آخِرُ اللَّيل

١

يعتقد السائح أنه يدنو من سَرَابٍ، لا من مَقَرِّ ولايةٍ هادئٍ، وذلك عندما يصل إلى خليج البندقية الواسع ويُوغِلُ فيه فيبصره مُبَلَّلًا بنورٍ أزرقَ أخضر، وقد جاوز السائح، الآتي من الإسكندرية، البحرَ المتوسط في ثلاثة أيامٍ على باخرة فاخرة عصرية، ويُنَظِّفُ الخَدَمُ الحانَةَ التي أُتْلِفَت ليلًا والموائدَ التي لُوِّنت بالرَّماد وغُطِّيَت بالأقداح، ويَصُبُّ الأولادُ دِلَاءً على جسر النُّزْهة، وتُكَدَّس الأمتعة فتبدو كالجبل عَشِيَّةً لِتُؤْخَذَ ضُحًى، ويَرَى السائحُ من هذه الصُّوَر أكثَرَ الأمور رِوَائيَّةً حوالَي منتصف القرن العشرين، وأن دور النَّسْنَاس قد مَضَى، وأن هذا الدور لم يكن غيرَ أُسْطُوريٍّ على ما يُحتمل.

وكلما اقْتُرِب من تلك المدينة الوحيدة وُجِدَ كلُّ شيءٍ فيها مُبَلَّلًا بنورٍ قويٍّ غيرِ حقيقيٍّ مع ذلك، وُجِد كلُّ شيء غارقًا في نُورٍ من الأحلام، ويزيد هذا الانطباع في كلِّ سَفَرٍ بدلًا من أن يزول، ولا رَيْب في أنه سيبدو بعد قرون كما هو الآن؛ وذلك لأنك لا ترى مدينةً في الدنيا تُشَابِهُ مِصْرًا بُنِيَ على البحر، وتلوح جُزُرٌ منخفضة، تُمَيَّز بقِباب أجراسها وشبح قصورها، أنها عائمةٌ على البحر الذي لم يَكَدْ يُلَوَّنُ بلونٍ وَرْدِيٍّ بَعْدُ، وليس من العجيب أن تتوارى كما لو جُرِفُت بجريان.

وتَبْرُز الأبراجُ من بين ضَبَاب الصباح مقدارًا فمقدارًا، ويبدو أعلاها في البُداءة، ثم تظهر الأبراج الكثيرة الأخرى، وتَبْرُز من بين الضَّباب في الأسفل قُبَّتَان ضاربتان إلى خُضْرة، ثم تَبْرُز خمسُ قِبَاب أخرى، ولَسُرْعان ما تكثُر الصُّوَر والأصوات حَوْلَ الباخرة التي تنساب شيئًا فشيئًا تقريبًا، ويبدأ ظهورُ النهار مع أنواع حركته على الأرصفة العريضة، وتُؤَدِّي في كلِّ مكان قَنَوَاتٌ ضيقةٌ وسُودٌ إلى الحوض الكبير اللامع كأنها لم تَزَلْ مُثْقَلَةً بالليل مع أن النهار صار مسيطرًا على الخارج، وتصبح مُقَدَّمَات البيوت أكثرَ سَنَاءً وهَيَفًا، ويرتفع من هذه البيوت قصرٌ رُخَاميٌّ فيهيمن على البحر الرائع بشكله البسيط مع عدم انتظام، ويُؤَلِّف هذا البناءُ زاويةً حادَّةً فيمتدُّ إلى ميدانٍ مُرَبَّع ذي أبعادٍ منسجمة، ويبدو قصرُ الرؤساء هذا مَكْسُوًّا بمَرْمَرٍ ورديٍّ مع شُرَفٍ غِيدٍ١ بِيضٍ قائمةٍ على صَفٍّ مضاعفٍ من الأعمدة، وذلك كالراقِصة اللابسة ديباجًا تَحْمِلُه ذُرْعانٌ قوية، وكلُّ شيء مُسْتَوٍ، ولا ترى ما هو ناتئٌ بارزٌ نحو السماء، وتَقِفُ الزوارقُ عند أسفل المراقي الطويلة، ويَجْعَل ما لا يُحْصَى عددُه من دعائمَ تُرْبَطُ بها الزوارقُ ذلك الشاطئَ كصفٍّ من رِمَاحٍ كما يلوح، وتُبْصِر على عموديْن يُزَيِّنَان الميدانَ فارسًا وأسدًا يَرْقُبَان مَنْ يَصِلُ من المَلَّاحين، وذلك على حين ترى القصورَ ممتدةً فوق القناطر، ويَرْمُز ذلك في مجموعه إلى القوة والسلطان؛ أي إلى الجُمهورية.

ومع ذلك يختلف الطِّراز ويتنوع فيما وراء الباب الرُّخامِيِّ الثَّخين المؤدي إلى القصر، ويرتفع بالقرب من تاج المدخل شِبْهِ القُوطِيِّ مُقَدَّمُ كنيسة القدِّيس مُرْقُص القائمُ على الطِّراز الشرقيِّ الخالص، ومما لا مراء فيه أن البيزَّا التي هي ضربٌ من رِدَاه الرَّقص الكبيرة قد أُنْشِئَت ليَرْقُص فيها ألوفُ الأزواج معًا، وهي محاطةٌ بمبانٍ طويلة أخرى تدعمها أعمدة قليلة الانتظام مجتنبةً بذلك كثرةَ النمطية مُوَكِّدَةً رسمَها بقيامها عند مُقَدَّم الكتدرائية ذاتِ القِبَابِ الكثيرة، وينتصب عموديًّا في نقطةٍ واحدة بناءُ ميدانِ القديس مرقص، المستوى الأفقيُّ، وذلك أن قُبَّة الجرس الصغيرةَ تعلو نحو السماء أمام إحدى زوايا الكتدرائية، وفي أيامنا يمْكِنُ أن يُصْعَد في البُرْج بمِصْعَد، وفي الماضي كان ذلك يُبْلَغُ بالفَرَس على مَيْلٍ لَوْلَبيٍّ داخليٍّ، ولا تَجِدُ برجًا آخر يُنْعِم على ذُروته بمثل ما لهذا البرج؛ وسبب ذلك أن البندقية هي المدينة الوحيدة القائمةُ على البحر والواقعةُ أمام انحدار جبال الألب، وأنها بعيدةٌ بعضَ البُعْدِ منه فيستطيع الإنسان أن يحيط بجميع المنظر كما في إطارٍ واسع.

وتُجَاوِزُ السُّقُوفَ ألوفُ المداخن كما لو كانت أبراجًا صغيرة مُعَدَّةً لحماية الأهالي، وتتشابك خطوط سُودٌ كثيرةٌ فيتألف منها تِيهٌ، وهذه هي قنَوَاتٌ ضيقةٌ تقوم فوقها جُسُورٌ حجريةٌ صغيرةٌ صاعدةٌ هابطةٌ كظَهْر الحِمَار حتى يُمْكِنَ السُّفُنَ المشحونةَ أن تَمُرَّ من تحت قناطرها، ولها بهذه الضرورة العملية خَلَاصٌ من نَمَطِيَّة الخطوط المستقيمة. والآن، خارجًا، تَبْدُو الجُزُرُ لأعيننا في وَضَحِ النهار، وللسائح أن يَجِدَّ في تَعَلُّم أسمائِها المنسجمة مع الأهداف الخَفِيَّة التي سُخِّرَت لها، وذلك لِمَا يلوح من تأليف جميع ما تَقَدَّم جزءًا من أسطورة قديمة.

ومع ذلك ليس جميعُ ذلك مُتْحَفًا ولا مَعْرِضًا، وتُنْعِشُ نفحةُ حياةٍ عصريةٍ كلَّ ذلك، على أن يقع بأبطأَ من هَزَجنا المعتاد، فالحياة في تلك المِنْطقة الوحيدة من الدنيا تأبى تلك السرعةَ الخادعة التي تَحْرِم عصرَنا سِمَتَه الروحانية، ومن شأن الأوتاد التي تُغْرَز في الماء لتُبْنَى عليها البيوت أن تُوَلِّد في الرُّوع ذلك الانطباع، وهذه الأوتادُ، المحاطةُ بنباتاتٍ مائية ضاربةٍ إلى خُضْرةٍ ومُثَبِّتَةٍ لها من غير أن تَكْسِرها، قائمةٌ تحت البيوت، وأمام القصور الكبيرة، جُمَلًا مترجحةً بين الأربعة والعشرة، فتُمَثِّلُ دَوْرَ التماثيل الداعمة. وهكذا يَتَجَلَّى تاريخ البندقية مقدارًا فمقدارًا فيُذَكِّر ما ازدهرت به في قرون رَخائها من سَنَاءٍ وثَرَاءٍ وسلطان وجمال، ويُخَيَّلُ إلى الناظر أن البحر مع أعماقه يَرْمُزُ إلى كِيان مجتمع قائم هنالك، كما في كلِّ مكانٍ، على أركانٍ فاترة مُحْتَبِكةٍ بنباتاتٍ طفيلية خُضْرٍ كثيرة، إلى مجتمعٍ يمكنه أن يقاوِم زمنًا غيرَ قصير مع سرعة عَطَبِه.

وإذا ما خُرِج من تِيهِ القَنَواتِ ووُجِد في ميدان الأعياد الكبير بعد مجاوزة كثيرٍ من الجُسُور المُحَدَّبة، سَهُل التَّنَفُّس ونُسِيَ الثمن الذي أَدَّاه أحد شعوب البحر المتوسط في ذلك المكان قاصدًا التمتع بالحياة.

وتتكاثر الطيورُ بين جميع تلك الأبراج وبين جميع تلك الجُسُور والقِبَاب والقَنَوَات، ولا أحد يَعْرِفُ في هذه المدينة البحرية، التي لم تكن جزيرةً، هل الحمائم التي تأتي من البَرِّ أكثرُ سعادةً هنالك من النَّوْرَس٢ الذي يجيء من البحر، وإذا ما ضَلَّ نَوْرَسٌ سمينٌ بين الحمائم الزُّرْق السُّمْرِ التي كانت أجدادها تَبْنِي وُكُنَاتٍ٣ لها منذ عشرة قرونٍ في تلك الزوايا تَجَمَّعَتْ هذه الحمائم في الساحة مذعورةً مُهَانَةً حتى يبتعد الطائرُ الكبيرُ الغريبُ خافقًا جَناحيْه نحو البحر.

٢

لم تنشأ تلك المدينة العجيبة عن اصطراع العناصر فقط، بل نشأت عن انتصار الإنسان على العناصر أيضًا، وتُؤَلِّفُ الأنهارُ دِلْتَاتٍ على كثيرٍ من سواحل البحر المتوسط، وقد تَكَوَّن شاطئُ البحرِ الأدرياتيِّ الشماليُّ الغربيُّ من رُسُوب غِرْيَنِ الأنهار التي كان مجراها الأدنى يتغير بلا انقطاع فلا يزال يزيد الأرض اليابسة، وقد بلغ الْبو والتِّسَّان والأَدَّا والبرِنْتَا والبيَاف وبضعةُ الأنهارِ الصغيرةِ الواقعةِ بين تلك الأنهار من تحويل الساحل بين فِيُوم ورِيمِينِي بنقْلِها كُتَلًا ترابيةً من الشمال ما تَغَيَّرت الخريطةُ معه منذ عهد الرومان وفي غضون بضعة القرون الأخيرة، ويتقدم الساحل في بعض الأماكن من لنباردية أربعة أميال في كل مائة عام.

ويُوضَح خِصْبُ تلك البقعة من بعض الوجوه بامتداد الأدرياتيِّ في أزمنة ما قبل التاريخ عميقًا بعيدَ المدى نحو الغرب، وبفصله جبالَ الألب من جبال الأبنين في المكان الذي تَقَعُ فيه لُنْبارْدية في الوقت الحاضر، ولم يَحْدُث قَطُّ أن أضاع مزاياه العظيمة نهرُ الْبو الذي يَقْطَع ذلك السهلَ مع أضواجٍ٤ منسجمة بين جبال الألب البيمُونْتِيَّة ورافين، حتى إنه لُقِّبَ من قِبَل الأهالي ﺑ «النهر المحبوب المرهوب»، ويُنْتَفَع بأمتار الرمل المكعبة، البالغةِ أربعين مليونًا والتي ينقلها كلَّ عامٍ، في أعمالٍ صِناعية وفي إنشاءِ أسدادٍ وحواجزَ، أَجَلْ، إنه يأتي بالخِصْب، ولكن «وَيْلٌ للجميع إذا ما اقتلع حواجزَه!» كما يقول الأهلون. ويُقَاسُ هذا النهرُ بالطغَاة الخَطرين الذين ترتجف الشعوب في عهدهم مع انتصاراتهم، ومع ذلك تُوجَدُ قوةٌ ثانية تُعارَض بها الأولى، وهي غَزْوُ البحر للساحل غَزْوًا يمكن تشبيهه بما تبديه الجموع الشعبية من مقاومة، ولا تزال الريحُ القوية الكثيرة الهُبُوب تَزِيدُ قوةَ المقاومة هذه في شمال الأدرياتيِّ، ومع ذلك فإن بعض الحساب يدلُّ على أن ساحلَ الأدرياتيِّ الشماليَّ الغربيَّ سيصل بتقدُّمه الدائم إلى ساحل إِسْترْية المواجهِ في مائة وعشرين سنة، فبذلك يتحول خليج البندقية إلى بحيرة بَرِّيَّة على نَمَط بحيرة ماجُور، ومن الممكن أن نفترض عند ذكر بحيرة ماجور، وقوعَ تَحَوُّل هذه البحيرة وبحيرةِ كُومَ في أزمنة ما قبل التاريخ، وقد رأينا في آسية الصغرى أن تقدُّم نهر المِنْدَرة حَوَّل الخليجَ الواقعةَ عليه مدينةُ مِيلِه القديمة إلى بحيرة.

وتُبْصِر تاريخَ الناس المتقاتلين أكثرَ إثارةً من تاريخ العناصر على الرغم من كلِّ شيء، ويتَعَلَّم أهل تلك السواحل من العناصر كيف يكونون ماكرين فيُحَوِّلون الأنهارَ عن مجاريها، ومن المحتمل أن يكون أصلُ مذهب الدبلميين الشهيرِ من البندقية؛ وذلك لأن روح سُكَّانها أُرْهِفَت بأهواء المَلكِ البُو.

ويرتبط تاريخُ المرافئ والمناقع والضحاضح في تاريخ الإنسان بالبحر المتوسط ارتباطًا وثيقًا، وهو يجعل الفَلَّاح عالِمًا بأحوال الجَوِّ ككلِّ نظامٍ للمياه كما يجعل ابنَ المِصْرِ خبيرًا بالعلوم الطبيعية قادرًا على تفسير ما في الطبيعة من شُذُوذٍ وإفراطٍ، فيستنبط نتائجَ منه، ولَمَّا يَمْضِ قرنٌ على الزمن الذي كان الفرنسيون الساكنون دِلْتَا الرُّون يخسرون في كلِّ سنة منه ثَرَوَاتٍ بسبب تَطَيُّن الشاطئ، وما انفكَّ الطلاينةُ منذ القرون القديمة يحاولون، مع نجاح زائد، تضييقَ نطاقِ الخُلُجِ والمناقع غير المِقْري٥ الذي يفصل أحيانًا داخل الأرَضِين عن البحر على مَسَافة عشرين ميلًا.

ودام الكفاح بنجاح متقابِل، وتحولت المناقع بالقرب من فِرَّارَ ورافينَ إلى حقولٍ خصيبة، ووُفِّقَ البندقِيُّون، بعد جهود عظيمة، لتحويل البرِنْتَا إلى الجَنُوب منعًا له من تطيين ذلك المِصْر. وعلى العكس جاهد أهلُ الخليج الشماليِّ غيرَ مُوَفَّقين ضِدَّ الإيِزُنْزُو، فلم يَنْتَهُوا في شمال تِرْيسْتة الحاضرة الغربيِّ إلى إنقاذ المدينتين القديمتين: غرَادُو وأَكِيلِة، والْتَهَم النهرُ والبحرُ ناحيةَ البَرِّ في مَصَبِّ البيَاف مناوَبةً فابتلعا مدينةَ هِرَاقْلِة القديمةَ، وكانت المدينتان، ترِيفِيز وبادُو، واقعتين على البحر في القرون الوسطى مع أنه لا يمكن بلوغ هاتين المدينتين في أيامنا بغير سفنٍ صغيرة ومن قَنَوَات مصنوعة.

والقَدَرُ هو الذي وَسَمَ حياةَ تلك البِقاع بسِمَته فتُنْصَرُ هذه الحياةُ حينًا وتُقْهَرُ حينًا آخر مُعَانِيَةً صَوْلَةَ العَدُوَّيْن الممزوجةَ في بعض المرات، ظافرةً بسلامتها من هذه الحَمَلات، ويا للمنظر الفاجع الذي تَعْرِضه رافِينُ علينا! ويا ليُمْن المنظر الذي تَعْرِضه بادُو علينا! فكأنَّ هذين المِصْرَين يتَقَبَّلَان نصيبَهما المتماثل على وجهٍ مختلف تَبَعًا لِمَا لكلٍّ منهما من سجية خاصة. والواقعُ أن كلَّ واحدٍ من مئات المناقع تلك، أو البحيراتِ المُفَرْطحة تلك، الواقعةِ على طول الشاطئ، يختلف عن الأخرى بِنْيَةً، وتدلُّ كلُّ واحدةٍ من الكلمتين: «المنقع الحيِّ» و«المنقع الميت» على أن قسمًا من تلك المناقع يَتَّجِهُ إلى البحر فيبقى سليمًا بفعل المَدِّ والجَزْر، وعلى أن قسمًا آخر يَتَحَوَّلُ عن البحر فلا ينتفع بالمدِّ والجَزْر فتغزوه الحشرات ويصير مصدرًا للحُمَّيَات، ويكون له من المنظر المُوهِن ما لِطَرف الأرض الصغيرِ بين مِسْتِر والبندقية.

ويشبَّهُ نهر الْبو بالنِّيل على مقياسٍ صغير من حيث قُوَّتُه المُوَلِّدة، فهو قد أَوْجَد أرضَ الخليج الكبيرةَ ونُصِرَ على الشاطئ الغِرْيَنِيِّ الذي كَوَّنه البحر، وساحلٌ مثلُ هذا يَدْعُوه علماء الأرض ﺑ «الشاطئ الغِرْيَنِيِّ البحريِّ الذي يُعَيِّن مجراه قُوَى البحر الشاطئية بأقواسٍ مستوية»، وقد جَدَّ الأهلون في قهر هذا النهر الظافر فأنشئوا أسدادًا وحواجزَ متزايدةً معارضين بها تلك القُوَى الطاغية، وهم ما انفكُّوا، منذ أوائل القرون الوسطى، يقيمون هذه الحواجزَ المتباعدةَ في مجرى النهر الفوقانيِّ على مسافة ٢٥٠ ميلًا، ومما زاد الطينَ والترابَ اللذين حُوِّلَا إلى البحر على تلك الصورة ما كان من كثرة إزالة الغابات.

وإذا ما قِيسَت الخرائطُ القديمة بالخرائط الجديدة دُهِشَ الإنسان من اتساع مدى عمل أجيالٍ بأجمعها نَيْلًا لأَرَضِين صغيرةٍ، مع أن هنالك من الأَرَضِينَ الكبيرة الصالحة للزراعة ما تُرِك بُورًا، ويَشْعُر الرجل العاقل هنا بمثل ما ينطبع في ذهنه عندما يقرأ في البلاغات الحربية استماتةَ جيوشٍ بأسرها للاستيلاء على قلعةٍ بدلًا من حَصْرها ومجاوزتها. أَجَلْ، إن الأحوال هي التي تَحْمِل الإنسان على بَذْل جُهْده في كلتا الحالين، غير أن للكرامة عملًا في كلا الأمرين، والواقعُ أنه يُرْغَبُ في استخلاص الحقِّ من العدوِّ جيشًا كان أو بحرًا. والواقعُ أن المشاعر التي تساور القائدَ الذي يُقَرِّر الاستيلاءَ على مكان حصين هي كالتي تساور المهندس الذي يُقْدِم على إنشاءِ أسدادٍ بعد أسدادٍ، ويُفَضِّل مجتمع الأجداد، الذين عاشوا في هذه الجُزُر وجَذَّفوا واصطادوا في هذه القنوات، أن يَقْتَحِم الطبيعة في مَحَلِّه على الاغتراب.

ولعمل الإنسان تقريبًا مدينة دِلْتَا نهر الْبو الذي ينقسم إلى سبعة فروع في نهاية الأمر فيؤلف مِرْوَحَةً يزيد طولها على ثلاثين ميلًا، ومع ذلك يَظَلُّ هذا العمل ناقصًا لعدم ثبات مجرى الفروع السبعة ولتقلُّب سرعة الكُتَل الطينية، وترانا تجاه حالٍ نادرةٍ؛ وذلك لاستطاعتنا أن نتعقب على الخرائط والوثائق ظهورَ إحدى الدلتات منذ سنة ١٢٠٠ فنحسُب المَدَى الذي حالت به قوة البحر الصائلةُ دون تَدَرُّج هذه الدلتا نحو التقدم بزَلَقٍ جانبيٍّ.

وما كان من كمالِ جمالٍ وجهدٍ بشريٍّ في تاريخ البندقية عُيِّنَ بكيان هذه الدلتا، وما كان من سرعة زوال الإمارات ودُوَيْلات المدنِ المجاورة حَدَث بفعل موقعها، وقد قامت مُدُنٌ جديدة باتجاه البحر مع زوال مُدُنٍ وشعوبٍ قارِّيَّة مقدارًا فمقدارًا، كأفول الطبقات في تاريخ الأمم العظيمة الاجتماعيِّ، وكانت تقوم على هذا الشاطئ مدينةُ سِتينَا الغنيةُ قبل العهد الرومانيِّ، كما كانت تقوم في زمن يَسُوعَ مدينةُ أَدِرْية التي غَدت اليوم فاقدةَ القِيمة بعد ازدهارٍ كبير، وعلى أبنائها الذين يسمعون هديرَ الأمواج بفعل الزوابع من مسافة خمسةَ عشرَ ميلًا أن يذكروا، مع سُخْرِيَةٍ، أن مدينتَهم الصغيرة هي التي أعطت ذلك البحرَ العنيفَ اسمَها.

وقد اختار البندقيون أسوأَ موقعٍ بين جميع مناقع ذلك الشاطئ لإقامة مدينتهم، ولم يكن لدى المستعمِرين هنالك مَرَاع، ولا مروجٌ، ولا ماءٌ صالحٌ للشرب غيرُ ماء المطر، ولا طعامٌ غيرُ السمك، وكانت مصابُّ الأنهار المجاورة تجعل الجُزُرَ المنخفضة عُرْضَةً لخطرٍ كبير بنسبة عدم انتظام جريانها، ولا رَيْبَ في أن الذي تَحَوَّل إلى «القناة الكبرى» كان نهرًا يَصُبُّ في البحر بالقرب من مِيسْتِر، ولا ريب في أن القناة الحاضرة الواقعةَ أمام جيُودِكَّا كانت نهرَ البِرِنْتَا، وقد كانت الجُزُرُ الخارجيةُ المهجورةُ مستورَةً بأعشاب طويلة وعامرةً بالطرائد وبالذئاب أيضًا.

ويَظْهَر أن صَيَّادين كانوا يقيمون بتلك البِقاع البحرية منذ القديم، فنُسِجَت أغرب الافتراضات حَوْلَ أصلهم، فيَرَى إسْترَابُون أن أهل تلك الناحية الأوَّلين جاءوا من برِيتانْية، ويَزْعُم رومانيٌّ آخرُ أنهم أَتَوْا من البلاد البَلْطِيَّة، ويؤيد معظمُ العلماء دَوْحَةَ بافْلَاغُونِي، ويعتقد آخرون أنهم وَرَدُوا من إيلِّيرْية، ومهما يكن من أمرٍ فإنهم حَضَرُوا قبل القرن السابع؛ أي قبل لاجِئي أَكِيلِة الهاربين من الهَيَاطِلَة والقُوطِ واللُّنْبَار، ويلوح أن البناءَ بالآجُرِّ المصنوعةِ من طينِ تلك المِنْطقة قد بُدِئَ به في ذلك العصر حين إقامة أولِ كنيسة، ويُظَنُّ أنه كان للقُسَّان تأثيرٌ كبير في ذلك.

وهنالك نشأ مجتمعٌ حُرٌّ على شاكلته تحت سلطان الكنيسة فدام ألف عام، وما كان من عُزْلَة تلك الجزائر التي يجعل الماءُ من المتعذر كلَّ استيلاءٍ عليها بأسلحة ذلك الزمن الابتدائية، وما كان من فقر السكان ومن حياتهم القاسية المنعزلة ومن عَطَلهم من التقاليد، أمورٌ أعانت على نُمُوِّ روح الاستقلال عند أولئك الصيادين بما يستحيل وجوده في المجتمعات الإيطالية القارِّيَّة المُعَرَّضَة لهجوم الجيران ومغازي أخلاط البرابرة دومًا، ومن الطبيعيِّ أن يصبح مثْل هؤلاء الجَزرِيُّون من الزُّهَّاد والطُّلقَاء والحُرَصاء. ومن المحتمل أن كانت البندقية دولةَ العالَم الوحيدة التي لم تحاول إنتاج أبطال، وبما أن البندقية مؤلفةٌ من جزائرَ، ولم تكن مملكةً جَزَرِيةً مشابهةً للأرخبيل الإيجيِّ، فقد كانت، كدولةٍ، تقضي حياةً بَرْمَائيةً، أي كانت نصفَ بحرية ونصفَ بَرِّيَّة، وهكذا كان لها بمزاجها الفاتر وقايةٌ من المخاطر التي حالت في القارَّة دون ارتقاء البلدان الصغيرة الأكثرِ حِدَّةً.

وإذْ وَجَد تجار البندقية المقتصدون في البحر ما يَشْغَلُهم فإنهم لم يَبْدُوا مُبَذِّرين في غير أمور الأسطول وفي غير أمور المباني التي تَبْهَر المسافرين من الأجانب، وبينما كانت مراكبهم اﻟ ٣٠٠٠ مجَهَّزَة ببَحْرِيَّة نَموذجية أُعِدَّت وَفْقَ نظام متأصل كان من السهل قهرُ جنودهم المرتزقة في البَرِّ. وكانت البندقية تعيش مثلَ مَنْقَع حَيٍّ … وهي قد انطلقت من جُزَيِّرَة لتمتدَّ نحو سواحلَ بعيدةٍ، وهي قد تُشَبَّه بإنكلترة المُسْتَعْمِرة أكثر مما بأثينة وقرطاجة، وكما أن الشعب الإنكليزيَّ التاجِرَ أنجب بشعراء ومفكرين، أنجب الشعب البندقيُّ المِقْدَامُ التاجرُ الجَزَرِيُّ بمصورين ومَثَّالين ممتازين بَقِيَتْ آثارهم بعد دور ازدهار البندقية.

وقد اضْطُرَّت البندقية، كالإنكليز والفنيقيين، إلى اكتساب سلطانٍ بحريٍّ عن تقديرٍ لموقعها وعن خَوْفٍ من القراصين، وقد حَمَلَ ضيق الجزيرة أهلَها البندقيين على التوسع صَوْبَ البحر، وقد حَوَّل أولُ نجاح كبير أصابوه هذه الضرورةَ إلى حُمَيَّا وحَفَزَهم إلى محالفة أيٍّ كان وإلى معاهدة أيِّ عدوٍّ للدِّين والحضارة ما وَجَدَت مستودعاتُهم ملجأً في الشواطئ البعيدة، وهم لم يسيروا قُدُمًا عن حُبٍّ لنفائس الأمور كالفنيقيين، ولا عن انجذابٍ إلى الشرق، ولا عن رغبةٍ في السيطرة العالمية، وكلا الشعبين كان مِقْدامًا جَسورًا فأنتج تجارًا وساسةً وبلغ أوج درجات الازدهار في ظلِّ حكومةٍ من الأعيان خضع لها مختارًا، والأغارقةُ وحدَهم هم الذين سَبَقُوهما في هذا المِضمار، ولكن ما فُطِرَ عليه الأغارقة من عبقريةٍ تفوق عبقرية البندقيين والإنكليز بلغ من السُّمُوِّ ما ظَلَّ معه شعورُهم التجاريُّ ممتازًا.

٣

يَبْرُز من البحر ميناءٌ آخرُ كبيرٌ وَعْرٌ حجريٌّ داجنٌ ناتئٌ من الجبل المُتَوَعِّد قريبٌ من المِصْرِ وفُرْضته، ومن المحتمل أن كانت جِنِوَة أكثرَ مُدُن البحر المتوسط رُجُولةً، وهي في ذلك على خلاف البندقية الأُنْثَوِيَّة، وهي، كما يظهر، وليدةُ شعبٍ راغب في القوة أكثر مما في الجمال متصفٍ بالحَذَر أكثر مما بالقِرَى، ومع ذلك كان هذا الشعبُ البحريُّ شديدَ الارتباط في الأرض حيث تُمْكن إقامةُ حصونٍ وجمعُ ثَرَوات، وكان دانتي قد عَرَف قوةَ جنوة فهاجمها في «مَهْزلته الإلهية».

وتقوم على طول الميناء مبانٍ ثخينةٌ عظيمة وبنوكٌ وبيوتٌ تجارية تشابه الحصون، ومع ذلك كانت الشوارع الرئيسة من الضِّيق ما يُمكِنُ الأشرافَ ونساءَهم وخَدَمَهم أن يتحادثوا معه من بيت إلى آخر بالانحناء من نوافذ قصورهم، ولا تَجِدُ لِما يُدْعَى اليوم فيَاغارِيبَالْدِي نظيرًا حتى في إيطالية من حيث جمالُ مُقَدَّم المباني، ومع ذلك لا تمتد الشوارع والمنازلُ طولًا، فهي تنتصب متعاظمةً من أساسها كالجبال الواقعة وراءَها.

وقد اجتذبت جِنِوَة، التي يبدو اشتقاق اسمها من كلمة «جِنُو»٦ وَفْقَ شكل شاطئها المنحرف، شَعْبَ الإتروريين والأغارقة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وقد اضْطُرَّ القرطاجيون والرومان إلى الإبحار على طول هذا الساحل أيضًا، وقد أبصر هذا المكانُ، الواقعُ بين مَدَّةِ جبال الألب البحريَّة وجبالِ الأبنِين والضَّيِّقُ عند سفوح هذه الجبال، نشوءَ شعبٍ من التجار مُعَدٍّ لتوحيد أمم فرنسة وإيطالية تارةً وفصل بعضها عن بعضٍ تارةً أخرى، ممثِّلًا دورَ حارسِ الحدود، ومن شأن موقع جِنِوَة الجغرافيِّ أن جعل من أبنائها أناسًا مناضلين، ومع ذلك فإن أهل جِنوَة لم يَبْلُغوا كمستعمرين ما بلغه أهل البندقية مرونةً، ومع أنه كان للبندقية من المناقع والقَنَوات ما تَحْمِي به نفسها تِجاه جيرانها فإن جنوة كانت مضطرةً في جميع الأدوار إلى الدفاع عن نفسها ضدَّ ملوك فرنسة وأباطرة ألمانية، وهي قد بلغت من شِدَّة كَلَف غيرها بها ما صارت لا تبالي معه بأن تقوم مَرْسيلية مقامها في أوروبة الغربية منافِسَةً.

وقد سيطرت الجُمهوريتان القويتان: جِنِوَة والبندقية، على مِلاحة البحر المتوسط، وكيف اتَّفَق لبلد صغير أن يَفْتَح مستعمراتٍ عظيمةً غيرَ مسكونةٍ بزنوجٍ قليلي التمدن؛ أي إن يفتح سواحلَ البحر المتوسط القديمةَ وموانئَه وجزائرَه التي كانت مستعمراتٍ يونانيةً ثم غَدَت معاقلَ للحضارتين الفارسية والعربية؟ وما هو سبب توفيق الدُّوَيْلتيْن، البندقية وجِنِوَة، في الشرق حيث أَخْفَقَت دولُ الغرب العظمى؟

تَجِدُ لذلك عِدَّةَ عِلَل، والعلةُ الأولى هي أنه أمكن الدولَ الصغيرةَ المتحدةَ، والمتفاهمةَ على العموم، أن تَعْمَل ثابتةً وُصُولًا إلى هدف معين وذلك على عكس الدول الكبيرة التي تَمَزَّقت بالمنازعات الأُسْرِية قبل أن تلتحم دُوَلًا قوميةً، وذلك إلى أنه لم يكن لدى الدول البحرية غيرُ جَبْهة واحدة، غيرُ البحر المتوسط، مع أن فرنسة وإسبانية والإمبراطورية الجِرْمانية كانت محاطةً بأبْحُرٍ أخرى، وذلك إلى أن تينك الدويلتين لم تُولَعَا بمظاهر السلطان وَلَعَها بحقِّ التجارة، فلم يكن في تينك ملوكٌ أو أباطرةٌ راغبون في إقامة بَلَاطٍ في جزائر بحر إيجهْ، أو في زواج أبنائهم بأميرات وارثات، أو في الإنعام على تابعيهم من الأشراف بإِقطاعات.

ولم يُدْفَع هؤلاء التجارُ، الذين لُقِّبُوا خطأً ﺑ «التجار الملكيين»، إلى العمل قَطُّ عن طموحٍ إلى رفع راياتِهم فوق مشارف المدن الأجنبية، أو عن حِرْصٍ على اضطهاد سكان السواحل البعيدة، أو عن مَيْلٍ إِلى اعتقال هؤلاء لعدم تحيتهم تمثالَ الفاتح، فهم قد وَجَدوا سعادتهم في الميزانية التي يضعونها آخرَ كلِّ سنة عن ازدهار بَنْكِهم ومدينتِهم، وفي توريثهم أبناءَهم ما كانوا قد وَرِثُوه عن آبائهم؛ أي توريثهم احتكاراتٍ وسُفُنًا تجاريةً وأكياسًا مملوءَةً ذهبًا، لا مدافعَ وأكاليلَ مَلَكِيةً، وهم لم يَحْلُموا بالسيادة العالمية وبقهر البابا، وهم لم يسيروا مع خيالِ فَرْضِ الدينِ القَيِّم على الكافرين عند المغامرة فوق البحر المتوسط العاصف، وهم قد انقادوا لرغبتهم في تقديرهم بأعينهم وشَمِّهم بأنوفهم ولمسِهم بأيديهم سِلَعَ أسواق طنجة وطرابلس ورُودِس وساقِز وسينُوب وطَرَبْزُون؛ أي النسائجَ الحريرية والمُوَشَّياتِ والشُّفُوفَ والقلائِدَ والأغمادَ والبُسُطَ والأفاويهَ والعطورَ التي يَشْحَنُ بها وكلاؤُهم سفنًا كبيرةً لتُقَايَضَ في الغرب بالذهب وبِسلَعٍ أخرى.

ولم يَوَدَّ هؤلاء «التجارُ الأمراءُ» غيرَ الحُكْم في بلدهم وغيرَ تبجيل العالَم إياهم وخوفِه منهم، والواقعُ في بلدهم أن الأوضاع والألقاب والسلاسل الذهبية والثياب المخملية الثمينة التي يَسْخُو بها الرؤساء والشيوخُ على أنفسهم وعلى أصدقائهم، كالاحتكارات في الولايات، كانت تساوي ألوفَ الدوكات،٧ وما كان بين حكومات الأعيان في البندقية وجنوة في القرون الوسطى من تحاسدٍ طبيعيٍّ كان يحول دون سُمُوِّ بعض الوجهاء فوق المجتمع، وما كان من عدم المَيْل إلى الفتح أبعد من تينك الجُمهوريتين حكوماتِ انقلابٍ كالتي أقامها رؤساء الأتباع في مدنٍ إيطالية صغيرة، وكان هذا مدارَ شعورهم الجُمهوريِّ الوحيد ما ازْدَرَوا الجُمهورَ كما ازْدُرِيَ من قبل دوكات البلاد المجاورة وأمرائها.
وكانت تانك الجُمهوريتان مختلفتين دستورًا، فبينما كانت البندقية تتدرج إلى الأريستوقراطية، كانت جنوة تصبح ديمقراطيةً في الحين بعد الحين، ومن شأن وَضْعِ كلٍّ منهما تعيينُ تاريخ كلٍّ من المدينتين تعيينًا مختلفًا، وانظرْ إلى جِنِوَة، انظرْ إلى موقعها المِفْتَاحِيِّ، تَجِدْها قد مُلِقَت٨ وهُدِّدت معًا في كلِّ زمان، وهي قد أبدت شقاقَها الداخليَّ، ولا سيما تنافسُ أُسْرَتي سبينُولَا ودُورْيا الكبيرتين، أمامَ الأمم الأجنبية التي كان كلٌّ من هاتين الأُسْرَتين يستعين بها على الأُسرة المزاحِمة الأخرى، وهكذا فَرَضَ كُونتاتٌ من الفَرَنج ودوكاتٌ من ميلانَ وملوكٌ من فرنسة ونابلَ نفوذَهم بالتتابع على جِنوة كما بسطوا سلطانَهم الكاملَ عليها في بعض الأحيان، وهكذا جُرَّت هذه الجُمهورية إلى الصِّراع بين الغِلْف والجِبْلَن، وبين البابوات والأباطرة، ولم يبقَ سليمًا في غضون القرون غيرُ أمرين، غيرُ بَنْك سان جِيُورْجِيُو الذي كان يُمِدُّ الصليبيين وأمراءَ المسلمين بالمال مناوَبَةً، وغيرُ الأسطول المرهوب في جميع البحر المتوسط، وفي جميع هذه المغامرات انتزع شعبُ جِنوَة حقوقًا جديدةً من الأشراف وعَرَفَ كيف يحافظ عليها.

وفي البندقية ظلَّ بنك سان مارْكُو والأسطولُ من العوامل الثابتة أيضًا، ومع ذلك فقد أُضيف إليهما عاملٌ ثالث مُوَطِّدٌ لهما مُعَيِّنٌ في نهاية الأمر للمَخْرَج من تنافس المدينتين الطويل، وهذا العامل الثالث هو حِسُّ الاستقلال الذي تأصَّل في روح أهل البندقية ورَسَخَ فيها بأسهلَ مما هنالك نتيجةً لموقع هذا المصر المنعزل وقِلَّةِ تَطْيَابِه، وعلى ما كان من قيام هذه المدينة فوق أوتادٍ قَصِفَةٍ كَمِصْرٍ مؤقتٍ فإنها بقيت أقوى من الميناء المُتَوَعِّد الذي كان قد أُنشئ تحت حماية الحصون ذاتِ الأُسُسِ المتينة، ولَمَّا طلبت بِزَنْطة، وقد كانت في أَوْج مجدها، من البندقية أن تعترف بسيادتها، أرسلت هذه المدينةُ الفتاةُ القائمةُ على المناقع وفدًا ليُبَلِّغَ رفضَها بهذه الكلمة الرائعة: «لم يَسْطِع أيُّ إمبراطورٍ أو أميرٍ أن يَصِلَ إِلينا هنا، ونحن الذين أخرجوا هذه المدينة من المناقع.»

ويمضي زمنٌ، فيُهَدِّدُ اللنبارُ والفَرَنجُ البندقيةَ بَرًّا فيتلقَّون مثلَ ذلك الجواب.

وذاع منذ القديم صيت هؤلاء الصيادين الجَذَّافين فطرةً، فطلب نَرسِيسُ الذي كان أعظمَ قُوَّادِ عصره من هؤلاء المَلَّاحين الماهرين أن يكونوا رَبَابِنَةً لنقل جيشه من غرَادُو، ومن ناحيةٍ أخرى أغرى الإمبراطور فردريك الثاني مُفَضِّلًا أهل جِنوة بأن يقودوا مراكبه، وبهذه المراكب وفي هذا المكان دافع أهل البندقية عن أنفسهم ضدَّ أتِّيلَا بَرًّا وضدَّ بيِبن بحرًا، ومع ذلك فإن البندقيين لم يبدءوا بتجهيز مراكبهم لمكافحة قراصين دَلْمَاسية إلَّا حَوالَي سنة ١٠٠٠ فقط، ثم بَلَغُوا من الشهرة الكبيرة في المِلاحة ما منحتهم بِزَنطةُ معه بعضَ الامتيازات في مقابل مساعدتهم البحرية تِجاه الخطر النورمانيِّ، ثم بلغت سُفُنُ أسطولهم التجاريِّ عددًا لا يُصَدَّق، بَلَغت ٣٣٠٠؛ أي رَقْمًا يُثِير العَجَب في هذه الأيام أيضًا.

وكنوزُ الشرق هي ما جلبه، منذ أيام الحرب الصليبية، هؤلاء المَلَّاحون الذين كانوا في الغالب مُلْكَ بنوكٍ وشركاتٍ في البندقية وجِنِوَة، وكانت أدوار الحرب تزيد الفوضى العامَّة، وعاد بعضُ الجُزُر غيرَ تابعٍ لأية سلطة كانت، فبدا الوقتُ صالحًا لمحاولة بعض الرؤساء المقاديم إقامةَ الحكم المطلق، ومع ذلك فإن ما فُطِرَ عليه أهل البندقية من روح الاستقلال انتصب ضدَّ مثل هذه المغامرة، وقد أُرِيدَت موازنةُ طموح الأُسَرِ الثلاث التي كان أبناؤها يَسْعَوْن تبادلًا في نَيْلِ مناصب الرِّئاسة فأُقيمَ مجلس وأُنشئت قنصليةٌ ذاتُ رأسين، وقد عَرَف الأمراءُ التجار الذين كانوا سادةَ الجُمهورية الحقيقيين أن يَثْلِموا بذلك حَدَّ استبداد الرئيس وسلطاتِ المجلس المنتخب معًا، وقد قام بشئون الحكم في البندقية في عصر ازدهارها وبعد سقوط بزنطة ثم في جميع القرن الثالثَ عشرَ أريستوقراطيون ماليون؛ أي طبقةٌ من الأعيان فخورٌ بدَمِها وشجرة نسبها، وقد أُقيم لهذه الطبقة نَوْعٌ من مجالس الشيوخ لم يُعَتِّم أن تَغَلَّب الرؤساء عليه وأن صار يُعَيَّن من قِبَل المحكمة العليا، ومع ذلك لم يكن أهل البندقية ليُطِيقُوا نظامًا استبداديًّا، فلما حاول الرئيس فالْيِر أن يناديَ بنفسه «أميرًا للبندقية» نتيجةً لانقلابٍ قام به سنة ١٣٥٥ قطعوا رأسه على دَرج «سكالَادِي جِيغَانتي»، وقد خُنِقَ بعضُ المُؤْتَمِرين قريبًا من عَمُودَي «البيازِتَّا» مُوَاجَهةً للبحر، وذلك إلى أن فِتْنَتيْن اشتعلتا حوالَي سنة ١٣٠٠ فأُطْفِئَتا سريعًا.

وبلغ الحقد على جِنِوَة أقصى حَدِّه لزيادة سلطانها الاستعماري، وكانت جنوة تأمُلُ، حتى بعدما نالته من ضروب الفوز في الغرب، أن تفتح مراحلَ البحر المتوسط الشرقية حيث كانت وارثةُ بِزَنْطة البندقيةُ تسيطر بتجارتها على شواطئ بلاد اليونان وآسية، ومما اتَّفَق لجِنِوَة أيضًا أن غَلَبت بيزة، أن غَلَبت هذه الدولةَ التجاريةَ الثالثةَ الكبيرةَ في إيطالية، بعد صِرَاعِ عِدَّة قرون.

