مُوَطِّدًا دعائمَ إمبراطوريةٍ عاشت بعده ثلاثة قرون، ولا مِرَاء في أن الطريق التي سلكها الإسكندر أكثرُ سرعةً، غير أن طريقَ قيصرَ تؤدِّي إلى ما هو أبعدُ من ذلك، وكان شخصُ الإسكندر أعظمَ جمالًا وكان شخصُ قيصرَ أعظمَ غِنًى.

وقد أتمَّ الإسكندرُ جميعَ ما كانت تؤدِّي إليه أهلياتُه، وقد حَصَر قيصرُ مشاريعَه في قلبه، وقد خَرَّ قيصر صريعًا بيدِ نَذْلٍ قاتلٍ طعنه من الخلف، وبهذا يُفَسَّرُ السببُ في كونه أكثرَ جاذبيةً من الإسكندر في التاريخ وعلى المسرح. والحقُّ أن برُوتُوسَ الذي كان يقومُ بأعمالِ رِبًا كبيرةٍ، والحقُّ أن برُوتُوسَ الذي يُمَجِّدُه الثَّوْرِيُّون في كلِّ جيل، لم يكن غيرَ صاحبِ نفس صغيرة تَرْزَح تحت عظمة مولاه، لا تحت نِيرٍ من عدم الحرية. وكانت حياةُ قيصرَ أكثرَ ارتباطًا في البحر المتوسط من ارتباط حياة الإسكندر فيه، فلم يترك قيصرُ هذا البحرَ تقريبًا، وقام قيصر بمآثره في البلدان الأربعة الواقعة على شواطئه. وكان قيصرُ ابنًا للبحر المتوسط كما أن إمبراطوريتَه كانت إمبراطوريةَ البحر المتوسط، ولو سار قيصرُ على أثر الإسكندر حتى فارس، كما كان يَنْوِي، لظَلَّت روحه ضمن حدود بلده الأصلي، والإسكندرُ، على خلاف قيصرَ، قد قضى جميعَ حياته، تقريبًا، بعيدًا من وطنه الذي عاد لا يَشْعُر بنَسَبٍ معه في نهاية الأمر.

وقد حمل الإسكندرُ حضارةَ اليونان إلى مَدًى أبعدَ مما صنعه جميعُ مَنْ جاءوا بعده، ولم يَبْلُغْ قيصرُ شأوَ الإسكندر في ذلك، وذلك لِمَا كان من اطِّلاع الإسبان والمصريين عليها قبله، وأما الغُولِيُّون والجِرْمان فما كانوا ليبالوا بها، ومع ذلك ظَلَّ الإسكندر من أنصاف البرابرة، وذلك على خلاف قيصرَ الذي كان يونانيًّا أكثرَ من الإسكندر. وكان قيصرُ من طليعة العالَم الأفلاطونيِّ، وعادَ غيرَ وثنيٍّ، ومارَسَ قيصرُ مبادئَ خُلُقيةً كانت مجهولةً في القرون القديمة، وإذا ما اتُّخِذَت أخلاقُ رجلِ العمل، لا أخلاقُ الفيلسوفِ، قاعِدَةً كانت خاتمةُ أخلاق القرون القديمة بقيصر.

وكان قيصرُ أولَ سيدٍ للبحر المتوسط خامَرَه شعورٌ جديد، وذلك أنه كَفَّ عن الانتقام وجَعَلَ من أجمل فضائل الأمير حقيقةً، وهي نسيانُ اسمِ أعدائه.

١  الدسر: المسامير، مفردها دسار، وهو ما تُشد به ألواح السفينة.
٢  الطوف: قطع خشب تُشد فتصير كهيئة سطح ويُركب عليها في الماء.
٣  الصاري: عمود يُركز في وسط السفينة يُعلق به الشراع.
٤  الدقل: خشبة طويلة تُشد في وسط السفينة ويُمد عليها الشراع.
٥  الصابورة: ما يُوضع في باطن المركب من الثقل ليثقل ولا يميل إلى جانبيه.
٦  القلاع: جمع القلع، وهو شراع السفينة.
٧  الرمث: الطوف.
٨  هدهدت الصبيَّ أمه: حرَّكته لينام.
٩  السِّيف: شاطئ البحر.
١٠  السافة: المدماك.