ولدينا بالوصف الرائع لمعركة مِلُورْيَة الحاسمة التي وقعت في عُرْض بيزة سنة ١٢٨٤ صورةٌ عن إحدى المعارك البحرية في القرون الوسطى، وما كان يمازج جِنِوَة من تقاليدَ حربيةٍ طويلة ومن شعورٍ بالشرف أكثرَ تأَصُّلًا مما في البندقية حَفَزَ رئيسَها دُورْيا إِلى قيادة المعركة وإلى جلب جميع أُسْرَته إلى المركب حتى النصرِ أو الهلاك معًا، ويُعَدُّ هذا مثالًا من أمثلة التضحية التي لا تجد لها مكانًا عند رؤسائنا في الوقت الحاضر.

يُلْقِي أسطولُ بيزة المُهدِّدُ لأسطول جنوة مراسيَه في مصبِّ الأَرْنُو ذات صباحٍ من شهر أغسطس، ويُبْصِرُ المَلَّاحون، في أثناء الصَّلَوَات العامة، سقوطَ تمثال قِدِّيسٍ في الماء عَرَضًا وتواريَه فيَفْزَعون، ويُقْطَعُ الصمتُ مع الارتعاشُ بغتةً بالصُّراخ: «لا تَقْنَطوا! فإذا كان يسوعُ حليفًا لجِنِوة فإن الريحَ معنا!» وتسير سفن بيزة مختالةً بعد الظهر وتقع المعركة التي أُعِدَّت في أجيال، ويُنْفَخُ في الأبواق والنَّوَاقير، وتُسَدُّ فَتَحاتُ المُؤَخَّرات، ويسقط وابلٌ من النِّبَال والمعادن والحجارة، ويُضْطَرُّ مُقَدَّم المراكب إلى مواجهة العدو منعًا له من الإيغال في الجوانبِ، وبما أن مُقَدَّم المراكب أقوى سلاحٍ لِمَنْ يستفيد من ريحٍ ملائمة فإنه يمكن أسطولًا حسنَ الاتِّجاه أن يَقْضِيَ، أو أن يُعَرْقل على الأقلِّ، نصفَ أسطول العدوِّ.

وإليك المراكبَ المصفوفةَ المتأهبة للصِّراع، ويحاول كلٌّ من الأسطولين أن يصاول الآخر وأن يهاجم مؤخراتِه وأبراجَه، ويُجْنَدَلُ المقاتلون في أثناء الصِّراع بضَرَباتِ أعدائهم وبما يُرْمى عليهم من دُهنٍ وزيت يقذفهما الأعداء من المَجَانِق على مراكبهم، وتَرْمي السُّفُنُ الرئيسةُ رَصَاصًا ذائبًا وماءً حارًّا، ويتعارف القادةُ من مركب إلى مركب، ويُؤْتَى بحاكم بيزة مجروحًا جَرْحًا خَطِرًا في رأسه، ويُنْزَع علَم بيزة مع بقاء مِسَاكِه٩ على السارية جامعًا لشَمْلِ المَلَّاحين القانطين، فلما سَقَطَ المِسَاك ضاع كلُّ شيءٍ، وقد غُنِمَت وأُغرقت ستٌّ وثلاثون سفينةً حربيةً بيزِيَّةً ونَقَّالتان بيزِيَّتان مع خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير، وتَرْتَدُّ طائفةٌ صغيرة من السفن إلى الميناء الأصليِّ مُقْفِلَةً إياه بالسلسلة الكُبْرى، وتُخْتَمُ المعركةُ بالليل، ويُعْرَض عَلَم بيزة، الذي كان قد مُزِّق وبُصِقَ عليه، في كتدرائية جِنِوة يوم الأحد القادم، وهكذا تكون جِنِوة قد قضت على منافَسةِ بيزة في يومٍ واحد.

ويمضي قرنٌ فتَقْهر البندقيةُ منافستَها الأخيرة جِنوَة، وأقوى الأسطولين هو الذي تَمَّ له النصر.

ولم يكن الأسطولُ الحربيُّ في ذلك الدَّوْر مختلفًا عن الأسطول التجاريِّ، وكان من العسير تمييز السفن الشراعية من السفن ذوات المقاذيف، وكان يمكن أكبَرَ مركبٍ نَقَّال أن يُحْمَلَ، وهو يُطْلى بلونٍ رَماديٍّ أزرقَ في مثل هذه الحال، وإذا كانت السفينة حربيةً رفعت راياتِها الصُّفْرَ أو البِيضَ مع صُلْبانٍ حُمْر، ولم تكن الأسلحةُ لتُخْفَى في ذلك الحين كما في أيامنا، بل كانت تُبْدَى بما يُسْتَفَزُّ به بدلًا من أن تُنَكَّر، وكان من الممكن أن تستوعب هذه المراكبُ الكبيرةُ ألفَ رجلٍ أو أن تشتمل على الأعمدة الرُّخامية الاثني عشرَ التي أُخِذَت من قصر ملك اليهود يهوذا المِيكابيِّ، ولم تَصِلْ هذه المراكب مع ذلك وإنما ظَلَّت ضاجعةً في قعر البحر.

وكان أكثرَ المراكبِ شيوعًا هو المركبُ ذو الأشرعة والمقاذيف الذي ظلَّ يُبْنَى على طرازه حتى القرنِ الثامنَ عشرَ، وكان هذا المركبُ يَحْمِل على جوانبه أسماءً جميلةً مَرْقُومةً في سجلات السفن ﮐ «غازِيلَّا» و«فالْكوُ» و«دُولْسيس» و«برَادِيزِيس». وكانت هذه السفنُ ذواتُ المقاذيف، التي لا تُجَهَّزُ بالأشرعة إلَّا حين ملاءمة الهواء، تغادر المرفأ مع مِرقاة خارجية مشابهة لجُسُورنا الضيقة، وكانت ذاتَ مَرَاسٍ مُعَلَّقَةٍ بحِبَالٍ بدلًا من المَراسي ذات السلاسل في القرون القديمة، وكان هذا الأسطولُ شبهُ الحربيِّ في ذلك الحين يَحْمِي التجارةَ وَفْقَ أسلوبٍ مماثلٍ لمِنْهاج مراكب الحِرَاسة في الوقت الحاضر، وذلك حين عَوْدَة السفن من الشرق مشحونةً بأوساقٍ ذاتِ قيمة، وكان يوجد لهذه السُّفن الضخمة في الغالب مالكون كثيرون فيكون أحدهم راكبًا فيها.

ولم يكن من النُّزَه الجميلة أن يسافَر في البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد أبحر الصليبيون كالحيوان ووجدوا أنفسهم من السُّعَداء لمعاملتهم على هذا الوجه، ومما جاء في تاريخ قديم أن ملك فرنسة أمر الجِنوِيِّين بأن يَضَعُوا في المراكب عَلَفًا للخيل لمدة ثمانية أشهر، وخمرًا لمدة أربعة أشهر فقط، وإذا ما حَمَّلَ تاجرٌ غنيٌّ معه دواجنَ حَيَّةً كان مؤرخو ذلك العصر يُسَجِّلُون هذا التَّرَف كما تُسَجِّلُ جرائدُ أيامنا فارسًا سِنَمَائيًّا يُبْحِرُ مع خَيْلهِ المُسْرَجة.

وقد نشأ المركب الحربيُّ وَفْقَ مِثَالَيْن أصليين، ولم يكن أحدُهما، ويُعْرَف بالغَلْيُون، غيرَ سفينةٍ شِرَاعية، وكان ذا طبقاتٍ كثيرة، وكان أعرضَ وأعلى من المركب العاديِّ، وكان يَبْلُغ من الطول ثمانيةً وعشرين مترًا ومن العرض تسعةَ أمتار، وكان هذا المركبُ ثقيلًا غيرَ سَهْل الاستعمال ولكنه من المتانة ما يستطيع أن يَحْمِل معه مِدْفعين. وأما المثال الآخر، ويُعْرَف بالغَلِيَاس، فكان يَبْلُغ من الطول خمسةً وخمسين مترًا مع دخول أربعة أمتارٍ في الماء، وكان أبطأَ من الغَلْيُون، ولكن مع قدرةٍ على إطلاق النار أكثر منه، وكان ما تصيب مدافعُه به الهدفَ من القنابل يَزِنُ ٣٦ رطلًا؛ أي ما يَقْتُل جمعًا من الناس في سفينة العدوِّ، وقد ظَلَّ طِرَازُ المراكب هذا مستعملًا في المعارك البحرية حتى سنة ١٨٠٠.

وكان أهلُ جِنوة يرسلون قناصلَهم إلى الحرب مُنْعِمِين عليهم بلقب «أمير البحر» أحيانًا؛ أي بهذه الكلمة العربية التي بُدِئَ باستعمالها في أثناء الحروب الصليبية بدلًا من الكلمات اللاتينية: «كابيتَانُوس» و«دُوكْس» و«رِكْتُور». وفي البندقية وحدَها كان يحقُّ لأحد الأشراف أن يَقُودَ سفينةً حربية كبيرة وأن يَحْلِف مُقَدَّمًا أنه يقاتلُ وحدَه خمسةً وعشرين مركبًا من مراكب الأعداء، وهذا ما وقع في ليبانت فعلًا.

وكانت تلك المراكب تنتهي إلى أسواقٍ ومتاجرَ في نهاية أسفارها الهادئة، لا إلى مستعمراتٍ، ولَمَّا نُقِشَ أسدٌ مُجَنَّحٌ على حجرٍ فوق رِتَاجٍ كرِه الجِنوِيُّون ذلك ما دام الأسد يَرْمُز إلى رِتاج القديس مرقص في البندقية. وقد وَسَّعَتْ كلٌّ من جِنِوة والبندقية نِطاقَ تجارتها حتى الفراتِ، حتى البحرِ الأسود حيث هَلَك نصفُ الأسطول البندقيِّ ذاتَ مرةٍ نتيجةَ اختلافٍ في إصدار فِراءٍ من روسية، ومن المحتمل أن كانت تلك الحرب التي وقعت سنة ١٣٥٣ حَوْل الفِرَاء أولَ حربٍ تجارية حقيقية في التاريخ الحديث.

وما اشتعل حَوْل بِزَنطة في بدءِ الأمر، وما كان من اصطراعٍ في سبيل السلطة بين أرباب المصارف بجِنوة والبندقية، أدى في قرن واحد إلى سفك دماءٍ أكثرَ مما إلى إنفاق مال. وفي بِزَنْطة كان الرُّومِيُّ مِيشِل بالِيُولُوغ قد ارتقى إلى العرش الإمبراطوريِّ فحالف جِنوَة ضدَّ البندقية، ويُسَلِّم، بعد انتصار جِنوَة، إلى الجِنويين أحياءَ البندقيين ومُحْتَكَرَاتِهم، وتُقابَل الضَّرَباتُ بالضرَبات ويَعْقُب النصرُ الانكساراتِ، وكان يمكن هذا أن يدوم إلى ما لا نهاية له لو لم يَظْهَر التركُ ويَقْبِضوا على ناصية سورية قبل استيلائهم على بزَنطة بزمنٍ واضعين، آليًّا، حَدًّا لمُحْتَكَرَات مُدُنِ الغربِ البحرية، ولم تُعَتِّم البندقية، التي كانت تُمِدُّ بالمال إحدى الحروب الصليبية، أن انحازت إلى الترْك فأغلقت جِنوَة مضايقَ الدردنيل من فورها، أفلا يشابه هذا ما قرأناه أمسِ في الجريدة؟

ويُفْرَض حَلٌّ نهائيٌّ بعد كثيرٍ من الهُدَن المؤقتة، وذلك أن البندقية كانت تبدو للعالم بالغةَ السعادة والغِنَى منذ قرنين، فتُحْسَدُ وتُمْقَت، ويَغْدُو جميع العالم إلبًا واحدًا عليها؛ أي آلُ هابسبرغ الذين كانوا يَدْنُون من تريستة، والهنغاريُّون الذين اتحدوا في مملكةٍ بلقانية قوية واحدة تحت تاجِ أَنْجُوِيٍّ، وأَهلُ جِنوَة، ويُوغِلُ هؤلاء في مناقع البندقية ويحاصرون هذه المدينة فيلوح أنها محكوم عليها بالموت جوعًا لعجزها عن الامتراء١٠ برًّا أو عن الاتصال بالبر، ويَسْجُن أهلُ البندقية أميرَ بحرهم المقهورَ بيزَاني، ويُطْلِقُونه في الساعة الأخيرة، فيُوَفَّقُ في تحويل المحاصِرين إلى مُحَاصَرِين دفعةً واحدةً في جزيرة كيُوجَا المجاورة، ويُكْرِه مراكبَ دُوريْا الاثنين والثلاثين ورجالَه اﻟ ٥٠٠٠ على التسليم بعد وقت قصير، وتُعَدُّ هذه من الضَّرَبات الرائعة التي يُسْفِرُ عنها وَضْعٌ مقطوعُ الرجاء منه لا يَلْبَث أن يُثِير حَنَقَ شجاعةٍ فَيَقهَر به ضابطٌ مقدامٌ — وَفْقَ أسلوبه الخاصِّ — عَدُوًّا كان يَعُدُّ نفسَه منصورًا منذ هُنَيْهة.

وتُثْبِتُ البندقية تَفَوُّقَها على جِنِوة في الساعة الحَرِجة حين كان كلُّ شيء يتوقف على سرعة ثلاثمائة جَذَّافٍ أو على هجوم جرئ وعلى تَهَوُّرِ عشرة ربَابِنَة وتضحيتهم كما يُحتمل، وقد وقع ذلك بعد قيام البندقية بسبعمائة سنة تمامًا، وقد قال أحد المؤرخين قبل ذلك بزمن طويل: «إن أهل البندقية الذين يُقِيمون بين الماء هم فوقَ جميع الأمم الأخرى في أثناء معركةٍ بحريةٍ تَقَع.»

وقد تَعَلَّم أهل البندقية من هَوْل ذلك الحصار القاتل أنهم لا يستطيعون الرُّكُونَ إلى قاعدتهم العائمة العاطلة من الخبز واللحم وأنه لا مناص لهم من حيازة ممتلكة واسعة، ويتحول التجارُ إلى مقاتلين بنشاطٍ فائق، ويَنْزِل هذا الشعبُ البَرْمَائيُّ إلى البرِّ ويُثْبِت أن رُكُوبَ البحر ليس وحدَه هو الذي يَعْرِف صُنعَه، أَجَلْ، فَضَّلَ أرباب رءوس الأموال اشتراءَ بنادقَ من فِضَّةٍ وجعلَ مرتزقةٍ سويسريين وغيرَهم يُطْلِقُون قذائفَ منها، ولكنهم جَنَّدُوا أبناءَهم أيضًا.

وتصبح الدولة البحرية الهادئة، التي أَرسلت من مناقعها الأسطورية ثلاثةَ آلاف مركبٍ تجاريٍّ للاتجار مع العالَم بأسْرِه، شعبًا بريًّا فاتحًا، وتُنْصَرُ البندقية في حروب متعاقبة، وتَقْهَر دوكية ميلان على الخصوص، فتُوجِدُ في شمال إيطالية ممتلكةً واسعةً لها ممتدةً إلى بِرْغام وبرِيسْيَا من ناحية الغرب، وإلى كادُور من ناحية الشمال، وإلى دَلْماسْية من وراءِ البحر الأدرياتيِّ حيث كان البندقيون قد ذهبوا ذاتَ مرةٍ في بدء تاريخهم؛ أي منذ سبعة قرون، والآن تَدْنُوا البندقية من أَوْج سلطانها.

ويُقْضَى على شَوْكة جِنوة بعد معركة كيوجا في سنة ١٣٨٠، وتداوم جنوة على حيازة أسواق مهمة وعلى ممارسة نفوذها في الغرب، وتُوَجِّه سلاحَها ضِدَّ الفرنسيين مرةً، وضدَّ الترك مرةً أخرى، ومع ذلك فإن البندقية وحدَها هي التي تستأثر بِسُوق الشرق الكُبْرى، والبندقيةُ هي التي تعيش بعد سلطان جِنوَة مدةَ مائةٍ وثلاثين سنة.

وإن الأمر لكذلك إذ يُلْقِي أمرٌ هائل جِرَانَه بين الأمم المتنازعة، إذْ تظهر تلك القوة المشئومة التي كان الناس يَدْعُونها في القرون الوسطى «بلاءَ الله»، ومن المحتمل أن كان الناس على حَقٍّ عندما أبصروا في الطاعون الذي يُهْلِكهم عقَابًا ربَّانيًّا، ويلوح أنه هَلَك حوالَي سنة ١٣٥٠ خمسةٌ وعشرون مليونًا من الآدميين في عامين بفعل هذه الجائحة فكان نصفُهم من بلاد البحر المتوسط.

ومن نتائج تلك الكارثة أن انتشر مذهبُ الفلَاجِلَّان الدينيُّ القائلُ بإمكان غفران ذنوب الإنسان إذا ما عَذَّب بدنَه الخاصَّ، وقد بَلَغَ عددُ أنصار هذا المذهب من الكثرة في أثناء ذلك الوباء الجارف ما اضْطُرَّ معه البابا إلى منع أولئك الفلاجِلَّان، الألمانِ في الغالب، من السياحة نحو البحر المتوسط.

٤

يبدو لنا أن دانتي وسانْ تُومَا الأَكوينيَّ أعمقُ مفكري البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد تعاقب الرجلان، فكان الشاعر في التاسعة من سِنيه حين وفاة القِدِّيس، وكان كلا الرجلين خياليًّا، عالِمًا، لاهوتيًّا، فيلسوفًا، وكان تأثير الدُّومِنيكِيِّ في أثناء حياته أعظمَ من تأثير الشاعر في أثناء حياته، ثم حدث العكسُ، ولم يَسْتطِعْ أحدٌ أن يقول أيُّ الرجلين كان أعظمَ من الآخر.

ومع ذلك يمكن أن يُسَجَّلَ أمرٌ رمزيٌّ، وذلك أن سانْ تُومَا الأكوينيَّ الذي زار نصف أوروبة في حياته القصيرة ظلَّ بعيدًا من السياسة بُعْدًا تامًّا، وأن دانتي لم يغادرْ إيطالية خلا ما كان من سَفَرِه إلى باريس على ما يُحتمل، وأنه عاش أكثر من القديس مدة عشرين سنةً وستةِ أشهرٍ، وقد نشأ أكبر حافزٍ لنشاطه السياسيِّ عن نَفْيه الذي لم يُبْعِدْه غيرَ عشرين ميلًا تقريبًا، والذي لم يَحْرِمه استعمالَ لغته الأصلية، ولا الاتصالَ بقومه، ولا دينَه، ولا دراساتِه، ولا أصدقاءَه.

ولولا كَلَفُه السياسيُّ، ولولا حقدُه، ولولا رغبتُه في الانتقام، ولولا تقَلُّدُه مَنْصِبَ قاضٍ ما ارتقى، على ما يُحتمل، فوق شعراء المُوضَة الذين كانوا رفقاءَ شبابه، وعلى العكس، وعلى الرغم من كل شيء، كان توما يَبْقَى مُطابِقًا لنفسه بغير سياحاته وصِلاتهِ بالأُسَر المالكة ومناظراتِه، ومن توما تتألف، بين البابوات المُتَحَلِّلين والأساقفةِ الراغبين في الملاذِّ والصليبيين الأفَّاقين، صورةٌ قادرة على الإيحاء إلى الأعقاب.

وقد اعتزل تُومَا المجتمعَ كسانْ فَرانْسوَا، وكان تُوما سليلَ أُسْرَةٍ قديمة، سليلَ كونتاتِ أكوين الذين يَرْجِع أصلُهم إلى ناحية نابل، ووُلِدَ تُوما في حِصنٍ على الجَبَل، لا في السهل كفَرنْسوا وأُغُسْتَن؛ ولذا كان يسهُل عليه أن يَزْهد في الدنيا، وهو، مع سَيْره على هذا الوجه، حافظ على جميع منافعه، فاستطاع أن يَنْصَح ملك فرنسة وأن يسافر من كُولُونية إلى باريس مع أَلْبِرْتُوسْ مَغْنُوسْ وأن يقوم بأعمالٍ مالية من أَجْل بيته، ويَرْفِض توما أن يكون رئيسًا للأساقفة؛ أي إن يقْبِض على زمام مَنْصِبٍ يُعَدُّ سبيلًا طبيعيًّا للارتقاء إلى البابوية على الأرجح، ولكن توما وحدَه هو «الأميرُ الكبيرُ» بين القِدِّيسين كما يبدو.

وعندما نقرأ أن معاصريه كانوا يسمونه «العَلَّامةَ الملائكيَّ العامَّ»، نفكِّر في أمر إرَاسْم الذي نال هذا اللقب بعد ثلاثة قرون، ولكن مع رفضه باسمًا نَعْتَ «الملائكيِّ»، وما كان من سَعْيِ تُوما في إدخال أفكار أفلاطون ومناهج أرسطو إلى علم اللاهوت، أو في التوفيق بين علم اللاهوت وهذه الأفكار والمناهج على الأقل، يُثْبِت أنه كان يَعْلُو عصرَه. ومن تعاليمه أننا لا ندرك من الوحي ومن العقل غيرَ أدنى الدرجات، ولكنْ بما أن الله الواحدَ هو مصدرُهما فإن حاصل علم اللاهوت هو حاصلُ الفلسفة في وقت واحد، وتعليمٌ مثلُ هذا ينطوي على شيء من الثَّوْرية، فيمكن في أدوارٍ أخرى أن يؤديَ إلى وَصْف الإكليريكيِّ بالمُلْحِدِ بدلًا من وصفه بالقِدِّيس. وقد عاش توما بين الوجْدِ الدينيِّ والمنطقِ البارد فكان يأْلَمُ من ذلك لا رَيْب، وقد فُسِّرَ هذا بالأسطورة القائلة إن توما رأى قبل موته بثمانية أشهر أو تسعة أشهر من الرؤيا ما انقطع معه عن الكتابة، ويَكْفِي هذا الانقطاع وحدَه لعَدِّه من ذوي العقول الكبيرة.

وكان لدى دانتي من موهبة الشكل ما كان يُعْوِزُ توما، وعلى ما كان من تشابه الرجلين في بعض ما كتبوه فإن محور آثارِهما لا يدور حول هذا، وقد كتب دانتي كتابه باللاتينية على أساس اللغة الشعبية، وكان يمكن توما أن يكتب قصائدَ بالإيطالية لا ريب، وكان كلٌّ من الرجلين قريبًا من الآخر في أفكاره حَوْلَ المِثَالِيَّة الأفلاطونية، والواقعُ أنْ كان دانتي يَعُدُّ نفسه تلميذًا لسانْ توما.

ويمكن تفسير عدم كتابة توما قصائدَ غراميةً بثوبه الكنسيِّ الأبيض خلافًا لدانتي، ومع ذلك لا نرى كبيرَ أهميةٍ لذلك. وكان دانتي من أكابر الموظفين في مدينة فُلورَنسة أيام ازدهار عمره ابنًا للسابعة والثلاثين، وكان، على خلاف توما، راغبًا عن الزهد في هذه الدنيا حين نُفِيَ مع أربعةَ عشرَ وجيهًا لأسباب حزبية عامِّيَّة. وإننا عندما نبحث في جَدْوَل هؤلاء السياسيين المُبْعَدِين فيقع نظرنا على اسم صاحب الرقم ١١؛ أي على دانتي أَلِيجْيِرِي، نعترف مرةً أخرى بأن السلطة الزمنية تَمَّحِي، وبأن السلطان الذهنيَّ وحدَه هو الذي يستطيع أن يحافظ على سَنَائه في غضون القرون.

ولم يَتَجَلَّ معنى نصيبِ دانتي ولم تُظْهِرْه سجيتُه إلَّا بعد ذهابه إلى منفاه، فهنالك أخذت عبقريتُه تتفتح، وبينما كان توما يزداد اتزانًا ابنًا للخامسة والثلاثين كان دانتي يعاني أعظمَ انفعالٍ نفسيٍّ في حياته في مثل هذا العمر، وقد انتحل شعرَ الشعب ولسانَه الذي كان عليه أن يُكَوِّنه في بدء الأمر توسيعًا لخيال العالَم في تصويره التيتانيِّ،١١ وليس من العجيب أنْ وصف الربَّ ويسوعَ كما صنع العالِمُ اللاهوتيُّ توما، وعلى العكس لم يُبْدِ مُيُولًا عالمية في العالَم السياسيِّ حتى عصرِه، بل أظهر منازغَ قوميةً، فقد كان دانتي يريد توحيدَ إيطالية، لا دولةً للكنيسة، والمَنْفَى هو الذي جعل منه شاعرًا عالميًّا، وكان هذا حَوالَي الخمسين مِن سِنِيه، والذي يَمِيزُه من غيره، من أولئك الذين لَخَّصُوا في الشعر عِلْمَهم بالأمور البشرية والإلهية، هو هواه الحِزْبيُّ الذي أَرْسَل به أصدقاءَه إلى الجنة وساق به أعداءه إلى جهنم … ويَنْفِيه البابا فيَحْقِد عليه أميرًا للظُّلُمات، ويُغَيِّرُ عصرَه ومصيره الشخصيَّ فيما وراء ذلك، ويجعل من نفسه، إذَنْ، قاصًّا وبطلًا لشعره، وهكذا يرتفع مُبْتَعِدًا من الإنصاف الواجب الذي يكون المؤرخُ به مُمِلًّا لِحَمْلِ الإنصاف هذا المؤرخَ على الفتور والنَّمَطِيَّة وعلى إخفاء وَحْيِه مُتَّخِذًا وضعًا خُلقيًّا لقاضٍ عالَمِيٍّ. وكان هذا اللاهوتيُّ المزعومُ، الذي نُسِيَ حُكْمُه على الأمراء منذ زمن طويل فعاد لا يبالي أحدٌ بهذا الحكم، من اضطراب القلب المُخْلِص عن وَجْدٍ إنسانيٍّ ومن الاعتراف المؤثِّر بمزاياه ومعايبه ما يُؤَثِّر معه توجيهُ نَظَرِه إلى الله تأثيرًا عميقًا فينا.

ويقضي دانتي في منفاه أربعَ عشرةَ سنة، فيُخْبَرُ بأنه يستطيع أن يعود إلى فلورنسة على أن يتُوبَ من خطاياه عَلَانِيَةً بأن يَلْبَس في الكنيسة ثوبَ التَّوْبة، ويَنِمُّ جوابه الجريء على ما فيه من عِزَّة شاعر، وما كان ليعود إلى وطنه إلَّا عَزِيزًا، وهو يمكنه، إلى أن يَبْلُغَ ذلك، أن يَتأَمَّل في الشمس والنجوم وأن يسبح في أفكاره العميقة، ويموت بعد خمس سنين في رافِن من غير أن يرى مَسْقط رأسه مرةً أخرى، وتكون الرابطةُ الوحيدة بين فلورنسة ومنفاه هديةً من ذهب أرسلتها مدينةُ فلورنسة، بعد حين، إلى ابنته التي بقيت في رافِن، وكان اسمُ هذه البنت بياتريسَ، وهو كاسم معشوقة دانتي المثالية، وكان الرجل الذي جاءها بهدية فلورنسة يُدْعَى بُوكاس.

وقليلٌ ما قُرِئَت آثارُ الفيلسوفيْن، اللذين هما من أبناء البحر المتوسط، خارجَ شواطئ هذا البحر، وقُدِّرَ سان توما من قِبَل علماء اللاهوت على الخصوص، ولم يُعْرَف دانتي بأكثرَ مما عُرِف فِرْجيل، وقد عُرِفَ دانتي أقلَّ مما عُرِف أوميرس كثيرًا، ولا يذكر العالَمُ لتوما غيرَ ردائه الأبيض وما يحمله من إكليل قِدِّيس، وفي العالَم يبقى من دانتي ذلك الرسم الجانبيُّ الخالد وتلك الصورةُ المشهورة لالتقائه بفتاةٍ حسناءَ على جسر، ومع ذلك فإن كلاهما، كرجلين من أبناء القرون الوسطى، ظلَّ حيًّا بعد ذهاب الملوك والحروب ومعاهدات السَّلم؛ وذلك لأنهما تقَمَّصَا أفكارًا لا سلطانًا.

ولا تَجِدُ غيرَ عاهلٍ واحدٍ جَمَعَ بين الأفكار والسلطان، لا تَجِدُ غيرَ إمبراطور ألمانية وملك صِقِلِّية فردريكَ الثاني مَنْ يمكن عَدُّه بحقٍّ كعبقريٍّ بين ملوك القرون الوسطى، ومن المحتمل أن كان أحدَ أباطرة الجِرْمان الثلاثةِ العِظام، ومن قَبْلِه بأربعمائة سنة امتاز شارلمان، ومن بعده بثلاثمائة سنة امتاز شارلكن، بين خمسين من أمراء ألمانية، والواقعُ أنك لا ترى واحدًا من هؤلاء الثلاثة مَن كان ألمانيًّا حقيقيًّا، فالأولُ كان فَرَنجيًّا، وكان الثاني نصفَ نورمانيٍّ، وكان الثالثُ نصفَ إسبانيٍّ.

وُلِدَ فردريك الثاني (١١٩٤–١٢٥٠) في أَنْكُونِي على البحر المتوسط، وقد سُمِّي باسمين عند وِلادته، سُمِّيَ فردريكَ ورُوجِرَ حتى يَذْكُر، ما دام حيًّا، جَدَّيْه: بارْبرُوسَ الألمانيَّ ورُوجِرَ الثاني النورمانيَّ، وكاد الحُلم الألمانيُّ في السيادة العالَمية، الذي اتَّجه نحو إيطالية للمرة الأولى، أن يُحَقَّق لدور قصير في عهد والد فردريك، وكان هذا الذي هو من آل هُوهِنْشْتاوْفِن قد تَزَوَّج ابنةَ رُوجِر ليَضُمَّ تُرَاثَ هذا الأخير؛ أي إيطالية الدنيا وصِقِلِّية إلى إمبراطورية أبيه الألمانية وأن يُحِيطَ بالدولةِ الإيطالية الوحيدة التي ظَلَّت مستقلةً؛ أي بدولة البابا، وذلك ليجعل منها دولةً تابعة، غير أن موته قبل الأوان قضى على جميع مشاريعه.

ولم تَعِشْ امرأته الصِقِلية بعده غيرَ عامين، وظَلَّ فردريكُ البالغُ من العمر أربعَ سنين وحيدًا، ولم يُنَشَّأ فردريكُ هذا من قِبَل إمبراطورٍ سيدٍ للعالَم، بل من قِبَل بابا كان يهيمن على العالَم. وكان البابا إِينُّوسَان عازمًا على كسر الحِصار الذي يحيط بدولته، وكان يَنْوِي أن يَزْرُب آل هُوهِنْشتَاوْفن في تراثهم بصِقِلِّية وأن يَحْمِل على انتخاب سليلِ أُسْرَةٍ مالكة أخرى بألمانية.

ويُسْفِر توالدُ العروق عن إنتاج رجلٍ باهر مرةً أخرى، وكان فردريكُ المُرَاهِقُ يَقِفُ نظرَ حاشيته، ولم يُرَبَّ فردريكُ في بيئةٍ من البطائن، وذلك أن الحرب الأهلية التي اشتدت في إيطالية ألقت بهذا الفتى، المرهوبِ والمُهَدَّدِ مناوبةً، في سواءِ الفَوْضى والاضطراب، وفي البؤس أيضًا، ومن ذلك أن كان هذا الوارث لإمبراطوريةٍ عالمية يتناول وَجَبَاتِه في كلِّ أسبوعٍ من مائدة أسرةٍ متوسطة في بَلَرْم، وكان يُؤْسَرُ من قِبَل الألمان تارةً ومن قِبَل النورمان تارةً أخرى فيذهب ضحيةَ الحزب القابض على السلطة أَيًّا كان، ويودُّ مقاتِلةُ الجِرمانِ ومغامروهم أن يُجَرِّبوا حَظَّهم نحو الجَنُوب وَفْق عاداتهم، وكان لا بُدَّ لهم من ذلك الرَّهين الثمين وُصولًا إلى أغراضهم، وكان الطلاينة يمقتون هؤلاء الدخلاءَ الألمان الذين لم يكن عندهم ما يفعلون في بلدهم غافلين عن أنهم حَفَدَةٌ لغُرَباء، وأنهم ممزوجون بنورمانٍ وعربٍ، وأنهم لم يَقْبِضوا على صِقِلِّية إلا بحقِّ الفتح.

ونُبْصِرُ في نقودٍ رديئةِ الضَّرْب رأسَ فردريك الثاني، نُبْصِر شابًّا عبقريًّا حَمِسًا كابن الجَنوب رزينًا كابن الشمال حريصًا على الحياة محبًّا للاطِّلاع متعطشًا إلى السلطان، ويمكننا أن نَتَمَثَّلَ رأسَه فتبدو لنا طَرافتُه أكثرَ من ظَرافته، وتبدو لنا شُقْرَة شعره وقِصَرُ بصره؛ أي يبدو لنا موضوعٌ صالح ليُصَوَّرَ من قِبَل أعدائه تصويرًا هزليًّا، قال أحد المعاصرين: «لا يساوي الإمبراطور فردريك في سوق النِّخاسة أكثر من مائتي درهم.»

وقد تزوج أميرةً أَرْغونيةً ابنًا للخامسةَ عشرةَ، وأصبح أبًا في السادسة عشرةَ من سِنيه، فلما بلغ الثامنةَ عشرةَ تَنَكَّر كمجرمٍ فارٍّ فجاوز البحرَ وجبالَ الألب ليستردَّ تُرَاثَه من خصمه في الشمال، وتمضي بضعةُ أعوام فَيظْهَرُ سيدَ ألمانية، ويبلغ السادسةَ والعشرين من عمره فيصير إمبراطورًا رومانيًّا غيرَ مستعينٍ بالبابا، ويُنْتَخَبُ ابنُه الفَتَى ملكًا ألمانيًّا درءًا لكلِّ احتمال، ويُزْمِع الاحتفاظَ بالمملكتين، الشمالية والجَنوبية، ويَحْظَى بموت البابا الأكبر فيَعِدُ خَلَفَ هذا البابا بحربٍ صليبية قبل تتويجه في مقابل نَيْلِه مملكةَ القُدس، ويُؤَجِّلُ هذه الحرب في أحوال غريبة فيجد البابا ذريعةً لإعلان حِرْمانِه. وفي تلك الأزمنة كان على كلِّ بابا أن يقاتل آلَ هُوهِنْشتَاوْفِن الذين يَمْلِكون شمال إيطالية وجَنوبها والذين يمتدُّ سلطانهم بين دانيماركة وصِقِلِّية، وما كان هذا الهُوهِنْشتاوفنيُّ ليَرْضَى بأن يَتَنَزَّل عن ذَرَّةٍ من حقوقه المكتسبة.

ومن دواعي الحَيْرَة أن كان فردريك ابنًا للجَنُوب بمزاجه وغريزته وذوقه وتربيته من كلِّ وجه، وقد شَعَر بشِقْوَتِه حينما اضْطُرَّ إلى العيش في فُورْمس أو في فَرَنْكفُورْت، وما كان ليُسَرَّ بسوى بَلَرْم وأَبولي، وهو لم يذهب إلى ألمانية مرةً ثانيةً إلَّا ليقيم بها سنتين، ولو كان شَهْوَانيًّا أو فيلسوفًا فقط لانزوى في بلد أُمِّه ليتمتع بالحياة.

ولكن فردريك كان فيلسوفًا بمقدار الكفاية عارفًا بفن الحياة، ولكن فردريك كان لديه مقياسٌ كافٍ لجميع ما صَنَع، وذلك لكيلا يَقْنَعَ بعيشٍ نمطيٍّ في الجَنُوب، وهل دُفِعَ عن عِزَّةِ وارثٍ لإمبراطورية، أو عن طُمُوحِ فاتح؟ وهل أدار رحى الحروب وكافح ونافح حتى آخرِ عمره عن رغبةٍ في تَحَدِّي التاريخ؟ كان فردريك الثاني يختلف بسجيته عن برِكْلس ومارْك أُورِيل وجُوسْتِينْيان اختلافًا تامًّا، وهو كان مفكرًا باحثًا متفننًا أيضًا، ولم يكن هذا في أوقات فراغه وعن غير قصدٍ فقط، بل كان ذلك يَتَجَلَّى في كلِّ يومٍ وفي كلِّ عملٍ من أعماله، وقد كان من ذوي النفوس العالية الذين يُنْعِمون النظر في أفعالهم فيُعْرِبون بالأعمال عن تأمُّلاتهم، والحقُّ أنه سَبَقَ عصرَ النهضة بقرنين فكان أولَ رجالها، والحقُّ أنه ظَهَرَ نظيرَ مصيره.

وكان التسامحُ والمُجُون يمازجان فردريك فيكون له بذلك توازنٌ نفسيٌّ يصونه من الجنون في ساعات اليأس والبؤس، وهو مدينٌ بهدوئه الباطنيِّ لجَبرِيَّته المقتبسة من الإسلام والتي تختلط فيه بروح الفُكاهة، وهو، وإن كان غريبًا عن الدين النصرانيِّ تمامًا، كان يُبْدِي احترامَه للكنيسة كإمبراطورٍ نصرانيٍّ ما بَدَتِ الكنيسةُ نصيرةً له، وتَحْرِمه الكنيسة فيَجْهَر بعدم اكتراثه لهذا التدبير، وأولُ ما صنعه هو أنه أرسل كتابًا إلى جميع الأمراء رَفَضَ فيه مزاعمَ البابا، وذلك مع تهكمٍ نفسيٍّ خليقٍ بِفُولتير، ثم ماذا؟ ذَهَبَ إلى القدس مع جيش صغير، ولَقِيَ السلطانَ فيها، واتَّفَقَ معه في بضع دقائقَ، وذلك كما يَصْنع اثنان من كِبَار رجال الأعمال بعد بحثٍ طويل يقوم به وكلاؤهما، وقد قام الاتفاق على أساسٍ من التسامح المتبادَل يُمْنَح به كلٌّ من الدينين ما يَدَّعيه من الحقوق، ثم أَمَرَ بإعداد تاجٍ في كنيسة القبر المقدس حيث ذهب مع بضعة ضباط فقط ووَضَع التاجَ على رأسه بيده، وهكذا سار الإمبراطور، الذي أُصيب بحِرْم البابا الهائل، من غير أن يساعده أُسْقُفٌ، ولم يَتَّفِقْ لصليبيٍّ قطُّ مثلُ ذلك النصرِ أمام المسلمين المسالمين.

وكان فردريكُ آنئذٍ، في شَرْخ شبابه، وكان يَتَكلَّم سبعَ لغاتٍ مُفَضِّلًا اللغةَ العربية مُحَيِّرًا السلطانَ وبَلَاطه، ويأمُرُ الشرقيُّ الذي اجتمع بنصرانيٍّ متسامح لمرةٍ واحدة بألَّا يُؤَذِّن المسلمون من فوق المآذن ما أقام الإمبراطورُ بالقدس، ولما سَمِع الإمبراطورُ، ذاتَ صباحٍ، شيخًا جاهلًا ذلك الأمرَ يَجْهَرُ بالصيغة المثيرة المأثورة القائلة إن الله لا وَلَدَ له أتاه رُسُلٌ من السلطان ليعتذروا إليه.

واسْمَعْ جواب فردريك: «دَعُوه وشأنَه، وعليكم أن تَرَوْا ماذا يُسْمَحُ به للمسلمين في بلدي، ولولا خوفي من ضَيَاع سُمْعَتي لدى الفَرَنج لعَرَضْتُ على السلطان شروطًا أَلينَ من تلك.»

ولَمَّا ذاع في العالَم صيتُ هذه الحرب الصليبية السِّلْمية التي تُوِّجَت بالنجاح كَسَبَ الإمبراطورُ ألوفَ القلوب، على حين خَسِر البابا مثلَ هذه الألوف من الأفئدة وقتما كان يَحْمِل على احتلال صِقِلِّية وَفْقَ مصلحته، ويَعُودُ فردريك على جَناح السرعة مع بعض أصحابه، ويَنْزِل مُبَاغِتًا إلى برِنْدِيزِي، وكان قد بلغ من عِظَم النفوذ ما أعاد البابا معه جميعَ فتوحه إليه وألغى حِرْمه وعَدَّ من السعادة استقبالَ الإمبراطورِ إياه في مأدبةٍ رائعة.

وكان فردريكُ إمبراطورًا صميميًّا، وداوم فردريكُ على عمله الخصيب في سِنِي كهولته، ونَهَضَ بدَوْلَتِه في الجَنوب على قواعد القوة والعدل حاكمًا مطلقًا منطويًا على إنسانية، وكانت ألمانية التي يديرها بواسطة ابنه في ذلك الحين غارقةً في ضَبَابٍ غُبْرٍ مُمَزَّقةً بتنازع أمرائها الكثيرين، وجعل هذا العاهلُ الجائلُ من صِقِلِّية، التي كانت تبدأ رسميًّا في شمال رومة الشرقيِّ والتي كانت تَمْتدُّ في الواقع حَتى جبالِ الألب، مَقَرَّه نهائيًّا مؤسِّسًا أولَ دولة عصريةٍ حقًّا.

ويَنِمُّ اختلاطُ دمهِ على خِصْبِه مُجَدَّدًا، وتستلزم ثُنَائِيَّةُ سجيته وجودَ مستشاريْن مختلفين، ويَجدُهما لسنين كثيرة، يَجِدُهما من ناحيةٍ في شخص فارسِ المُنَظَّمَة التُّوتُونية: هِرْمَن فُون سالْزَا، ويَجِدُهما من ناحية أخرى في شخص حامل الخَتْم في أَبولِي: بيتْرُو دِيفِينْيا، وكان أحدُ هذين الرجلين أَسدًا، وكان الآخر ثعبانًا، وكان عليه أن يعانيَ شِدَّةَ ما بينهما من تضادٍّ في الغالب مقاومًا أحيانًا أحدَهما الكثيرَ التدقيق ومعاندًا أحيانًا تلقيناتِ الآخر، وكان يَعْرِفُ أن يَصِلَ، بما فُطِرَ عليه من نشاطٍ، إلى آفاقٍ كلاسِيَّة١٢ في الحقيقة، فيستطيع بذلك أن يُنْجِزَ من الأعمال ما اشتُهر بمثله رجالُ النهضة بعد زمن، وبالنظام والتنظيم يتجَلَّى تُرَاثُه الجِرمانيُّ في حكومته، وبالنشاط الذهنيِّ والخيالِ يتجلَّى تُرَاثُه الجَنوبيُّ في حكومته.
وقد أعانت جميعُ هذه العوامل على ظهور اشتراعٍ ممتازٍ بعد جوستينيان بسبعمائة سنة وقبل بِكارْيا١٣ ونابليون بستمائة سنة.

ونرى أن نذكر بعضَ الأمثلة التي نقتطفها من مختلف نواحي الاشتراع بلا تَعَمُّلٍ للدلالة على روح التقدم في هذا العاهل في سواء القرون الوسطى.

لقد أُجير النساء والأولاد، فصار لا يحقُّ للزوج أن يقتل زوجتَه غيرَ الوَفِيَّة، حتى إن العواهر أُجرْن من الجَوْر، وعلى العكس لا تستطيع المرأة أن تَشْكُوَ رجلًا اغتصبها إلَّا بعد أن تكون قد حاولت رَدَّه ثلاثَ مرات. وقد قُرِّر الحَدُّ الأعلى لبدل إجارة الطلَّاب في الجامعات، وبدأ القانون يجازي مَنْ يمارس الطبَّ بلا امتحان خلافًا لِما كان شائعًا حتى ذلك الحين، وكان على مَن يريد مزاولة الطبِّ أن يدرسه في خمس سنين مُقَدَّمًا، فإذا فعل ذلك وجب عليه أن يَتَدَرَّبَ لدى طبيب ماهر، وصار يُؤْذَن في تشريح جُثَّةٍ مرةً في كلِّ خمسة أعوام، مع حَظْر الكنيسةِ هذا إلى ذلك الوقت بشِدَّة، وأصبح من الواجب على الأطبَّاء أن يَتَعَهَّدوا، مع ذلك القَسَم، بمعالجة الفقراء مجانًا، وأن يَعُودوا كِبارَ مَرْضاهم في كلِّ يوم مرتين، وأُلْزِمَ النصارى بأَلَّا يأخذوا فوائدَ عن دَيْنٍ، ولم يُؤْذَنْ في أخذ فوائد تزيد على عشرة في المائة.

ويَرْجِعُ جميعُ ما كان فردريكُ يُطَبِّقُه من دراساته إلى أصلٍ عربيٍّ تقريبًا، ولا سيما الرياضياتُ والعلومُ الطبيعية منه، ويَرْغَبُ فردريك في إيجاد حَلٍّ لبعض المسائل العلمية فيُهْدِي سفينةً إلى علماءَ من العرب، ولَمَّا رَمَى قَدَحَه المشهور في البحر لم يَصْنَعْ ذلك عن زَهْوٍ، بل عن حَضٍّ للغَوَّاصِ على تقديم تقريرٍ إليه عما يَجد في أسفل الماء، ويُرْسِلُ إليه سلطانُ دِمَشْقَ وفدًا خاصًّا ليُقَدِّم إليه نُسْخةً ذَهَبيةً عن نظام السَّيَّارات مع بيان حركة الأجرام السماوية، فيُصرِّح الإمبراطور، كما رَوَى ابنُه، بأن هذه الهدية أَعَزُّ ما لديه في الدنيا، ويراسل عالِمًا يهوديًّا في طليطلة مُحَرِّضًا إيَّاه على جَمْع موسوعة عربية. وقد أمر بترجَمة كتابٍ لابن ميمون إلى اللاتينية، وترجمةِ كتاب لبطليموس إلى العبرية، وأراد أن يَدْرُس آثارَ الهضم فدَعا رجلين إلى مائدته، وقَدَّم إليهما طعامًا وافرًا، ثم أرسل أحدهما إلى الصيد وأرسل الآخر إلى السَّرِير فوَجَدَ الذي ضَجَع أحسنَ الاثنين هضمًا.

وكان فردريكُ، ككثير من العظماء، يُحِبُّ الحيواناتِ، والطيورَ على الخصوص، وقد انتهى إلينا، فيما انتهى، كتابٌ ألَّفه فردريكُ عن «فنِّ الصَّيْد بالباز»، وما أبداه فيه من ملاحظةٍ دقيقٌ، وما ضَمَّنَه إياه من تفصيلٍ جديرٌ بأرسطو، حتى إنك تَجِدُ في الكتاب فصلًا عن الوضع الذي تكون عليه الطيور حين نومها، ولا تشتمل مقدمةُ الكتاب على غير الجملة الآتية الوحيدة في تاريخ الكتب، وهي: «إن المؤلف رجلٌ مُدَقِّقٌ مُخْلِصٌ للعلم، إمبراطورٌ رومانيٌّ ومَلِكٌ للقُدس وصِقِلِّية.»

وأفضلُ لَهْوٍ لدى الإمبراطور هو الصَّيْدُ بالباز وشَيْدُ القصور، ومع ذلك لم يكن فردريك من نَمَطِ قياصرة بزنطة فيَجِدَ من عوامل السعادة أن يركع الزائر أمامه في قصورٍ شِبْه قُوطِيَّة، وكلُّ ما كان يُحِبُّه هو أن يقيم بقصرٍ منعزلٍ في أَبولي، وهنالك كان يمكن السَّيِّدَ البَنَّاءَ أن يستريح خلف الأسوار ذَاتِ الأبراج القوية المُثَمَّنَةِ الأضلاع والمُجَهَّزَة بنوافذَ وأبوابٍ مخالفةٍ للعادة بعَرْضها، وهنالك كان يمكنه أن يتأمل، من نافذةٍ دقيقةِ النَّقْش، في أرصفةٍ ثمينةٍ وفي حدائقَ وغاباتٍ ومُدُنٍ وحصونٍ وفيما هو واقعٌ وراءَ ذلك من بحرٍ وجبالٍ لا تدلُّ على حدود مملكته.

وقد أَسْكن الإمبراطورُ أربعين ألفَ عربيٍّ في جوار إحدى المدن، وبالقرب من لوسِرْن فأقام مستعمرةً عربيةً في وَسَط إيطالية! وأراد بناءَ مسجدٍ لهؤلاء المسلمين في مكان كنيسةٍ فأمر بهدمها مُتَذَرِّعًا بإشرافها على الخراب، أَجَلْ، اتُّهِم فردريك بأنه كان صاحب دائرة حريمٍ عربية، غير أنه كان عارفًا بما هنالك من حبٍّ فلم يَجِدْ شَيْدَ مُتْحَفٍ حَيٍّ، وهو، على العكس، كان يُفَضِّلُ فصلَ بعض مختاراتِه الكثيراتِ عن بعضٍ فيَغْمُرهنَّ بالنفائس عن أُبَّهَةٍ وثنية، وذلك مع مجاراته جميعَ روائع الحياة عن تكديسٍ لضرائبَ جديدةٍ تُجْبَى من رعاياه.

أَوَلَم يكن من الطبيعيِّ أن يُصَرِّح البابا الشاعرُ بأن هذا الوارث لآل هُوهِنْشتاوْفِن، المحيطَ به والمُبْطِلَ لقدرته، عَدُوُّ المسيح؟ أنشأ هذا الإمبراطورُ النصرانيُّ مسجدًا للكافرين بدلًا من محاربتهم بالحديد والنار، وسَخِر هذا النصرانيُّ من ذخائر القديسين، وجَلَب هذا الإمبراطورُ إلى بَلَاطه في بَلَرْمَ صُوَّاغًا ومُنَجِّمِين وكيماويين وشعراءَ وعازفين من العرب بدلًا من أن يَغْنَم كُنُوزًا من الشرق، ومع ذلك يُوَكِّدُ هذا الملحد إيمانَه بالخلود!

لقد حُرِم فردريكُ، مرةً أخرى، لأسبابٍ دينية ظاهرًا ولأسباب سياسية باطنًا، وذلك من قِبَل البابا الجديد، وذلك بعد إصلاح ما بين سَلَفه وبين العاهل بعشر سنين، وفي الحين نفسه خُلِعَ هذا العاهلُ في ألمانية من قِبَلِ خصمه بإغراءٍ من البابا كما هي العادة، وقد أتاه نبأُ ذلك في أثناء سياحةٍ كان يَجُوب بها إيطالية مُتَسَلِّيًا بفُيُولٍ ونُمُور، ويلوح أنه خَرَج عن هدوئه المعتاد لمرةٍ واحدة، فقد بحث بعد قليلٍ عن الخزائن المشتملة على الكنوزِ المَلَكية وفَتَحها وقال صارخًا: «أريد أن أعرِف: أَوَلَا تزال تيجاني فيها!»

وتتراكم عواملُ الخيبة فتُؤَثِّرُ فيه مشاعرُ عنيفةٌ على حساب اعتداله الفلسفيِّ، ومن ذلك محاولةُ الفاتيكان قتلَ هذا العدوِّ الأكبر خلاصًا منه، وتكون المشنقةُ وكُومَةُ الحطب جوابَه، ويَعْرِف الملكُ في سِنِي حياته الأخيرة ما لأميرٍ مختلطِ الدَّمِ من مصيرٍ مُرٍّ، وذلك أن أمراء الألمان صَرَّحُوا بأنه النورمانيُّ الأجنبيُّ وأن مُدُنَ إيطالية هاجمت الهُوهِنْشتَاوْفنيَّ الألمانيَّ في شخصه، وقد صَبَّ الإمبراطورُ لعنتَه على المدينة العاصية: فِيتِرْب، فقال: «لن أجد الراحةَ حتى في الموت! لو كانت لي رِجْلٌ في الجنة لاجتذبتها للانتقام من فِيتِرْب!» وفي ذلك الحين اقترح على جميع أمراء أوروبة مصادرةَ أملاك الكنيسة، وما كان الأمراء ليَنْفِرُوا من هذا الاقتراح، بل كانوا يعملون به، لا رَيْبَ، لو نال فردريكُ انتصاراتٍ جديدةً وعاشَ طويلًا.

وتشتمل يوميته التي كان يكتبها في أثناء تلك الأَزْمة الشديدة، وذلك بين مراسيمَ بالغةِ الأهمية، على تعاليقَ خاصَّةٍ بقطع الأشجار على غير وجهٍ شرعيٍّ، وبتعيين مُعَلِّمين للبُزَاة، وعلى ملاحظاتٍ حَوْل الخيل والنِّمَار وحَوْل تحويل العبيد السُّود إلى موسيقيين وحَوْل غَرْس نَخْلٍ من أجل يهودِ بَلَرْم على حساب المبلغ المُعَيَّن لتعليم حاجبِه عبد اللهِ خَطَّ العَرَب، وعلى حواشٍ عن بُرْجِ حَمَامٍ في قَصْر بَلَرْم وعن تفصيلِ ثيابٍ لحُرَّاس الحيوانات وعن الأفاويه التي تُسْتَعْمَل في إعداد أطعمته المُفَضَّلَة.

وإذا ما فُكِّرَ في جميع ما حاول الإمبراطور فردريك تحقيقَه وفي قِلَّة ما ترك بعده أَمْكَن قياسُه بلِيُونَار دَفنْسِي الذي لم يُنْجِزْ غيرَ أعمالٍ قليلة على الرغم من عبقريته، ورجالٌ كهؤلاء، إذا لم يكونوا مُشْبَعِين من أفكارٍ لم يَبْلُغ عصرُهم من النَّضْج ما يَتَقَبَّلُها معه، لم يتركوا في الأرض غيرَ أثرٍ أقلَّ مما يتركه أناسٌ مقتدرون مع عَطَلٍ من الخيال، ولَمَّا حان أَجَلُ فردريك، بعد عَهْدِ أربعين سنةً مملوءٍ باضطراباتٍ خارجية وبصائرَ داخليةٍ، لم تكن إمبراطوريتُه قد وُطِّدَت بعدُ، وقد كان لأولاده الشرعيين وغير الشرعيين مصيرٌ فاجعٌ في الغالب، ولم يَنْقَضِ غيرُ زمنٍ قصير حتى توارى آلُ هُوهِنْشتاوْفِن، وقد قُتِلَ آخِرُهم من قِبَل عدوِّهم الأزرقِ: دُوك دانْجُو، ولم يَدْخُل فردريكُ الثاني حظيرةَ التاريخ فاتحًا، وقد طُوِيت صفحةُ حروبه بزوال آله.

ومع كلِّ ذلك لم يَعْرِف البحر المتوسط سَيِّدًا آخرَ جَمَعَ مثلَه كثيرًا من العرفان والإلهام والسلطان فأضاف تاج الحكمة إلى كثير من التيجان المَلَكِيَّة، ومن بين عظماء القرن الثالثَ عشرَ مَثَّل الإيطالِيَّان، دانتي وتوما الأَكْوِينيُّ، القرونَ الوسطى التي لم تَقُلْ بغير دينٍ واحد ولم تأذن في غير دين واحد، وقد كان رجلُ العمل، الإمبراطورُ فردريك، الذي هو نتيجةُ توالد الشمال والجَنُوب أسبقَ من القِدِّيس والشاعر.

٥

انتهى أمرُ الحُلُم الألمانيِّ حَوْل جَلَال الإمبراطورية وسيادة العالَم، وبَذَلَ سليلُ ملوك الألمان العبقريُّ المعتزلُ جُهْدًا كبيرًا في عهده الطويل ليجمع بين بأس الألمان وخيال الطليان، ووَهَنَ نشاطُ أمراء الألمان وطموحُهم في صِراعٍ غيرِ مُجْدٍ، وما كانت الإمبراطورية الألمانية لتَخْلُفَ الإمبراطوريةَ الرومانية لعدم وقوعها على شواطئ البحر المتوسط، وكان يُمْكِن الإمبراطوريةَ الألمانية أن تَحُولَ دون وَحْدة إيطالية فضلًا عن ذلك.

ويَلُوح في القرون الوسطى، وفيما بعد القرون الوسطى أيضًا، أن إيطالية وحدَها هي التي اخْتِيرَت من قِبَل الطبيعة والتاريخ للسيطرة على البحر المتوسط، وكانت بلاد البحر المتوسط الأخرى؛ أي إسبانية وفرنسة، تُوَلي وجهَها شَطْرَ بحارٍ أخرى في الوقت نفسه، وكانت بلادُ اليونان قد نُهِكَتْ منذ زمنٍ طويل، وكانت بِزَنْطَة ومصرُ وأفريقيةُ الشماليةُ بعيدةً من مركز البحر، ومن يُلْقِ نظرةً على الخريطة تَقِفْ إيطاليةُ بَصَرَه من فوْرِه لبروزها مشيرةً إلى البحر المتوسط كالسَّبَّابة،١٤ ومع ذلك لم تكن وَحدتُها لتُحَقَّق بغير شعور المجتمع الإيطاليِّ القوميِّ.

ومن المُؤسِف أن أَدَّى ما بين الأمراءِ ومختلفِ الجُمهوريات من تحاسدٍ حقيرٍ إلى انقسام خُلَفَاء آل هُوهِنْشتَاوْفِن، وقد بلغ هذا الانقسام من الشِّدَّة ما صارت معه إيطاليةُ مُجَزَّأةً بين ميلان ورومة، وبعد قرنين من نهايتهم، إلى أربعَ عشرةَ دولةً يقابلها في جَنوب شِبهِ الجزيرة «مملكةُ الصِّقِلِّيتين» المُوَحَّدَةُ، ولِمَ لَمْ تَسْطِع الوارثةُ الحقيقيةُ للإمبراطورية الرومانية، إيطاليةُ، أن تصبح مُوَحَّدَةً؟ ولِمَ لَمْ تَغْدُ رومةُ نفسُها سيدةَ البحر المتوسط؟ لقد وَجَدَت أمم القرن الرابعَ عشرَ الكبرى وَحْدَتَها وَفْقَ لغتها، فتألَّفَت فرنسة وإسبانية وإنكلترة، وأما إيطالية فقد اضْطُرَّت إلى خمسة قرون لبلوغها مثلَ ذلك، وهنالك لا بُدَّ من وجود أسبابٍ عميقة أوجبت تَأَخُّرَ جهادِ شعبٍ مُبْدِعٍ نحو الوَحدة مع أن عبقريةَ هذا الشعب لم تتغيَّرْ منذ القرون الأولى تَغَيُّرًا جوهريًّا ومع محافظته على موقعه الجغْرافِيِّ الممتاز.

ويقوم أحدُ هذه الأسباب على ما كان من حروب أباطرة الجرمان المستمرة ورغائبهم، وتَجِدُ السببَ الثانيَ في البابوية التي كان وَضْعُها كوَضْعِ جمعية الأمم، فلم تكن من القوة ما تمنع معه نُشُوبَ حروبٍ قومية، ولا من الضعف ما تَعْجِزُ به عن تغذية الدسائس السياسية، ثم لا يُمْكِنُ أمةً أن تصبح أمدن أمم الأرض بلا عقابٍ كما هي حال إيطالية في القرنين أو القرون الثلاثة الآتية، وما كان من تقدُّم إيطالية في الشِّعر والفنِّ، وذلك في دَوْرٍ تُمَزَّقُ فيه من قِبَل جيوشٍ أجنبية وفاتحين، يُذَكِّرُنا بأَوْج الحضارة الجِرْمانية في ألمانية العاجزةِ سياسيًّا، ومن المحتمل أن كان مِيكل أَنْجِلُو ثَمَنَ الوَحدة الإيطالية.

وارْجِعِ البَصَر إلى الزمن الذي كانت الحروب الصليبية فيه تدنو من نهايتها، إلى زمن دانتي وفردريك، لم تَجِدْ إيطاليةَ فيه أُولَى أمم أوروبة، بل تَجِد الحضارةَ فيه منتشرةً في جميع بلاد البحر المتوسط، فقد انطلق إنشادُ الشعراءِ الجائلين من البروفنْس إلى الرُّون فإلى مَرْسِيلْية، ثم جاوزَ غربَ البحر المتوسط. وقد انتشرت شعائرُ بَلاط كُونْتَاتِ طَلُّوشة١٥ ودوكاتِ غَسْقُونية١٦ فبلغت بيوتَ الطبقة الوسطى الغنية في الجُمهوريات الإيطالية، وقد كانت فنونُ القسم الغربيِّ من البحر المتوسط وعاداتُه، على الأقل، فرنسيةً تمامًا حينًا من الزمن.

ويظهر إنكليزيٌّ بغتةً على شواطئ البحر المتوسط في ذلك الحين، يَظْهَرُ العالِم الرَّحَّالة الراصدُ الباحث المِفْضال: أَبِلَارْد البَاذِيِّ.

وكان يوجد في جميع فروع العِلْم ميلٌ جَلِيٌّ حتى في ذلك الزمن، حتى قبلَ دَوْرِ النهضة بمائتي سنة، إلى الخَلَاص من المذهب الكاثوليكيِّ وإلى تَعَلُّمِ علم الفلك من كُتب بطليموس وتَعَلُّم علم الطبِّ من كُتب بقراط، وقد دَرَسَت كُلِّيَّتَا الحقوق من جامعتَيْ بُولُونِي وبادُو مبادئ جُوسْتِينْيَان مع التحليل، وقد نقلت جامعةُ باريسَ إلى جامعة أُكْسفُورد اكتشافاتها الثَّوْرِيَّة وذلك بواسطة طَلَبَةٍ من الإنكليز عادوا إلى بلدهم وَفْقَ أمرِ الملك، وقد سَمَتْ أجيالٌ من العلماء في مُونْبلْيِه وسالِيرْمَ فوق قواعد المذاهب اللاهوتية، ومن قول رئيس المذهب الأفلاطونيِّ في شارْتر: «نحن أقزامٌ على أكتاف عمالقة القرون القديمة، ولا ينبغي للآلهة القديمة أن تَصُدَّنا عن طريق الجَنَّة.»

والآن يَجْلِس حارسُ اللاهوت النصرانيُّ ثابتًا في حَجَر رِتَاج شارْتِر الرَّماديِّ المَلَكِيِّ، وهذا هو أرسطو اليونانيُّ اللِّحْيَانيُّ المتناسقُ الشَّعْر والواضعُ دَوَاتَه الكُبْرَى على رُكْبَتَيْه مشابهًا تُولُسْتُويَ أو مشابهًا ساحرًا شرقيًّا أكثرَ من مشابهته حكماءَ البحر المتوسط. وأدعى الأمورِ إلى العَجَب كَوْنُ العَرَبِ هم الذين أوجبوا بَعْثَ العِلْمِ القديم في مدارس إسبانية ومدارس جَنُوب إيطاليةَ، والعربُ هم الذين رَدُّوا النصارى إلى أعظم منابع حضارتهم.

وعلى العكس كان الطِّرَازُ الذي شِيدَت به مباني ذلك الدور تمجيدًا لله على خلاف طِراز القرون القديمة، وتُعَدُّ كنيسةُ شارْتِر مع تَسَنُّمِ أرسطو رِتاجَها أجملَ من جميع المباني القوطية الصِّرْفة، وتَنْهَضُ أعمدتُها الهِيفُ خفيفةً، هوائيةً تقريبًا، وذلك نحو أقواسٍ حادَّةٍ، ويَلُوح الصَّحْنُ المركزيُّ مسيطرًا عليها سيطرةً منسجمة، وتَظْهَرُ الرتائج الرائعة وزخارف الوَسَط المرسومةُ على شكل الوَرْد أنها تَصْهَرُ الجميع على صورة شَبَكة، ومع ذلك فإن لها بالأبراج الثخينة متانةَ قلعةٍ ليكون هذا رمزًا لاستقرار الدِّين الصحيح بهذا المكان، وقد أُقيمت كنيسة شارْتر وكنيسة نُوتِرْدام حوالَي سنة ١٢٠٠، ثم أُقيمت كَنِيسَتا رِنْس وأَمْيان بعدهما بقرن.

وما سُمِّي بعدئذٍ طِرازًا قوطيًّا؛ أي طِرازَ البرابرة، هو من أصلٍ فرنسيٍّ مع مزيجٍ من عناصرَ جِرْمانية، ولم يَبْلُغْ هذا الطِّراز درجةَ الكمال غيرَ مرةٍ واحدةٍ في شمال جبال الأَلْب، وقُلْ مثلَ هذا عن خَطِّ ذلك الدَّوْر المَدْعُوِّ بالقُوطِيِّ، ويأتي هذا الخَطُّ من الشمال فيَبْدُو شكلًا مُتَبَلِّرًا لمُنْحَنِياتِ الحروفِ اللاتينية المألوفةِ كما لو كانت هذه الحروفُ قد جَمَدَت فَجْأةً، وتُبْتَدَعُ أقواسٌ حادَّةٌ مصنوعةٌ من حجرٍ أو مخطوطةٌ بمِدَادٍ، فتبدو منسجمةً مع صُوَرِ الملوك المنقوشة في شارْتر ومع أول مُوسيقَى قُوطيَّة.

ومن الطبيعيِّ أن شِيدَت أروعُ الكنائس في فرنسة؛ وذلك لأن فرنسة كانت تُمَثِّلُ في ذلك الدور أَوْجَ الحضارة النصرانية، ولم يَقُمْ أساقفةُ رومة (البابوات) بسلطانهم خارجَ إيطالية في غيرِ قرنٍ واحدٍ من ثمانيةَ عشرَ قرنًا، في غير القرن الرابعَ عشرَ، وقد كان فِرارُهم إلى البروفنْس وعهدُهم في أَفِينْيُون (١٣٠٩–١٤٠٨) نتيجةَ عواملَ مختلفةٍ؛ أي نتيجةَ الخوفِ والبحثِ عن السلطان والحسابِ، وقد زاد حِسُّ السلطةِ وحُبُّ المَلَاذِّ لدى البابوات في أثناء هذا النَّفي بدلًا من ضَيَاعهما، ولا غَرْوَ، فبما أن البابواتِ كانوا في ذلك الوقتِ مَوضعَ حمايةِ دولةٍ قوية، بعيدين من منازعات أباطرة الألمان وفرسان الرومان المستمرة، ناجِين من أَزَمات إيطالية الداخلية فإنهم عاشوا فيه بين المناظر الرائعة والكرومِ الجميلة وأغاني الشعراء الجائلين، وهم إذ كانوا مَلَكيين أكثرَ من جميع الملوك فقد هيمنوا سِرًّا على سلطان مَن كانوا ضيوفًا عندهم، والحقُّ أن تاريخَ البابوات في أَفِينْيُون روايةٌ طويلة اهتزت قلوب أبطالها دومًا بالحبِّ والحسد والدسائس والصِّراع الخفيِّ.

وبينما كانت الدول القومية الكُبْرَى تتألَّف تحت سلطان ملوكٍ مُطْلَقين، كان البابا، كان ضيفُ فرنسة الفارُّ هذا، سائرًا على الدَّرْب الذي يصير به العاهلَ الأولَ في التاريخ الحديث، وقد انقطعت المؤتمرات الدينية والمجامعُ الروحية عن الوجود، وقد غدا البابا طاغيةً. وقد كانت الأَبْرَشِيَّات١٧ والأُسْقُفِيَّات ومجامعُ الكَتِدْرائيات تُعَيِّن قساوستَها وتُدِيرُ أموالَها حتى ذلك الحين فحُرِمَت هذه الحقوقَ، فقد أخذ سيدُها ومولاها في منفاه يُعَيِّن مُوَظَّفي دولته العالَميةِ المُتَرَجِّحين بين الكَرَادِلة وخَوَارِنة القُرَى، وبين رؤساء المُنَظَّمات الدينية والأساتذة، وبين أكابر رجال البَلَاط وغاسلي قمصانه في الرُّون السريع عند أسفل قصره.

وقد استطاعت البابوية في منفاها المزعوم بأَفِينْيُون الذي كان اختياريًّا كهجرة محمدٍ في الحقيقة، والذي كان أداةً إداريةً حديثةً، وبَنْكًا للدولة على الخصوص، أن تَنَال للمرة الأولى سلطانًا ماليًّا قادرًا على إدارة رءوس الأموال لدى جميع الأمم النصرانية في العالَم. وكان الزُّبُن والمُتَلَمِّسُون من الجنْسيْن والمُحَاجُّون والطامحون والطامعون يَتَدفقُون فيملئون أروقة القصر وساحاتِه راجين نَيْلَ شُذُورٍ من كَنْزِ البابوات الذهبيِّ الأُسطوريِّ ذاكرين أقتمَ أدوارِ الإمبراطورية الرومانية، ولكن الجَوَّ المعتادَ هنا كان يُفْسَدُ بسلطانٍ أدبيٍّ لمَعْهَدٍ يستطيع أن يُبَارِك أو يَلْعَنَ وأن يَسْلُب مالًا من المؤمنين عن وعيدٍ بالعِقاب في الآخرة، وكان مبدأ بيع الغفران ينطوي على خَفْرٍ لأفكارِ القديس بولس النبيلةِ ومشاعرِ يسوعَ السامِيَة، ولم يُخْتَرَعْ هذا المبدأ في إيطالية حوالَي سنة ١٥٠٠، بل ابْتُدِع في فرنسة قبل لوثر بقرنٍ ونصف قرن.

وكان يُدْعَى بالسجن الواسع قصرُ البابوات الجليلُ؛ أي ذلك الحِصْنُ القويُّ ذو الشُّرَف الكثيرة والمسيطرُ على المدينة القديمة وعلى الرُّون، وتُسَوِّغ هذه الأبراجُ الجَبَّارة، وهذه الأسوارُ الواسعةُ العابسة التي هي من بناءِ عِدَّةِ أجيالٍ، بظاهرها، تعبيرَ «إسارةِ بابلِ الكنيسةِ» الذي اخترعه قساوسةُ العصر المتعصبون المشاغبون. والرجلُ إذا ما جاوز القصر لم يَجِدْ سجنًا، مع ذلك، بل بلاطٌ يفوق جميع البَلَاطات الأخرى بغناه وسَنَاه، وما جُبِيَ من فقراء العالَم بأَسْرِه من الصَّدَقات البابوية أو من زكاة الحروب الصليبية، التي يَعْدِل ما جُمِع منها خمسةَ عشرَ مليون دولارٍ ذهبيٍّ، انتهى إلى تلك الرِّداه المزخرفة الزاهية وأُقيمت به الولائم الفاخرة وأُنْفِقَ على الاستقبالات والألعاب والأغاني، وقد بَلَغ ما أنفقه البابا كلِيمانُ الرابعُ في حفلة تتويجه وحدَها ١٢٠٠٠٠ دولارٍ من ذهب، ولم تُؤَدِّ عُزُوبَة الأساقفة إلى غير زيادة ملاذِّ حياتِهم الغرامية، ومن المؤسف، مع ذلك، أنه لم يُنْتَجْ أيُّ أثرِ فنيٍّ بأفِينْيُونَ في ذلك العصر.

وقد أصلح البابا يُوحَنَّا الثاني والعشرون، الذي هو أقدر صَيْرَفِيٍّ بين جميع البابوات، نظامَ الضرائب في جميع دواوين العدل، وقد كان مشهورًا في اكتشاف الوثائق غيرِ المُجَهَّزة بطوابعَ، وقد أثارت أعماله وأعمال خلفائه القائمةُ على الرِّبا حيرةَ العالَم، ولَمَّا ارتفعت أصواتٌ لبيان فَقْرِ الحواريين قالت السُّدَّة الرَّسُولية بإلحاد هذا المذهب، وبما أن نحو نصف الدخل الرَّسُولِيِّ كان يذهب إلى الكرادلة فقد كان يَثُورُ قليلُ حَسَدٍ بين الأساقفة، ويُجْتَنَبُ خِزْيُ الاختلاس بأعمالٍ مُحْكَمَة، وذلك بأن يُحَوَّل المالُ المركوم إلى قَرْضٍ مَصْرَفِيٍّ فيُنَال رضاءُ البنوك الكبيرة بمُعَدَّلٍ مِئَوِيٍّ مرتفع، حتى إن ملك فرنسة شَمل أعمالَ الكنيسةِ المُوَفَّقَةَ هذه بعين رعايته واستفاد منها ما دام البابا قد وافق على حَلِّ مُنَظَّمة الفرسان الهيكليين الذين أَتَوْا إلى فرنسة من جزيرة رودس فاتُّهِمُوا بتعاطي عاداتٍ مخالفةٍ للطبيعة وبعبادة الشيطان، والواقعُ أن ملك فرنسة أمكنه بهذا الحلِّ أن يستولي على خزائنهم الواسعة.

وكان ذلك اللَّعِبُ الكلبيُّ يَتِمُّ وَفْقَ مآربَ سياسيةٍ، أَجَلْ، انقضى الزمن الذي أمْسَكَ إمبراطورُ ألمانية فيه زِمامَ حِصان البابا الأبيض مجاوزًا ميدان سان مارْك في البندقية فقَبَّلَ رِجْلَ الحَبْر الأعظم، غير أن البابا كان من القوة الكافية ما يستطيع به أن يَضْمَن لفرنسة أعظمَ الفوائد، ومن ذلك أن جُعِلَ حَكمًا في حرب مائة السنة فألقى حُكْمَه على تاريخ أوروبة مع مراعاة مصلحة فرنسة جُهْدَ المستطيع، ومن ذلك أن وَدَّ البابوات نقلَ التاجِ الإمبراطوريِّ من الألمان إلى الفرنسيين بعد مكافحتهم آلَ هُوهِنْشتَاوْفِن، وقد حَبِطَت هذه الخِطة؛ وذلك لأن كلَّ سعيٍ في سبيل السيادة العالَمية صار عقيمًا؛ ولأن تَجَمُّع الأمم حَوْل مركزها الطبيعيِّ كان يَزيدُ؛ ولأن روح الزمن كانت مخالفةً لكلِّ سلطةٍ عالمية ومنها سلطة الكنيسة؛ ولأن كلُّ ملكٍ عاد راغبًا عن نيل بلاده من أُسْقُف رومة كإِقطاعة وصار يأخذها من الله أو بقُوَّة سيفه.

ولَمَّا بَلَغَت القومية أَوْجَها كما في كلِّ زمن اكتسبت شكلًا أدبيًّا وصارت تطالب البابويةَ بأن تَسْمُوَ فوق الأمم كسلطة روحية، وكان هذا يَهْدِف إلى انتزاعِ أُسُسِ سلطتها الزمنيةِ منها. وكان مَنْ يَرْمُون أَفِينْيُونَ بكلِّ وعيدٍ وقولٍ سَيِّئ، مُصَرِّحين بأنه لا يجوز أن تُدَارَ الكنيسةُ من قِبَل دولةٍ كبيرة واحدة، يَنْسَوْن أن رومةَ الإيطاليةَ، لا القُدسَ، هي التي كانت تَمْلِكُهم، وأن الإيطاليةَ كانت لغةَ البابا على الدوام تقريبًا. وكانت أصواتُ أعداءِ أَفِينْيُون تَنِمُّ على تهديد، وكان العامِلُ في سُخْطِ أمراء الألمان ينشأ عن حَسَدِهم فرنسة ذاتَ السلطان النامِي فقط.

والشعراءُ والقِدِّيسُون وحدَهم هم الذين قالوا الحَقَّ كما في كلِّ وقت، وبتْرارْكُ، المُبْعَدُ كالبابا، تَغَنَّى في أَفِينْيُونَ بمدائحَ عن وطنه الإيطاليِّ، وكان يسير على غِرار دانْتِي الذي عَرَف أن يَلْمس العالَم بأسْرِه مُعَبِّرًا عن جَوِّ المَنْفَى الذي كان يُنْتج ألوف النوابغ في ذلك الحين. أَجَلْ، كان المنفى يُمْسِكُ الشاعريْن في وطنهما الصغير لبضعِ ساعاتٍ فقط، بَيْدَ أن شعورَهما القوميَّ بَلَغَ الغايةَ من الوَجْد الشِّعْرِيِّ، وقد رَفَضَ بتْرارْكُ أن يُتَوَّج ﺑ «إكليل الشِّعْر» في باريس راجيًا نَيْلَ هذا الشَّرَف في رومة.

وما أكْثرَ ما وَجَبَ أن يكون التَّوَتُّرُ السياسيُّ حادًّا حتى يَبْذل الشاعران مثلَ تلك الحماسة في ميدان تنازع الأحزاب وميدان المجادلات! وعلى ما كان من التجاء بترارْكَ إلى الطبيعة لم يَنْفَكَّ عن التفكير في الرجال، ولم يُوحِ صعودُه الأولُ المشهورُ في أحد الجبال بأيِّ عملٍ ذي بال، ويَبْدُو لنا دانْتِي على صورةٍ جانبيةٍ ذات ذهنيةٍ تجعلنا نُفَكِّرُ في نَسْر، وعلى العكس تُشَبَّه ملامحُ بتْرارْك بملامح امرأةٍ بين عُمُريْن، وذلك في الصورة التي رُسِمَ بها لابسًا حُلةً كَهَنُوتية فتركها لنا صديقُه. وقد عاش ذانك الشاعران، كالقُسُوس، مِن دَخْلِ الكنيسة كما كان هُورَاسُ وفِرْجيلُ قد عاشا من هِبَات أُغُسْطُس ومِيسِين، وقد انْسَاقَا مع هَرْج الحوادث أيضًا فيُرَى لمُتَفنِّني زماننا بعضُ السُّلوان في هذا الأمر، وقد حَلَّ بُوكَاسُ المعاصر لدانتي وبتْرارْكَ، والذي وُلِدَ مثلَهما من أبوين فُلورَنسيين، ولكن بباريسَ، مُعْضِلةَ زمانه بما اتَّفَقَ له من تَجْرِبةٍ رائعة في الحياة، وهو، على خلاف دانتي وبتْرارْكَ لم يَعِشْ في بلدٍ أجنبيٍّ ولم يَمُتْ فيه، وهو لم يُنَغِّصْ بهجةَ عيشه بِتَدخُّلَاتٍ نَبَوِيَّة في تاريخ عصره الذي كُوِّن بالسيف لا بالأفكار، وهو، حينما وضعَ كتاب «الأيام العشرة» ابنًا للخامسة والثلاثين من سنِيه، قد جَمَعَ بيدٍ رشيقة مائةَ قصةٍ كان رواها هو أو غيرُه ممن ظَهَرَ قبله، وكلُّ شيءٍ كان يمكنه أن يَهُزَّه ولكن لم يَسْطِعْ شيءٌ أن يزلزله، ويشترك في مَوْكِبِ الناس الهزليِّ الذي يُدْعَى التاريخ إذَنْ، ويَصِفُ المهزلةَ البشرية كبَلْزاكَ، ولا يزال أثرُه مدارَ تسليةٍ لنا، ويشتمل أثرُه، فضلًا عن ذلك، على إرشاداتٍ لشَبَاب العاشقين يَعْرِفون بها كيف يُوَجِّهُون مغامراتِهم.

وبجانب هذا المُسْتَمتِع كانت تعيش امرأةٌ قِدِّيسةٌ في الدور نفسه وفي مدينة فلورنسة نَفْسها، كانت تعيش كَترينة السِّيَانيةُ (١٣٤٧–١٣٨٠).

وكَترِينةُ هذه هي التي كانت ذاتَ طُفُولةٍ طريفةٍ بين الكَترِينات الستِّ القِدِّيسات، وكانت من أحدث التَّوائم بين خمسةٍ وعشرين ولدًا لزوجين من الصُّنَّاع، وتُعَدُّ كترينةُ السِّيَانِيَّةُ فَذَّةً بين ذواتِ الفَضْل، وما كان من هُزَال الأُمِّ، وضَنَى البنت على ما يُحتمل، وما كان من فقر الأُسْرَة وبؤسِها يلوح أنه زاد رُؤَى صِبَا كترينة اشتدادًا فيمازجها شوق عظيم إلى حياة الدَّيْر، ولَمَّا أَلَمَّ المرض بالأُسْرَة فمات الأبُ دَلَّت على نشاطٍ مفاجئٍ مُذَكِّرَةً بإناث العصر، فأبدت كبيرَ نبوغٍ في الخَطابة، ومَوْهِبةً في الإقناع على الخصوص، وقد حاولت أن تُسَوِّيَ من دَيْرِها جميعَ الخصومات الاجتماعية والسياسية، وهي لم تُعَتِّم أن دُعِيَت إلى حَمْل بيزة على الاشتراك في حِلْفٍ ضدَّ البابا.

ويلتقي مظهرا رسالتها التاريخية في دَوْرة حياتها تلك، وقد كانت نشيطةً سياسيًّا، ولكنها لم تنفكَّ تكون في وَجْدٍ، وهي تفاجأُ ذاتَ أَحَدٍ في الكنيسة برؤيتها نُدُوبَ١٨ يسوع على يديها ورجْليها وقلبها. ويُثِيرُ هذا حَمِيَّةَ الدومِينِيكان كثيرًا لِمَا كان من وَقْفِ تلك الندوبِ على سان فرَنْسوَا، ومن القول بأنها لا تحْدُث عند غير الفَرنْسيسكان، ويَبْلُغ هذا التحاسد بين المُنَظَّمَتين من إثارة العالَم ما حَصَرَ معه أحدُ البابوات، وقد كان من الفرنسيسكان سابقًا، مثلَ هذه المعجزات بمنظَّمة هؤلاء.
وتَبْلُغ الرسالةُ الثُّنَائية التي قامت بها هذه القديسةُ المسالِمَة أَوْجَها في أفينيون، ويُفَوَّض إلى هذه الفتاة، البالغةِ من العمر ثمانيةً وعشرين عامًا، أن تُقْنع البابا بالرجوع إلى رومة، ويخادعُها الدبلميون من فورها كما خادعوا عذراء أورليان١٩ بعد حين، وتُوَفَّقُ في رسالتها مع ذلك، ويَعْزِم غرِيغْوارُ الحادي عشرَ، وهو البابا الفرنسيُّ السابعُ في أَفِينْيُون، على وَضْعِ حَدٍّ للمَنْفى، ويُبْحِرُ من مَرْسِيلْية شاعرًا في فؤاده بما يَنْدُر أن يُحِسَّه الملوك الذين يجاوزون البحر المتوسط من المشاعر، ولا ترافقه كَترِينة مسافرةً بَرًّا، ويثبت اجتماعهما في جِنِوة بالبابا الذي لم يَزَل مُتَرَدِّدًا درجةَ نفوذها، ويُنْعِمُ البابا عليها بقصرٍ فتسلِّمُه إلى دَيْرها، ويُرسلها البابا من رومة إلى فلورنسة لتقوم برسالة، وتشتعل فتنةٌ بموت البابا، وتكاد كترينة تُقْتَل، وتأسَف لإنقاذ الطالع إياها من الشهادة، وبينما كانت جادَّةً في سبيل البابا الجديد، عاملةً على مفاوضةِ الشعب الرومانيِّ، إذ تَمْرَضُ وتموت سريعًا، ومن المحتمل أن كان يُجْتَنَبُ الانفصالُ الكَنَسيُّ الذي وقع بعد وفاتها لو كان من الممكن دوامُها على العمل من أجل الكنيسة.

وقد وَجَدَت هذه المرأةُ العبقريةُ أسبابًا كثيرة لحمل البابا على مغادرة أَفينيون، وقد اشترك الزعيم الشعبيُّ، رِيَانْزِي، في الأمر، ويشابه رِيَانْزِي هذا طُغَاةَ أيامنا بحماسته الشعبية وتمثيله المَسْرحي، وكان القدماء من خطباء اللاتين وأبطالهم يَمْلِكون قلب ابنِ الفُنْدقيِّ الرومانيِّ هذا، فلما قَتَلَ شريفٌ أخاه ظنَّ تَجَسُّدَ برُوتُوسَ فيه، ويُوَفَّقُ عن طموحٍ وكَيْدٍ، والطموحُ والكَيْدُ هما سلاحا الطُّغَاة، لنيل مقامٍ في بَلاط البابا كلِيمَانَ بأَفِينيُون، وينتفع البابا به ليَضْمن لنفسه دِعامةً في رومة التي أضحت اليوم أقوى من قَبْل، ويعود رِيَانْزِي إلى هذه المدينة الفوضوية فيُعْلِن ذاتَ يومٍ عَقْدَ مجلسٍ على الكابيتول في صباح الغد، ويبدو مُدَجَّجًا بالسلاح ذا مِشيَةٍ روائية عاطلًا من الحرس محاطًا بالموسيقيين والأعلام ونائبي البابا فقط، ويجعل نفسه على رأس موكِبٍ من مُحبِّي الاطلاع والساخطين، ويُلْقِي من فوق الكابيتول خُطبةً فاتنةً حول حقوق الشعب الرومانيِّ الطبيعية وحول عودة العصر الذهبيِّ، ثم ينتحل سلطاتٍ مطلقةً بين هُتَاف الشعب، ويُلَقِّبُ نفسه ﺑ «المنقذ»، ويقيم احتفالًا رائعًا في كنيسة القديس بطرس، ويَتِمُّ كلُّ شيء على شكلٍ مسرحيٍّ وعلى وجهٍ شعبيٍّ، والحكمُ هو ما كان يَقصِده.

وهو لم يَنْسَ سوى أمر واحد، سوى العملِ، وهو قد عاش بالشعائر والدِّعاية، والشعائرُ والدِّعَايةُ ما بدا بهما أستاذًا، وقد تُوِّجَ زعيمًا شعبيًّا بأُبَّهَةٍ عظيمة ومع أكاليلَ وأزهارٍ ومع العيش خائفًا من أشراف الرومان، وقد ترك هؤلاء له مدينةَ رومة بلا نِزاع. وقد ظَلَّ رِيَانْزي قابضًا على زمام الأمور بلا جيشٍ ولا مالٍ حينًا من الزمن، وبينا هو يترجَّح بين المأساة والمهزلة إذ ينال فوزًا، وذلك عندما اختِير حَكمًا بين الأُسْرَتين المتنازعتين حول موضوع نابل، ولكنه يَغْدُو محلَّ سُخْرِية حينما حَرَّض البابا والإمبراطورَ على إقامة إمبراطوريةٍ رومانية جديدة تحت سيادة الشعب الرومانيِّ؛ أي شعبِه الخاصِّ، ويَخْسَرُ كلَّ شيء عندما يُعْلَم أنه لاعبٌ فيتنزل عن سلطانه بعد عهدِ سبعةِ أشهر، ويَلْجأ إِلى إمبراطور ألمانية في براغ ويُسَلَّم إلى أَفِينْيُون ويُقْضَى بقتله، ويُكْتَفَى بسجنه، ويُطْلَق بُعَيْدَ موت البابا.