١١  الإليات: فلاسفة القرون القديمة الذين يؤدي مذهبهم إلى الشك.
١٢  Océan.
١٣  الخضم: البحر العظيم.
١٤  الوعاوع: جمع وعوع، وهو ابن آوى.
١٥  Calabria.
١٦  Lemnos.
١٧  Atlas.
١٨  دوكاليون: هو نوح أساطير اليونان.
١٩  المصير: مفرد المصران.
٢٠  وا حربا: كلمة يُندب بها الميت وتُستعمل للتأسف.
٢١  اليم: البحر.
٢٢  السمنجوني: ما كان بلون السماء.
٢٣  غوغن: رسام فرنسي وُلد بباريس ومات في الدومنيك (١٨٤٨–١٩٠٣).
٢٤  Symphonie.
٢٥  المصمت: الذي لا يخالطه لون آخر.
٢٦  بوره: إله رياح الشمال كما جاء في الأساطير.
٢٧  القر: البرد.
٢٨  كاشره: ضاحكه وكشف له عن أسنانه.
٢٩  المراح: مأوى الإبل والبقر والغنم.
٣٠  الدراعة: جبة مشقوقة المقدم.
٣١  العمرة: كل شيء يُجعل على الرأس.
٣٢  مأى الشيء: تمَّمه بنفسه مِئةً.
٣٣  الطرائد: جمع الطريدة، وهي الشقة المستطيلة.
٣٤  الأضواج: جمع الضوج، وهو منعطف الوادي.
٣٥  مندرة: نهر بالأناضول.
٣٦  القلوس: جمع القلس، وهو حبل للسفينة ضخم.
٣٧  المرجاس: حجر أو ما يشبهه يُشد في حبل فيُدلى في الماء ليُعلم عمقه.
٣٨  الحساس: سمك صغير يجفف.
٣٩  الدلاع: ضرب من صدف البحر.
٤٠  الإربيان: نوع سرطان بحري.
٤١  النخاريب: جمع النخروب، وهو الشق في الحجر.
٤٢  القرش: كلب البحر.
٤٣  الدخس: دابة في البحر تنجي الغريق وتُسمى «الدلفين».
٤٤  أريون: شاعر وموسيقي يوناني ظهر في القرن السابع قبل الميلاد.
٤٥  Botte.
٤٦  الأسوجة: جمع السياج.
٤٧  ماره: أتاه بالمؤنة.
٤٨  فولكن: إله النار والمعادن كما جاء في الأساطير.
٤٩  بلوتون: ملك النار وإله الموتى كما جاء في الأساطير.
٥٠  أوفيد: من شعراء اللاتين (٤٣ق.م–١٦ب.م).
٥١  الثيل: نبات له قضبان طويلة ذات عقد تمتد على الأرض، والعامة تسميه عرق الإنجيل.
٥٢  الحسك: نبات شائك.
٥٣  المجلدة: هي التي لم يبقَ عليها غير الجلد.
٥٤  الفطور: جمع الفطر، وهو الشق.
٥٥  الغطريس: المتكبر، المعجب بنفسه.
٥٦  Lilas.
٥٧  الدلبوث: نبات يُعرف بذَنَب الفرس.
٥٨  العبيثران: نبت طيب الرائحة.
٥٩  القويسة: نبات.
٦٠  الحبق: نبت طيب الرائحة.
٦١  الشبت: نبات كالشمرة يُقال له: «رز الدجاج».
٦٢  الحوك: نبات كالحبق.
٦٣  Saucisson.
٦٤  الصبغ: الإدام يُغمس فيه الخبز.
٦٥  العلك: كل صمغ يُعلك.
٦٦  الشوكران: نبات سام يشبه البقدونس.
٦٧  العرعر: شجر يشبه السرو لا ساق له ينبت في الجبال.
٦٨  أبولون: إله العرافة والطب والشعر والفنون والقطاع والنهار والشمس لدى اليونان والرومان كما جاء في الأساطير.
٦٩  لوكولوس: قائد روماني.
٧٠  الأغاو Agave: جنس من النباتات الصبارية.
٧١  الصلصال: الطين اليابس الذي يصل من يبسه؛ أي يصوت.
٧٢  النبر: البيت الذي تُنضد فيه الغلال.
٧٣  الأجفن: جمع الجفن، وهو أصول الكرم وقضبانه.