ويرى البابا الجديد أن يناهض الأشرافَ الذين عادوا إلى رومة، فيُطلِق رِيَانْزِي، ويَضُمُّ إليه نائبًا من لَدُنْه، ويَقْبِض ريانزي على زمام الأمور مرةً أخرى بفضل بلاغته، وعلى ما كان من مرور سبع سنين بين الفصلين فإنه لم يتعلم من خَيْبَة الأمل شيئًا غيرَ القسوة والتَّحَزُّب الجامح، وتَمُرُّ بضعةُ أسابيعَ فيُعْزَل ويُقْتَل في أثناء فِرارِه ابنًا لأقلَّ من السنة الثانية والأربعين. وقد استطاع رِيَانْزي أن يُوحِيَ في أَوْج مجده إلى الشاعر الكبير بتْرارْك، إلى هذا الشاعرِ الحماسِيِّ الناظمِ على المِنْهاج القديم، فيُمَجِّد هذا الشاعرُ فيه رُومُولُوسَ جديدًا وكامِيلَ جديدًا، ومع ذلك لم يَلْبَث هذا الأفَّاقُ أن نُسِي ليَعُودَ فيُمَجَّدَ بعد زَمَنٍ من قِبَل بايْرون وفاغْنِر، وله تمثالُه في رومة، وهذا التمثال صغيرٌ، ولا تَجِدُه فوق الكابيتول، بل تراه على السَّفْحِ عند أَسْفَلِ تمثال مارْك أُورِيل البرُونْزِيِّ.

ويظهر بعد ذلك الحبوط كردينالٌ إسبانيٌّ خبيرٌ بالفروسية وضرب السيف عارفٌ بتقديم القرابين وبتفاسير آباء الكنيسة، ويقضي، بعد جهاد عشر سنين، على سلطان بارونات الرومان المتقاتلين الذين ملئوا رومة بحصونهم المتينة المتعاظمة المَبْنِيَّة من حجارةِ قصور الأباطرة القديمة، ثم مَهَّدَ السبيل لرجوع أحد البابوات قريبًا. وقد أوجبت المصالح السياسية وقوعَ انتخاباتٍ مضاعفة كما كان يحدث في الماضي غالبًا، غير أنه كان لدى البابويْن في ذلك الحين من المكان والزمان الكافيين ما يقومان معه بشئون السلطان في آنٍ واحد، وما كان بين الدول العظمى من تباين قوميٍّ تَجَلَّى في مجموعتين مختلفتين، فجعل هذا مبدأَ السيادة العالمية أمرًا مستحيلًا، وهذا إلى ما كان من عدم اكتفاء أيٍّ من البابوات بسلطةٍ روحية صرفة.

وقد دام هذا الانفصال زمنًا طويلًا، وقد شاهد العالَم هذا المنظر غاضبًا ساخرًا معًا، والحقُّ أن وجود بابوين هو من المناظر الهزلية الفاضحة!

وقد تداول عَرْشي البابوية رجالٌ ماجنون، فكلما مات أحدُهم عَمَّ الأملُ باعتزال البابا الآخر، وكُلَّما انْتُخِبَ بابا جديدٌ وَعَد بتنزله عن البابوية إذا صنع خصمه مثلَه. والواقعُ أن كلَّ بابا كان يتمسك بالسلطة حتى الممات، ومن العبث ما كان يَعْرِضه أقدمُ الكليات وأجلُّ الكرادلة من وساطة، فإِذا ما لاح الاتفاق قريبًا كان أحدُ البابوين يُنَكَّد بوضع الآخر، فيرى البابا الفرنسيُّ المُنَكَّدُ من السعادة أن يعود إلى برُوفنْسِه العزيزة سريعًا.

وأخيرًا يُتَّفَق على عقد مَجْمَعٍ دينيٍّ على أن يكون يسوعُ رئيسَه الخفيَّ، ويُنْصَب له عرشٌ فارغٌ، ويَنْتَخب المجمعُ بابا جديدًا، ويَرْفِض البابوان القديمان أن يتنزلا، وتتمُّ المهزأة بوجود ثلاثة بابوات!

ويُعْقَدُ مجمع ثالث في كونستانس ويُنْتَخَبُ بابا رومانيٌّ في سنة ١٤١٨ بعد مفاوضات طويلة، وكان الخراب قد أصاب مبانيَ الفاتيكان الرائعةَ في تلك الفاصلة فأُصلحت في عامين، ويدخل الفاتيكانَ أُسقفٌ لا يُعْتَدُّ به، وذلك بعد ١١٠ سنوات من التاريخ الذي غادره فيه البابا الأخير الذي كان لا منافسَ له.

٦

تُبْصِرُ كنيسةً وقلعةً بجانب بعضهما بعضًا، فتميل إحداهما عن سَمْت الأخرى فوق ذُروةِ رَحَبَةٍ خفيفةِ الانحدار، فهذا هو الانطباعُ الذي يَحْدُث في الغريب عندما يدنو من القديس بطرس والفاتيكان، وهنا هو أقصى شمال رومة الغربيِّ، وهو واقعٌ على ضِفة التِّيبر اليُمْنَى، ويمتدُّ أكبرُ قسمٍ من هذه المدينة على ضِفاف النهر بعيدًا من هنالك، وتظهر التلال والحقول والسقوف والأبراج والقِبَاب حول المكان، ولكن مع ميلٍ إلى الأسفل، ويبدو الفاتيكان والقديس بطرس، أولَ وهلة، مسيطريْن بارتفاعهما وأبعادهما وموقعهما وتَنَوُّعِ طرازهما فيُذَكِّراننا بقِدَمهما، ومع ذلك فإن الصدارة لكنيسة القديس بطرس التي ليست أجملَ الكنائس، ومع أن الفاتيكان ليس أجملَ القصور فإنه أدعى مراكز الدول الحاكمة إلى الالتفات، ولو من أَجْلِ دوام هذا السلطان مدةً أطولَ من سواها في التاريخ، مدةً تزيد على ثمانيةَ عشرَ قرنًا.

وكان النصارى الأولون قد أقاموا بالقرب من حدود المدينة الكبرى حيث تمتد الحدائق كما في الماضي، وكان هؤلاء قد فَرُّوا من ضوضاء العالم كمُفكِّرين ومعتزلين فيَقْضُون هنا حياةً هادئةً قريبةً من الرَّبِّ ومن الطبيعة، ويُفْتَرَض أن بطرسَ قد صُلِب في إحدى هذه الحدائق حوالي سنة ٦٧، وبما أن القانون الرومانيَّ كان يُسَلِّم الجثث إلى أقربائها فإن أصدقاءَ بطرس استطاعوا أن يَبْنُوا له ضريحًا، وقد أقام خلفاؤه كنيسةً حيث صاروا يُدْفَنُون فيها، ويمضي زمنٌ طويل فيُسَلِّم الإمبراطور قسطنطين مقاليدَ السلطة إلى النصارى لِما ناله جَمْعُ ذوي الأخيلة الصغيرُ هذا من أهميةٍ فيما مضى، ويُعْتَقد أنه شاد في سنة ٣٣٤ كنيسةً كبيرة هنالك، فوق الضريح، حيث لا يزال موجودًا.

ويَنِمُّ الصليبُ الذهبيُّ الذي وَضَعَه لمعرفة ذلك الضريح على تلك الرسالة، وكذلك عَنَّ لأساقفة رومَة الأولين أن يُحيطوا الضريحَ بصفائحَ من برونزٍ فَحفِظَتْه هذه الصفائحُ من تخريب البرابرة. والواقعُ هو أن ضريح بطرس قاوم أعمالَ اللَّصِّ والتدنيس التي أتتها جيوشُ البرابرة، جيوشُ ألارِيك وجِنْسرِيك، ثم أتتها جيوشُ المسلمين. وقد تَفَلَّتَ هذا الضريح، في القرن السادسَ عشرَ أيضًا، من كتائب شارلكن البروتستانية (؟) بسبب الأسوار العالية التي رَفعَها أحدُ البابوات حوله على ما يُحتمل، أو لِمَا يُحتمل من قدرته الحافلة بالأسرار.

وأدعى إلى الحيرة من ذلك ما كان من إفلات بقايا بطرس من رجال الفنِّ، ومن ذلك أن برَامَانْت٢٠ أراد إقامة كنيسةٍ جديدة للقديس بطرس على أرضٍ أخرى، وما يتطلبه ذلك من نقل الضريح، أو كلِّ ما ينطوي عليه الضريح، ولم يوافق البابا على ذلك عن حُرْمةٍ تقليدية، ويرى بِرْنِينِي٢١ بعد زمنٍ أن يُتْلِف قديمَ المباني، فيبدو أقلَّ قوةً من روح بطرس، وكلُّ ما استطاعه هو أن يُؤْذِيَ بالذهب وبأبهى الأعمدة وأغرب الأساطين ذلك المِنْبَرَ الخشبيَّ البسيط الذي كان الرسول يَعِظُ من فوقه.

ومما وقع اتفاقًا أن أخذت كنيسة القديس بطرس تتداعى في أثناء اشتداد الصِّراع الكنسيِّ أيام الانفصال، ويُعْلَمُ من تقرير الخبراء أن الجدارَ الجَنوبيَّ قد غَلظَ عن هبوطِ نحو ستِّ أقدام في أساسه، وهنالك عزم أحد البابوات على هدم الكنيسة عن ١٢٠٠ سنة من العُمُر تقريبًا، ولا يشتمل البناءُ القائمُ في أيامنا على حجرٍ من الكنيسة القديمة التي حُفِظَت بقاياها الهزيلة في مُتْحَف وضيع.

ومع ذلك فإن كنيسة القديس بطرس الجديدة، التي لم تُعانِ تغييرًا منذ سنة ١٦٢٦، قد عَرَفت تاريخًا دراميًّا٢٢ في السنوات اﻟ ١٢٠ التي دام إنشاؤها فيها، فقد انطوى البناء على طموح البابوات وتنافس المتفننين وتَبَدُّل الأذواق وسلطانِ المال قبل كلِّ شيء. وقد تنازع أعظمُ متفنني عصر النهضة، رفائيل وبرامانت والإخوة سانْغَالُو، مدةَ أربعين سنةً حَوْلَ الشكل الذي يكون عليه البناء فلم يُحَقِّقوا شيئًا عمليًّا، ثم يُدْعى ميكل أنجلو فيُبْدِي رأيين رائعيْن أحدُهما مُتِمٍّ للآخر، وذلك أن تكون القبةُ والبناء على شكل الصليب الإغريقيِّ، ويُحِيطُ خيالُه بمعبدٍ ذي نِسَبٍ منسجمة وطولٍ وعرض متساويين، وذلك مع مركزٍ مشرفٍ على ضريح بطرس، مع قبةٍ ذات ارتفاع وقاعدةٍ لا تُمْكِنُ مجاوزتُهما فتلوح أنها سابحةٌ في الهواء. أَجَلْ، إنه وضع التصاميم، غير أن مائةَ دسيسة حالت دون تنفيذها، ولم يَزَلْ مشغولَ البال حول رمز هذه القبة حتى آخرِ حياته، فلما مات لم يكن قد بُدِئ بشيء.

وبعد خمسين سنة من تنفيذ التصاميم وخمس وعشرين سنةً من وفاته، أقام بولُ الخامسُ القبةَ، التي تُعَدُّ أعظمَ تراثٍ لمِيكل أَنْجِلُو، وَفْقَ التصميم تقريبًا، ومع ذلك فإن روحًا شِرِّيرةً استحوذت — كما يلوح — على خرائط البابا بعد قرنٍ من ازدهار دور النهضة فصارت كلَاسِيَّةُ الأشكال تورث ذعرًا، ففَرَضَ البابا صحنًا للكنيسة مستطيلًا مُذَكِّرًا بالصليب اللاتينيِّ، وقد حَمَل على مَطْلِ القِسْم فأكْسَب البناءَ بذلك ما لمائة كنيسةٍ أخرى من شكلٍ معتاد، وعادت القبةُ العظيمة لا تَبْدُو في مكانها المناسب.

واليوم، أيضًا، لا تزال كنيسة القديس بطرس تبدو، خارجًا، مجردةً مما توحي به القِباب القوطية من الروح الدينية، كما تبدو في داخلها عاطلةً من الروحانية التي تَنْبَعث من الزجاج المُلَوَّن المُتَمَيِّز بعضُه من بعض بقِطَع، وهي مكانُ مَحْفِلٍ رسميٍّ حيث يلتقي في أيام العيد أربعون ألفًا من أهل رومة الهِيفِ الظُّرَفاء. وتُلْقِي كنيسةُ القديس بطرس، كما تُلْقِي نصرانية القديس بولس، حِسَّ السلطان في النفس أكثر من أن تُثِيرَ روحَ الاحترام، ولا يُكْشَف رمز الخلود إِلا عند الاقتراب من المدينة وحين تَبْرز القبةُ المهيمنة عليها من مسافةٍ بعيدة.

وللفاتيكان، الذي يَصِلُ البابا منه إلى كتدرائيته بدهليز، تأثيرٌ أكثرُ تَنَوُّعًا وفُتُونًا، وإذا عَدَوْت بعضَ الفواصل وَجَدْت البابوات قد أقاموا به منذ أربعةَ عشرَ قرنًا، وتَدُلنا مبانيه المشتبكة على أنه أقدمُ من كنيسة القديس بطرس بألف سنة، وهو يشتمل على كثير من الأسوار والمعاقل والمتاريس والسَّرَاديب والساحات المُحَصَّنة، واليومَ لا يُقْبَلُ الزائرُ إلَّا راجِلًا فيُتَاح له بذلك أن يُنْعِم النظر في أعجب قلاع العالَم. وقد أدى عدمُ وجود تصميمٍ إنشائيٍّ شاملٍ إلى سير كلٍّ من روح بعض البابوات الحربية، ومن الروح الشعرية الرِّعائية لدى آخرين منهم، ومن الروح الإنسانية عند زمرة ثالثة منهم، طليقةً في مجراها، وتقوم قصورٌ ذاتُ أبراجٍ بجانب حدائقَ أنيقةٍ كما ترتفع مكتباتٌ داعيةٌ إلى البحث.

وعاد البابا في زماننا لا يكون أميرًا زمنيًّا على الرغم من مدينة الفاتيكان المَرْتُوقة، ويلوح أن هذه المباني قد خَرَجت من سحر أساطير الأولين، وقد ظلَّ كلُّ شيء في مكانه، وذلك كالحصون المُتَهَدِّمة التي تُرَى في غير محلٍّ بأوروبة، وذلك كالشوارع والمُتَنَزهات القائمة في مكان الأسوار التي اختفت من باريس، ويُرْفع الرأس مُنْكِرًا حين التفكير في أن جميع هذه الحصون ووسائلِ الدفاع كانت قد أُقيمت لحماية قَسٍّ معتزل.

ومن المُؤَثِّرات الغريبة ما نَشْعُر به في رِدَاه الاستقبال قبل مواجهة البابا، ويكون أولَ ما نبصرُ في الأسفل، وأمام الدَّرَج، كتيبةُ الحرسِ المؤلفةُ من سويسريين ضِخَامٍ لابسين ثيابَ المُشَاةِ المرتزقة الصُّفْرَ والسُّودَ، وهم ما فتئوا منذ أربعمائة سنة يَحْمِلون بأيديهم حِرابًا من غير أن يحاربوا بها منذ قرنين على الأقل، وهم يتكلمون كلماتٍ ذاتِ مقاطعَ واحدةٍ مُبْدِين من الصمت البارد ما يُمَيَّز به السويسريُّون.

وتَجِدُ في الأعلى خمسَ رِداهٍ أو سِتَّ رِداهٍ ذواتِ سُقُفٍ متساويةٍ ارتفاعًا واتساعًا وفضاءً، وكلُّ شيءٍ مُزَخْرَفٌ بالحرير، وتُبْصِرُ هنالك كراسِيَّ مصفوفةً على جوانبِ الكثيفِ من الزَّرابيِّ كما لو كانت غِلْمَانًا، ولا ترى هنالك مِنْضَدَةً، وتجمع الأبوابُ العريضة المزدوجة جميعَ تلك القاعات في رُواقٍ واحد، وتُسْدَل الستائر، وتقوم المصابيحُ ذواتُ النُّور المنتشر مقام ضياء البحر المتوسط ذي الشمس الجَنُوبية، وتتجلَّى أسطورةٌ من ألف ليلة وليلة في عُلْبةٍ مسحورة، ويأتي ويذهب من غير ضوضاء ضباطُ الحرس البابويِّ الذين هم من أبناء طبقة الأشراف الرومانية القديمة والذين هم مُزَوَّقون بالذهب والدِّيباج، وذلك على حين يظهر قسيسون ويتوارَوْن مُتَسارِّين.

وإِيوَاناتُ البابا مُفَتَّحَةٌ، فإذا ما دُعِيتُم في آخر الأمر أَمْكنَكم، في بعض الأحيان، أن تسمعوه يُكَلِّمُ زائريه في الغرفة المجاورة على مَهْل، وقد نُقِّصَ السَّلَامُ بالركوع ولَثْم الخاتَم إلى أصغر مُدَّة، ويكون البابا واقفًا وحدَه غيرَ جالس على العموم، وتُبْصِر بعد المقدمة، وبعد انتظار الأُسطورة، أن الاستقبالَ الأصليَّ أقلُّ أُبَّهَةً وأكثرُ بساطةً مما كان عليه الاستقبال في البَلاط الإمبراطوريِّ القديم، وبَيْنا يُنْصَت لكلام البابا يُسْمَع وراءه صليلٌ خفيفٌ لسيوفٍ فضية لم تُسْتلَّ قَطُّ، كما يُسْمَع طنينُ المهاميز الذهبية، وذلك مع نشرِ شُعاعٍ للأسطورة في عصرنا المُوَطَّأ، ولا يَجِدُ الزائرُ نفسَه داخلَ قلعةٍ كانت تهتزُّ بصوت المدافع فيما مضى.

وعلى العكس لا يزال جميعُ فنِّ إيطالية قائمًا في كل مكان من هذا القصر، ولا يستطيع مُتْحَفٌ أن يُبَارِيَ كلَّ ما أُبْدِع هنا، بين سنة ١٤٥٠ وسنة ١٦٥٠ على الخصوص؛ وذلك لأن الذي ترى هنا ليس مُتْحَفًا، بل تعبيرٌ عن الحياة والتقْوَى اللتين أَنعشتا مناوبةً، وفي آنٍ واحدٍ أحيانًا، ذلك القصرَ وَفْقَ روح الأزمان المتقلبة. أَجَلْ، قد يكون بعض المتاحف أغنى من رِدَاهِ الصُّوَر والمَنْقُوشات في الفاتيكان كمُتْحَف فلورنسة ومُتْحَف مَدْريد مثلًا، غير أنك لا تَجِدُ في مكانٍ آخرَ مثلما تَجِدُ هنا من الإنتاج الفنيِّ، حتى إِن قصرَ دُوكَال في البندقية يأتي في الدرجة الثانية، وإننا نستند في هذا إلى تحقيقنا الخاصِّ.

وأدعى الأمور إلى العجب هو تسامح الكنيسة التي يَبْرُز سلطانُها هنا، وما كان المتفننون، في أيِّ مركزٍ دينيٍّ آخر من مراكز البحر المتوسط، ليَجْرُءوا على إبداء ما أَبْدَوْه هنا. نَعَمْ، قد أغضت معابدُ الإغريق عن إظهار جمال الجسم البشريِّ العاري، نَعَمْ، كانت التيجان الذهبية تَسْطَع حول رأس أباطرة بزنطة، غير أنه كان يُعَبَّرُ هنالك عن عقائد الدين ومظاهره، وإذا كانت الإشارات والرموز هي التي تمثِّل الإلهَ الخَفِيَّ في الصَّلَوَات٢٣ والمساجد؛ فذلك لأن عدم إدراك الأبصار إياه من تعاليمها الوثيقة ومن خُيَلَائها وفلسفتها.

وفي الفاتيكان استطاعت الحُورِيَّات والأشخاصُ ذوو الأبدان الوَعْلِيَّة أن تَعْبَث وتَلْهُوَ وأن تُبْدِيَ دِيَانا فُتُونَها، ويبعث رفائيلُ بريشته صُوَرَ الإغريق الوثنية، وتُبْصِرُ بجانبها يسوعَ واقفًا كمَلِكٍ عارٍ في مملكة الأموات، فيُعَدُّ هذا من أوابد ميكل أنجلو، ويُمْسِك الأُطُرَ المحيطةَ بصُوَرِ العَهْدِ القديم الجدارية غِلْمانٌ يُشِعُّون جمالًا يونانيًّا، ويُهَيْمِن الغَوَاني على الجنَّة وتبتسم خليلةُ البابا بُورْجِيَا لنا من فوق جدارِ رُواقٍ فتلوح أنها العذراء كما تَبْدو ابنةُ هذا البابا بعيدةً قليلًا، ويجتمع جميعُ هذا تحت رمزٍ واحدٍ، تحت الصليب الذي مات عليه يسوعُ وبطرس، ولَمَّا صَدَحت فِرْقةُ الفِتْيَان تحت قُبَّة القديس بطرس الواسعة تلاشت أفكارُنا الدنيوية ونُقِلْنَا إلى سماءٍ يَجْلِس فيها هذا القِدِّيسُ بجانب مُخَلِّصِه.

٧

يحاوَل أن يُدْعى البحر المتوسط بحرًا تجاريًّا في بعض الأحيان، ولكن أليست جميع البحار كذلك؟ أوَلَمْ يَرَ مَدَى المياه الذي لا حَدَّ له معاركَ أقلَّ من السُّفُن التجارية ومراكبَ حربيةً أقلَّ من المراكب التجارية؟ وما في البَرِّ من ضِيق المساوفِ ومن تصادم المصالح أدى إلى اصطراع ملايينِ الآدميين في كلِّ زمن، وما يسمعه المستأجر في بيت إجارةٍ من خلال الجدار لدى جاره الصَّخَّاب، وما يُعَدِّده فَلَّاحٌ من شكاوَى ضِدَّ فَلَّاحٍ آخرَ يجاوره حَقْلًا، وما يصوغه شعبٌ ضِدَّ شعبٍ آخر يقيم بما وراء نهرٍ مجاور، أمورٌ تتوارى في رُحْبِ البحر الذي لا نهاية له، وما كان لأحد المراكب أن يَضُرَّ الآخر، وما كان للأول أن يُقَوِّض الثاني إلَّا عَرَضًا أو حَرْبًا، وما كانت حُرِّيةُ البحار التي أخذت تتقدم حتى في القرون الوسطى ليُمْكِن أمرُها إلَّا لأن البحر ملكُ الجميع لا ملكُ أحدٍ.

وفي ذلك يَتجَلَّى سببُ ما يُرَى في المَلَّاح من اطمئنانٍ وحسٍّ دينيٍّ أكثرَ مما يُرَى في الفَلَّاح، وليس على المَلَّاح أن يحارب في سبيل الحرية ما دام لا يَجِدُ مَنْ يجادله حَوْلَها، والحريةُ هي خَيْرٌ طبيعيٌّ يتمتع به كلَّ صباحٍ حينما يَصْعَد في السُّلَّم الحديديِّ المؤدي إلى حُجَيْرَته على سطح المركب، وذلك ضِمْن ما يحِيطُ من نورٍ وفضاء، وإذا ما ابتغى ذلك في البرِّ وَجَبَ عليه أن يَلْجَأ إلى الغابِ أو الصحارى حيث يكون وحدَه، وإذا ما طلبتم الرَّبَّ في الكنيسة وجدتم مئاتِ الوجوه تنظر إليكم، وذلك على عكس ما في البحر؛ حيث يجب عليكم أن تستعملوا المِنْظار حتى تُبْصِروا أَثَرَ أناسٍ آخرين، ولم يَتَّفِقْ لملكٍ أو لطاغيةٍ من الحرية ما اتفق لرُبَّانٍ على جِسْرِه الضيِّق.

وتُوجَدُ الرِّزمُ والبراميلُ التي نُظِّمَ السَّفَرُ من أجلها في أسفل المركب وفي قعره، ولم تُعْرَف السُّفُنُ المُعَدَّةُ للمسافرين وحدَهم في غير الأزمنة الحديثة، حتى في أيامنا يُكْسَبُ من وَسْقِ مركب ما وراء المحيط مالٌ أكثرَ مما يُكْسب من نقل المسافرين، ولا غَرْوَ، فمُعْظَم هؤلاء من رجال الأعمال، فمن النادر أن تَجِدَ بين مائة سائحٍ أكثرَ من رجلٍ يَتَرَحَّلُ بحثًا عن الشعوب أو تمتعًا بمناظرَ أو كسبًا لقلبٍ لا مالٍ.

ويَكْشِف البحرُ المتوسط، وهو أصغرُ جميع البحار، عن سَجِيَّته كبُحَيْرَةٍ داخلية بما هو واقعٌ منذ القرون القديمة من شَقِّ ما لا يُحْصِيه عَدٌّ من صِغار المراكب وكِبَارِها لعُبَابه وسفرها بين شاطئٍ وشاطئٍ ووصلِها ما بين البلدان وقيامِها بتبادل المُنْتَجَاتِ التجارية وتبادلِ الحضارات معًا، ولا أحدَ يستطيع أن يقولَ أيُّ بلاد البحر المتوسط كان يجب أن يُعَدَّ من المستعمرات؛ وذلك لأن الإسكندرية وقرطاجة قد نَشَأَتا قبل بِزَنْطة والبندقية، وقد أنعمت أبعادُ البحر المتوسط الضيقةُ على المِلاحة برسالةٍ لم تتفق للبحار المحيطة الكبرى، وكان البحر المتوسط قد خَلَعَ على التجارة والحضارة شكلًا رائعًا ناميًا قبل اكتشاف أمريكة بطويلِ زمن، وقبل أن تُعْرَفَ الصين والهندُ معرفةً حقيقية.

وكانت إيطالية على رأس بلاد البحر المتوسط، وكان الطلاينة أولَ صيارفة أوروبة وأكبرَهم منذ قضت الحروب الصليبية بضرورة قيام نظامٍ جديد للمبادلات، وتكاد تكون إيطالية مصدرَ جميع التعابير الصيرفية التي نستعملها اليوم كالكلمات: Giro (الحوالة)، وLombarde (القطع)، وConte corrente (الحساب الجاري)، وCredite (الاعتماد)، وSalde (الرصيد)، وBanc rotta (الإفلاس). وفي إيطالية اخْتُرِع حساب الدُّوبْيَا،٢٤ وكان البنك في أول الأمر Banco؛ أي مِنْضدةً طويلةً يَدْفعُ المرءُ عليها نقودَه للمبادلة بعد طَرْح ما يجب استيفاؤه، ويَجْمُل بكبِار الصيارفة الذين لا يزالون يعتقدون سيطرتَهم على العالم أن يذكروا في الحين بعد الحين أصلَ مهنتهم الوضيعَ. وتُعَدُّ إيطالية أولَ بلدٍ دُفِعت فيه فوائدُ عن المال على نطاقٍ واسع، وقد اضْطُرَّ البابوات الذين كانوا يحتاجون إلى المال، دَوْمًا، إلى رفع الحَظْرِ الكَنَسِيِّ عن قبض الفوائد أو دفعها، وقد رَهَنُوا لدى البُنُوك الإيطالية عِدَّةَ ضرائبَ وأعشارٍ في مقابل فوائدَ بلغت ملايينَ كثيرةً.

وبما أن الاعتماد هو الثقةُ بأشخاصٍ تُفْتَرَضُ درايتُهم أو قدرتُهم فإنه كان يسهل مَنْحُ البابوات والملوك إياه، وكان صِغَارُ المرابين يصبحون من كِبار الصيارفةِ عند ارتقاء الأُسَرِ المالكة الكُبْرى، فيُعْلِن هؤلاء الصيارفة استعدادَهم لخَفْضِ مُعَدَّلِ الفائدة المئويِّ في مقابل لقبِ شرفٍ، وكلما كان هؤلاءُ الصيارفةُ يُوغِلُون في أعمال العظماء من الأمراء الإقطاعيين كانوا يزيدون نفوذًا سياسيًّا، ولَمَّا أُرِيدَ إعطاءُ اسمٍ لاستغلال شعوبٍ كاملةٍ بالمكوس والضرائب اخْتُرِعت أسماءٌ جميلة منذ زمن مكيافيلِّي كضرورة الدولة وحقِّ الدولة والسياسة الرشيدة، والواقعُ أن هذا دَلَّ على خاتمة كلِّ أدب نصرانيٍّ، ويزدري الأمراءُ والطغاةُ بعضَهم بعضًا أقلَّ من ازدرائهم الجُمهورَ الذي يقتل نفسَه في سبيلهم حتى عند اشتداد اصطراعهم، ويصبح رجالُ المال رُسُلًا ووُسطاءَ بين أعداءٍ أقوياءَ من غير أَن يشعروا بأيِّ نفورٍ من خيانةِ بلدهم الخاصِّ، وهكذا صار ذوو النشاط المحليِّ من أبناء صِغَار التجار صيارفةً مشهورين في أممهم كما صار حَفَدَتُهم ماليين بين الأمم.

وكان التاجر الإيطاليُّ من الحِذْق ما جاوزت معه شهرتُه نِطاقَ البحر المتوسط، ورَهَن ملوكٌ ألمانٌ وإنكليزٌ دخلَهم القادمَ واحتكاراتِهم ورُخصَهم لدى صيارفةٍ في ميلان وفلورنسة، وكان الملكُ إدواردُ اللندنيُّ مَدِينًا بمبالغَ عظيمةٍ أيامَ إِفلاسٍ كبير وَقَعَ في البندقية سنة ١٣٤٥. وقضى الإنكليز وقتًا أكبر مما قضاه الطلاينة حتى يكونوا تجارًا صالحين ومَلَّاحين، وكان من العادة في بَلَرْم، حتى في عهدِ فردريكَ الثاني، أن يُرْهَن إصدارُ القمح الصِّقِلِّيِّ عند فلورنسة.

وكما أن نظام الاعتماد قد نشأ عن نظام البُنوك، نشأت الشركات المغْفَلة الأولى عن النظام التجاريِّ الاستعماريِّ، والتجارُ البندقيون والجِنوِيُّون هم الذين دَحَرُوا في هذا المضمار منافسيهم اليونانَ والعرب من جَنوب البحر المتوسط وشرقه، وهم قد بلغوا من المخاطرة ما كانوا يُرْسِلُون معه سِلَع البحر الأسود وطرابلسَ إِلى إنكلترة، ومع ذلك لا تُعَدُّ الشواطئُ التي يحتلونها من المستعمرات بالمعنى الصحيح ما لم تكن غيرَ مأهولة، ومع ذلك فإن ما أقامه هؤلاء الأجانبُ من وكالاتٍ تجارية قد تقدَّم كثيرًا فظهرت مُدُنٌ بندقيةٌ في موانئ آسية الصغرى مع مجلسِ قضاءٍ وقناصلَ وإدارةٍ قومية خاصةٍ بها، وما عَنَّ للبندقية من وجوهٍ للسيطرةِ مُقَنَّعةٍ صَلَح منْهاجًا لإسبانية وقُلِّدَ من قِبَل مستعمرين هُولَنْديين وإنكليز حتى القرن الثامنَ عشرَ، وقد كان هذا الدور مقدمةَ عصر النهضة ثم مقدمةَ النظام الاستعماريِّ.

وما كان من جمع بعض الناس لِثَرَوَاتٍ واسعة بسرعةٍ بعد الحروب الصليبية مدينٌ قبلَ كلِّ شيء للعوائد الكبيرة التي غَدَت متعذرةً بسبب انقضاء دَوْرِ الاحتكارات الخاصة في أيامنا، أَجَلْ، كانت مهالك الحرب وتقلباتُ الحُكْم شديدةً على أصحاب المراكب والمَلَّاحين، غير أن التجار أساءوا استعمالَ مبدأ الخَطَر. وكان أهلُ فلورنسة، إذا ما باعوا نُسُجَهم من نيسَ أو من عكا، يضاعفون ثمنَها ثلاثَ مَرَّاتٍ في بعض الأحيان، وكانوا يتعاطَوْن في الوقت نفسه تجارةَ الرقيق غير مُقَيَّدين كما لو كانوا من الأغارقة أو من الوثنيين، وكأن أحد الرُّسُل لم يظهر في بلاد البحر المتوسط ولم يَدْعُ الناس إخوانًا، وكأن مُمَثِّلَ هذا النبيِّ لم يَعِظْ بالإنجيل في كنيسة القديس بطرس برومة.

ولم يكن بين مُدُن إيطالية ما هو أمهر من فلورنسة، ولم يكن من المصادفات أن أنجبت هذه المدينة بأحسن التجار والدبْلُميين، وقد غدا أمثال كاردي وبالدي وبيرُوزِي من العظماء الذين يذكرهم أهل البحر المتوسط باحترام كالذي يذكر به الأمريكيون صيارفتَهم في نيويورك. وقد كان آل مِيدِيسيس أولَ مَن انتقلوا من عالَم المال إلى عالَم السياسة فظلَّ الحكم قبضتَهم في فلورنسة ثلاثةَ قرون، وقد قاموا في القرن الأول من سلطانهم بشئون الحكم مع كثيرِ حكمةٍ وعَطَلٍ من الألقاب، ثم أداروا دَفَّة الحكم في القرنين التاليين بلا حِكْمَةٍ ومع إفراطٍ في حَمْل الألقاب.

وكان كُومْ دوُميدِيسيِس (١٣٨٩–١٤٦٤)، وهو أهمُّهم، ابنًا لتجار نافذين ومستشارين في فلورنسة، فاكتسب ثروته العظيمةَ في مجمع كُونْستانْس، على الخصوص؛ حيث رافق البابا. ومن الطليان والألمان أناسٌ اغْتَنَوْا بهذه الأعمال السياسية، ولكنْ ما هو السبب في عدم تسمية أحدٍ من آل ألْبِزِّي وفُوجِر «أبا الوطن» كما اتفق لكُوم دومِيدِيسيس؟

إن الجواب سهلٌ، وهو أن كُوم قد أَحَبَّ الحرية وناضل عن الشعب وأجار الفقراء، وهو قد قضى حياةً مملوءةً توفيقًا ونُبْلًا، وطُهْرًا تقريبًا، حتى بدءِ عصر النهضة، ولا ينبغي أن يُقاس به أحدٌ من أصحاب الملايين في عصرنا على ما يَبْذلونه من جهودٍ في إراحة ضمائرهم بإنشاء أوقاف خيرية، ولم يترك هذا المِيدِيسِيسِيُّ شيئًا لأبناء وطنه، وما فَتِئَ صيتُه يَذِيعُ في غضون القرون مع ذلك، وهو مَدِينٌ في شهرته هذه لعدم جَمْعِه ثروتَه ظلمًا وعُدْوانًا بحِرمانه الناسَ وسائلَ عيشِهم.

وظَلَّ كوُمُ سيدَ فلورنسة أربعين عامًا فأوجب تسجيل جميع الأملاك العَقارية، وهو قد استعان بهذا السجلِّ في فرضِ ضرائبَ ثقيلةٍ على الشُّرَفاء وضرائبَ خفيفةٍ على الدَّهماء، وهو قد عَزَل الجُبَاةَ المرتشين وأقرض، أو أعطى، أبناءَ بلده مالًا، وذلك عن رغبةِ رجلٍ في الكِيان أكثرَ مما في الظهور، وهو قد احتمل صامتًا نَفْيَ سنةٍ على حسبِ العادة، فلما عاد لم يحاول الانتقامَ، وهو يُرَى في نقشٍ بارزٍ لِفيرُوكْيو صاحبًا لملامحِ شائبٍ لابسًا ثيابًا بسيطةً وعَمْرةً كبيرة، وكلُّ شيء ثقيلٌ فيه، فله أنفٌ طويلٌ حادٌّ مَعْقوفٌ وأُذنان كبيرتان، غير أن ملامحه تَنِمُّ على الجِدِّ والفِطْنة والانسجام، وكان متقدِّمًا في السنِّ عندما بدأ بدراسة أفلاطون، وعَرَف أكابرَ المتفننين فكانت له طَلَباتٌ لدى دونَاتِلُّو وغوزولي، وعلى ما كان من حُبِّه التَّرَدُّدَ إلى رُواق مغناه الرائع في كارِّيجي، حتى يُحَاورَ أناسًا من الشعراء والفلاسفة، ظَلَّ رجلَ أعمالٍ بُرْجُوَازيًّا عارفًا في عامِه بما نال من ربحٍ في العام الماضي معرفةً تامة.

وكان حفيدُه لوُرَانُ السَّخِيُّ طاغيةً جَبَّارًا، ويبدو هذا الحفيدُ في الصورة الجدارية التي رسمها شِرْلانْداجُو ذا فَكٍّ بارز وأنفٍ عريضٍ مُسَطَّح وشعرٍ كثيفٍ جَعْدٍ ونظرةٍ مُتَقَصِّيةٍ غيرِ هادئة وفمٍ متأهبٍ للكلام على الدوام، وهو لم يكن تاجرًا بل متفننٌ، وما كتبه من قصائدَ رائعةٍ بنفسه وما كان من وَلَعه بالموسيقى والمعرفة والحياة الذهنية والحُبِّ والصداقة والمغامرات أمورٌ كانت تَنْعَشُ هذا الوارثَ المِسْقامَ وتَحفِزُه إلى العيش بأحَرَّ مما يقتضيه الحذَر، ويوجد شَبَهٌ غريبٌ بين قِنَاعَيْ لورانَ وبتهوفنَ المأتميين.

وكان مزجُ كلتا الديانتين مَثَلَ فلورنسة الأعلى في ذلك العصر، وكان يُدْعى «لاهوتَ أفلاطون وفلسفةَ بولس» مع شيءٍ من الدَّلال. وقد صَوَّرَ بُوتِيشِلِّي فِينوُسَ قِدِّيسةً وعَرَضَ نساءً نحيفاتٍ على أنهنَّ من الإلاهات، وقد سُمِحَ له في البَلاط أن يُجِلَّ أثَر دانتي وبُوكاسَ معًا. وقد ساد جَوٌّ غريبٌ من الحِسِّ والشَّهْوانِيَّة في السنين التي سبقت ظهورَ رفائيلَ، ويتألف من هذا عصرُ انحطاطٍ أكثر من أن يتألف عصرُ نهضةٍ حقيقيٌّ.

ثم يأتي سافُونارُولُ، هذا الدومنيكيُّ ذُو الحُلَّة البيضاء، الذي كان يُنْبِئ القومَ بما يَرَى في الليل من رُؤًى والذي نَبَّأ بموت لُورَان، وهو، مع اشتعاله ضِدَّ مواكب آل مِيدِيسِيس المُقَنَّعة المُعَرْبِدَة، لم يكن أقلَّ مَسْرَحِيَّةً عندما سار على رأس موكبٍ مؤلفٍ من فتيان وفَتَياتٍ مُكَلَّلين ليُحَرِّقوا باطلَ الأدوات في جميع المنازل منشدين: «عاش يسوعُ مليكُنا!» ويُزْعَم أن لوران دعاه إلى فراش موته، وهذا غيرُ صحيحٍ، والواقعُ أن لوران لم يُذْعِن لهذا المتعصب قَطُّ. ويموت لُورانُ، ويَقْبِض سافُونَارُول على زمام فلورنسة خمس سنين؛ أي إلى أن خَسِر كلَّ نفوذٍ بسبب حبوط ما سَعَى إليه من الشهادة، ويُنَكَّلُ به نَكَالًا شديدًا، ويُشْنَق وتُحْرَق جُثَّته في الموقِد الذي كان قد أقامه ليَقْذِف فيه الأشياءَ الموصوفة بالأباطيل كالمَرَايا والستائر والمَعَازف والشِّطْرَنْجات، وكمؤلفاتِ بتْرارْكَ أيضًا.

وظهر من آل مِيدِيسِيس بابَوَان، وكان ليونُ العاشر أحدَهما، ومع ذلك فإن ما اتصف به كُومُ من حِلْمٍ كريمٍ وما اتصف به لورانُ من سَنَاءِ نفسٍ ولِينِ عريكةٍ لم يُكَرَّرْ قَطُّ، ومن العَبَث أن حاول خلفاءُ لهما سُخَفَاءُ تحويلَ مالِ أجدادهم وأهلِيَّاتِ أسلافهم إلى ألقابٍ وتيجانِ دوكيَّات.

٨

بينما كانت الجُمهوريات والإمارات في إيطالية يُمَزِّق بعضَها بعضًا مقدارًا فمقدارًا، كان توحيدُ كلٍّ من بلدي البحر المتوسط في المستقبل سائرًا في سبيل التحقيق، وقد سلكت فرنسة وإسبانية طريقَ إنكلترة فأصبحتا دولتين قوميتين في القرن الرابعَ عشرَ والقرن الخامسَ عشرَ. وكان المثلُ الأعلى الرومانيُّ العامُّ الذي تَقَمَّصَ البابا والإمبراطورَ مناوبةً قد زال، وعادت اللغة اللاتينية الجامعةُ لا تُسْتَعْمل خارجَ الأديار، وفُرِضت اللغات القومية حتى على الجامعات ولم تَنْشَب إيطالية المضطربةُ أن وجدت نفسَها في سواء اللغة الدارجة.

وقد أعربت فرنسة، قبل كلِّ شيء، عما لها من مبدأٍ حول الدولة في عهد بعض الملوك الأقوياء. أَجَلْ، كان آلُ كابي القدماءُ ضِعَافًا وكانوا دون ملوك الألمان مقامًا، غير أن المبدأَ الجِرمانيَّ مال إل الأُفول بعد آخر عاهل من آل هُوهِنْشتاوْفن، وقد يُعَدُّ رمزًا ما كان من بقاء ملك فرنسة، لويس التاسع، حَيًّا عشرين سنة بعد موت إمبراطور ألمانية فردريك الثاني.

ومن الغرابة أن كان لويسُ، الذي نُعِتَ بالقِدِّيس، رُجُوليًّا مختالًا جميلًا واثقًا بنفسه، وقد كان من حُسْن الصلة بمنافسه فردريك ما طلب معه هذا الأخيرُ وساطةَ ملك فِرنسة حين خَلْعه، وقد أبدى هذا الأخيرُ من التسامح تِجاه ألمانية ما رَدَّته مضاعَفًا إليها.

وأراد ملك فرنسة، الذي أُشيرَ إليه قِدِّيسًا، أن يقوم بحربه الصليبية جادًّا بنسبة هَزْل فردريكَ في أَمرِها، ومع ذلك ظَهَرَ أَقلَّ حَظًّا من هذا العاهل الألمانيِّ، وذلك أنه وقع أسيرًا في غزوه الأول للأرض المقدسة، وأنه مات بالطاعون في غَزْوِه الثاني.

ووَطَّنَ خلفاؤه أنفسَهم على العمل في سبيل المبدأ القوميِّ، واستحقَّ فليب الجميلُ لقبَه، ولم يكن لهذا الملك الجليل المَكَّار الغَدَّار الطَّيَّار، الذي هو ضَرْبٌ من الملكِ الشمس قبل دَوْر الأدب، غيرُ مَثَلٍ عالٍ واحد، غيرُ فرنسة، وهو قد كافح طبقة الأشراف الإقطاعيةَ تَعْزِيزًا للدولة بموظفيها، وهو قد احترز من البابا أيضًا فَوضَع ضرائبَ ضِدَّه، ويناهض البابا نفسُه هذا الحفيدَ بعد أن أَدرج الجَدَّ في عِدَاد القِدِّيسين، ويعاني البابا من الغَصْب في أثناء الاضطرابات التي عَقَبت ذلك ما لم يُعَانِه أسلافُه، وكان لا بُدَّ من تَدَخُّل أهل رومة نيلًا لحرية هذا الشيخ البالغ من العمر خمسًا وثمانين سنة، ويمكن عَدُّ هذا الحادث رمزًا لدول العصر الناشئة، ويذهب البابا الفرنسيُّ الجديد ليقيم بأفينيون مُفْتَتِحًا بذلك دورَ ما دُعِيَ إسارةَ الكنيسة.

ويمكن إيضاحُ الحال التي كان يَتَمَثَّلُ وَضْعَه بها مَلكٌ مطلقٌ في القرن الرابعَ عشرَ بالصُّوَر التي رُسِمَت حوالَي سنة ٨٠٠ في القسطنطينية، لا في ذلك الدَّوْر بباريس، وذلك لِمَا يُرَى من انعقاد مجلسٍ لتمثيل الصُّعُود، فتتخاصم زمرتان من الرجال في أسفل الصورة وبالقرب من مقعدٍ، ويجلس فوق ذلك ثمانيةُ رجالٍ معًا، وتُشَاهَدُ جماعاتٌ منفصلة، ويُنْظَرُ الأشرافُ والإكليروسُ، ويُعْرَفُ رجالُ الدين هؤلاء بقلانسهم العالية، ويَعْرِض كلُّ واحد من الأساقفة أسلحةَ آلِه، وفي الأعلى تُبْصِر الملكَ جالسًا على العرش كالرَّبِّ فوق فِرَقٍ سماوية.

ولم تُحَوِّل حرب مائة السنة ضِدَّ إنكلترة غيرَ قسمٍ من الكتائب الفرنسية عن البحر المتوسط، وقد اجتذبت الحروب الصليبية، وما اشتعل بعد زمنٍ من الفِتَن في إيطالية، أساطيلَ فرنسة الناشئةِ نحو الجَنوب، ولَمَّا أصبحت مصابُّ نهر الرُّون قبضةَ فرنسة حَوالَي سنة ١٤٨٠ اكتسبت فرنسةُ بذلك معْقِلَ مرسيلية الساحليَّ العظيمَ، وما كان يتقاطر من الحرير الخام على ليونَ منذ زمنٍ طويل وقع بين أيدي الفرنسيين نهائيًّا، وبَلَغَ أحدُ صَيَارِفَة مُوْنبلْيِه من القدرة ما اضْطُرَّت البندقيةُ وجِنِوَة معه إلى التضافر على إسقاط هذا المِدِيسِيسِيِّ الفرنسيِّ.

وكانت إسبانية أعظمَ مزاحِمةٍ لفرنسة الناهضة، وقد جاهدت قرنيْن لتُوَحِّدَ مختلفَ شعوبِها، ومن يُلْقِ نَظْرَةً على الخريطة يَجِدْ أن شكلَ شِبه الجزيرة التَّعِس يُسْفِرُ عن صِراعٍ بين جَبَلِيِّي الداخل وسكان السواحل بحكم الضرورة، ومَنْ يَكُ في أضيقِ محلٍّ بإيطالية الظريفة، فَيَنْظُر من فوق جبلٍ بالقرب من نيكاسْترُو بالجَنوب مثلًا، يمكنْه أن يرى في يومٍ صافٍ كلا البحرين اللذين يُبَلِّلَانها، وعلى العكس تَجِدُ معظمَ السكان في إسبانية منفصلًا عن البحر بجبالٍ عالية ومسافاتٍ واسعة، فيبدون حاقدين على الشاطئ، وبهذا يُفَسَّرُ الصراعُ بين الشعبيْن اللذيْن هما أقوى شعوب ذلك البلد.

وبما أن مملكَتَي قَشْتالَةَ ولِيُونَ مرتفعتان، ويتألف منهما مركزُ إِسبانية الشماليُّ الغربيُّ وتَفْصِلهما جبالٌ شاهقةٌ عن المحيط الأطلنطيِّ، فإنهما حاربتا في القرون الوسطى مملكةَ أَرغونة السهليةَ الممتدةَ من جبال البرانس حتى الوادي الكبير والمشتملةَ على مِنْطقة قَطَالونية الحاضرة تقريبًا، وكان يفصل بين قشتالة وأَرغونة من ناحية الشمال مملكةُ نَبَرَّة المتاخمة لغَسْقُونية الفرنسية، ومن هنا أتت جميعُ الأسماء الجميلة التي خُلِّدَت بأغاني الشعراء الجَوَّالين، ككونتات رُونْسِيفو ورُوسِيُّون وكأمراء بَمْبِلُونة وبِرْبِنْيَان وطَرَّكونة.

ومع ذلك كان جميعُ جَنوب شبه جزيرة إسبانية؛ أي ما يَعْدِل نصفَها تقريبًا، مُلْكَ المغاربة حَوَالي سنة ١٢٠٠، وكان هؤلاء القوم مزيجًا من العرب والبربر الذين حاول الإسبان في ثلاثة قرونٍ طردَهم على غير جَدْوَى، وبهذا يُفسَّر عدمُ تسامح الإسبان الدينيُّ كما تُفَسَّرُ مظالمُ محاكم التفتيش واضطهادُ اليهود الذين كانوا ذَوِي مناصبَ مهمةٍ لدى المغاربة. وعلى مَن يَوَدُّ أن يدرك السبب في سهولة حَلِّ هذه المسائل في إيطالية على الرغم من الغزو الأجنبيِّ، وفي أنه كان لها نتائجُ بالغةُ الشُّؤْم في إسبانية، أن يَعْرِف أن العدوَّ القوميَّ في إسبانية كان عَدُوًّا دينيًّا أيضًا، وأن الحياةَ الذهنيةَ في إيطالية كان يمكن أن تَتَفَتَّحَ عن نهضةٍ شبهِ وثنية لِمَا ليس هنالك من حاجةٍ إلى غَوْرٍ بعيد في دينٍ عامٍّ شامل غيرِ مجادَلٍ فيه، وعلى العكس تُبْصِر هذا الدين، الذي كان لا بُدَّ من الدفاع عنه في إسبانية، قد دَخَل دائرة التعصب.

وما انفكَّ فرسانُ الإسبان يستلهمون مشاعرَ خالصةً واندفاعاتٍ دينيةً بسبب هذا الإيمان، ويُمَثِّلُ السيدُ بانفعالاتهِ صورةً مثالِيَّةً بالغةً حَيَوِيَّةً كالتي يمثِّلُها دُونْ كيشُوت بسُخْرِيته بعد حين، ومع ذلك لم يكن كلا الرجلين عُنوانَ البَطَل الإسبانيِّ القوميِّ. ويُرَدُّ هذا الشرف إلى دُونْ جُوَان الذي قام بأروع عملٍ تاريخيٍّ بين الكافرين، ويُقام لروحه قُدَّاسٌ في نوفمبر من كلِّ سنة في جميع إسبانية منذ صار يحترق في جهنم، ومن هنا يلوح أن الأفضل لسلامة الروح أن تُغْوَى نساءٌ كثيرٌ أكثرَ من أن يُظْفَرَ برجالٍ غيرِ قليل.

وقد أصاب إسبانية خيرٌ كبير من اعتداء الأجنبيِّ، وذلك لاتحاد الإسبان ضدَّ الغازي خلافًا لِما اتفق للطليان. وكان بعض أهل قشتالة وأرغونة عَدُوًّا لبعضٍ فَوَحَّدَا في سنة ١٢٣٦ جهودَهما نَزْعًا لقُرْطبة من أيدي المغاربة، ولا اتفاقَ بين المصادر التاريخية حَوْل إحصاء ما أَدَّى إليه المغاربة والكنيسة من تخريب، ويظل مئاتُ الألوف من الهَلْكَى مجهولًا في تاريخ الحروب، وتدلُّ الأرقام دلالةً باردةً على المصير، ونقرأ في كُتب التاريخ، كما نقرأ في صحيفةٍ ما، أرقامًا مع كثيرٍ من الأصفار من غير اكتراثٍ لِمَا يدلُّ عليه ذلك.

وعلى النقيض تَجِدُ ذواتِ القِيمَ التي تَفْنَى مع الرجال تُسَجَّلُ في ذاكرتنا، فإِذا قرأتَ مثلًا أن جميع الشعب البزنطيِّ لبس ثياب الحِدَاد حُزْنًا على فقدان هيلانة المَرْمَرية، وإذا ما رُئي استنساخٌ لأتِينة الضائعة أو لرَنْبرَانْت المحترق، وإذا ما سُمِع حديثٌ عن قصائدَ زائلةٍ لأرسطو ومِلْتُون، وإذا ما ذُكِرَت مكتبة الإسكندرية والبارتنون وكنيسةُ رِينْس؛ أي هذه الآثارُ التي أُبِيدت بالنار أو بالمدافع، فإن أَلَم الأعقاب من أَجْلِ زوال هذه الأوابد يظلُّ حيًّا حارًّا قرونًا كثيرة، والواقعُ أنه يُؤْسف على الآثار الخالدة أسفًا أعمقَ مما يُؤْسف على الآدميين الهالكين.

وقد حُزِن على زوال مكتبة قُرْطُبة التي كانت في القرن الثاني عشرَ جامعةً لحكمة البحر المتوسط، وقد مَثَّل اليهود دورًا كبيرًا في هذا المركز الثَّقافي، ولكنهم اضْطُهدوا من فَورهم، حتى إن ابن ميمون الذي هو أعظمُهم فَرَّ مُضْطَرًّا إلى فاس ثم إلى القاهرة، ومما قيل عنه إنه تَعَلَّم المذهب الإنسانيَّ في قرطبة وتَعَلَّم الإنسانيةَ في أفريقية، ويُفْلِسُ أخوه بعد حينٍ فيُضْطَرُّ الفيلسوفُ إلى التَّكَسُّب فيختار مِهْنةَ الطبِّ ابنًا للأربعين من عُمُره، ويَمْهَر في الطبِّ فيختاره السلطانُ طبيبًا خاصًّا له، ويُفَسِّر ابنُ ميمون التلمودَ فيقابل بين تعاليم أرسطو والمذهبِ اليهوديِّ كما صنع سان تُومَا الأكوينيُّ مفسِّرًا مذهبَ يسوع، ويسبق ابنُ ميمون عصرَه عِدَّة قرونٍ من حيث عبادةُ العقل والتسامحُ الدينيُّ.

وكان هذا التسامُح من ناحية واحدة، فقد أقامت إسبانية آلةَ التعصب بمحاكم التفتيش التي هي أَشَدُّ ما عَرَف التاريخ توحُّشًا، وما كان الأغارقةُ ليَعْرِفوا اضطهادَ دَينٍ أجنبيٍّ، ولا ترى أثرًا لمثل هذا الاضطهاد في غير القرن الرابع، وذلك بحِرْمٍ يَعْقُبُه رَدُّ المحروم إلى السلطات الزمنية، ولم يصنع قسطنطينُ غيرَ إحراق كُتب الآريين والتلمود ثم كُتبِ أرسطو، ولم يكن الملاحدة ليُجَازَوْا بغير حَجٍّ قَسْريٍّ أو صومٍ أو مصادرةِ أموالٍ، وذلك إلى أن هذه المصادرةَ كانت فاتحةَ أعمالٍ تَنِمُّ على الأَثَرة ما آلَ نصفُ الأموال التي تُصادَر إلى الكنيسة والنصفُ الآخر إلى القاضي.

ولم يُبْدَأ بالعَوْدِ إلى الطبائع الوحشية إلا بالتعذيب الذي اقترفته محاكم التفتيش، ويأذَن البابا في تعذيب المتهم في سنة ١٢٥٢ للمرة الأولى، ويَعْقُب ذلك تعذيبُ الشهود الذي هو أعظم خَطَرًا لإمكان إثبات أيِّ شيء بهذه الوسيلة، ويثور الشعب ويَقْتُل أحدَ قضاة محاكم التفتيش، ويَمْنَع ألفونسو التعذيبَ، ويقول بالتسامح، فينال لقبًا كريمًا، ينال لقب «الحكيم».

ويلتهب البابواتُ غيظًا من هذا التسامح، ويُحَرِّض أحدُهم الملكَ على العرب، ويُحَرِّضه آخرُ على اليهود، ويُعْقَد مؤتمرٌ في فِيِنَّة فترتفع أصواتٌ بالشكوى من جَهْرَ المسلمين بنِعَم الله من فوق المآذن، وما عُقِدَ في القرن الرابعَ عشرَ من مجامعَ دينيةٍ أسفرَ عن إباحة أُولى المذابح التي يَعَافُها الشعبُ باطنًا، ويعارِض جميعُ الإكليروسِ الإسبانيِّ الملكَ المتسامحَ، فيقيم مواقدَ لإحراق الكُتب في بدءِ الأمر، ثم يُحَرِّق أماكنَ العبادة، ويُذبِّح مَن ليسوا نصارَى.

ولا شيء يُسَوِّدُ وجهَ الإنسانية أكثرَ من إكراه أناسٍ على انتحال دينٍ ليس دينَ آبائهم أو ليس دينًا اعتنقوه عن عقيدةٍ، وفي سَلَمَنْقة وحدَها بَلَغَ عددُ مَنْ حَمَلَه الإكليروسُ الإسبانيُّ على العماد، حَوالَي سنة ١٣٩٠، ١١٠٠٠ شخص، ويُعَدُّ ما ذهب ضحيته جميعُ اليهود الذين رَفَضوا العِماد من التقتيل والشَّغَب فيما بين سنة ١٤٥٠ وسنة ١٤٧٠ نماذجَ لعصرنا الكئيب، ويَسُودُ اليهودَ «المهتدين» الذين دُعُوا فيما بعدُ ﺑ «المارَانُوس»، كبيرُ ارتباك، وذلك أن السُّبُل مُهِّدَت لليهود بعدِ العِماد كما بدا، فَغَدَوْا قادرين على تَقَلُّد أيِّ منصب كان، وأن الحقد عليهم زاد بدلًا من أن يَنْقُص لظهورهم مُزَاحِمين فيما بعدُ. أَجَلْ، بُشِّرَ بصفاء الدم، غير أن هذا صار أصعبَ من قبلُ بعد العِماد على نِطَاقٍ واسع.

وما وُجِّهَ إلى النصارى المرتابين من مظالم محاكم التفتيش في البُداءة أصاب اليهودَ بعد فتح غَرْناطة. وقد صارت محاكم التفتيش نظامًا إسبانيًّا خالصًا؛ وذلك لأن الملك فرديناند عاد لا يودُّ أن يُقَاسِمَ البابا ما يُصادَر من الأموال. وقد نُظِّم الاضطهاد الإسبانيُّ تنظيمًا مستقلًّا استقلالًا تامًّا؛ وذلك لأنه كان يُسْمَحُ في رومة بالكتب الممنوعة في إسبانية مثلًا، وكانت دولة البابا تَبيع العفوَ عن العقوبات فصَرَّح الإسبان بأن الثمنَ غيرُ عالٍ فطالبوا بجعله ضعفين، وكان المارانوس؛ أي اليهودُ المهتدون قسرًا، يشغلون الرأي العامَّ. ومن العبث أن أَوجبت الغريزة الشعبية وقوعَ اضطراباتٍ في مدنٍ كثيرة، ومن العبث أن قُتِلَ رئيس محكمة التفتيش في سَرَقُسْطَة أمام المذبح من قِبَل نبيل، فقد نُظِّمت محاكم التفتيش تنظيمًا واسعَ المَدَى، وصار يقوم بشئونها وكلاءُ لا يُحصيهم عددٌ، وهكذا كان يظلُّ ابن الوطن المنعزل محرومًا حقوقَه فلا تحميه الدولة تِجاه هذا النظامِ الخفيِّ البالغِ القدرة. وكانت أحكام محاكم التفتيش لا تُسْتَأنف، وكان لا يوجد مرجعٌ يُلْجَأ إليه إزاء سَلْبها ونهبْها، وكان موظفو التُّرْكمادَا، وكان موظفو قاضي التفتيش الأكبر هذا، يجوبون البلادَ فيقتلون الناس ويصادرون أموالَهم من غير أن يكونوا مسئولين تِجاه أيٍّ كان، وكان الحقد العنصريُّ وحَسَد التوفيق عامليْن في هذه التصرفات، وكانت مناهج التُّرْكمادا تقوم على الشُّرْطةِ الخفية وعلى جيشٍ خاصٍّ وعلى عُيُونٍ ومحاكمَ سِرِّيَّةٍ وعلى القتل، وقد أصدر التاريخ حكمَه الساحقَ ضِدَّ محاكم التفتيش قائلًا إنها ماحقةٌ للحرية، ويلوح أن نظام محاكم التفتيش قد بُعِثَ في أيامنا، كأنَّ نورَ الحرية لم يَسْطَعْ ولم يَلْمع في خمسة قرون منذ ذلك الدور المُظلِم! …

٩

أَدَّت الحضارة الإسبانية إلى قيام مبانٍ كثيرةٍ على شاطئ البحر المتوسط، ولا يزال يُرَى في برشلونة وفي مدنٍ أخرى بناءُ البُرْصةِ واللُّونْجا؛ أي القصور القُوطية التي تَنِمُّ على العُجْبِ المدنيِّ لدى تجار الإسبان ومَلَّاحيهم، وما فتحه هؤلاء من أسواقٍ وما جمعوه من آثارٍ فنية أكثرُ إمتاعًا بدرجاتٍ من تنازع الأُسَرِ المالكة في أَنْجُو وأرغونة وتُرَاثِها وما كان يؤدي إليه هذا من إخلاء صِقِلِّية وسَرْدينية واستردادهما.

ويُعَدُّ القشتاليُّ مثالَ الإسبانيِّ الخالص، وكان الهِيدَالْغُوسُ؛ أي الأمراءُ الإقطاعيون، يعيشون في قصورهم القائمة على الهَضْبة العالية في وسط شبه الجزيرة فيجوبون الرِّيفَ على طول الأنهار الثلاثة الجميلة رُكبانًا. وكان هؤلاء الأمراء الإقطاعيون فُرُوسيين مُخْتَالين كُسَالَى، ومع ذلك كانت المجالس القومية البُرْغُشِيَّة تَعْمَل بجانبهم منذ القرن الثاني عشرَ؛ أي قبل أن تنال إنكلترة دستورها المعروف بالمَغْناكارْتا، ولم ينشأ ذلك عن حُبٍّ للشعب، وكيف اعترف الأميرُ الإقطاعيُّ بذلك؟ كان اعترافُه به نتيجةَ ضرورةِ تسليح الشعب ضدَّ العرب، بَيْدَ أن ذلك كان خاصًّا بالداخل غيرَ شاملٍ للساحل.

وغيرُ ذلك ما حدث في الشرق حيث اتَّحَد قطالونيو القرن الثاني عشرَ القاطنون في الشاطئ بالأرغونيين المقيمين حَوْل مجرى الإبْرَه الفوقانيِّ مُؤَلِّفِين مملكةً واحدةً معهم، وكان كلُّ شيء هنالك مَوْسُومًا بسِمَة البحر المتوسط؛ أي مُتَّجِهًا إلى التجارة، وكانت مستودعاتُهم في مَرْسيلية تزيد أهميةً كُلَّما دُفِعُوا إلى ميدان جَنوب فرنسة السياسيِّ. وكان الأشراف يُدْعَوْن «هُونْبررِيكُوس» لمزاولتهم أمورَ التجارة بدلًا من قضاء أوقاتهم في قصورهم خالين من العمل. أَجَلْ، كان هؤلاء الأشرافُ من الأمراء الإقطاعيين، غير أن البحر اجتذبهم، وما كان من ظهورهم أصدقاءَ في الشواطئ البعيدة جَعلهم أكثرَ استقلالًا تجاه الملك والكنيسة، ومن ذلك أن حالفت شركاتُهم المعروفة ﺑ «شركات قطالونية الكبرى» بزنطةَ حَوالَي سنة ١٣٠٠ ومَلَكَت الأَتِّيكَ سبعين عامًا.

ومن حَظِّ هؤلاء الناس أن استولى العرب على بلدهم فامتزجوا بحضارةٍ لم يطردوا ممثليها إلَّا بعد قرون؛ أي بعد أن اقتبسوا جميع عناصرها المُنْتِجَة، وذلك كمستعمرةِ زنوجٍ تَطْرُد سادتها اليوم، وذلك مع الفارقِ القائلِ إن العِرْقَ الضاربَ إِلى سُمْرَةٍ هو الذي جلب إليهم الحضارة. وكان الملوكُ أنفسُهم مثقفين في القسم الشرقيِّ هنالك، ولو اخْتِيرَ أَلْفُونْسو الحكيمُ ملكًا ألمانيًّا في فَتْرَة مُلْكٍ فذهب إلى الشمال وقبض على زمام الحكم فيه لكان لدى الألمان من أنصاف البرابرة عاهلٌ مشترعٌ شاعرٌ فلكيٌّ ذاتَ حينٍ على الأقل، ويبدو ألفونسو في إحدى التُّحَف الصغيرة جالسًا على عرشٍ كالملك سليمان.

وقد أوصى خليفةُ ألفونسو بالتسامح تِجاه العرب ورَفَع العذابَ عنهم. وقد وضع مجلسُ الأمة التاجَ تحت الرَّقابة الوثيقة حوالَي سنة ١٣٠٠ كالبرلمانات الحَمْقَى في أُكْسفُورْد، وقد أمكن مجلسَ الأمة الأرغونيَّ أن يُصَرِّح في ذلك الحين ﺑ «أن ملك قشتالة يَمْلِك رَعِيَّةً وأن ملك أرغونة يَمْلِك أهلًا أحرارًا»، ومن ثَمَّ يُدْرَك سببُ انحياز قشتالة إلى فرنسة وسببُ ميلِ أرغونة إلى إنكلترة في حرب مائة السنة. وكان جميعُ دول الغرب القومية يتشابه من بعض الوجوه، وكان جميعها يستند إلى مبدأ سلطان الدولة، وكان لجميعها إدارةٌ مركزية وسياسةٌ اقتصادية متماثلة، وكانت دولَ موظفين ذوي مشاعر بُرْجوازيَّة فيُعْنَون بجميع طبقات المجتمع ويُبْطِلُون امتيازاتٍ كثيرةً، ونظامٌ للدولة مثلُ هذا كان ينفصل عن روح القرون الوسطى بفَتَائه وجِدَّته.

وفي الغرب يُوَلِّي الشعبُ البرتغاليُّ المَلَّاحُ ظهرَه شَطْرَ البحر المتوسط ويَشْغَلُ أرضَه الراهنةَ تقريبًا، وتصبح أَشْبُونة مركزًا تجاريًّا مهمًّا منذ سنة ١٤٠٠ فتَنْزِع من البندقيين سوقَ الأبازيرِ الأوروبيةَ إصدارًا لها نحو الشمال. وكان البرتغاليون يَزُورون جُزُرَ كنارية وآصُور قبل قرن، ثم نَظَّم هنري المَلَّاحُ أسفارًا عظيمةَ لارتياد أفريقية الغربية المجهولة، ويَحْمِل أحدُ الملوك اسمَ إِمَانُوِيل السعيدِ الوحيدَ في التاريخ حوالَي سنة ١٥٠٠ فيقيم إحدى إمبراطوريات العالَم الاستعمارية الكبرى نتيجةً لأسفاره البحرية، ويعود نصفُ هذه الإمبراطورية إلى إسبانية.

ويَمْلِكُ فرديناندُ وإِيزابِلَّا، ويُدْعَوَان ملكيْن، مدةَ خمسٍ وثلاثين سنةً معًا، وتموت إِيزابِلَّا في الثالثة والخمسين من سِنيها.

ولا نظير لهذا الزواج في التاريخ، وليس الأمرُ زواجَ أميرةٍ وارثةٍ برجلٍ إنتاجًا لأولادٍ، بل زواجُ وارثَيْ بلدين مُتَعادييْن توحيدًا لمملكتيهما: قَشْتالة وأَرْغُونة، وكان الزوجان يملِكان متحديْن تارةً ومنفصليْن تارةً أخرى مع مساواةٍ تامَّةٍ في حقوقهما ومسئولياتهما، وكان لهما من الوقت الكافي ما يُنْجِبان معه بالولد وما يكون لهما به علاقاتٌ غراميةٌ على ما يُحتمل من غير فَصْمٍ لعُرْوةِ اتفاقهما، وقد أمكن هذا بزواجهما قبل الأوان وباقترانهما في السابعةَ عشرةَ والثامنةَ عشرةَ من العُمُر وبدوام ذلك النكاح، وقد أثار هذان الزوجان فُضُولَ المؤرخين مع أن الزوجَ كان غير ذي جاذبية كبيرة.

ومن النادر أن أُتِيحَ لملكةٍ إثباتُ قيمتِها، كما اتفق لإيزابِلَّا، ومن الواقع أن قبضت المَلِكاتُ إليزَابت وكترينة وماري تِرِيز وفيكتورية على زمام المُلك وحدهنَّ كوارثاتٍ مسئولاتٍ، فلم يأْخُذْنَ رأيَ زوجٍ أو عاشقٍ إلَّا مجاملةً، وعلى العكس لم تَجدْ خدائعُ الزوج سبيلًا إلى إيزابِلَّا، إلى سليلة آل قشتالة المالكين الذين هم أكثرُ الأُسرتيْن زَهْوًا، ولَمَّا حاول فرديناند أن يخادع إيزابِلَّا حين موت أبيها وبُعَيْدَ وضعها بنتًا بَدَت جافيةً رُجُولِيَّةً على عَتَبَةِ حِصْنها الأَبَويِّ، فأَدَّى هذا الحادث إلى تلقيبها ﺑ «المَلِك»، فَظَلَّ هذا التبديلُ الجنسيُّ في اللقب وحيدًا في التاريخ وإن لم يَدُلَّ على تَقَدُّم.

وكانت إيزابِلَّا أسمى من زوجها من كلِّ ناحية، كانت أعلى منه مواهبَ وسِعَةَ بصيرةٍ ونشاطًا خُلُقيًا، ولا رَيْبَ في أنها كانت تعاني ساعاتِ تثبيطٍ في الحين بعد الحين نتيجةً لبرودة حَذَر زوجها وحساباتِ هذا الأَرْغونيِّ التجارية، ولا يمكن تفسيرُ صَبْرِها عليه زمنًا طويلًا بغير حُمَيَّاهما المشتركة من أجل غَرَضٍ واحد، شأنُ المهندسيْن أو الممثليْن الراغبيْن في الاستمرار معًا على اختراعاتهما أو القيام بأدوارهما.

وكان يساور فرديناندَ وإيزابِلَّا رَغْبٌ واحد، وهو وحدةُ إسبانية، وفي هذه الرغبة تَجِدُ السبب الأولَ في زواجهما قبل الأوان ودوامِ قِرَانِهما. والواقعُ أنه لم يكن من المُوَكَّد في ذلك الدَّوْر أن تنجذب قشتالة القوية إلى البحر المتوسط أكثر من أن تتحد بالبرتغال، وكان قد وُعِدَ بزواج تلك الفتاة مَرَّاتٍ كثيرةً في صباها الذي قضته في أحد الأديار وفي أثناء مفاوضاتٍ سياسية، ولو تَمَّ اتحاد قشتالة والبرتغال وَفْقَ ما هُدِف إليه زمنًا طويلًا لَوُزِّعت المستعمراتُ في القرون الآتية على خلاف ما وَقَعَ ولغَدَا وَجْهُ الدنيا على غير ما حَدَث.

وأضفْ إلى ذلك الرُّغْب اتحادَ الزوجَيْن دينًا، ولو نظرتَ إلى الأساس لوجدتَ فرديناندَ كان يعامل الرَّبَّ تجاريًّا كما كان يعامِل الآدميين، ومع ذلك فقد نال لقب «الكاثوليكيِّ» بعد زمنٍ كما نالت زوجُه، ويلوح أن إيزابِلَّا كانت أَحَقَّ منه بهذا اللقب، وإيزابِلَّا هذه كانت تلتهب من أجْل رجلٍ أو غَرَضٍ كمُعْظَم النساء فبَدَت متعصبةً، وهي قد أَيَّدَت جرائمَ محاكم التفتيش التَّقِيَّة بحماسةٍ، وعلى العكس كان هَمُّ فرديناندَ أكثرَ انصرافًا إلى الأموال التي يمكن الاضطهاداتِ الدينيةَ أن تُنْعِمَ عليه بها، فكان كلبيًّا، ومما رُوِي أنه بلغ فرديناندَ خبرُ تَبَرُّم ملك فرنسة من مخادعته إياه مَرَّتين فصاح قائلًا: «لقد كذب! لقد خدعته أكثر من عشر مرات!»

ولا نجد بين المنازعات الطويلة التي وَسَّع «المَلِكان» بها إسبانية طائلًا تحت ما قاما به لرَقابة نابل ما تداولت الأيدي هذه الدولةَ نتيجةَ زواجاتٍ ومؤامراتٍ، ومع ذلك فإِن فتحَ نابل واحتلالَ الأملاك الصغيرة المتاخمة خَلْفَ البرانس أَدَّيَا إلى اصطراع فرنسة وإسبانية وأوجبا اشتعال حروب طاحنة، وقد أُسْدِل ستارٌ من النسيان على هذا التحاسد الأُسْرِيِّ لتَفَه أهدافه ونتائجه ولأنه لا يَصْلُح لغير شَحْن دماغ الطَّلَبَة، واحتلالُ غَرْناطةَ وحدَه هو الفتحُ المُهِمُّ الذي كانت له نتائجُ ثقيلةٌ في الميزان.

وما بقي من الفتح العربيِّ انحصر في البُقعة الجَنوبية من شبه جزيرة إِيبِرْية، وكان مُعْظَم المغاربة قد عاد إلى شمال أفريقية الذي هو وطنُه الأصليُّ. وكان الزوجان المَلَكيان الإسبانيان خاضعيْن لعواملَ قوميةٍ ودينيةٍ حين قيامهما بهذه الحرب، فعلى إسبانية الحديثة أن تكون مُوَحَّدةً نصرانيةً في آنٍ واحد، وكان العالَم يَعُدُّ طردَ الكافرين من أوروبة رمزًا.

وكان يمكن «المَلِكيْن» أن يفتحا نصف أفريقية في ذلك الحين وأن يَبْسُطَا سلطان إسبانية على هذه البقاع الممتدة بين الأطلنطيِّ وخطِّ الاستواء، ولكن الماء والخُبْزَ أعوزاهما في الساعة الحاسمة، وكان يمكن «المَلِكَيْن» أيضًا أن ينتفعا بالمغاربة، الذين كانوا قد شادوا الإمبراطوريةَ الإسبانية، كوُسَطَاء بين إسبانية وبَرْبر أفْريقية. ومن العَبَث أن حَثَّ كَرْدِينالٌ حَمِسٌ على التقدم وأن زحف مع كتائبه إلى جُرْبة وإلى وَهْران، فقد كان فرديناندُ يَحْذَر كلَّ تحريضٍ حربيٍّ وكان مُوَجِّهًا جميعَ نظره إلى إيطالية وإلى المصاهرات والزواجات.

وهكذا وَقف الزحفُ ضدَّ الإسلام، وكان من أشهر الأوقات تلك الساعةُ التي صَرَّح الكردينالُ فيها: «لم يَبْقَ مَغْرِبيٌّ غير مُعمَّدٍ في مملكة غَرْناطة»، بَيْدَ أن إسبانية كانت تشتمل على أُلُوفِ القلوب غير المُعَمَّدة، فلم يكن من الممكن محوُ حضارةِ العرب التي دامت ستةَ قرون، واليومَ لا يزال جَنوب إسبانية ذا مَظْهرٍ نصفِ مغربيٍّ. أَجَلْ، إن الحمراء أشهرُ أثرٍ، ولكن أدعى المباني التي أُقيمت على الطِّراز العربيِّ إلى العَجَب هو ما يُرَى في إِشْبِيلِيَّة وقرطبة.

والمرأةُ من «المَلِكَيْن» هي صاحبةُ الحُظْوَة لدى الشعب لا رَيْبَ، ومع ذلك فإن فرديناند كان أصلبَ ملوك زمنه عُودًا وكان يَصْلُح نَمُوذَجًا لمَكْيافِلِّي المفاخر بأصله الإسبانيِّ. ومن قولِ سفيرٍ إيطاليٍّ لدى بَلَاط إسبانية: «هَؤلاء أناسٌ متواضعون مُتَّزِنون ظاهرًا، مُغْرَمون بالرَّسْمِيَّات والألقاب الطَّنَّانة حقيقةً، أساتذةٌ في فَنِّ الأُنْس والإكرام واقعًا، فيبدو كلُّ واحدٍ منهم سَيِّدًا كاملًا. نَعَمْ، إنهم مستعدون لخدمة جميع العالَم ولكنَّ من سَدَادِ الرأي أن يُبْتَعَدَ عنهم وأن يُحْتَرز منهم.»

ثبت طَبْع فرديناندَ بأوضحَ من قبلُ بعد موت إيزَابِلَّا، وما كان من هَوَسه في نيل منافعَ بزواج أولاده وإخوته وأخواته أَدَّى إلى غِلٍّ هائلٍ فيه لم يُعَتِّم أن أُضْمِرَ ضِدَّ صهره ابنِ مَكْسِميليان الهابِسْبُرْغِيِّ، والواقعُ أن ابنةَ «المَلِكيْن» الغريبةَ الأطوار، حَنَّةَ، كانت، أو غَدَت، مجنونةً، وأن فرديناندَ لم يُرِدْ أن يَتَنَزَّل عن قشتالة لصِهْره، وأن ما يَحْمِله من حقدٍ ضدَّ هذا الرجل حَمَلَه، وهو الملكُ المُتَّزِنُ، على السير خلافًا لكلِّ عقل، فقد عقد في الخمسين من عمره زواجًا آخرَ مع فرنسيةٍ ليُرْزَقَ منها ولدًا ذكرًا يَحْجُب به ذلك الصهرَ البغيض عن العرش، وهكذا عَقَّدَ نظامَ العرش الإسبانيِّ الوراثيِّ، ومن حُسن الحظَّ أن أدى موت الهابسبرغيِّ المفاجئُ وموتُ وليِّ العهد السريعُ إلى رجوع هذا النظام إلى نِصابه.

وأخيرًا لم يبقَ من هذين الزوجين الاستثنائيين غيرُ ابنةٍ رَعْناءَ وغيرُ ذكرى فصلٍ تاريخيٍّ سَلَّمَ في أثنائه رجلٌ من أهل جِنِوَة إلى الملكيْن الإسبانييْن كُنُوزَ قارَّة مجهولة.

١٠

طُرِدَ الإسلام من أوروبة، طُرِد من جبل طارق الذي هو من أبواب البحر المتوسط، وذلك قُبَيْل دخوله أوروبة منصورًا من باب آخر، من الدردنيل. وكان السلطان محمد في الحادية والعشرين من سِنيه حينما وَصَل إلى أبواب القسطنطينية، حينما وُلِدَ في إسبانية قاهرُ المغاربة فرديناند، ويَرْقُب السلطانُ محمد حصونَ هذه العاصمة التي يستولي عليها في العام القادم، وقد قُيِّض لمحمد الثاني أن يُتِمَّ أعجبَ مآثره في رَيْعان شبابه، ويُعَدُّ كلا العاهلين، التركيِّ والإسبانيِّ، مدينيْن بعظمتهما لصفاتهما الخُلقية المتماثلة، ولا مراء في أن محمدًا كان أعظمَ من فرديناند قائدًا، ولكن كلا الاثنين كان عالِمًا نفسيًّا موهوبًا ومن ثَمَّ أمكنهما أن يكونا قطبيْن سياسييْن ممتازين.

وكان كلٌّ من الاثنين يزعمُ أنه يَخْدُم الدين الصحيح، وذلك ليسلُبَ أعداءه ويُسوِّغ أمامهم وأمام العالَم شهوةَ الفتح فيه. وكان محمدٌ يدعو اللهَ في صلواته مساءً بنفسٍ مطمئنة كالتي كان فرديناندُ يدعو بها يسوعَ بعد أن يَتَصَفَّحَ جدول الكافرين الذين ذُبِحُوا عشيةً، وبينما ترى التركيَّ قد وصل إلى السلطة عن اغتيالٍ، كالإسكندر الذي يُذكَر به فتاءً وتربيةً، تَجِدُ الملكَ الكاثوليكيَّ قد انتهى إلى السلطة عن مواريثَ وزواجاتٍ. وإذا نُظِر إلى الاثنين من حيث كونُهما طاغيتين وُجِدا مُجَرَّدْين من كلِّ مبدأٍ خُلقيٍّ مع أنهما كانا يستندان إلى مشيئة الله في أعمالهما، وقد دام عهدُ أحدهما ثلاثين عامًا ودام عهدُ الآخر سبعةً وأربعين عامًا، أي مدةً كافيةً لفرض شخصيتهما على الغرب والشرق، ومن النادر أن أبصر البحرُ المتوسط فاتحيْن اتفق لهما من اتساع السلطان في وقتٍ واحدٍ؛ أي في دورِ اثنتي عشرةَ سنةً، ما اتفق لذينك العاهلين، ويقيم الرجلان المالكان لطرفي هذا البحر دليلًا على الأخلاق والقابليات الخاصة بعصر النهضة قبل أن ينشأَ مبدأُ رجل النهضة فيه.

وقد وصل التركُ، الذين قادهم محمدٌ إِلى أوروبة، من آسيةَ بين دَفْعَيْ غزوين كبيرين، فأما الغزوُ الأول، وهو الذي قام به جنكيزخان آتيًا من الصين حَوالَي سنة ١٢٠٠، فقد هَزَّ شعوب آسية الوسطى وجَرف الترك أمامه مع أمم كثيرة أخرى، وأما الغزو الثاني، وهو الذي قام به الفاتح المغوليُّ الآخر تيمورلنك آتيًا من سمرقند حوالَي سنة ٤٠٠، فقد سَحَقَ التركَ سحقًا كان يلوح نهوضُهم بعده أمرًا مستحيلًا.

وما هو السبب في استطاعة الترك، الذين سُمُّوا عثمانيين نسبةً إلى رئيسهم، أن يقيموا في أربعة قرون دولة من أعظم دول البحر المتوسط مع ذلك؟

ذلك لأَنهم وُحِّدوا بإيمان عظيم كان يُعْوِزُ تيمورلنكَ وجنكيزخان؛ وذلك لأن الإسلامَ العربيَّ قد منحهم ما ينطوي عليه من حَمِيَّة وتعصُّب ومن إلهٍ واحد مع سيفٍ كوسيلة، وكان الترك أهلَ حَرْبٍ بطبيعتهم كما عَلَّموا الآخرين كيف يكونون رجالَ قتال، والتركُ قد عَرَضوا على العالَم بِدْعَةَ تأليفِ خَيْرِ فرقهم، بدعةَ تأليفِ كتائبِ الإنكشارية الذين يُجْمَعُون من أبناء الأمم النصرانية المقهورة، والتركُ كانوا يختارون في كلِّ عامٍ من هؤلاء الأبناء ألفًا ليؤلِّفوا كتيبةً مصطفاةً ومُنَظَّمَةً دينيةً للجهاد في سبيل الله والدفاع عن سلطان السَّيْف، وقد أجمعت أنباء التاريخ على أن أحسن جنود القرن الخامسَ عشرَ كانوا من الترك والإسبان.

ولا يمكن أن يُعَدَّ ذلك مسألةَ عِرْقٍ، فمن الواقع أن عثمانَ عندما أقام دولتَه في الأناضول وَجَدَ فيه جميعَ العروق التي استقرت به منذ ألوف السنين، وَجَدَ فيه طلاينةً وأغارقةً ومُغُولًا وجرْمانًا وساميين؛ أي خليطًا يُفَسِّرُ بنفسه دِنَمِيَّةَ٢٥ هؤلاء السكان، غير أنه كان لِوَهْمِ صفاء الدَّم في ذلك الزمن من صَوْلة الأمم التي تَكُون في دَوْر التوسع ما أعلن التركُ معه أنهم عِرْقٌ تورَانِيٌّ خالصٌ معتقدين أنهم أَسْمَى من نصارى ناحيةِ البُسْفُور الأخرى، ومن شأن الشعوب والأفراد أن يَعْزُوا حيويتَهم إلى أجدادهم بدلًا من أن يَجِدُوا في أنفسهم شَوَاذَّ للطبيعة مُخْتالين؛ أي إن يقترفوا من الخطأ ما لا يأتيه وحشٌ أو أسدٌ لو كان قادرًا على التفكير!

ومما ساعد التُّرْكَ على التقدم ما وَجدوه لدى أعدائهم من انحطاطٍ كالذي وَجَدَه الإسبان، وكانت بِزَنطة والعالَمُ الإغريقيُّ من شِدَّة الضعف منذ انتصار البندقيين كمَنْ بَقِيَ من العرب المنهوكين في إسبانية، فسقط البِزَنطيون، كالمغاربة، أما صَوْلة أممٍ أشدَّ شبابًا، وذلك بعد رَخاءٍ دام زمنًا يثير العجب، وقهرت شعوبٌ قويةٌ فَتِيَّةٌ عاملةٌ منذ قرن واحد فقط زُمَرًا مُتَحَرِّزَةً رازحةً تحت ثمانية قرون وأحدَ عشر قرنًا، والبأسُ، لا العِرْق، هو الذي يتوقف عليه النصر في اصطراع الأمم كما في المُلَاكمَة.

ويكفي أن يُنْعَم النظرُ في وجوه آخر أباطرة بِزَنطة وأن تقابَل بوجوه الترك أو الصرب الأولين الذين أقاموا في ذلك العصر دولًا مهمةً حَوْلَ بزنطة، وما على المرء إلَّا أن يقرأ وصف وليمةِ تتويجِ آخرِ إمبراطورٍ بزنطيٍّ بين المَرَاسمِ التقليدية التالدة مع تقديم الأطعمة في أطباقٍ خزفية لِمَا لا يوجد من أطباقٍ ذهبية وفِضية، وما على الإنسان إلَّا أن يطَّلع على نبأ تتويج ملك الصرب في ذلك الزمن، دوشان، باحتفالٍ بربريٍّ صاخب، ويشابه أكابرُ الكِرْوَات المنقوشون على مُقدَّم كنيسة شِيبِينِيك زعماءَ البلاشفة في عصرنا.

وكان الترك العثمانيون، الذين اتخذوا في أوروبة عاصمةً لهم منذ سنة ١٣٦٥، يُبْدُون لبزنطة صداقةً قائمةً على الرِّئاء منذ زمن طويل، وكانوا يحيطون بالإمبراطورية التي تُنْقَصُ من أطرافها فتضيق مقدارًا فمقدارًا، فتسأل هذه الإمبراطوريةُ في نفسها مُغْتَمَّة، كأوليسَ وأصحابه عند رؤية بولِيفِيم،٢٦ عن الفريق الذي يُفْتَرَس عما قليل. وقد تَعَلَّم التُّرْكُ، الذين كانوا نصفَ حلفاء ونصفَ مؤتَمِرين، من البزنطيين أمورًا كثيرةً في الحِكْمَة العامة ودسائس البَلاط والاغتيالات السياسية، وقد تزوجوا نساءً بزنطيات مع مساعدةِ تلك الدولةِ عسكريًّا على حين يَشْحَذُون خناجرَهم ليَقْضُوا عليها في الوقت المناسب، أَجَلْ، كان البزنطيون يَعْلَمون ذلك، ولكنهم كانوا لا يستطيعون غيرَ محاولةٍ لاكتساب بعض الوقت.

وتَغَيَّر طالع الحرب في آسية الصغرى وفي البلقان حتى جوَارِ فينة بعد معاركَ صاخبةٍ لا مكانَ لبيان جَزْرها ومَدِّها هنا، وذلك بين الترك والصرب والمَجَر، وذلك بين السلجوقيين والعثمانيين والمغول أيضًا، ولم تُؤدِّ واحدةٌ من هذه الحروب إلى فارقٍ واضحٍ بين المسلمين والنصارى. وكانت ضروب الفظائع تُقْتَرف بحُجَّة الدين، وزادت قسوة المسلمين خلافًا لِما كانوا عليه أيامَ الحروب الصليبية، وكان الإسلام قد أضاع في القرن الخامسَ عشرَ روحَ التسامح التي امتاز بها قبل ثلاثة قرون، فإزاء هذه الأساليب الحربية الهائلة حَلَّ مؤتمرُ كُونْستَانسَ الدينيُّ كلَّ نصرانيٍّ من إيفاءِ عهدٍ لكافر، وهذا التدبير خَطِرٌ جدًّا وإن كان طبيعيًّا ومن شأنه أن يُقَوِّض مبادئ النصرانية في الأخلاق.