٧٤  الدردار: شجر عظيم له زهر أصفر وورق شائك وثمر كقرون الدفلى.
٧٥  الربالة: البدانة.
٧٦  الزين: شجر تُتخذ منه الرماح.
٧٧  القان: شجر تُتخذ منه القسي.
٧٨  أتينا: إلهة الفكر لدى الأغارقة كما جاء في الأساطير.
٧٩  العجر: جمع العجرة، وهي العقدة في الشجر.
٨٠  الكلوم: جمع الكلم، وهو الجرح.
٨١  المروح: الطيبة الريح.
٨٢  الدلدل: حيوان على ظهره شوك طويل، وهو معروف بالقنفذ.
٨٣  الأتان: الحمارة.
٨٤  الكن: وقاء كل شيء وستره.
٨٥  النحام: طائر طويل العنق والرجلين، أعقف المنقار، أسود الجناحين، وسائره أحمر وردي.
٨٦  الدنق: جمع الدنيق، وهو الشحيح الذي يضن بدقائق الأمور.
٨٧  الخدف: سكان السفينة؛ أي دفتها.
٨٨  الغادوف: ضرب من المقاذيف.
٨٩  البرفير: اللون المركَّب من الأحمر والأزرق، ويُعرف بالأرجوان.
٩٠  الحيزوم: وسط الصدر.
٩١  الويكنغ: نهَّابون من أهل اسكندينافية خرَّبوا أوروبة في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر.
٩٢  الخواء: الفضاء بين الشيئين.
٩٣  غنوس: عاصمة أقريطش القديمة.
٩٤  Classique.
٩٥  سنوب: فرضة على بحر بنطش بآسية الصغرى، وفيها وُلد ديوجانس الفيلسوف اليوناني المشهور.
٩٦  Chio، وكانت تُعرف عند العرب بجزيرة المصطكي.
٩٧  الأرغنوت: من أبطال اليونان، وقد ركبوا سفينة أرغو ففتحوا قلادة الذهب في كولشيد كما جاء في الأساطير.
٩٨  الشادي: من يُنشد شعرًا فيمد صوته به كالغناء.
٩٩  السيف: ساحل البحر.
١٠٠  Faisceaux.
١٠١  الخُمار: صداع الخمر.
١٠٢  المنا: ميزان يساوي رطلين.
١٠٣  أي ما يعدل نصف مليون دولار.
١٠٤  العقيق: الوادي الضيِّق.
١٠٥  القيقب: نوع من الشجر.
١٠٦  Classique.
١٠٧  العقدة: هي الميل البحري هنا.
١٠٨  Scaffolding Echafaudage.
١٠٩  انصاع: رجع مسرعًا.
١١٠  سوده: جعله سيدًا.
١١١  النغيل: ولد الزنا.
١١٢  نسبة إلى منرفا، ابنة جوبيتر وإلهة الحكمة والفنون.
١١٣  الزنجار: صدأ النحاس.
١١٤  Dorique.
١١٥  Classiques.
١١٦  Radicaux.
١١٧  Films.
١١٨  Classique.
١١٩  Comédie.
١٢٠  انظر إلى موضوع «الآريين والأساتذة» في أواخر هذا الكتاب.
١٢١  Comptabilité doudle.
١٢٢  الخنزوانة: جنون العظمة.
١٢٣  هي مدينة إصطخر.
١٢٤  Pergame.
١٢٥  القلوس: جمع القلس، وهو حبل للسفينة ضخم.
١٢٦  الخوافق: الجهات الأربع.
١٢٧  الهري: بيت كبير يُجمع فيه القمح وغيره.
١٢٨  الجلاوزة: جمع الجلواز، وهو الشرطي.
١٢٩  Laïques.
١٣٠  Puritain.
١٣١  آم: فقد زوجته.
١٣٢  أندر: أتى بنادر من قول أو فعل.
١٣٣  Bourgeoise.
١٣٤  الميار: جمع المائر، وهو من يأتي بالطعام والمؤنة.
١٣٥  Arpent.
١٣٦  Chio، وهي عند العرب جزيرة المصطكي.
١٣٧  المغاني: جمع المغنى، وهو المنزل المعروف باﻟ Villa.
١٣٨  الرزاة: جمع الراز، وهو رئيس البنائين Architecte.
١٣٩  الحوذي: سائق العربة.
١٤٠  ناهزه: قاربه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