ومع ذلك كان من المتعذر إثارةُ حرب صليبية جديدة؛ وذلك لأن العواملَ الضروريةَ لإيقادها عادت غيرَ موجودة منذ زمن طويل، ويلوح أن الرغبة الجامحة الجافِيَة في نيل السلطان بأيِّ ثمنٍ كانت تُثبت انقضاءَ الدَّوْر الذي سُمِّيَ «القرونَ الوسطى» فيما بعد.

وقد تَجَلَّى فُقدان المثل الأعلى هذا في صورة الحِذْق التجاريِّ لدى البندقيين على الخصوص، وأهلُ البندقية هؤلاء عَقَدُوا في ثمانين سنةَ تسعةَ عُهُودِ صداقةٍ مع التُّرْك ضامنةٍ لهم حُرِّيَّةَ التجارة من حيث المِلاحةُ وحَقُّ الإقامة والقضاء، ويصبحون حلفاءَ لبزنطة وهُنْغارية ذاتَ مرةٍ فيَقْهَرون التُّرْك، ومع ذلك لم يَلْبَثُوا أن انفصلوا عن حلفائهم النصارى اجتنابًا لاستفزاز الترك كثيرًا، ويُلْقِي الرئيسُ مُوسِنِيغُو كلماتٍ في مجلس الشيوخ بالبندقية سُمِعَ مثلُها في مجلس النواب البريطانيِّ سنة ١٩٣٨، وهي: «إن السَّلْم خَيْر الأمور، وإذا كان السَّلام حليفَنا قمْنا بالخير أحسن قيام وغَدَوْنا سادةَ المال والنصرانية وخافَ العالَمُ ثَرَاءَنا وكان الله معنا!» وكان كِبَارُ التجارِ هؤلاء من شِدَّة الحَذَر ما رفضوا معه فَتْحَ القسطنطينية خلافًا لِمَا عَرَضه عليهم الإمبراطور إمانويل؛ وذلك لِمَا كانت عليه هذه المدينةُ من خَطَرٍ ولِمَا يَرَوْنها مَحَلًّا غيرَ ذي قَرَارٍ وسكون.

وكان سادةُ القسطنطينية يَشْعُرُون من ناحيتهم بأن زوالَهم أمرٌ لا مَفَرَّ منه، فيُبْدُون استعدادَهم للاتحاد بالمذهب النصرانيِّ المنافس دَعْمًا للكَثْلَكة، وفي دَوْرِ غَسَق الآلهة هذا ذهب الكردينال بِيسَّارْيون الذي كان إغريقيًّا إلى توحيد مذهبَيْ أفلاطون وأرسطو بالنصرانية رسميًّا، ومن الممكن أن كان يُمَيَّزُ في مجمع فلورنسة الدينيِّ الذي عُقِدَ سنة ١٤٣٩ وَجْهُ الكذب في مظاهر الإخاء، ويَنْشَقُ رهبانُ جبل أَتُوس ريحَ العاصفة فيضعون دَيْرَهم الجليل تحت حماية السلطان.

ويتخذ السلطان محمد الثاني وضعًا واضحًا، ويقبِض على زمام الأمور في الحادية والعشرين من سِنِيه، ويَبْدُو مثلَ فرعونٍ جديدٍ فيجمع عددًا عظيمًا من العمال ويجعلهم يقيمون في أربعين يومًا حصونَ البُسْفُور القويةَ التي تُظْهِرُ بقاياها اليوم سِمَةَ المنظرِ الروائيةَ، ثم بدأ يحاصر بزنطة التي قاومت مقاومةَ بطولةٍ حقيقية مدة ثلاثين يومًا، ويجتمع الإمبراطورُ والشعبُ والقُسُوسُ في أيا صوفية، في المساء الذي يسبِق آخرَ هجومٍ، لوَداعٍ يشابهُ عيدَ أمواتٍ، ويقف هذا الشعبُ الفاسد المنحطُّ على شفير الموت، وإِن شئت فقل على المستوى السَّنِيِّ الذي حَكَت عنه القصة، فلما كان الغَدُ ضرب الإمبراطورُ الأخيرُ أَنْبَل مَثَلٍ للعالم فخَرَّ صَرِيعًا شاهرًا سيفه.

ويَدْخُلُ محمدٌ، القائدُ لجيوشه بشخصه أيضًا، تلك العاصمةَ التي أُولِعَ بها أجدادُه أَيَّما إيلَاع، ويقف في الميدان، ويَرْغَبُ في إبداء قوته للجُمْهور المتجمِّع فيكسِر بفأسه أحدَ الثعابين البرونزية الثلاثة التي كانت تدعم قوائم دِلْفَ المثلثةَ منذ ألفي سنة والتي كانت تُزَيِّن ذلك الميدانَ العامَّ منذ ألف عامٍ، ويُمْسِك جوادَه عند باب القصر الذي كان يقيم به الإمبراطور عَشِيَّةَ ذلك اليوم ويُنْشد قولَ الشاعر الفارسيِّ الفردوسيِّ: «أَلَا إن العنكبوت صارت حارسةَ قصر كسرى وصار البوم يَنْعَق في منزل أَفْراسْياب.»

وكانت روح هذا العاهل الشرقيِّ جامعةً للحضارة التقليدية وللطبائع البربرية فلم يتردَّد في كَسْرِ أَثَرٍ فنيٍّ إظهارًا لقوة عَضَلِه.

وفي الغد يقيم السلطان مِهْرَجانًا عظيمًا تمجيدًا لإلهه، شاكرًا لِله في كنيسة أيا صوفية مُحَوِّلًا إياها إلى مسجد، وتَتَغَلَّبُ عليه روحُ البرابرة حينما دخل الكنيسة راكبًا حِصانَه راكضًا حتى الهيكل، وما انفكت بزنطة تُسَمَّى استانبول منذ ذلك اليوم من سنة ١٤٥٣؛ أي منذ نحو خمسة قرون.

١١

عُدَّ سقوطُ بزنطة كارثةً في أوروبة، ولا عَجَبَ، فالبرابرةُ الكافرون يقيمون إمبراطوريةً عالميةً ثانية! وكان من الممكن في ذلك الحين أن يصبح الترك سادةَ إيطالية، وسادةَ البحر المتوسط أيضًا، ولكن الترك لم يصيروا مَلَّاحين حقيقيين قَطُّ، ولم يُجْدِ إنشاءُ محمدٍ دُورَ صِناعةٍ وسُفُنًا نفعًا، فقد ظلَّ البحرُ غريبًا عن قومه، وقد اقْتُحِمَت بزنطةُ برًّا أكثر من اقتحامها بحرًا.

ولم تكن البندقية من القوة ما تُحارِبُ به تُرْكية، وكلُّ ما كانت تُفَكِّرُ فيه هو أن تَحْمِيَ مستعمراتها غيرَ مكترثة للدفاع عن الحضارة الغربية. وكان البُنْدقِيُّون قد غَلَبُوا دولةَ بزنطة العالميةَ منذ قرنين ونصف قرن، ولكن وَرَثة هذه الدولة الذين حَوَّلوها إلى دويلةٍ ظاهروا على تركية مظاهرة واهية، فلما تَمَّ ذلك الفتح لمحمدٍ أرسلوا إليه عريضةً التمسوا فيها العفوَ، مع الخشوع، عن سابق مساعدتهم لعدوِّه، وقد أرسلوا في الوقت نفسه أعظمَ مصوريهم إلى استانبول ليصوِّر الطاغيةَ الجديد، فترانا مدينين لهذه المناسبة بلَوْحِ بِلِّينِي الرائعِ الذي عَرَض به لمحمدٍ صورةً نصفيةً، جانبيةً تقريبًا، مرسومةً تحت قوسٍ عربية، فبدا محمدٌ في هذه الصورة طويلَ الأنف شاحبَه أسودَ اللحية ضَيِّقَ الفم لابسًا عِمامةً كبيرةً بيضاءَ؛ أي مجموعةَ أجزاءٍ شَغَلَت عينَ المصور أكثر من أن تَشْغَلَه تلك الدولةُ العالميةُ التي قامت حديثًا.

ومن المحتمل أن كان محمدٌ يفتح إيطالية على الرغم من ذلك كلِّه، وقد استولى محمد على جميع شبه جزيرة البلقان بسرعة، وهو لم يَلْبَث أن صار يُهَدِّد البندقية في شواطئها الخاصة، وهنالك تركت البندقية له أقسامًا من ألبانية كما تركت له أُوِبه وأملاكًا بالقرب من إسبارطة، وقد وعدته بإعطائه جزيةً ومكوسًا إذا ما تَفَضَّل فسَمَحَ لها بالتجارة في الشرق الأدنى، ولم يَتَحَرَّك البابا، ولا الإمبراطور، حينما حاول الكافرُ الأول محمدٌ الثاني ذلك الغَزْوَ مجاوزًا البحرَ الأدرياتيَّ نازلًا إلى أُوتْرانْت، ولم تُنْقَذْ إيطالية إلَّا بوفاة محمدٍ التي وقعت فَوْرَ هذا النزول إلى البَرِّ.

ويَرْجِع أعظمُ حِقْدٍ أوروبيٍّ على الإسلام إلى ذلك الدور؛ أي إلى ما حَوْل سنة ١٥٠٠، وتَجِدُ أساسَ المَثَالِب، التي دامت ضِدَّ الترك حتى الحربِ العالمية الأولى، في أقاصيص الفظائع التي عُزِيَ اقترافُها إلى التُّرْك حين سقوط بزنطة وفيما كان السَّلَاطين يتخذونه من وَضْعٍ ازدرائيٍّ تجاه سفراءِ الدول الغربية، ومع ذلك لم يستفد الغرب من ارتباك الترك ونَكَدهم في آسية الصغرى بسبب أبناء دينهم المماليك، والغربُ، على العكس، ظَلَّ مُوَائمًا لهم، ولا غَرْو، فشيخُ الإسلام، الذي هو بابا المسلمين، أَذِن لبطرك الروم أن يُقِيِمَ صَلَوَاتِه كما أذِن لشعوب البلقان المقهورة في عبادة العذراءِ وَفْقَ عادتها.

ومع ذلك وَجَد اختلافُ النصارى والمسلمين له سببًا في روح النهضة وفي انتقال أماكنه المقدسة من القدس إلى أثينة.

ومَن يُلْقِ نظرةً إلى تاريخٍ مُجْمَلٍ لليونان بين سنة ١٠٠٠ وسنة ١٥٠٠ يَجِدْ له صورةً مُلَوَّنةً على الخصوص، كما يَجِدُ له منظرًا مملوءًا سُخْرِيةً فيما هو خاصٌّ بالقُوَى التي كانت تَنْعَشُ البحر المتوسط في أواخر القرون الوسطى، والأمرُ كحِصْنٍ للآلهة القديمة اجتذبَ مَن يَسْتَخِفُّون بها من فرسان النصارى، وكان نُورُ الحكمة والجمال الساطعُ لا يزال يُضيءُ بسَنَائه الممتدِّ وجوهَ أبعدِ حَفَدَتِهم بَعْد تواري الحِصْن.

ولَمَّا بَرَزَ الفِيكِنْغ من ضَبَاب بِحَار الشمال إلى زُرْقة البحر المتوسط حَوالَي سنة ١٠٤٠ أرسل أحدُ أباطرة بِزَنْطةَ إلى أثينةَ الأميرَ هارُولْدَ القائمَ بخدمته، وقديمًا كانت الأسماء تنتهي ﺑ as أو es، فسُمِعَت في هذا الحين أصواتٌ جديدة، فقد صار فرسان أثينة يَتَسَمَّوْن سنُورِّيزون وهاكُون وأُسْباكْسُون، وتُورْم وإيفار أيضًا، وقد اسْتَذَلُّوا أهلَ أثينة مُتَعَلِّلين بأن هؤلاء الأهلين كانوا قد عاهدوا غُزَاةَ البلغار.

وكان أبناء الشمال أولئك يُحِبُّون النساءَ الشَّرْقياتِ اللائي كان يَلُوح اتصافُهنَّ بما ليس عند نسوتهم، واللائي كُنَّ عارفاتٍ بالغرام أحسن من غيرهنَّ، وقد تَكَرَّرت قصةُ هيلانة الحسناء، فَتَزوَّج مانُويل كُومْنِين، وكان أريستوقراطيًّا إغريقيًّا ارتقى إلى العرش، أجملَ نساءِ اليونان؛ أي ابنةَ الأميرةِ كُونْستَانْس الأنطاكية والكونت ريمُونَ البوَاتيِّ، وتكشف لنا هذه الأسماءُ الروائية وحدَها عن اختلاط دم الأميرة. ويَصِلُ كُونتُ طرابلس، الذي كانت أختُه مِلِيزَانْد قد أُعِدَّت للإمبراطور، إلى بحر إيجه مع اثنتي عشرةَ سفينةً حربيةً منتقمًا بالقِتَال والنهب كما في أيام حرب تِرْوَادَة. وتَنِمُّ أقاصيصُ ذلك الزمن على انطلاق الأهواء في الأديار أو على الغَصْب والخَطْفِ عن شَهَواتٍ، وذلك على حين كان رهبان جبل أَتُوس يَنْظِمون قصائدَ دينيةً. وكان من اليهود علماءُ يشتركون في ثَقافة يونانِ ذلك الزمن المُوَلَّدَة، وقليلٌ مِنْ هؤلاء مَن كانوا تجارًا، وكثيرٌ منهم مَنْ كان، على العكس، يتعاطى حِياكةَ الحرير وصِبَاغتَه، ومن بينهم اشتهر أطباءُ كالطبيب الخاصِّ للإمبراطور مانويل ذلك.

وما كان من فتح بِزَنطة مرتين، مرةً من قِبَل «الفَرَنْج» في سنة ١٢٠٤، ومرةً من قِبَل «الترك» في سنة ١٤٥٣، أَلقى نورًا وظِلًّا على تاريخ الإغريق في وقت واحد، وقد كانت أثينة وإسبارطة مدينتين تابعتين كما كانت الجُزُرُ من ولايات الإمبراطورية. وكان جميع هذه البِقاع حاقدًا، وما كان ليتغلب تمامًا على ما يساوره من حِقْدِ شعبٍ مقهور، وقد كان لعهد الصليبيين النصرانيِّ من النتائج ما يخالف العهدَ الإسلامي مخالفةً تامة.

ومن المحتمل أَلَّا يكون البحر المتوسط قد رأى من اختلاط العروق ما هو أبرزُ مما نشأ في صِقِلِّية حَوالَي سنة ١٠٠٠، وفي بلاد اليونان بين القرنين الثالثَ عشرَ والخامسَ عشرَ، وما أكثرَ مَنْ تَجَمَّع فوق ذلك البلد الصغير من المغامرين الغربيين على الخصوص! وكان يوجد هنالك مزيجٌ من شعوبٍ بالغة القِدَم؛ أي من الأرْمن الذين استقروا هنالك في القرن الرابع، ومن الزِّيغان الذين جاء أجدادُهم من السِّنْد فأقاموا هنالك في القرن السابع، ومن اليهود المضطهدين في الغالب، ومن المحتمل أن تصادِفَ في بلاد الإغريق الحاضرة قُرًى مهجورة عَمَرَها العِبْرِيُّون والزِّيغان.

ثم يأتي من الشمال فاتحون من صربية ورومانية، ويأتي من الغرب جنودٌ من قَطَالونية، وفرسانٌ من الفَرَنْج على الخصوص، وكان القتال يدور بين الجميع، وكان أمراء الغرب الإقطاعيون هؤلاء يكافحون الكنيسةَ الرومانية والقسطنطينيةَ معًا، وذلك لاستمرار هذه المدينة على الرغبة في استرداد ما فقدته من الأملاك، وقد نالوا ألقابًا فخمةً مع قليلِ سلطانٍ ومع نزاعٍ على أرضٍ كِلَاسِيَّة،٢٧ وقد اكتسب هذا الدورُ لَوْنَ فصلٍ روائيٍّ من كلِّ شيء.

ثم ظَهَرَ على المَسْرَح إمبراطورٌ طرَبْزُونِيٌّ ومَلِكَةٌ كُرْجيَّة، وأميرُ بحرٍ بانٍ لمملكتِه في رُودُس، وكُونْتٌ من بِلْوَا منادٍ بنفسه دُوكًا على نِيقْيَة، وجنرالٌ رومانيٌّ مطالبٌ بعرش بزنطة، وبُنْدُقِيُّون وَقَعَ خِيارُهم على جزائر بحر إيجه ومرافئه، وأشرافٌ إقليميون حَصَّنُوا التِّرْمُوبيل، ومما وُجِدَ أيضًا فلاسفةٌ من اليونان انْضَمُّوا إلى فرسانٍ من الألمان في الحروب الصليبية وذلك حينما كان دانتي يجاهد شاهرًا سلاحَه.

وكانت جنوة لا تزال تقاتل البندقية قائمةً في هذه المَرَّة بحربٍ بحريةٍ دامت عشر سنين امتلاكًا لكُورْفو وأَقْرِيطش، وتَقْهَرُ البندقيةُ أَقْرِيطشَ فتُوَزِّع مئاتِ «الإقطاعات» بين أشرافٍ وبُرْجوَازيين، ويُسْفِرُ هذا التوزيع عن تَحَوُّل بعضِ فرسان البندقية إلى فَلَّاحين ورُعاةٍ وبعضٍ آخَرَ منهم إلى تجارٍ وقراصين، ويُكْرَم الجميع بألقابٍ ضخمة.

ومما حَدَثَ أن مغامرًا فَرَنْجِيًّا غنيًّا استخدم كتيبةً من الفرسان وبعضَ المراكب فاغتنم فرصةَ الفوضى التي كانت سائدةً أيام اصطراع جِنوة والقراصين وفتحَ سبعَ عشرةَ جزيرةً ثَرِيَّةً كانت نَكْسُوسُ منها مَلِكةَ الأرْخَبيل، ثُمَّ انتحل لقبَ دُوكٍ وبَنَى قلعةً على أساسِ معبدٍ قديم واحتلَّ حتى إزمير، وقد أَقْطَع قُوَّاده جزائرَ كثيرةً فعَمَرَ الأجانبُ جُزُرَ الأرخبيل دفعةً واحدة على هذا الوجه، ويخضع الدوكُ الجديد للإمبراطور الجرمانيِّ البِزَنطيِّ، هنري، بدَوْرِه، فيَنْصِبُه هذا العاهلُ «دوكًا للدُّودِيكانِيز»، ولم تَلْبث الحرب أن نَشِبَتْ بين الإمبراطور والدوك، ويُغْلَبُ الدوك، ويكون للدوك من التأثير في الإمبراطور بجمال منظره وجلال أوضاعه ما يكتفي الإمبراطور معه بنَزْع إزميرَ منه مُزوِّجًا إياه بنتَ أخٍ له.

ومَن يتصفح من القرَّاء هذه القِصصَ ذاتَ مساءٍ يَظْهر له أن جميعَ هؤلاء الناس لم يذهبوا إلى الحرب إلَّا ليكونوا موضوعًا لأحاديثِ مغامرةٍ، ومع ذلك كانت الأهواء بعيدةَ الغوْر كما لدينا، ويَظَلُّ أقدمُ وطنٍ للحضارة بلا زعماء، وتؤدي الحروب الصليبية إلى انقلابٍ عميقٍ هنالك؛ ولذا لم يُنْتِج يونانُ القرون الوسطى تاريخًا، بل أقاصيصُ خليقةٌ برواية «عشرة أيام»، وقد اسْتُغِلَّت هذه الأحاديث من قِبَل مئات الكُتاب الرِّوائِيين السابحين في الأحلام.

ومن المحتمل أن كان الفارسُ الفرنسيُّ فِلْهارْدوِين أبهرَ رجال ذلك العصر في بلاد البحر المتوسط، فسار على غِرَار بلده شنبانْية، فأنشأ بارُونِيَّاتٍ في البلُوبونيز، وتقامُ قصورٌ قائمةٌ مُؤَثِّرة على صخورٍ مُشْرِفة على البحر وفي جبال الداخل، ولا تزال بقايا القصور تثير عجب السائح، ومع ذلك فإن مَن يُنْعِم النظر في الأمر كلِّه يَشْعُرُ بما ينطوي عليه من مهزأة وشعوذة، وكيف لا يُحِسُّ هذا عندما يَعْرِف أن فارسًا لَنْغدُوكيًّا صار لِبتْراسَ أميرًا إقطاعيًّا، وأن «صاحب شنْبيِني» تَرْجَم اسمه إلى اليونانية، وأن سيدًا ثالثًا أطلق على قصره اسم «ماتَا غرِيقُون» أي «اقْتُلِ الإغريقيَّ». وقد وَزَّع كلُّ واحدٍ من هؤلاء البارونات بضعَ إقطاعات، وصار الأمراءُ الإقطاعيون المسنونون حديثًا، والذين لم يكن لديهم حين ذهابهم إلى الأرض المقدسة غيرُ سيوفهم، والذين لم يَمْلِكوا بعد ذلك غيرَ بضعِ مئاتٍ من المَعْزِ، يتكلمون بعد ثلاثين سنة عن ضرورة زيادة سلطان آلهم.

وكانوا يبيعون كلَّ ما تَصِلُ إليه أيديهم، ومن ذلك أن ضايق منافسٌ أحدَ أباطرة بزنطة أو وصيًّا على عرشها فَرهَن البندقيين تاجَ يسوعَ الشَّوْكيَّ نَيْلًا لمالٍ، وهو لم يَسْطِعْ أن يَفُكَّه، فتقدَّم ملكُ فرنسة سان لويس مشتريًا له، ولم تكن مدرسةُ الشرفِ الفرنسيِّ الكبرى في ذلك الحين على ضفاف الرُّون أو السِّين، بل كانت في شبه جزيرة المُورة التي حَلَّ اسمُها هذا محلَّ اسم البلُوبونِيز آنئذٍ، وكان يشتمل بَلَاطُ المَدْعُوِّ غُودْفِرْوَا على «ثمانين فارسًا ذوي مهاميزَ من ذهب». وكان أميرُ مُورة هذا أقوى من إمبراطورِ القسطنطينية الهزيل فضرب نقودًا شخصية لنفسه، فسار أخوه وآخرون على غِراره. وكانت الغابات تَعِجُّ بقُطَّاع الطُّرُق فَعَمَّ فيها نظامٌ للاعتبارِ المالِيِّ قائلٌ بأنه لا ضرورة للمسافر أن يَحْمِل في كيسه نقودًا، وإنما يكفيه أن يَحْمِل شَكًّا٢٨ يقبض قيمتَه في حِصْنِ المدينة المجاورة على أن يُوَقِّعَه أو يَخْتِمه، وقد حَدَث هذا سنة ١٣٠٠ في جَنوب بلاد اليونان المُوحِشَة.

وكان هؤلاء الفرسان يَتَلَذَّذون بالأقاصيص القديمة وبأسماء الأمكنة التي يملكونها، وكان لديهم من الذوق الكافي ما يُجَدِّدون به الأُلِنب، وقد نَظَّموا في المكان الذي نال هِرْكُولُ انتصاراتِه الأولى فيه ألعابًا عسكرية مُوعِزين إلى الشعراء بأن يَتَغَنَّوْا بها في الغرب، وكان هذا هو الأسلوب الذي يتخذونه للدعاية إلى أنفسهم. ويقيم الأمير الإقطاعيُّ القويُّ أوُتُونُ الرُّوشيُّ بقلعة كادْمِه في تِب، ويحارب بجانب البندقية ضِدَّ منافسٍ من مسقط رأسه، فلما شابَ سَلَّم قلعته ومُمْتلكته إلى أبناء أخيه وأَمَرَ أبناءَه باتِّباعه فعاد إلى فرنسة مع جميع أُسْرته على ظهر مركبٍ، وكان في هذا كالسويسريِّ الذي يعود من أمريكة إلى بلده بعد أن يُثْرِيَ ليُرِيَ أبناءَ وطنه غِناه.

ثم حَدَثت فاصلةٌ هزليةٌ أوجبها فرسانٌ من الجِرمان معروفون بطباعهم البربرية، فقد هجم المَدْعُوُّ فالْتِر لِيدِكِرْك على الإغريقيِّ القويِّ بوثْيُوسَ الكُورَنْثِيِّ في أثناءِ سياحةٍ كان يقوم بها هذا الأخير، وهو لم يُرِدْ إطلاقَه إلا في مقابل فِدْيةٍ عظيمة، ويَرْفِض الإغريقيُّ ذلك فيَكْسِرُ أسنانَه، ويَعْزِم الإغريقيُّ على الدَّفْعِ ويُطْلَق مُفَكِّرًا في الانتقام لنفسه، ويَتَرَصَّدُ هو ورجاله في شِعْبٍ واقع جَنوبَ خليج كُورِنْث وينتظر جَلَّاديه، ويَنْزِل من المركب فارسٌ فرنسيٌّ مع رفقائه ويتعاطَوْن أقداح الرَّاح فَرِحين، ويدنو الإغريقيُّ رويدًا رويدًا، ويَظنُّ أنه الألمانيُّ فالْتِر ويضربه بالسيف على رأسه ثم يَتَبَيَّنُ خطأَه ويُبْدِي أسفه ويعتذر، غير أن الفرنسيَّ يموت بعد يومٍ، وتشتعل حرب جديدة بين الأغارقة والفَرنج.

ويمرُّ على ذلك نحوُ مائة عام فيفسِّر غوتة هذه الحوادثَ الروائيةَ الهزليةَ تفسيرًا رمزيًّا في الجزء الثاني من «فاوْست».

وفي أثناء تلك الحرب يستردُّ الأغارقةُ بلدَهم لوقتٍ قصير، ومن الطُّرَف أن يُذْكَر إعدادُ فيلسوفٍ أفلاطونيٍّ سبيلَ هذا النصر، وإن كان ذلك على وجهٍ غيرِ مباشر.

شُعِرَ بنفوذ جِيُورْجيُوس جِيمِسْتُوس، ويُدْعَى بلِيطُون، حَوالَي سنة ١٤٢٠، وسَخَّرَ بليطُون هذا مذهبَه المثالِيَّ الوثنيَّ لكُومَ المدِيسِيسيِّ حتى يُنْشِئ مجمعًا علميًّا للأفلاطونية الجديدة في فلورنسة، ويُصْبِح من بعض الوجوه خلفًا لأفلاطون الذي كان قد نَقَلَ أيضًا عينَ الأفكارِ من بلاد اليونان إلى صِقِلِّية. وكان بلِيطُون وطنيًّا حَمِسًا راغبًا في إنقاذ أُمتِه المضطهدة بسيطرة الأجنبيِّ، فيقول بالجُمهورية الشيوعية التي تستنبط مبادئَها من نظرية أفلاطون حَوْل الدولة ومن دستور لِيكُورْغ، وهو يُدْلِي بتعاليمه في مكانٍ واقعٍ بالقربِ من مدينةِ ليكورغ (إسْبارطة)، وهو يقترح أن تكون الدولةُ مالكةً لجميع الأرَضِين فتُؤْجِرَها، فلا ينبغي للأفراد أن يَمْلِكوا أرضًا، وعلى التجارة أن تقوم على المعاوضة لا على النَّقْد.

ويُكْرِم الأمراءُ بليطُونَ، ولكنهم لا يُطَبِّقُون اقتراحًا له، ومع ذلك يُوَفَّقُ آخرُ آل بالِيُولُوغ لطَرْدِ الفَرَنجِ؛ أي الأجانبِ الغربيين، وتَغْدُو بلادُ الإغريق مستقلةً لعشرين سنة.

ومع ذلك كان وقت إثارة هذا الشعب قد انقضى، فقد تمتع هذا الشعب بعصر زاهر زمنًا طويلًا، وغدا أمرُه قبضةَ أناسٍ أكثرَ فَتَاءً وأعظمَ ثباتًا، شأنَ البزنطيين أنفسِهم وشأنَ عرب الأندلس، وما كادت القسطنطينية تسقطُ حتى صارت بلادُ اليونان القديمةُ تُرْكِيَّةً أيضًا وظَلَّت هكذا نحوَ أربعمائة سنة، ويُحْمَلُ الأغارقةُ على دفع ضرائبَ للسلطان وعلى الخدمة تحت راياته، والسلطانُ عاهلٌ أجنبيٌّ لا يَدِين بدينهم.

ويأتي محمدًا الثانيَ وحيٌ، يأتيه هذا الوحيُ من فَطَنه السياسيِّ، أو من تسامحه الإسلاميِّ الفِطْرِيِّ، أو من كلا الأمرين على ما يُحتمل، فقد أَذِن للروم في تدبير شئونهم من قِبَل رجال دينهم ونَصَبَ راهبًا مشهورًا بطركًا لهم، وقد شَكَرَ الرومُ له ذلك لِمَا كان قبلَ احتلال بِزَنطة من فِرارِ آخر البطاركة إلى رومة قاصدًا البابا الذي يمقتونه، وإذا عَدَوْتَ ما احتفظ محمدٌ الثاني به لنفسه من حَقِّ الموافقة على نصب الأُسقف الروميِّ فإنك تَجِدُه قد منح الكنيسةَ الإغريقية استقلالًا كاملًا، وقد أعْرَب راهبٌ عالِمٌ من رهبان جبل أَتُوس عن شكره لمحمدٍ الثاني بترجَمةٍ شعرية غنائية قَدَّمها إليه قبل نشرها، مُضِيعًا كلَّ قيمة تاريخية لها بذلك، وقد عَرَف الفاتحُ المسلم أَن يَسْلُك إذَن سبيل اللَّباقة تِجاه مَنْ لم يَعرِفهم من النصارى.

ويحاصر كُورنْثَ ويَدَعُها أطلالًا سائرًا على غِرار الرومان الذين خَرَّبوا هذا البلدَ منذ ثلاثةَ عشرَ قرنًا، ومن الطرافة أن احترم هذا الكافرُ أَكْرُوبولَ أَثينة لتأثير المعابدِ فيه، وكما أن أُومِيرس خَلَّدَ لنا جمالَ هيلانة لتأثيرها في نفوس معاصريها يمكننا أن نَشْعُر بروعةِ البارْتنون نتيجةً للأثر الحَيِّ الذي اتفق لهذا البناءِ في السلطان محمد غيرَ غافلين عن كونه في دَوْرِ الشباب عندما رآه.

وهنا ظَهَرَ نصفُ الهمجيِّ على نَمَط الإسكندر الأكبر كما ظهر حين فَتْح القسطنطينية، فهو لم يتمالَكْ أن حَوَّل المعبدَ إلى ثُكْنَةٍ تُرْكِيَّة وأن حَوَّل الإلِكْتُومَ إلى دائرةِ حريمٍ للقائد، فلم يبقَ للتماثيل الداعمة للأطناف٢٩ غيرُ مَعنًى سُخْرِيٍّ. وما حَدَث بعد زمنٍ من فِتَنٍ جديدة ومن مؤامراتٍ حَمَلَه على أن يَنْزِعَ من الأَثَنِيِّين عبادةً نصرانيَّةً ظَلَّت تُقَامُ في البارْتِنُون عشرةَ قرون، فقد حَوَّل السلطانُ البارتنونَ إلى مسجدٍ مقيمًا عبادةَ الله مقامَ عبادةِ أتِينة أولًا ثم عبادة مريمَ مُؤَخَّرًا، وقد أَمَرَ ببناءِ مِئْذَنةٍ هيفاءَ على الرُّكن الجَنُوبيِّ الغربيِّ حيث يُؤَذِّن المُسْلِمُ في كلِّ يوم ثلاثَ مرات باسم الله (؟).
وعبادةُ الإله الواحد هذا هي التي نادى بها أفلاطون بعد أن رَفَع برِكلس أعمدتَه الخالدة، وهذا هو الرَّبُّ الواحد الجالسُ على العَرْش فوق إلهَيِ الثالثوث الآخريْن لدى الحواريين، وقد ملك كلُّ واحدٍ من هذه الآلهة أفئدة الأَثَنِيين مُدَّةَ عشرة قرون، والآن صار المؤذن في كلِّ مساءٍ ينظر إلى غِيابِ الشمس في هذا الخُلَيِّج الواقع بين سَلَامين وإيجين، وهو إذا ما التفت يمينًا أَمْكنه أن يُبْصِرَ من شُرْفته الضيقة صَفَّي الأعمدة الرُّخامية البانْتِلِيكية٣٠ القائمين فوق البحر المتوسط، ولا يزال هذا المعبد، الذي هو أكملُ ما شادته يَدُ إنسانٍ للإِله الذي لا يُدْرَك، سليمًا مع استيلاءِ كثيرٍ من الفاتحين على أثينة.

١٢

ولم تُصَبْ روحُ اليونان بغير نُعَاس، فعادت إلى الحياة مُلْتَهبةً، ولا عَجَبَ، فدور النهضة قد بَدَأ.

وما هو سِرُّ النهضة؟ وما هو سبب هذا الازدهار الحديث في الثَّقافة اليونانية بعد الأغارقة بألفَيْ سنة، وذلك للمرة الثانية في أَوْج حياة البحر المتوسط؟ أَوَهذا فوزٌ لشعبٍ عظيم؟ أَوَهذا تَمَرُّدٌ ظافرٌ صادرٌ عن طبقة مضطدة؟ أوَ هذا أثرُ سَلَام مُثْمر أَوْ نتيجةُ ظهور رسول جديد؟ وما هو العامل في بروز الدور الواقع حَوْلَ سنة ١٥٠٠ ساطعًا في التاريخ؟ وهل نَجَمَ هذا عن هُبوب ريحِ الحرية بأوروبة في ذلك الحين؟ وهل نشأ هذا عن الإيمان بالإخاء الإنسانيِّ؟

لا شيءَ من ذلك كلِّه، فكانت البلدان تُغَيِّر سادتَها في الغالب كما في الماضي، ولم تَهُزَّ الطبقاتِ الاجتماعيةَ ثَوْراتٌ، وكانت الأديان تتنازع وَفْقَ العادة، وما كانت المِلاحة لتجاوز دورًا ثوريًّا نتيجةً لاختراعِ آلةٍ جديدة، ولم يطرأ شيء على نظام الحياة الدارجة.

والعاملُ الجديدُ هو ما كان من شعورٍ نامٍ بالحياة، وكان «اليومُ الراهنُ» إلهَ العصر، وكان النشاطُ والفهمُ والفنُّ إلهاتٍ له، وكان ابنُ دور النهضة المحبُّ للحياة وغيرُ الخائف من الموت قادرًا على اقتحام نصيبِه، فدور النهضة حين أبان كِيانَ الإنسان يكون قد أقام أدبًا خُلُقيًّا جديدًا.

وقد حاولت النصرانية أن تلائم الصحةَ الطبيعيةَ وغريزةَ السعادة لدى الإنسان بما كان من ترَاضٍ كثير وتساهلٍ غير قليل وأَلمٍ عظيمٍ، والناسُ كانوا قد لُقِّنُوا وجودَ حياة أخرى يُجْزَوْن فيها على فضائلهم وجرائهم، وذلك بعد أن كُبْكِبَ آخرُ صنمٍ يونانيٍّ يشتمل عليه أحد معابد البحر المتوسط في أثناء نَوْبَةٍ من الحُمَيَّا الدينية، ومذهبٌ متوعِّدٌ مثلُ هذا كان قد جَعَلَ الناس في ألف سنةٍ أَسْرَى مستقبلٍ مجهولٍ إذَنْ، وذلك مع إلقائه سُلْوانًا في نفوس ملايين الآدميين الذين كانوا يَشْعُرون بنصيبهم الجائز في هذه الحياة الدنيا، ومع ذلك فإن من النادر أن كان الإيمانُ الذي أحيا رغائبَ الإنسان الطبيعية مؤثرًا في زمنٍ تأثيرَه أيامَ الحروب الصليبية.

ولم يكن كُبَرَاءُ الناس، الذين ما انفكوا يَخْرِقون ويَقْذِفون منذ انقضاء القرون القديمة حتى دَوْرِ النهضة، خالين من وَخْزِ الضمير، فهم ما فَتِئُوا يُقَيَّدُون بمن هم أضعف منهم نتيجةَ فلسفةٍ تَعِظُ بها الدولةُ وتؤيدها مع انتهاكها، كدولةٍ زمنيةٍ، حُرْمَةَ هذه الفلسفة بلا انقطاع، وما ظَهَرَ من تناقضٍ في جميع القرون الوسطى النصرانية كان يُعَكِّرُ انسجامَ أتقياء النصارى مع أن المسلمين كانوا يتمتعون بهذا الانسجام تمامًا، ودينُ المسلمين يُجِلُّ القُوَّةَ والجهاد كما يُسَبِّحُ لله الواحد، والإسلامُ لا يَنُوطُ الحياةَ الأبدية؛ أي الجنةَ، بحياةِ بؤسٍ في هذه الدنيا. وكان الجَنوب أكثرَ من الشمال ذي الضَّباب شعورًا بذلك التناقض في النصرانية، وفي الشمال ترى الحياةَ يَسُودُها البرد وشِدَّةُ الطبيعة، وفي بلاد البحر المتوسط لا تبصر غيرَ الشمس والزُّرْقَة وكثرةِ الفواكه وفَيْضِ الخَمْر التي تَسُرُّ القلوب، وفي البحر المتوسط ترى كلَّ ساحلٍ وجزيرةٍ يَقِي ظِلَالَ الآلهة القديمة، ولا ترى مثلَ هذا فيما وراء جبال الألب.

ولم ينشأ دور النهضة عن اكتشاف بضعِ عشراتٍ من التماثيل، وقد أفاقت هذه التماثيل، التي كانت راقدةً في الأرض أو الأنهار أو البحر أيامَ القرون الوسطى النصرانية، في عالَم مجهولٍ وأنعمت على الإنسانية بقوة جديدة.

ومع ذلك لم تكن هذه القوة غيرَ حَيَوِيَّةٍ أعادت الناس إلى أثر الأغارقة وحَفَزَتهم إِلى اكتشاف تلك التماثيل، والطبيعةُ فيها هي ما أُعْجِب به المتفننون، والعُرْيُ هو الذي حَفَزَ هؤلاء المتفننين إلى استنساخ تمثالِ أَبولونَ البِلْفِدِيريِّ وتمثالِ هِرْكُولَ النصفيِّ وتمثالِ فِينُوسَ الفاتيكانيِّ؛ أي التماثيلِ التي كانت أولَ ما وُجِد، وقد فُضِّلَ البُرونْزُ على النماذج الحَيَّة حينًا من الزَّمن.

ولسرعان ما حَوَّل أولئك المُجَدِّدون، في الكنائس، فَنَّ القوط الفرنسيَّ الذي لم يَنَلْ حُظْوَةً في الجَنوب قَطُّ، وقد أخذت المباني تمتدُّ، وصار مُقَدَّمُها يَتَّسِع، وأصبحَت الأعمدةُ عناصرَ للوصلِ الأُفُقِيِّ، وما أكثر مُقَدَّماتِ البناءِ التي انتحلها عالَمُ العصر الحاضر، كبعض بُنُوكِ نِيُويُورْك مثلًا، وَفْقَ طِرازِ دور النهضة؛ أي هذا الطرازِ الذي اقْتُبِسَ من الأغارقة، ولكن لم تكن التماثيلُ، ولا القِبَاب، ذاتَ أثرٍ بالغٍ في العصر، بل الرجوعُ إلى حِكْمَة الأغارقة وشعورهم حَوْلَ الحياة، ومع ذلك لم يُخْلَع قِدِّيسُو الكنيسة لتَحُلَّ الآلهةُ القديمةُ محلَّهم، فلم يُلغَ شيءٌ إلغاءً مطلقًا غيرُ تقديس الألم.

وقد رُئِيَ أن من الممكن أن يُرْأفَ فيُحْسَن من غير أن يُعَدَّ المريضُ رسولًا للرَّبِّ، وقد وُجِدَ في أفلاطونَ، الذي مال بعضُ الخِيَار إلى وضعه في مكان يسوعَ، رجلٌ مُوَحِّدٌ. وقال لُورَانُ المِدِيسِيسِيُّ إن الأرضَ خُلِقَتْ عن حُبِّ الرَّبِّ، لا مُقَدِّمَةً لعالَمٍ آخر، ولم يَنْفَكَّ الرَّبُّ يكون موجبًا لنفسه كما أن روح الإنسان تستطيع أن تتسع فيه إلى ما لا حَدَّ له.

وقد عَرَف ذلك الدورُ رغبةً جامحةَ في التَّمَتُّع بالحياة وبالحبِّ الدنيويِّ والمَجْدِ في هذا العالَم، ولم تُوضَعِ الآلهةُ القديمة، التي وُجِدَت فاستُنْسِخَت في كلِّ مكان، على الهيكل لتُعْبَدَ، ومع ذلك فإن روحَها سادت البحرَ المتوسط، الذي هو أصلُها، ولا سيما إيطالية، وعاد الخُشُوع، الذي ظُنَّ تطبيقُ الصليبيين له، غيرَ صالحٍ ليكون مثلًا عاليًا ما دَحَرَته الخُيلَاء، وإذا كانت القرون الوسطى قد شابهت خريفًا خالدًا فإن عصرَ النهضة يشابه صيفًا ساطعًا، والإنسانُ وحدَه، لا يسوعُ، ولا أَبولونُ، هو الذي مُجِّدَ في ذلك العصر، وصار صيتُ القدماء قُدْوَةً للشباب، وقد التُهِم بلُوتارْك كشفًا لأسرار عظماءِ الرجال الذين قَصَّ سيرَتَهم، وكان فِتْيَان الرومان يَلْبَسُون ثيابًا عصرية ويَحْمِلون أسلحةً حديثة حَوالَي سنة ١٥٠٠، ولكن مع روايتهم عن برُوتُوس وشيشرون باللغة اللاتينية، ومع حديثهم عن أفلاطونَ باللغة اليونانية، وأضحى التفوق في القتال والخَطابة، وبالسيف والكلام، مثلًا عاليًا لجميع الشباب، لا لفِتْيان الأشراف وحدَهم، قال سِزار بُورْجيا: «أُحبُّ المعاش على الحصان والفِراش.»

وقد ظهر في جميع طبقات المجتمع نوابغُ فضلاءُ بغتةً، وقد زاد هذا قيمةً بعَدَم ثَقافة الشعب، وقد عَرَفَ النغيلُ،٣١ المُزْدَرَى سابقًا، مُمْكِنَاتٍ جديدةً ما دام أصلُه يُوَجِّه الأنظار إِليه في هذا العالم المضطرب، ويُكْرَم العصامِيُّ أيضًا، ويَجِدُ شرفُ الأصل مكانَه أيضًا، ويتبارى رجالٌ نِشاطٌ أَلِبَّاءُ ونساءٌ حِسَان أريباتٌ في بَلاط الأمراء بدلًا من أن يَنْحَلَ هؤلاء الرجال ويناضلوا في سبيل ألوان نسوتهم الناعمة، وكان ذوو الطموح من أبناء الوَلايات يَجْمَعون في أملاكهم أناسًا مُبدعين من جميع الطبقات الاجتماعية، فلا يَبدُون محلَّ سُخْرِيةٍ لتقليدهم عظمةَ القرون القديمة، والحقُّ أن هذا لم يكن مَهْزَأةً، بل مَيْلٌ إلى إنماء الذهن والبدن، وما أصبح مثلًا عاليًا للنبيل في إنكلترة بعد زمنٍ سُعِيَ إليه في عصر النهضة بأسطعَ من ذلك ما كان النساء يُسْهِمن فيه.

وكان للنساء موقعٌ جديد في دور النهضة، وما اكتسبنه من مراكزَ حَوْلَ سنة ١٥٠٠ يُعَدُّ ثورةً مشابهة للتي حَوَّلت مجتمعنا في السنين الثلاثين الأخيرة، والفارقُ هو في كون هذه الثورة النِّسْوِية قد تمت في عصر النهضة من غير أن يُعِين عليها الفتيات اللاتي كُنَّ يَذْبُلْن في الأديار حتى زواجهنَّ.

وصارت النساءُ مُتَرَجِّلاتٍ صائداتٍ، ولكن مع ظهورهن تِلْميذاتٍ لأفلاطون ونَمُوذجاتٍ لأكابر المصورين وعاشقاتٍ لأقطاب الأصحاب من ذوي الصيت والسلطان في ذلك الزمان، وقد ظَلَّ نظام الأُسْرة على حاله مع عدم وفاءٍ وثيقٍ في الزواج، ومع ذلك أصبح من الممكن طلبُ الطَّلَاق من غير إثارةٍ لعَذْل الناس، ومن النادر أن كانت المرأةُ تَجُود بألطافها عن ميلٍ إلى ثروة الراغبين، بل كانت تَمُنُّ بها عن نظرٍ إلى المقام الاجتماعيِّ في بعض الأحيان، وكانت الرجولةُ والجمالُ والشجاعةُ؛ أي ما يُعْرَف اليومَ بالروح الرياضية، أكثرَ شيءٍ يجتذب النساء، ولم يَتَّفِقْ لامرأة السَّوْءِ من مقامٍ في زمنٍ، حتى بأثينة في القرون القديمة، ما اتفق لها في ذلك العصر، ولم تكن القصائد والقِصَص التي دارت حَوْل عَلَاقات إنِبرْية الشهيرة بأحد البابوات لِتَصِفَ هذه الباسلةَ وصفًا ساخرًا بل وَصَفَتْها مع الإعجاب.

ولم يُزْرَ بالفضائل النصرانية في جوٍّ مثلِ هذا، وإنما وُضِعَت هذه الفضائل في المرتبة الثانية بحكم الطبيعة، ومن ذلك حَلَّت شهوةُ الثأر الوثنية محلَّ فضيلة التوبة النصرانية، وكان يُرَى الجَبْر في طبيعة الرجال والنساء فلا يحتاج الإنسان بعد الآن إلى قسيسه أو إلى يسوعَ لينقذه، وحافظ الناس على طقوس العِماد والزواج والجنائز، والرُّوحُ القُدُس هو الذي كان يلوح خُلوُّها منه، وقُدِّرت نساءٌ قِدِّيسات، ككَتْرِينة السِّيانيَّة، تقديرًا عظيمًا لفائدتهن الاجتماعية، وقد عاشرن معاصريهنَّ كالمطالِبات بمساواة الجنسين في الوقت الحاضر، وكان من النادر وجودُ امرأة مترجلة؛ أي عذراءَ مجاهدةٍ. وعلى العكس وُجِد من النساءِ كثيراتٌ عارفاتٌ بأمور الغرام خبيراتٌ بحِيَلِ الرجال. وكان من عادة الدوكة كَتْرِينة سفُورْزَا أن تَعْرِض جنودَها في ميدانٍ عامٍّ كلَّ يومٍ، وقد دُعِيَتْ ذات يومٍ إلى الانتباه بصوتٍ عالٍ لاحتمال الانتقام من أولادها بسبب شهوة الحُكْم فيها، فاسمعْ جوابها: «عَجَبًا، إذا ما أُصيبوا بشيء وَضَعْتُ عِوَضًا منهم!» فقولٌ كهذا يُشَجِّعُ جيلًا من الفَتَياتِ على السير مع أَهْوائهن.

وتُذكِّرنا هذه العبادة للبدن وللحِذْق الفطريِّ واللَّعِبِ الفروسيِّ والعمل الرياضيِّ ببعض المُثُلِ العليا الأمريكية الحديثة، ولو وُجِدَت في فلورنسة مَجَلَّاتٌ أسبوعية كما في نيويورك لأبصرنا تماثلًا بين كثير من صُوَرِ البلدين مع قلةِ تَبَسُّمٍ في السابقة، ولو نَظَرْتَ إلى ما رُسِمَ من صُورٍ رائعةٍ كثيرةٍ لذوي الصيت وغير ذوي الصيت من رجال عصر النهضة ونسائه لرأيتَ مُونَالِيزَا وحدَها هي الباسمة ولرأيتَها لم تَبْسِم لغير نفسها.

ومع ذلك فإن حيويةً مُشْرِقةً كتلك لا تكون خالية من بعض المحاذير، وكانت هذه المحاذير أظهرَ مما في الدَّوْر الروائيِّ السابق أيضًا، فالانتقامُ وَلَّد القتلَ وغَذَّى الطموحُ ما بين الأمراء والجُمهوريات من صِراع لا ينقطع، وما أُبْدِي من إعجابٍ بالمغُامِرين أَدَّى إلى اشتباك الطبقاتِ اشتباكًا تامًّا، وقد آلت السلطة إلى الأكثر مهارةً وبسالةً، لا إلى المؤتَمِرِين المُرَائين كما في بِزَنطة، وقد حاول الجميعُ أن ينال السلطة إذَنْ، فنالها في بعض الأحيان أناسٌ غيرُ معروفين، ومَنْ لم يَسْطِع أن يَتَعَلَّم في شبابه كان يَعْرِف ذلك سريعًا من «كتاب النديم» لكاسْتِيغْليُونِي؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يُعَلِّم العالَم سلوكَ سبيل النُّبْل فصار أكثرَ كُتب العصر تقديرًا.

وأما النساء فكُنَّ يَتَعَلَّمْن قواعدَ السُّلُوك وحُسْنَ الأوضاع من كتاب «جمال النساء» لِفِرْنزُولَا؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يتطلب صدرًا واسعًا بدلًا من أكتافٍ رَخْوَة للمرة الأولى منذ عهد الأغارقة. وليست فضائلُ الإخلاص والوَفَاء والشُّكْران هي التي كان الناس يَسْعَوْن لنَيْلِها تزيينًا لحياتهم، بل كانوا ينْشُدون الجمالَ والصحة قبل كلِّ شيء، وكان يَسْتَغني عن الحرية مَنْ هو حائزٌ لهذيْن الكَنْزيْن حينًا من الزمن. والواقع أن حِسَان الرجال والنساء كانوا يَجِدُون، أحيانًا، مُنْقِذًا يُخْرِجُهم من بين جُدْران السجن، ومع ذلك فإن بهجةَ الحياة لم تنحطَّ إلى دَرَك الفُسُوق والإدمان والخلاعة؛ أي إلى الأباطيل التي اعْتَرَت الإمبراطوريةَ الرومانية الآفلة فلم تُسْفِر قرونها الثلاثة عن أيِّ أثرٍ فنيٍّ والتي لم تُنْتِج قرونُها هذه غيرَ قليل من الآثار العلمية، وعلى العكس كان العالَم قد كُوِّن حَوْل سنة ١٥٠٠ وكان يسوده من الفنِّ والعلم ما لا عهد له به منذ زمن الأغارقة.

ويُتَرَدَّد أحيانًا في مقابلة رجال ذلك الدور في إيطالية على الخصوص بأغارقة القرون القديمة، ولم يُعَلَّلْ هذا التَّرَدُّد بطابع دور النهضة الطارئ ولا بمستواه الفنيِّ المتأخر، ويمكن الميلُ إلى هذه المقابلة بلا وَجَل؛ وذلك لأنك إذا عَدَوْتَ عَهْد بركلس وعهدَ ليونَ العاشِر لم تَجِدْ دورًا قبل النهضة وبعدها اشتمل في زمن واحد على مثل ما احْتَوَتْه هذه النهضة مِن ذوي السُّموِّ. وكلا الدورين كان قصيرًا، وكلاهما ظَلَّ متجمعًا زُهاء أربعين عامًا، ولو تَوَسَّعْنَا في العَدِّ من حيث الازدهارُ لجعلنا القرنَ الخامس نصيبَ الأغارقة ولجعلنا ما بين سنة ١٤٥٠ وسنة ١٥٥٠ نصيبَ دَوْرِ النهضة.

وفي دور النهضة حَدَثَ أمرٌ نادرٌ في إيطالية، ظَهَرَ كثيرٌ من العباقرة في جيل واحد، وما كان عهدُ أغسطسَ، ولا عهدُ جُوسْتِينْيَانَ أو الملكِ الشمس، ولا عهدُ الملكة إلِيزابِت أو الفليبين،٣٢ ولا عهدُ نابليون؛ أي ما كانت هذه الأدوار، لتستطيع أن تَزْهُوَ بأنها أنتجت من العباقرة مجْتمِعةً ما أنتجه دور النهضة، ويكفي سرد أسماء هؤلاء لأَسَفنا على عدم معاصرتنا هذا الدور.

والحقُّ أن بعضهم كان معاصرًا لبعضٍ تقريبًا، فبين النَحَّاتين سِرْ من فِرُّوكْيو إلى مِيْكلِ أَنْجِلو، وبين المفكرين والشعراء سِرْ من تاسِّ وأَرْيُوسْت إلى بيك المِيرَنْدولِيِّ فإلى مَكْيافِلِّي، وبين المصورين سِرْ من بُوتِيشِلِّي وغِرْلَانْدَاجو إلى بيِرُو دِلَّا فَرنْسِسْكا، ومن بِلِّيني إلى جِيُورْجيُونِي فإلى تيسيان، ومن بيرُوجِين إلى رفائيل، ومن كُرِّيجْيُو إلى ليونار دَفِنْسي فإلى لوِينِي، وبين المهندسين البَنَّائين سِرْ من برُونلِّيشِي إلى براَمَانْت، ومن البابوات اذْكرِ الثلاثةَ العظماءَ الذين تعاقبوا وهم: إسكندر ويوليوس ولِيُون، وبين الرؤساء سِرْ من سِزَار بُورْجيا إلى كُولِّيُوني، وبين الملوك سِرْ من فرديناند إلى محمد (الثاني)، وبين الرُّوَّاد سِرْ من فاسْكُو دوغاما إلى كرِيسْتُوف كُولُونْبس …

وفي ذلك العصر ظهَرَ مئاتٌ من ذوي النفوس الكبيرة ضِمْنَ نِطاق المدن الإيطالية، ولم يشاهد البحرُ المتوسط تَجَمُّعَ مثلِ ذلك العدد من العباقرة غيرَ مرةٍ واحدة، وذلك حين أقام بركلسُ البارْتِنُونَ قبل ظهور آل مديسيس بعشرة قرون، ويتشابه الدوران بهاءً وسناءً، وكلا الدوريْن أثار نكرَانًا وآثامًا وتَحَزُّبًا وانتقامًا.

ولا تزال تلك الأدوار تفتننا لعدم خلُوِّها من المعايب.

ومع ذلك يوجد اختلافٌ بين أُسس ذينك الدورين الماجنة، فكان الأغارقة أكثرَ بساطةً قبل أفلاطون على الخصوص، وكان رجالُ عصر النهضة أكثرَ سفاهةً، وقد اضْطُرَّ دور النهضة، للعثور على الطريق المؤدية إلى الآلهة القديمة، إلى ترك أمورٍ لم يكن الأغارقة قد حازوها بَعْدُ، ويبدو هذا جَلِيًّا فيما كتبه مَكْيافِلِّي الذي بَنَى أدبَ الدولة على إنكار جميع المبادئ التي قد عُلِّمَها في صِباه، ويُعَدُّ إعجابُه بسِزَار بُورْجيَا حمْلةً سافرةً على علماء الأخلاق الذين كانوا يُنْكرون إمكانَ وجودِ ابنٍ للبابا وإمكانَ اشتراك دوكٍ رُبِّيَ في الفاتيكان في مؤامرة، وتجعل هذه الواقعية من مَكْيَافِلِّي مُحَلِّلًا بارعًا، ومع ذلك تختلف لا خُلُقِيَّة مَكْيَافِلِّي عن خُلُقية أوميرس اختلافَ تمثالِ اللَّيْل الذي نحته ميكل أَنجلو لضريحٍ فلورنسيٍّ عن تمثال السِّعْلَاة الناعسة لدى الأغارقة.

ولا يشابه رجلُ عصرِ النهضة رجلَ القرون القديمة الذي اكتشفه حديثًا إلَّا من بعض النواحي، وعلى العكس تراه أكثرَ شَبَهًا بنا، وهو أقربُ إلى عصرنا من جميع مَنْ ظهروا بينه وبيننا. وكان عصر النهضة فرديًّا إلى أبعد حَدٍّ، وإذا عَدَوْت حبَّ الحرية لم تَجِدْ صلةً بينه وبين الديمقراطية، وذلك مع اختلاف وسائل البحث عن الحرية في كلا الدورين اختلافًا تامًّا ومع تباين رجالهما تباينًا كبيرًا، ويدلُّ ما بدأنا به من وضع الجِدِّ في قالب الهزل على تَعَذُّرٍ كلِّ بعثٍ لدور النهضة بعد الآن. أَجَلْ، إن من النوابغ مَنْ ظهروا في كل زمن وتحت كلِّ نظام، غير أن حدودَ المبادئ الديمقراطية تُقَلِّصُ ما فيهم من استعداد للازدهار، وصار وجودُ عبقريٍّ على رأس الدولة أمرًا لا يُطاق، وفي هذا سِرُّ التجاء العبقريِّ الحقيقيِّ إلى حظيرة العلم والفنِّ تاركًا عالَم العِراك إلى الأكثرية؛ أي إلى قليلي الذكاء أو إلى مُشَخِّصين مُتَوَسِّطي المواهب.

ويتجلَّى وَجْهُ عصر النهضة المزدوجُ حتى في صلات هذا الدور بالحركة الدينية المعروفة ﺑ «الإصلاح» الذي هو وجهٌ آخرُ للتمرد على القرون الوسطى.

ودَفَقَتْ من الأرض القديمة على شواطئ البحر المتوسط في الجَنوب تماثيلُ من القرون الخالية كأنها تَمُدُّ أعضاءها الرُّخامية والبرونزية بعد نومٍ طويل، فبَرَزَتْ عاريةً أو مُدَّثِرَةً مع الجُود من جديدٍ ديانا وأبولون وهيرا وزُوس وبوزِئِيدُون ودِيمِيتِر وآلهةُ البحر وبناتُه وعرائسُه وحيوانُه، وقد أفاق جميع هؤلاء تحت سماء جديدة كانوا يعرفونها كشمس أوميرس، وقد أُهْرِع متفننون وهاوُون وأمراءُ وجامِعون فبَنَوْا لهؤلاء الأغارقة قواعدَ ثمينةً غافلين عن أنه يُعْوِزُهم أحيانًا ذراعٌ أو رِجْلٌ أو رأس.

ولكنَّ عاصيًا نصرانيًّا في الشمال كان يَحْصُر بصرَه في آثام البابوات آنئذٍ، ومن هؤلاء البابوات واحدٌ صَوَّرَ خليلته على جدار الفاتيكان ونصب أخا هذه الخليلة كردينالًا ومنح ابنَه الخاصَّ لقبَ دوك، على حين كان يهيِّئ في ثلاث أحوالٍ مختلفة زواجًا سياسيًّا لابنته الباهرة الجمال: لُوكْرِيس بورْجيا. وكان لُوثِرُ برومةَ في ذلك الحين، وأظهرُ ما كانت عليه نفسُه في وَضَحِ ذلك النهار هو أنه لم يُوَجِّه نظره إلى غير المعايب، لا إلى النُّور، وقد أَفْلَت في وقت واحد زمامُ الحركتين: الخُلُقية واللاخُلُقية، والشهوانية والروحانية، والبعث الأدبيِّ والإصلاح الدينيِّ، والاندفاع والامتناع، والادِّعاء والدُّعاء، لتتصادما صِدامًا لا مَخْرج منه.

والواقعُ أنه كان يوجد في القرن الخامسَ عشرَ رجالٌ من أنصار النهضة في الشمال كما كان يوجد متعصبون في الجَنوب، ويكفي لبيان ذلك أن يُذْكَر أمرُ إراسْم وسافونارول، فكلاهما كان يصاول خصومه تارةً ويصالحهم تارةً أخرى وَفْقَ اختلاف طبعهما، وكلاهما عُرِّض لريح العصر فكانت هذه الريح ترفع مِعْطَفَهما فيُرَى تشابهُ غِشَائهما الفاني، وكان كلٌّ منهما يماثل الآخرَ في أمرٍ، في ممارسة قوة الطبع، ولا يُدْهَشُ من ظهور سافونارُول مع مواكب مُرِيديه التائبين فخورًا كأبطال مَكْيافِلِّي في أثناء عَرْضهم، ويُلَاحَظُ تساوي الاثنين في عنصرهما المسرحيِّ، والاثنان قد بحثا عن المجد كهدفٍ عالٍ لهما.

ومع ما كان عليه إراسْم من تسامحٍ فإنه تَحَوَّل عن لوثر لنفوره من تعصُّب هذا الأخير أكثر من كرْهه شَهْوَانِيَّةَ البابا ليونَ الذي وَقَفَ حياته على الجمال والروح، ومع ما كان عليه مكْيافِلِّي من لا خُلُقِيَّةٍ فقد جعل من نفسه رسولَ موسى وتِيزِه؛ أي رسولَ منشئ الدول الروحية هذين، وهو لم يسمح للأمير الذي كان مربِّيًا له بأيِّ لَعِبٍ أو بِطالة.

والحقُّ أنه لا ينبغي أن يُعَدَّ توراةَ عصر النهضة كتابُ مَكْيافِلِّي، كتابُ «الأمير»، الذي مَلأ أفكارَ القرون الآتية، وخيالَ الملوك المعاصرين أيضًا، فقليلٌ مَنْ كانوا يَعْرِفونه في ذلك الحين، وقليلٌ مَن استَوْحَوْه. والواقعُ أن مَكْيافِلِّي لم يُعَلِّمُ شيئًا كان لا يُشْعَرُ به منذ أقدم القرون، والقرونُ الوسطى مع «بلد الرَّبِّ» فقط، هي التي كانت لا تذْكُر ذلك، وكلُّ ما هو جديدٌ في مَكْيافِلِّي هو إصرارُه الكلبيُّ ضدَّ الأدب النصرانيِّ، وقد حَرَّك هذا الإصرارُ وهَمَزَ شَهَوَاتِ القُرَّاء الطامعين في السلطان، وقد عاش الكُبَرَاء من الأمراء وَفْقَ مبادئ مَكْيافِلِّي قبل ظهوره وبعد ظهوره وإنما كانوا يحترزون من الاعتراف بذلك.

وقد عَبَّر عصر النهضة عن حقائقَ مكنونةٍ في جميع القلوب، وكان الصَّدَى المُحَرِّكُ للأحرار من القوة ما صار الأساقفة يَنْتخبون البابواتِ معه من الأحرار المُفَكِّرين، ولَسُرْعان ما مات البابوان السَّوْداوِيَّان التقيان اللذان شَغَلَا الكرسيَّ البابويَّ بين بابوات عصر النهضة الثلاث العظماء فَعُدَّ موتهما السريع رمزًا لروح زمانهما. وكانت القرون القديمة تَلُوح بين هذه الحياة الفَيَّاضة مثلَ نجمٍ مُذَنَّبٍ ظَهَرَ حديثًا ليهتديَ به الملَّاحون المغامرون في بحارٍ هائلة، ويموت مَكْيافِلِّي فيُحْكَى أن قِدِّيسين من الجنة وقُدَماءَ من جهنم بَدَوْا له، ويسأله الرَّبُّ: أين يريد أن يذهب؟ فيجيب قائلًا: «أُفَضِّلُ النِّقَاش السياسيَّ مع عظماء جهنم على سَأَمٍ يعتريني في الجنة من أناسٍ لا طَعْمَ لهم.»

وكان لقادة عصر النهضة، على العموم، رءوسٌ صغيرة وأنوفٌ كبيرة وأفواهٌ شَهْوانية، وكان كلُّ شيء لدى مَكْيافِلِّي مُقَرَّنًا رقيقًا، حتى إن فمه كان مضغوطًا، ولم يكن لدى الإسبانيِّ إسكندر بُورْجيا ما هو إسبانيٌّ غيرُ ولده، ويُذَكِّر رأسُ ليونَ العاشرِ المِدِيسِيسِيِّ الرزينُ بجَدِّه كُوم، ويَنِمُّ يُولْيُوس الثاني، الذي رَسَمَه رفائيل أميرًا محاربًا، على ملامحَ قليلةٍ لعالِم ولجامع آثارٍ فنية. ومن حظِّ هؤلاء أن خُلِّدوا من قِبَل أعظم مُصَوِّري العصور، وهم أهلٌ لذلك، فقد أعانوا هم وأجدادُهم، كحُمَاةٍ للعلم والفَنِّ، على نشوء هؤلاء النوابغ مُعِدِّين السبيلَ لهم بتوصياتهم، ولم يُدْفَع شيء إلى ميكل أنجلو، وقد غَرَّ بَرامَانْتَ حاميه، وقد اضْطُرَّ رفائيلُ، الذي أَسْعَدَه الحظُّ، إلى المطالبة مراتٍ كثيرةً بدفع ثمن الألواح التي رسمها لحساب أناسٍ من ذوي المقام الرفيع، ومع ذلك لم يكن هذا ذا أهمية كبيرة، فلم يكن المال في الحقيقة ليِفْتِن مُتَفَنني ذلك الدور وأمراءَه، وما كان من عدم عبادة المال في ذلك الزمن الذي انهمك الناس فيه بأطايب النِّعَم ظَلَّ من أسرار عصر النهضة. وبهذا يَتَجَلَّى الفرق الأعظم بين ذلك العصر وعصرنا ضِمْن النِّطَاق الذي نُجِلُّ فيه مُثُلَ دور النهضة العليا، ومع ذلك فإن مستوى حياة هؤلاء المتفننين يَنِمُّ على رغائبَ أعظمَ مما كانت قبلهم ما صار المتفننُ سيدَ نفسه نتيجةً لإظهارِ عصر النهضة جمالَ الأغارقة، وكان جميع الناس يَصْبُون إلى العِزِّ والمجد، ولم تكن النساءُ وحدَهنَّ هُنَّ اللاتي يُضَحِّين بمالهِنَّ تخليدًا لجمالهنَّ.

وكان الفنُّ والذهنُ في إيطاليةِ عصرِ النهضةِ، كما في أثينةَ الكِلاسيَّةِ،٣٣ يَشْغَلَان المكانَ الأول، وهذا يُوضِح ما نِيلَ من نتائجَ خالدةٍ نتيجةً لبحث عالَمِ ذلك الحين عن المتفننين واحتياجه إليهم، لا نتيجةً لظهور بعض المتفننين ظهورًا مفاجئًا، وتَمِيزُ هذه الحالُ الروحيةُ دَوْرَ النهضة من عَهْدِ الإمبراطورية الرومانية الثقيل الخانقِ حين كان الأباطرة والإمبراطورات يَشْعُرون بلذةٍ خاصةٍ في مخادعة بطائنهم مُبْدِين من المناظر ما هو لا خُلُقِي غيرَ تاركين للأعقاب من التراث ما هو ذو قيمة.

وكيف كان عدمُ غُدُوِّ أيةِ امرأةٍ من نساء تلك القرون الرومانية نَمُوذَجًا أو مثلًا عاليًا يُحْتَذَى؟ إن عصر النهضة وحدَه هو الذي تَطَلَّب منذ عهد الأغارقة أناسًا موهوبين أو قادرين جعلوا من حياتهم أثرًا فنِّيًّا صالحًا ليكون منظرًا لمعاصريهم ومثالًا للذراري. أَجَلْ، إن أعمال أعاظم الرجال أُنْجِزَت بوحيٍ من الخُلُود، غير أنهم لم يَرَوا الخُلُودَ من خلال الجَنَّة النصرانية، وقد شَغَلَ إنشاءُ كنيسة القديس بطرس في ذلك الحين بالَ الناس أكثرَ مما شَغَلَهُ فتحُ فرنسة لمملكة نابل أو إضاعتُها لها، فكنيسةُ القديس بطرس كانت أثرًا فنيًّا ورمزًا، ولم يكن غزو نابل غيرَ حادث عارض. وكان المعاصرون يُبْصِرُون ما نُبْصِرُه بعد خمسين عامًا، فنقابل معارك أَنْجُو ونابل بعدم الاكتراث على حين تخاطِب كنيسةُ القديس بطرس أفئدتنا على الدوام.

أَوَلم يَحِقَّ للمتفننين في ذلك العصر الزاهر أن ينحازوا إلى الذي يساعد على إنماء عبقريتهم؟ لقد هجروا كلُّهم، تقريبًا، المولى أو الكريمَ الذي كان يَخْسَر سلطانَه أو يصبح عاجزًا عن الإنفاق في سبيل جهودِهم المُبْدِعة، ومن قول مَكْيافِلِّي «إن الحظَّ هو القدرةُ على رؤية الأمور كما هي»، ولم يكن مكيافِلِّي نفسُه من أصحاب الحظِّ وإن كان أكثرَ من جميع معاصريه بصيرةً على العموم. ومع أن القرون القديمة كانت تُخْبِرُ عن الآلهة الحاسِدة التي كانت تطالب الآدميين بأن يقدِّموا إليها قرابينَ متطوعين، كان رجل عصر النهضة هذا قابضًا على كل ما يمكن أن يأتيَه به النصرُ والحكمةُ والنجاح، ثم كان يسأل القَدَرَ مُنَجِّمًا أو مفتئلًا!

وكان القائدُ المنصور مع المتفنن سيدَ العصر؛ أي القائدُ، لا المولودُ أميرًا، ومع ذلك فإن نظر الزمن لم يكن ليتوجه إلى رئيس الجيش الذي يَخْتِم مُوَفَّقًا حربَ سنين كثيرة، بل كان صاحبَ الحُظْوَة هو قائد المائة المرتزقُ الذي يَكْسِبُ عِدَّةَ معاركَ قصيرةٍ ويُغَيِّر رئيسَه غيرَ مَرَّةٍ. ومما كان يُسَهِّلُ أمرَ تغيير القائد اشتراكُ الجميع في حضارة واحدة وعدمُ احترابهم في سبيل مبادئَ أو دينٍ، وذلك إلى أن المتفننين هم الذين جعلوا هؤلاء الرجال من العظماء، ولا ريب في أن يوليوس قيصر كان يَظَلُّ كما هو ولو لم يَنْتَهِ إلينا عنه تمثالٌ نصفيٌّ ولو لم يجعل شكسبيرُ منه بطلَ إحدى مآسيه، ولكن مَنْ ذا الذي كان يَعْرِف، حتى في إيطالية، اسمَ غاتَّا مِيلَاتا أو اسمَ كُولِّيُوني لولا آثارُهما؟

ولم يقاتل أحدٌ من هؤلاء الرؤساء في معاركَ شهيرةٍ، بل كانوا ملتزمي حَرْبٍ فيُؤْجِرُون كتائبَهم من الأكثرِ دفعًا، بل كانوا تجارًا يبيعون حُظُوظَ الحرب، ومن ذلك أن نبيلًا أعسرَ، وكان اسمُه كولِّيُونِي، فصار عاشقًا لإحدى الملِكات بفضل قَوَامه الرائع، وكان له ما يَحْمِيه لهذه العلة، ثم حُمِلَ على مناهضة البندقية بفعل آل فِيسْكُونْتِي بميلانَ، ويعتقله هؤلاء فيَفِرُّ من سجنه، ويُمثِّل دور الوسيط بين الخصمين، وينال أملاكًا كبيرةً مكافأةً، ويقيم بالبندقية في مشيبه إقامةَ الأمراءِ مُعَلِّمًا شُبَّانَ الضباط مَدْعُوًّا إلى موائدِ أكابر الناس، وينشئ وقفًا لتجهيز الفَتَيات الفقيرات في بِرْغام، ولا يزال هذا الوقفُ قائمًا حتى اليوم، وكان الأعقابُ يَجْهَلون هذا السَّرِيَّ لو لم يُقِمْ له فِرُّوكْيو أجملَ تماثيلِ الفرسان بجانب جدارٍ وَعِرٍ من جُدُر كنيسةٍ في البندقية.

وعَمِل آل فِيسْكُونتي على رفعِ صيتٍ آخر، وكان هؤلاء الآل مغامرين فتَغَلَّبُوا، في بدءِ الأمر، على أُسقفية ميلان، ثم على مدينة ميلانَ كلِّها مُحَوِّلين إياها إلى دوكيةٍ قويةٍ عن طالِعٍ فصاروا سادتَها المطلقين، وهم، وإن ملئوا ألقابًا وامتيازاتٍ، لم يَغْدُوا خالدين إلا لأنهم أخذوا يُنْشِئون كنيسةَ ميلان التي هي من عجائب الدنيا، ويظَلُّ مُوجِدُ هذا الأثر منقطعَ النظير كمؤسس دولةٍ، ومع أن هذا البِنَاءَ لم يتمَّ إلَّا في أربعة قرون، كالإمبراطورية الرومانية، فإن مؤسسيْ كلا الأمرين، فيسكُونتي وقيصر، كانا أولَ مَن تَمَثَّلا عملَهما على نِسَبٍ واسعة المَدَى. وقد كان للكنيسة، كما كان للإمبراطورية الرومانية، بَنَّاءُون متفاوتون استعدادًا، وكان هذا البَنَّاءُ أو ذلك يَمْزُج الطُّرُز، وما في الكنيسة من رُخامٍ ورديٍّ تنيره الشمس يلوح لنا أحيانًا مثلَ حُلُم الحَلْوَانِيِّ الذي يَتَلَهَّى بصنع أبراجٍ صغيرة ونُقُوشٍ وزخارفَ خيالية، وتَظَلُّ الكنيسة، داخلًا، أروعَ معابد الدنيا.

ويظنُّ الإنسانُ دخولَه في ظِلِّ غابةٍ ذات أشجارٍ قديمة تَنْتَصب سُوقُها نبيلةً متوازية على فواصلَ منتظمةٍ على حين تَتَّسِعُ ذُرَاها حتى يتصلَ بعضُها ببعض، وتَغْمِس ألوانُ النوافذ الزاهرةُ تلك الكنيسةَ في جَوٍّ ذي أسرارٍ فيُذَكِّرُ بكنيسة شارْتِر، ويَجْعلُ هذا من الغابة الرُّخامية مكانًا لجَمْعِ الأفكار والحواسِّ لا تَجِد مثلَه في كنيسة القديس بُطْرُس ولا في أَشْبِيلِيَّة، ولا في القسطنطينية أيضًا. ومع أن الجُدُرَ العاليةَ في كنيسة ستراسْبُرْغ أو كنيسة نوتردام دوُباري تَفْصِل الصَّحْنَ فإن النظر لا يُؤْذَى من خِلَال هذه الأشجار الماردة نتيجةً لتركيبِ الأَثر أو للزخارف أو للصُّوَر أو للأعلام، وتَرَانا نُدْهش ببساطة الداخل الأصيلةِ بعد الإسراف البِنَائيِّ المزعج في الخارج، ومن لم يَسْطِع أن يجد الرَّبَّ في هذه الغابة الغَسَقِيَّة٣٤ يَكُنِ الرَّبُّ تاركًا إياه لا ريب.

والواقعُ أن جميع هؤلاء المغامرين كانوا ذوي مبدأٍ عن الدولة كآل فِيسْكُونتي، وقد حَرَّكهم البابا يُولْيوُس الثاني في بِضْعِ سنين بوَغِي الحرب: «أَخْرِجوا الأَجانبَ!» وقد كُتِبَ النصر في نهاية الأمر للشعور القوميِّ الإيطاليِّ والحِلْفِ الجديد الذي عَقَدَه البابا مع إسبانية والبندقية على ملوك ألمانية وفرنسة، ومع ذلك فإن المجمع الدينيَّ الذي عُقِدَ بعد النصر عَجَزَ عن توحيد إيطالية؛ أي عن القيام بأمرٍ لم يُحَقَّق إلَّا بعد ثلاثة قرون ونصف قرن.

ولم تَسْطِع المُثُلُ القومية العليا، ولا المبادئ الدينية، أن تثير رجال عصر النهضة إِثارةً قاطعة، وعاد هؤلاء الرجال لا يُبَالون أن يكون الأمرُ قبضةَ غِلْفِيٍّ أو غِبْلِيٍّ، ولا أن تحالِف فِرَّارةُ فلورنسةَ، ولا أن يكون السويسريون أو الرُّومانْيُول٣٥ حماةَ البابا، ولا أن يُبْدِيَ السلطانُ نشاطًا بالغًا تِجاه البحر المتوسط، وما يملأ كُتبَ التاريخ حتى اليومِ من هذه الحوادث لا يثير اكتراثَنا كثيرًا. والحقُّ أن هذا الدورَ أَنْعَمَ علينا في حقلٍ آخرَ بنماذجَ خالدةٍ حَوْل حياتنا اليومية، أَنْعَمَ علينا بدروسٍ في فَنِّ الحياة.
ويُلَخِّصُ صديقُ لورانَ المديسيسيِّ المُتَصَوِّفُ بيكُ المِيرانْدُولِيُّ، في رسالته «كرامة الإنسان»، اعتقادَ ذلك العصر بقوله على لسان الرَّبِّ لآدم:

لقد وضعتُك في وسط هذا العالَم ليَسْهُل عليك أن ترى ما حولك فتبصرَ ما يُوجَدُ ضِمن حدوده، ولقد خلقتك شخصًا فانيًا وغيرَ فانٍ حتى تُكَوِّن نفسَك طليقًا وتُرَبِّيَ نفسك بنفسك، ويمكنك أن تصيرَ مثلَ الرَّبِّ، وتأتي الحيواناتُ معها بما تحتاج إليه منذ خروجها من بطون أُمَّهاتها، ويكون ذوو النفوس العالية منذ البُداءة ما يَكُونونه في سَوَاء الأبدية، وأنت وحدَك تَقْدِر على إنماء نفسك وَفْقَ إرادتك الحُرَّة.

١٣

من الصعوبة الكبيرة أن يُشَخَّصَ عصرُ النهضة في رجلٍ بارز كبرِكْلس أو أغسطس أو جُوسْتينيان أو فردريك الثاني، ولم يكن لُورانُ المِديسِيسِيُّ بأَلْمَعِيَّتِهِ وبهاءِ بَلاطه غيرَ ربيع مُبَشِّرٍ بالصيف، ولم يبدأ عصر النهضة إلَّا بعد موته. وكان إسكندر بُورْجيَا على شيء من البربرية على الرغم من كلِّ أمر، وكان البابا ليونُ العاشرُ والكريمُ يوليوسُ الثاني وفرديناندُ الأول رجالًا مركزيين كأولياءِ أمرٍ، وكان لُودُوفِيكْ سفُورْزا مغامرًا ناضرًا، وكان سِزَار بُورْجيا قائدًا ذهنيًّا، وكان مَكْيافِلِّي فيلسوفَ زمنه، وكان تِيسْيان ألمعَ متفنني عصره، وكان ميكل أنجلو أكثرهم تنوعًا.

ولم يكن ميكل أنجلو الذي وصفناه في موضعٍ آخرَ غير نَحَّات في الحقيقة، حتى إنه كان يَنْحَت صُوَرَه حين الرَّسْم، حتى إنه كبَنَّاءٍ كان ينقش قبةَ القديس بطرس في الرُّخام، حتى في سبيل إقامة هذه الكنيسة كانت صفةُ النَّحَّات فيه أَبْرَزَ ما يَبْدُو، وعلى العكس كان هذا الفَنُّ نفسُه يَنِمُّ عليه فيَضُرُّه أحيانًا، ومن ذلك أننا نُضْطَرُّ في بِيعَةِ سِيكسْتين دومًا إلى قَلْبِ الصور المرسومة في القطعة الرُّخامية من بُعْدَين إلى ثلاثة أبعاد، وفي ميدان الشعر أكثرُ ما يبدو ميكل أنجلو مُصَوِّرًا.

ولا مِرَاءَ في أن الرجلَ الذي لا يَعْتَرف له بغير نُبُوغٍ محدودٍ، والذي لا يَعُدُّه إلَّا كمُصَوِّرٍ للحُبِّ ومِنْ ثَمَّ للفَتَاء مثلًا، يكون جاهلًا حَوَّاءَ المُصَوَّرَةَ في بِيعَةِ سِيكسْتين أو جاهلًا الوجوهَ المنحوتَةَ حَوْل «الليل» و«الشَّفَق» على ضريح آل مِدِيسيس بفلُورَنسة؛ أي الوجوهَ المنقطعةَ النظير جمالًا نِسْويًّا، ولم يَظْهَر منذ عَصْرِ الأغارقة مَنْ فاق ميكل أَنْجلو في فَنِّ نَحْت الرُّخام، وهو إذ كان يتردَّد إلى الجبال القريبة من كارَّارا قضاءً لوقته فإنه تَمَثَّلَ بخياله بعضَ الوجوه في قطعةِ رُخامٍ، وهنالك فَصَل هذه القطعةَ التي أبصر بها رسمَ أَثَرِه.

ومع ذلك فإن لِيُونَار دفنْسِي هو أبرزُ وَجْهٍ في عصر النهضة، ولم يُدَانِه أحدٌ شهرةً، وتَجِدُ لِيُونَارَ جَمَّاعًا لكلِّ مَن كان البابواتُ يَقْدِرون على جمعه حَوْلهم من المُبْدِعين، ولم يكن جميعُ ما حَصَّله المتفننون في ميدان الفنِّ، وكلُّ ما وَسَّعه ميكل أَنْجلو بادِئًا من التصوير حتى قُبَّةِ الكتدرائيةِ مارًّا بالتمثال، غيرَ قسمٍ من أثر ليونار، والعالَمُ يَجِدُ فيه مُصَوِّرًا، وهو كان يُحِبُّ أن يُعَدَّ مُخْتَرعًا، والواقعُ أنه كان في وقت واحد فيْزيَوِيًّا مماثلًا لغَلِيلو ورياضيًّا مساويًا لفيثاغورْس وفلكيًّا عظيمًا مثلَ كوبرْنِيك ومهندسًا حربيًّا يَسْمُو إلى أرشميدس وعبقريًّا صِناعِيًّا يفوق إِدِيسُن.

وقد أنشأ لدوكِ ميلانَ مدافعَ وجُسُورًا عائمة وسُمُطَ ألغامٍ، وقد تَمَثَّلَ أُولَى الدَّبَّابات، فكانت هذه الآلاتُ تشابه السَّلَاحفَ أو السَّقُفَ المزدوجةَ مع ثُقُوبٍ في دُرُوعها وخَيْلٍ في داخلها، وقد رَسَم تصميمًا لبلاليع فلورنسة واخترع مداخنَ عصريةً وأبوابًا تُغْلَقُ آليًّا وسَفَافيدَ٣٦ تَعْمَل بالهواء الحارِّ، وما وضعه من تصاميمَ عن تَقْنِية٣٧ تِيسيان وأَرْنو وساوُن عُمِلَ به وَفْقَ خرائطَ مماثلةٍ له، تقريبًا، بعد ثلاثة قرون أو أربعة قرون، وكان أَوَّلَ مَنْ صَوَّر أجراسًا غطَّاسة وطائراتٍ وهابطاتٍ٣٨ وغواصاتٍ ومدافعَ بخاريةً، وصنع بارودًا وأنشأ قِدْرًا زجاجيةَ وجهازًا للتقطير، وصَنَع أيضًا مناشيرَ ميكانِيَّةً٣٩ وأَنْوالًا للحِيَاكة ومَجَازَّ للشَّعْر وآلاتٍ للغَسْل ودواليبَ للخَزَف، وأنشأ آبارًا ارتوازية، ويَرْجِعُ إليه فضلُ الميزان والمِرْآة المُقَعَّرَة والرَّقَّاص، ووَجَدَ صَدَفًا على رأس الجبال فغدا أبًا لعلم المستحاثات ولنظرية الطبقات الصخرية والمتحجرات، واكتشف قانونَ سرعة سقوط الأجسام قبل نِيُوتُن بقرنين كما اكتشف سرعتَها الحقيقية قبل غلِيلو، ووَجَدَ عِلَل الزوابع ودَوَرانِ الماء كما وَجَدَ ناموسَ الشَّعْرِية، وكان مؤسسَ علم المياه، وَطَبَّقَ على الصوت والنُّور نظريةَ اهتزاز التموجات، وقَدَّر التموجاتِ الرَّانَّةَ وفَسَّرَ الصَّدَى وانسجامَ المجسدات٤٠ الصاعدة، وأدرك وظيفةَ عدسةِ العينِ وشَبَكتِها.

وما كانت عبقرية القرون الوسطى لتبلغَ مثلَ هذه المعارف التي انتهى إليها عصر النهضة عن إيمانٍ بالطبيعة والتجرِبةِ الطبيعية، وهكذا استطاع لِيُونار دَفنْسي، مثلًا، أن يُطَبِّقَ المِنْهاجَ التجرِبيَّ قبل بِيكنَ بزمنٍ طويل، استطاع أن يُطَبِّق هذا المِنْهَاجَ الذي لم يَتَّخذه الأغارقةُ إلَّا على شكلٍ ابتدائيٍّ، ولَمَّا ذابت عقيدة القرون الوسطى بفعل نور العِلم وأصبحت التجرِبة وحبُّ الاطلاع وبهجةُ الحياة عَوَامِلَ إبداعٍ استردت الحواسُّ مكانها الطبيعيَّ، واستطاعت العين التي أدركت الطبيعةَ أن تؤديَ إلى اكتشافاتٍ قائمةٍ على الترصد والمشاهدة، وتدفقت سُنَنُ الطبيعة من مَوْج اختراعات البَحَّاثة ليونار كأسماك من ذهبٍ، ولو ظهر ليونارُ قبلَ قرنٍ لتَعَذَّر عليه كلُّ اتصال بالطبيعة التي نَشَدَها مَدَى حياته لعَدِّه بذلك من الملحدين في ذلك الحين.

وقد شَملت نَشْوَةُ الحرية الذهنية جميعَ البحر المتوسط في ذلك الزمن، ولم تَصِلْ إلى الشمال، فكانت كالنسيم العليل الذي تثيره الأمواج الخفيفة المُنَارَة بالشمس. وكان الدكتور فاوسْت قد اضْطُرَّ، قُبَيْلَ عصر ليونار دفنْسي، إلى الاختفاء في ألمانية خَلْفَ أَقْنِعَةٍ ودساتيرَ. ومن الواقع أن ليونارَ نفسَه احترز من إطْلَاع العالَم على اكتشافاتِه العميقة فاستعمل، عن حَذَرٍ، كتابةً ذاتَ حروفٍ معكوسةٍ إمساكًا لليومية المشتملة على جميع عِلْمه، ومع ذلك فقد وجَدَ حَوْلَه رجالًا أَيْقَاظًا كانوا جادِّين مثلَه في اكتشاف طائفةٍ من المعارف، فكأن القومَ في كنيسةٍ حُرَّةٍ فاسحةٍ في المجال للباحثين، وقد عُهِدَ إلى كَهَنُوتيٍّ أن يقرأ للبابا في حديقته كتابَ كِبلِر الذي ناقضَ التوراةَ فيه حَوْل وَضْعِ الأرض في مركَزِ الكَوْن، وكان ذلك العصرُ يتقبَّلُ أبطالَ الانقلاب الفكريِّ مستطلعًا باسمًا مُتَرَقِّبًا.

إذَنْ، لم يَعُد ليونارُ ساحرًا. إذَنْ، بدا ليونارُ لمعاصريه فِزْيَوِيًّا عالِمًا مخترِعًا، وكان ليونارُ يُقَدِّر جَمَالَ الرجال وحُسْنَ البِزَّة فيَتَنَزَّه في شوارع ميلانَ مصاحِبًا بعضَ التلاميذ الفاخري الثياب أحيانًا، وكان مِثْلُ هذا الوضعِ ملائمًا لروح العصر فلم يَكُ وقفًا على البَلَاطات، وما هو واقعٌ من كونه «مُصَوِّرًا عَوَّادًا» لم يَذْكُرْه إلَّا في آخر كتابٍ يلتمس فيه وظيفةً، فلما صار مُوَظفًا لدى آل بُورْجيا أصبح لقبُه الرسميُّ «مهندسَ الحُصُون العامَّ»، وقد صَوَّرَ للدوك سفُورْزا الميلانيِّ نساءً حِسَانًا وخَطَّطَ له تماثيلَ فُرْسانٍ، وقد اخترع مفاجئَاتٍ مضحكةً لمواكب الأَعراس؛ حيث يجعل أُسودًا آليةً تَرْكَع، وقد نَظَّمَ مجاريَ أنهارٍ وأنشأ آلاتٍ لحِصار الأمكنة الحصينة. ومعارفُ مُنَوَّعَةٌ مثلُ هذه مما كان شائعًا في ذلك العصر، غير أن ليونارَ كان جامعًا لها أكثرَ من سواه.

أَجَلْ، إنه كان عَدُوًّا للحرب، غير أنه كان يَعْرِف، بما هو سائدٌ للعصرِ من الكَلْبِيَّة، أن يَفْصِل معتقداتِه عن حقائق الحياة، وكان لا يبالي بلَوْن الفريق الذي يَخْدِمه في الحرب، ولا يَشْغَلُ ذهنَه بمن يَخْرُج من القتال غالبًا، وكلُّ ما كان يرغب فيه هو أن يمارس مواهبَه وأن يَحُثَّ استعدادَه الذهنيَّ وأن يعيش هادئًا غيرَ غنِيٍّ في عالَم من الحرية والجَمَال، ويُغْلَب سفُورْزَا، الذي قام بخدمته زمنًا طويلًا، ويُعْتَقَلُ، فينحاز ليونارُ إلى الغالب ويُحَوِّل تمثالًا، كان قد أَعَدَّه منذ سنين لآل سفورزا، إلى أَثَرٍ مجيدٍ لخصومهم آلِ فِسْكُونْتِي، وهكذا غَيَّرَ سادته ثلاث مرات سائرًا مع الغالب ما دام الجميع يَغْدُون رؤساءَ، وعلى مَنْ يميل إلى وصف هذا الوضع بالخِداع أَلَّا يَنْسَى خيانةَ السادةِ الذين يَتَخَلَّوْن عن المُتَفنِّن في دور أُفُولِه كما يصنع ذلك ناشرو الزمن الحاضر، وكان اعتمادُ كلِّ نابغةٍ على نفسه من النشوءِ ما يقابِل المتفنن معه ثِقَتَه الذاتية بغَدْر الأمراء والأقوياء.

وما كانت القرون الوسطى تجهله من شعورٍ بالحرية الشخصية بَلَغ درجاتٍ رفيعةً في روح ليونار، وما كان ليونار ليستطيع تغيير المجتمع، ولكنه كان إذا ما أبصر عصافيرَ في قفصٍ اشتراها وأطارها، ومن مبادئه أن العمل والنشاط والحياةَ أمورُ تجرِبةٍ فيُسَخِّرُ عبقريتَه العظيمة لنفسه من بعض الوجوه، لا إرضاءً للرَّبِّ بأعمال التقوى ولا خدمةً للأقوياء ما لم يَدْفَعْ أحدُهم إليه مالًا. وما كان من عَدِّه الحياةَ تجرِبةً شاطرَه إياه عبقريُّ آخر، شاطره إياه غُوتِة الذي كان يَعُدُّ نفسه صورةً رزينةً لِلِيُونَار دَفنْسِي، وما كان من بقاء أثَرٍ لغُوتِة أكثر من بقاء أثرٍ لِليُونَار لم ينشأ عن انقلاب الحروبِ الدائم مَدَى حياة هذا الأخير فقط، بل تَجِد سببًا لذلك أيضًا في تجارِب المُصَوِّر الكيماوية حَوْل الألوان كما تَجِدُ لذلك سببًا آخر في تلك القناعة الذاتية التي لم يبحث بها عن الفوز الخارجيِّ مكتفيًا بالإيداع في يوميته، فبهذا وحدَه كان يختلف طابع عصره، وهو الوحيد الذي لم يَبْتَغِ المَجْدَ في دور النهضة.

ولهذه الأحوال لم يَبْقَ للأعقاب غيرُ تسعةٍ من ألواحه، ومن هذه الألواح تُرَى خمسةٌ فقط صحيحةً سالمةً، وقد صَوَّر جميعَها في أواخر عُمُره، وتَجِدُ أربعةً منها في مُتْحَف اللوفر، وتجد «العَشَاء السِّرِّي»، الذي هو صورةٌ جداريةٌ، في ميلان حيث يَتَفَتَّت يومًا بعد يوم، ويزول رَوْنَقُ الألوان منذ زمن المصوِّر، ويتشابه جميع هؤلاء النساء والفِتْيان، ولا يُمَيَّزُ بعضُهم من بعضٍ تمييزًا تامًّا من حيث الجنسُ أيضًا، ويشتركون كلُّهم في الدَّعَر الذي تَنِمُّ عليه ملامحُهم الباسمة كما في آثار ميكل أنجلو، ويَظَلُّ الحُبُّ، الذي أُبْلِغَ في هذه الوجوه إلى أقصى درجات اللُّطْف، دنيويًّا، ولا تَدُلُّ هذه الأفواه والعيونُ والخدودُ والأكتاف على التواضع بل على مقدارٍ كبير من الرِّقَّة. وكان جميع هذا ممكنًا في دور النهضة، وذلك مع غرائزَ سليمةٍ تمامًا، وذلك كالقديس يوحنا المِخْنَاث الذي صَوَّره ليونار في آخر عَهْدِه فيمكن أن يُسَمَّى ديُونيزُوسَ أيضًا، وقد تكون القديسةُ حَنَّة أجملَ من جميع هذه الأشكال حين تبتسم لابنتها ولابن بنتها فتلائم تعريفَ غُوته إياها بقوله: «إنها تعلو الشهوانيةَ من الناحية الشهوانية.»

وإذا ما عارضنا هذه مع أخته الغامضةِ الأمرِ مُونَاليزا، وجدنا صورةَ امرأة أخرى انتقلت إلينا من ليونار، وَجَدْنا صورة إيزابِلَّا الإسْتِيَّة التي رَسَمَها بالأحمر من الطَّباشِير في ساعة واحدة مع أنه قضى أربع سنين في رسم صورة مُوناليزَا، ولا تعلو ابتسامةٌ وجهَ إيزابِلَّا التي هي أصغر سِنًّا عشرَ سنين والتي هي أكثرُ احتشامًا واتزانًا، ولا تُبدي إِيزابِلَّا غيرَ جانب من وجهها، ولا يكون لملامحها الغَضَّة التي هي في دور التكوين غيرُ جاذبيةٍ أقلَّ من تلك أَولَ وهلة، بَيْدَ أنه ينشأ عن الجِيد الرائع النابتِ على رسمٍ واحدٍ، وعن شَلَّال الشَّعْر المَعْدنيِّ الذي يَكْسُوه كخوذَة، وعن استقامة الوَضْع، وعن نور البصر، وعن طَلاقَة الوجه، شخصيةٌ مُتَوَقِّدَة مسيطرة على الحياة ساطعةٌ من غضون القرون.

وهذا هو أمرُ أجمل نساءِ ذلك العصر وأقوى رجاله، وهذا هو أمر دور النهضة.

١٤

تغادر المُقَدَّم الجَنُوبيَّ من القصر الأميريِّ سفينةٌ ذهبيةٌ عاليةُ الأطراف ومُزَيَّنَةٌ بصور ساطعة وأعلام حريريةٍ، وتَبْتَعدُ السفينةُ عن الشاطئ وتَتْبَعُها مئاتٌ من السُّفن الصغيرة، وذلك ذاتَ صباحٍ من مايو، وذلك في عيد القيامة، وقد احْتُفِلَ لأول مرة بهذا العيد، الذي هو أهمُّ أعياد البندقية، حَوالَي سنة ١٠٠٠، وذلك عندما احتفل الرئيس رسميًّا بفتح ساحل دَلْماسية، وما فَتِئَت السفينة المُزَيَّنَة بأبهى زينة في مثل ذلك اليوم من كلِّ سنة تَنْطلق متوجِّهةً نحو الجُزُر، وتتقدم السفينة والمجاديف، ولكن مع ظهورها زالِقةً، والبطوءُ النبيل من آيات البندقية، وتَقِف السفينةُ في البحر ذاتَ مرة، وينتصب الكردينال اللابسُ غَفَّارَة٤١ حريريةً بنفسجية بارزًا بين كثير من الزخارف التي تُزَيِّن حَيْزُوم٤٢ السفينة، ويرفع يديه ضارعًا إلى الله «أن يجعل البحر هادئًا لنا ولجميع المسافرين على البحار.»

وترى الرئيس جالسًا بجانبه مُحاطًا بأعضاء مجلس السِّنات، ويَلْبَس الرئيس مِعْطفًا ذهبيًّا وعَمْرَةً بيضاءَ مُذَرَّبةً، ويَنْهَضُ ويُنْشِد القساوسةُ، ثم يَسُودُ صمتٌ، وتَشْخَصُ الأبصار، وتَخْتَلِج القلوب، ولا يُبْدِي أحدٌ حَرَاكًا، ولا يبالي البحر بما هو واقعٌ، ويداوم البحر على لَطْم جوانب السفينة، ويسير الرئيس نحو الشبكة ويرفع يدَه اليُسْرَى ويَنْزِع منها خاتَمًا ذهبيًّا ثقيلًا قديمًا مُرَصَّعًا بحجارةٍ ثمينة، ويُمْسِكُه عاليًا ليَرَى التماعَه كلُّ واحدٍ على نور الشمس، وهنالك يَخْفِض ذراعَه ويَصْرُخ قائلًا: «أيها البحر، نتزوجك بهذا الخاتَم!» ثم يقذف بالخاتَم بين الأمواج.

تلك هي أعراسُ البندقية بالبحر الأدرياتيِّ، وقد جُدِّدَت ستَّمائة مرةٍ في ستَّمائة سنة، ويرقد ستُّمائة خاتَمٍ في قعر مياه البندقية، وهل عَنَّ لغَوَّاصٍ أن يبحث عنها؟

والبابا إسكندر الثالث هو أول مَنْ لاحت له فكرة هذه الأعراسِ الشِّعْريَّةُ، ومن المحتمل أن يكون قد أَوحى إليه بذلك أحدُ شعراءِ بَلاطه أو خليلتُه، والبابا هو الذي رَغِبَت البندقيةُ وقتئذٍ في الشُّكْر له مساعدتَه على بارْبارُوس، وتغدو السفينةُ الذهبية أكثرَ زهاءً مع السنين، شأنُ شعائر الدولة الخارجية التي تَزِيد زُخْرُفًا كلما قَلَّ سلطانُ هذه الدولة، ولم يَدُرْ مثلُ ذلك الرمزِ الظريف في خَلَدِ أحدٍ من سادة البحر المتوسط ولا في خَلَدِ أحدٍ ممن شقُّوا عُبَابَه وفتحوا سواحلَه، وقد أراد دارا الهمجيُّ أن يُقَيِّد البحر المتوسط بالأغلال ذاتَ يوم، وقد اخْتَطَبَ رئيسُ البندقية هذا البحرَ باسم مدينته.

أَجَلْ، كان جميع الناس يَبْتَهِجُون فوق تلك السفينة الذهبية، غير أن مئاتٍ من الآدميين في الأسفل، في القعور حيث لا يَنْفُذ نُورُ النهار، كانوا يَقْضُون حياةً جهنمية، وكان الغَمُّ يُلِمُّ بهؤلاء الرجال دومًا فيَلْزَمون جانبَ الصمت فلا يُعْرَف أيُّ الأفكار كانوا يُرَدِّدُون في ذهنهم، وكان هؤلاء من المحكوم عليهم بالأشعال الشاقة فيَظَلُّون مَدَى حياتِهم مُقَرَّنين في الأصفاد على مقاعدهم ليلَ نهارَ، وكان هؤلاء لا يَسْمَعون غيرَ صَلِيل سلاسلهم ولا يَرَوْن غيرَ مَنْ هم بجانبهم وغيرَ عُرَفائهم فلا يَرْجُون شيئًا سوى الموت. وكان هؤلاء العبيدُ، الذين يُسَيِّروُن جميعَ مراكب البحر المتوسط تقريبًا، يشابهون أوتادَ «البلدِ البحريِّ» التي تتفتت وتَعْفَنُ في الماء مع قيام أروع قصور البندقية عليها، وكان هؤلاء يدفعون سعادتهم وكرامتَهم الإنسانية ثمنًا لِثَمَل «النهضة». وكان هؤلاء كزمر المُعَدِّنين النَّشاوى الذين يَحْفِرون دهاليزَ تحت الأرض على حين يقوم ملوك الحديد والفحم بأمور التحية، في كل يوم، فوق أملاكهم على الخليج أو داخلَ ردَاه حَمَّاماتهم أو حول موائدهم المُغَطَّاة بآنيةٍ من فِضة.

وكانت الحضارة القديمة تقوم على الرِّقِّ، ولم يكن هذا مناقضًا قَطُّ لمبادئ الأدب السياسيِّ الأساسية التي لم تُغَيَّر تغييرًا جوهريًّا منذ زمن أفلاطون، ويرى أُومِيرُس وأرستوفان أن زُوس، وأبولونَ أيضًا، ينظران فَرحَيْن إلى الأرض حيث الملوكُ يتذابحون عن حقدٍ وحيث النساء يَضْنَوْن عن حسد وحيث العبيد يَفْنَوْن عن هُزَال، وعُدَّ الرِّقُّ نظامًا شَرْعيًّا ما امتنع الناسُ عن التصريح بأنهم إخوة، ووافق الإسلامُ نفسُه على الرِّقِّ.

وقد لَعَنَت الحضارةُ النصرانية مؤسسَ الرِّقِّ مع سماحِها به في البُداءة ثم مع إهمالِها حمايةَ العبيد، وقد اسْتَغَلَّت الحضارةُ النصرانيةُ هذه الحالَ فزاولت النِّخَاسَة بنفسها، ولو نظرتَ إلى البابا، أو الأُسْقُف، الذي يَتَّخذ من العبيد المُقَيَّدين بالأصفاد أداةً لسَيْرِ مركبه في وَسَط البحر المتوسط، ولو نظرت إلى بَطْرك القسطنطينية أو رئيسِ البندقية الذي كان يَدْعُو بالبَرَكة للسُّفُن المسافرة لإمساك الناس وبيعهم عبيدًا وإنشاءِ قصورٍ للصَّيَارفة بأثمانهم، لوجدتَهم أَشْقَى من الملاحدة الذين كانوا يُحَرِّقونهم على المواقد.

وكان الأجملُ أن يُكْسَب العدلُ بين أبناء الأب الواحد ثمنًا لتجريد الأرض من آلهتها ونَزْعِ أجملِ أساطيرها منها وحِرْمان الناسِ آلهةً كانوا يُحِبُّونها ويَخْشَوْنها ورَدِّ قُوَى القَدَر إلى قاضٍ لِلْكَوْن جَبَّارٍ واحدٍ، وإذا كانت المساواةُ مُتَعَذِّرَةً لِمَا بين الناس من تنافس فإنه طُلِبَ، على الأقلِّ، أدنى حَدٍّ خُلُقِيٍّ وأدنى حَدٍّ لكرامة الإنسان التي يَشْعُر بها كلُّ واحدٍ في نفسه عندما تُهَان.

وما كان من رَفْضِ دور النهضة للأدب النصرانيِّ أَسْفَر عن حُرِّية الناس في القتال والقتل، فمات بابا دورِ النهضة إسكندرُ بفعل سُمٍّ كان قد أَعَدَّه بنفسه، ولكن استرقاق المحكوم عليهم بالأشغال الشاقَّة، ولكن هذا الرِّقَّ الناظمَ للمِلاحة في البحر المتوسط، زاولته دولة قسطنطين النصرانية ودام أمره في البحر المتوسط مَدَى الدَّوْر الذي امتدَّ بين سنة ٥٠٠ وسنة ١٨٠٠، حتى إن الكنيسة كانت ترسل قساوسةً إلى السُّفن لتُقام فيها «قداديس المحكوم عليهم بالأشغال».

وكان يوجد بين الرجال الأربعمائة، الذين يُزْحِلُون بالمجاديف سفينةً متوسطة، ٢٥٠ رجلًا مُقَرَّنًا في أصفادٍ مُسَمَّرَةٍ في مَصَاطِبَ٤٣ ضيقةٍ، فيَجْلِسون عليها عُرَاةً تقريبًا، ويكون كلُّ سبعةٍ منهم بجانب مِجْدَافٍ بالغٍ من الطول اثني عشرَ مترًا جادِفينَ آكلين هاضمين نائمين في المكان عينِه ليلَ نهار، ويُمْنَعُون من الاستلقاء في السَّفَر الذي يدوم أَسابيعَ، ولا يُظَلَّلُون بسُقُوفٍ تَقِيهم شَرَّ العواصف والمطر، ولا يحقُّ لهم أن يُقِيمُوا بحُجَيْرةٍ في غير حالِ المرض، وتكون هذه الحجيرةُ ضيقةً بلا نافذةٍ إذا مَرِضوا فانتفعوا بها، ويُبْصِرون فوقَهم عريفَهم المسلَّح الذي لا ينفكُّ يقطع أعلاهم ذاهبًا آيبًا، وإذا ما حَلَّ فصل الشتاء استبدلوا السجنَ بمصاطبهم فيظَلُّون مُقَيَّدِين بسلاسلهم مع عُشَرَاءَ كُتِب عليهم الشقاءُ، وإذا ما ثارت الزوابع دَوَّتْ في السفينة أصواتُ مُصيبتهم، وإذا ما دارت المعارك شاهدوا العدوَّ يدنو منهم شاهرًا سيفَه فلا ينتظرون منه غير الذبح.
وكان لا يَجْرُؤُ أحدٌ على رفع الأغلال عنهم حتى في أثناء المعارك المميتة؛ وذلك لأن جَلَّادي المحكوم عليه المَغِيظِ المُحْنِقِ المتعطش إلى الانتقام هم أول مَن ينقضَّ عليهم، ولا عجَبَ، فالجلَّادون كانوا يَجْلِدون بالسِّياط مَنْ يتوعدهم أو يُحَمْلِق إليهم من المحكوم عليهم، ومع ذلك كان من النادر جدًّا أن يُقْذَفوا في البحر مع سلاسلهم لِمَا يساوون من مالٍ. وكانت تُوضع في فم الواحد منهم قطعةُ خُبْزٍ مُبَلَّلَةٌ بالخمر أو الخلِّ حين الضَّنَى والوَهْن، وكان يُوضع شِبَامٌ٤٤ من خشب أو من جلد في فم كلِّ واحد منهم عند العويل عن هَوْلٍ، وكانت تُقْطَعُ أُذُنَا الواحد منهم ثم تُبْتَرُ رجلُه إذا كَسر قيده أو حاول الفِرار، وهذه من المناظر التي رَوَى خبرَها شهودٌ ثِقَاتٌ كجانَ البِرْجرَاكِيِّ الذي حُكِم عليه بالسجن مع العمل الشاقِّ في السفن سنين كثيرة لبرُوتِسْتَانِيَّته، ومما ذُكِرَ أن عريفًا سَكْرَانَ قد نَزَع بأسنانه أُذُنَ عبد.

وإذا تَمَكَّنَ أحدُهم من القبض على مُدْيَةٍ وشَهْرِها للانتقام من جَلَّاده سُمِّرَ في السَّارِيَة بها خارقةً يدَه، وكانت الأوبئة تنتشر بسرعةٍ بين هؤلاء الآدميين المزروبِ بعضُهم بجانب بعضٍ زَرْبًا وثيقًا، فتُفْنِيهم فَنَاءً يُذْعَرُ منه حتى الصيارفةُ الذين يُنْفِقُون عليهم، وهكذا خَسِرَت البندقيةُ أربعين ألفَ رجلٍ لم يشتركوا في معاركَ.

وكان العبيدُ يَمْقُتون، في الغالب، مَنْ يزور سفينتَهم من الغُرباء لسَرِقَة هؤلاء الغرباءِ منهم نقودًا كانوا قد سَرَقوها، ومما جاءَ في كتاب سِرْفانْتِس أنهم طَرَحوا سانْكُوبانْسَا فوق المركب، فلما سَرَقوا من الزائر مالًا فقَطَّع منهم أعضاءً منتقمًا دَفَع مائة دوكا٤٥ إلى الرُّبَّان، ولدينا أقاصيصُ من هذا الطراز ترجع إلى القرن الثامنَ عشرَ أيضًا.

وهكذا كانت الدول تحاول الاستفادة من مجرميها فتحُول دون حُكْم قضاتها عليهم بالقتل لهذا السبب، ومما كان يَحْدُث كثيرًا أن يُقَيَّدَ فارسٌ مَلْطِيٌّ وقع أسيرًا أو ملْطِيٌّ ضَحَّت به محكمة التفتيش، ولم يكن من عادة الأمراء الإقطاعيين أن يَحْكُموا بمثل ذلك على مَن يَقَع بين أيديهم، غير أن الجِنوِيِّين قبضوا على أمير بحر الأسطول البندقيِّ ذات يوم فقيَّدوه وحملوه على مثل ذلك العمل الشاقِّ في السفن، فكان ذلك فوزًا للإنسانية.

ويَجْلِس أمير البحر هذا أعْزَلَ عاريًا حَلِيقًا موسومًا بحديدٍ مُحْمًى كألوف العبيد الذين كان قائدًا لهم فيما مضى، ولكن مع قعودٍ على مصطبةٍ في إحدى سُفُن الأعداء، وما كان ليستطيعَ قتلَ نفسه بسيفٍ أو خِنْجَرٍ كما كان برُوتُوس وأنْطُونيوس وغيرُهما من الأَسْرَى قد صنعوا، وماذا عَمِلَ إِذَنْ؟ انْتَظَر غَفْلَة عريفه فلَطَم رأسه بجانب السفينة بما أُوتي من قوة وكَسَرَ جمجمتَه، وكان هذا البطل يُدْعَى دَنْدُولو، وكان سليلَ رؤساءَ للبندقية حاملين لهذا الاسم.

وكان هؤلاء يَكْسِبون بعض ثروتهم من الاتجار بالعبيد، وما كانت ثروة البندقية إلَّا لتقلَّ لولا هذه التجارة كما كانت ثروة فلورنسة تقلُّ لولا غَزْلُها الصوف، وما كان المركب المعروف بالبوسَانتور ليَحُوز ذهبًا كثيرًا، وما كان قصر الرؤساء ليشتمل على رُخامٍ كثير، وما كان مُقَدَّم الأبنية المشرفة على القناة الكبرى ليحتوي أعمدةً مزخرفةً، لو لم يدفع البندقيون مالًا إلى القراصين حتى يَكْمُنُوا لمَلَّاحي البحر المتوسط ويبيعوهم في أسواق النِّخَاسة الجَنوبية الشرقية على حساب صيرفيٍّ بندقيٍّ يسمح لتيسيان بأن يُصَوِّره عند قَدَم العذراء. ويحتاج المسلمون إلى خِصْيانٍ في دوائر حريمهم، ويحتاج البابوات إلى خصيانٍ في جَوْقات غِلْمانهم، فيصير الخِصَاء من فروع سُوقِ العبيد إِذَنْ، ولدينا من الأنباءِ عن دوام ذلك في أوائل القرن التاسعَ عشرَ أيضًا، وكانت البندقية تَظْفَر بنصيبٍ وافر من ذلك لِمَا تدلُّ عليه الحسابات السنويةُ حَوالَي سنة ١٤٠٠ من جبايتها خمسين ألف دُوكَا ضريبةً عن إصدار العبيد.

ولما حاول البابا أن يمنع بيع العبيد النصارى من المسلمين على الأقل صار النَّخَّاسون يَقْبِضون على أروامٍ كاثوليكٍ زاعمين أن هؤلاء ليسوا نصارى حقيقيين، ومع ذلك فإن كتاب الحقِّ القانوني لم ينفرد بإباحة الرِّقِّ، فقد لاح لمجمع طُلَيْطلة النصرانيِّ أن يبيع أبناءَ قساوسةٍ عبيدًا، وقد أمر البابا غريغوارُ الحادي عشرَ في سنة ١٣٧٥ باسترقاق كلِّ فلورنسيٍّ يُؤْسَرُ حَرْبًا، وعندما أنشأ هنري الثامنُ الكنيسةَ الأَنْغِليكانيةَ تَوَعَّدَ البابا جميعَ الإنكليز بالاسترقاق إذا ما ظَلُّوا أوفياءَ لمَلِكِهم، وقد قَبِل البابا بيوس الخامس، كهديةٍ، سبعمائة عبدٍ مسلم أُسِرُوا حَرْبًا في معركة لِبانْتَه، وما انْفَكَّتْ مراكبُ البابوات تكون مجَهَّزَةً بالعبيد حتى سنة ١٨٠٠.

وتدلُّ صورةُ أولئك المحكومِ عليهم العراةِ اليُبَّسِ، الذين كان عددُهم يبلغ مئاتِ الألوف في سفن البحر المتوسط، على درجة الفساد البشريِّ الذي هو ثمنٌ لبهاء عصر النهضة.

١٥

وكِتابُ مارْكُوبولُو هو أشهر كِتَابٍ في ذلك العصر، وقد قضى ماركوبولو أكثرَ من عشرين عامًا في بلاد الصين والهند واليابان، فكان الوحيدَ الذي حدَّث عن ذلك كتابةً بين القليلين الذين ساحُوا هنالك، وكان الجُمهورُ يُكْثِر من مطالعة تلك القصة كلَّما وجدها مبالَغًا فيها، وكان بيانُه يبدو قريبًا من الصواب كُلَّما مَرَّ الزمن، وظهرت هذه الوثيقة الرائعة من شِدَّة الغرابة ما شُكَّ في صحتها في بدءِ الأمر، وقليلٌ من الناس مَنْ كان يلوح له أن وصف الطبيعة وصفًا صادقًا أقربَ إِلى الخيال من الروايات ومن اختراعات الناس، والواقعُ أن الرَّبَّ أعظمُ شِعْرًا وأشدُّ خيالًا من أكثر أبنائه مَوْهِبَةً.

ولم يكن من العادة أن يَكْتب المرءُ رِحْلاتِه الخاصةَ حَوالَي سنة ١٣٠٠؛ أي السنةِ التي كُتِب فيها ذلك الكتابُ، ولم يكن هيرودوتس، وبلوتارْك أيضًا، قد ظهرا، بَعْدُ، ضمن إطار ما سَطَّرا، ولم يكن كتابُ غير المُثَقَّف ذلك ليُؤَلَّف لو لم يَحْمِلْه حادثان مُهِمَّان على العوْد إلى بلده أولًا وإلى قَصَصِ أخبارِ مغامراته ثانيًا، واليومَ لا تَجِدُ مُتْعَةً في هذه المغامرات، ولكن أسلوب المؤلف قد حافظ على نضارته، فالأفعالُ، وإن امَّحَت هنالك كما في كلِّ مكان، ظَلَّتْ شخصيةُ صاحبها قائمةً.

وكان الأَخَوَان بولُو من البندقية، وقد أوجبت بعض الأمور سفرَهما إلى القسطنطينية والقِرِم وفارسَ، فأرادا الذهاب إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فاتَّجَها مع سفراءَ لِخَانِ فارسَ إلى الشرق، وقد دعا هذا الخانُ الأكبر، أو العاهلُ، الذي لم يَرَ حتى ذلك الوقت غيرَ مُرْسَلين، وغيرَ دبلميين في الحين بعد الحين، الأخويْن بولُو إلى زيارة بَلَاطه، وقد أعطاهما كُتبًا إلى البابا مطالبًا، عن سذاجةٍ ونُبْلٍ، بأن يُرْسِلَ إليه مائةَ حكيمٍ قادرٍ على إثبات كون النصرانية أحسنَ دين، ويعود الأَخَوَان إلى بلدهما ولا يَجِدان أيَّ بابا فيه، ويبصران أعظمَ ارتباكٍ يسود رومة، ولا يستطيعان أن يعودا مع حكماءَ في سياحتهما الثانية إِذَنْ، ويكتفيان بجلب زيتٍ من السِّراج المُقَدَّس في القُدس كما يُحْضِرَان معهما ابنَ أحدهما: مارْكو، البالغَ من العمر سبعَ عشرَة سنة، والوحيدَ في المنزل منذ موت أمه، فلما عاد مارْكُو هذا إلى البندقية كان ابنًا للأربعين من سِنِيه.

وتُسفر السِّنُون التي جابَ فيها هؤلاء السُّيَّاحُ آسية عن اطلاعهم على معارفَ جديدةٍ بعيدةِ المَدَى، ومن ذلك أن أَرَضين، كهضبة بلْمِير مثلًا، قد وَصَفها ماركوبولُو فلم يَقُمْ بِرِيادها أحدٌ غيرُ سُيَّاحٍ من الإنكليز بعد ستمائة سنة، ويلوح أن هذا الشابَّ الذي كان في الثانية والعشرين من سِنِيه، قد أصبح مُقَرَّبًا لدى عاهل الصين حيث عُهِدَ إليه في إدارة مُدُنٍ والقيامِ بِخِدَمٍ حكومية، وما كان هذا العاهل ليَدَعَ البندقيين الثلاثة يعودون لو لم يَفْقِدْ صديقُه خانُ فارسَ زوجتَه المُفَضَّلَة فيَرْغبَ في قيام مُغُولِيَّةٍ مقامَها، فلما التمس سفراءُ فارسَ من العاهل أن يَضُمَّ إليهم «الفَرَنْجَ» ليكونوا أَدِلَّاءَ لهم في سَفَرِهم إلى الهند بحرًا لم يَسَعِ العاهلَ غيرُ الموافقة على ذلك، وقد مات مُعْظَمُ المسافرين في أثناء هذه الرحلة البحرية التي دامت عامين، ولم يَبقَ حَيًّا منهم غيرُ سفيرٍ واحد وغيرُ العروس وغير الرجالِ البِيض الثلاثة، وقد مات خانُ فارس في أثناء ذلك فرَضِيَت المُغُوليةُ أن تتزوج ابنَ أخٍ له.

وما كان أحدٌ ليَعْرِفَ الرجالَ الثلاثةَ، بولو، بعد غِياب أربع وعشرين سنة، وقد طُرِدوا من قصرِهم لعَدِّهم مُخَادِعين، وقد مَزَّقوا ثيابَهم التَّتَرِيَّة البالية في أثناء وليمة كبيرة وظهروا لابسين ثيابًا حريرية فاخرة مُزَّيَّنِين بحجارة كريمة، أفلا يشابه هذا إحدى أقاصيص «ألف ليلة وليلة»؟ وهل يَعْدِل حديثُ المؤلِّف عن الصين هذه المغامرةَ الرائعة؟ ومع ذلك كان عالَم ذلك الحين حافلًا بالمغامرين ولم يكن قومُ آلِ مارْكُو قد بادُوا بَعْدُ.

ويمضي زمنٌ قصير على رجوع ماركوبولو فيَأْسِرُه الجِنوِيُّون في معركةٍ بحرية خاسِرَة، ويَمُرُّ عليه نحوُ عام في سجن ضَيِّقٍ فتمنُّ المصادفة عليه برفيقٍ بيزِيٍّ روائيٍّ، ويرى ماركوبولو أن يقضي وقته بأن يَقُصَّ عليه خبرَ رحلته إلى الصين، ويكتب هذا الأخيرُ ذلك، ويُطْلَق الرَّحَّالَة، ويعود إلى البندقية، ويقضي فيها حياةً هادئةً حتى السبعين من سِنِيه، ولا نعرف عنه شيئًا غيرَ أنه كان مفتونًا ببناته الثلاث.

وقد عَدَّ جميع الناس ذلك المؤلِّف ضَرْبًا من البارون مُونْشهاوْزن مُتَلَهِّيًا باختراع الأقاصيص غيرِ المُحْتَمَلة، وقد لُقِّبَ بمارْكُو مِلْيُونِي لِمَا زَخَرَتْ به أُحْدُوثتُه من ملايين الكيلومترات وملايين الناس، وملايين الدُوكَيَات٤٦ على الخصوص، وقد انتهت الرواياتُ التي انتحلت ما في كتابه من الأسماء والصور إلى عَدِّه دَجَّالًا، وقد رُئي أنه قليل الثَّقافة لتفضيله الأسلوبَ الخفيفَ على التَّعَمُّل في الأسلوب، ولا يزال مثلُ هذا يساور بعض المؤلفين في زماننا.

ومع ذلك فإن تأثير ذلك الكتاب في الاكتشافات التي عَقَبَتْه كان عظيمًا، والكتابُ كان عِلَّة خطأٍ ذي نتائجَ خارقةٍ للعادة، وكان العرب قد تَعَلَّمُوا من بطليموس أن الأرض كُرِيَّةٌ، وكان علماء من العرب، ومن النصارى بعد زمن، قد رَسَمُوا خرائطَ وَفْقَ هذا المبدأ، وكانت الكنيسة تقول دومًا إن الأرض قُرْصٌ محاط بالبحر المحيط وإن القدسَ مركزُه. وكان يُعْتَقَدُ وجودُ جزائرَ في المحيط الأطلنطيِّ وأن قساوسةً طاردهم المغاربة التجئوا إليها لا رَيْب، وكان يُرَى، على العموم، أنه لا حَدَّ لهذا المحيط حينما كان دانْتِي المعاصرُ لمارْكُوبولُو يَعُدُّ جبلَ طارقٍ حَدَّ العالَم الذي تَمْتَنع مجاوزتُه، وذلك إلى أن وجود نصفِ كُرَةٍ غربيٍّ كان افتراضًا لم يُصَغْ قَطُّ، فضلًا عن كون هذا النصف أمرًا مجهولًا، وذلك إلى أن كلَّ أمرٍ يَتَوَقَّف على اتساع المحيط الأطلنطيِّ الذي ينطوي ساحلُه الغربيُّ على الهند والصين بحكم الطبيعة.

وكان ماركوبولو قد حَدَّث عن ألوفٍ وألوفٍ من الكيلومتراتِ وأيامِ الرِّحْلات، وبما أن آسية بالغةٌ من الاتساع هذا المقدار فإن من الضروريِّ أن يكون المحيطُ الأطلنطيُّ ضَيِّقًا؛ ولذلك وُجِدَ من الممكن أن يُجَازَف فيُجَاوَزَ ويُجَدَّ في بلوغ الهند من الغرب، وكان كُبْرُ البَحْرِ المجهول الذي يَشْغَل بال الأمم البحرية في ذلك الزمن عاملًا حاسمًا. والواقعُ أن كتاب مارْكُوبولُو قد أنقص هذا الاتساع إلى النصف، وأن قصته الصادقة أسفرت عن خطأٍ لولاه ما أقدم كرِيسْتُوف كُولُونْبُس على القيام برحلته التي حَوَّلت خطأَه الثانيَ المشهورَ إلى حقيقة.

وظَهَرَ قبله بنصف قرنٍ أناسٌ من الملَّاحين والمغامرين انطلقوا محاولين اكتشافَ جُزُرٍ في المحيط الأطلنطيِّ وكنوزٍ على شواطئه الجَنوبية، ومَنْ كان يستطيع أن يقوم بهذا العمل الشاقِّ غيرُ البرتغاليين المالكين أطولَ ساحلٍ في جَنوب أوروبة وأحسنَ ميناءٍ على المحيط الأطلنطيِّ؟ وكانت تجارتُهم تجتذبهم نحوَ أفريقية الغربية القريبةِ من شاطئِهم على حين كانت إسبانية وفرنسة مُمْتَدَّتَيْن في ذلك الحين نحو البحر المتوسط الذي ما انفكَّ يَشْغَلُ بالَهما منذ ألفي سنة، وكان البرتغاليون قد اكتشفوا في سنة ١٤٤٤ وسنة ١٤٥١ جزائرَ كنارية وآصُور، أفليس من الطبيعيِّ أن يبحثوا عن طريق الهند ذاهبين من أفريقية الغربية؟ وكانت تُوجَدُ طريقان، فتؤدي الثانيةُ إلى وسط القارَّة تَوًّا، وقد كانوا أعلم بأطراف أفريقية مما بداخلها وكانت حساباتُهم عن الطريق البحرية حَوْلَ الكاب صحيحة.

وما فتئ الملكُ البرتغاليُّ هنري المَلَّاحُ يقوم منذ سنة ١٤٣٠ بمحاولاتٍ مُنَظَّمَةٍ للوصول إلى الهند الغربية من طريق الغرب، وكان أولَ مَنْ تَحَوَّل عن البحر المتوسط، ومن الطَّرِيف أن لُقِّبَ ﺑ «المَلَّاح» مع أنه لم يشترك في أية سياحة بنفسه، وهو، على العكس، قد وضع خِطَطًا وأَعَدَّ أسفارًا ومَوَّل بُعُوثًا وجَهَّز سُفُنًا واستخرج نتائجَ من التقارير التي قُدِّمت إليه، وكان راغبًا في قِتَالِ الكَفَرَة رئيسًا كبيرًا للمُنَظَّمَة النصرانية، ولم يَزُلْ هذا الهدفُ التبشِيريُّ النصرانيُّ الذي قَرَنه باكتشافاته زوالًا تامًّا، فلا نزال نُبْصِره يُكَرَّرُ حتى زمنِنا؛ أي بعد خمسمائة سنة من ذلك التاريخ، ومن المحتمل أن كان مُخْلِصًا ضِمْن نِطَاقٍ كنطاق كلِّ رائدٍ إنكليزيٍّ يَرْغَبُ أن يبيع صُوفَه قبل كلِّ شيء، وَلكن مع مرافقة مُرْسَلٍ تبشيريٍّ إياه في رِحْلَته، والواقعُ أن ذلك الملكُ قاتَلَ فريقَ الكَفَرة بأساليبهم العربية. والواقعُ أنَّ عِلْمَ الكَوْن — وكان هذا الاسم الرائعُ يُطْلَق على الجغْرَافية في ذلك الزمن — قد انتقل من العرب إلى النصارى، وكان هذا غيرَ مُقْتَصِرٍ على مباحثِ بطليموسَ وعلى المذهبِ القائلِ بكُرِيَّة الأرض، بل كان ينطوي على استعمال الإبرةِ المِغْنطية التي عُلِمَت من الصينيين حَوالَي سنة ١٢٠٠ فتُمْكِن المِلاحةُ بها ليلًا وفي الوقت المُضِبِّ. وقد أتت من القارَّة معارفُ أخرى، ومن ذلك أن عالِمًا من نُورَنْبِرْغ نَشَرَ زِيجًا لوَضْعِ البروج، ومن ذلك أن العالِم اليهوديَّ ليفي بن بِرْسُون اخترع ما سَمَّاه «عصا يعقوب»؛ أي الآلةَ التي يُنْتَفع بها في تعيين موضعها تعيينًا دقيقًا.

وما كان يُدْفَعُ في باريسَ وأمستردامَ ولندن من أثمان خياليةٍ للمنسوجات والحجارة الكريمة، ولتوابل الشرق على الخصوص، كان يجتذب المغامرين أكثرَ من اجتذابهم بالمجد والدين؛ وذلك لأن الترك، الذين جَعَلُوا من بِزَنطة مدينةَ استانبول، قد حاصروا كلَّ تجارة خارجية، ولَمَّا بَلَغُوَا مصرَ في سنة ١٥١٧ لم تَبْقَ مِنْطَقةٌ حُرَّةٌ في جميع البحر المتوسط الشرقيَّ.

ويا لَلْمَبَالغ التي يؤديها أغنياءُ الشمال ثمنًا للفُلْفُلِ والقَرَنْفُل وجَوْزِ الطِّيب والدَّارَصِينِيِّ! وكان الإنكليزيُّ لا يستطيع العيشَ بلَا زنْجَبِيل حتى في ذلك الحين! وكان يُدْفع حَوالَي سنة ١٣٠٠ من النَّقْد ١٢٠ دولارًا ثمنًا لمائة الكيلوغرام من الفُلْفُل في مَرْسيلية و٢٠٠ دولار ثمنًا لها في لندن، وتعود إحدى سُفُنِ ماجِلَّانَ سالمةً وتَرْبَحُ أَلفيْ دولارٍ ذهبيٍّ من بَيْعِ ٥٢٥ قِنطارًا من الأفاويه المُجْتَلَبَة من جزائر مُلُوكَ بعد تنزيل نفقاتِ رِحْلَةٍ دامت ثلاثة أعوام، وكان جميعُ رجال البحر يَحْلُمُون بتكديس ثَرَواتٍ نتيجةً للطُّرُق الجديدة فيتهافتون على أسفارِ الارتياد.

وأُولُو العزم من رجال عصر النهضة هم الذين اكتشفوا الأقطار البعيدة، ولا يُفَسِّرُ هؤلاء الرُّوَّاد المتعصبون دينَ النصرانية تفسيرًا عاطفيًّا على نَمطِ يسوعَ، بل ساروا على غِرارِ رجلٍ نافذٍ كبطرس، فجاهدوا في سبيل النصرانية وكُتِبَ لهم الفوزُ أكثر مما كُتِبَ للصليبيين، وهم قد استطاعوا أن يُسَوِّغُوا ما اقترفوه من القتل والإبادة والظلم عن مزاجٍ وضرورةٍ ما جلبوا معهم دينَهم القَيِّمَ إلى أصحاب الجلود المُلَوَّنة، وما كان أحدٌ ليخوض، مع ذلك، غِمَارَ تلك المغامرات لو لم يجتذب شعارُ «القوة والرَّب والمجد» أولئك الناسَ إلى البحر، وبهذا يَتَجَلَّى الفرقُ الأساسيُّ بين المَلَّاحين والصليبيين الأولين، وقد فَرَضَ أولئك الرؤساء على أنفسهم أقسى حِرْمانٍ عن طموحٍ شاربين ماءً آسِنًا نَتِنًا آكلين فِئْرانًا عائشين في سواءِ البحر بعيدين من كلِّ امرأة، فهل من العجيب إذا ما انقَضُّوا كالوحوش على أبناءِ البلاد الأصليين؟

وأجملُ وجهٍ بين الرؤساء هو وجهُ فاسْكُو دُوغَاما، فقد كان أريستوقراطيًّا بُرْتغاليًّا عَبُوسًا غليظًا أَقْنَى الأَنف حديدَ البصر مِقْدامًا نبيهًا نشيطًا رئيسًا، وكان ديَازُ قد اكتشف «رأس الزوابع» في سنة ١٤٨٦ فجعل منه «رأسَ الرجاء الصالح» بعدَ حينٍ، ويتبع فاسْكُو دُوغَامَا طريقَه بعد إحدى عشرةَ سنة، ويَسِيرُ والشاطئ الأفريقيَّ الشرقيَّ حتى خطِّ الاستواءِ، ويطوف في المحيط الهنديِّ شهرًا، ثم تدفعه الرياحُ الموسمية فيُلْقِي مراسيَه في كَلْكته، وهذا كان أولَ مَن بَلَغ الشرقَ من غير أن يَمُرَّ من البحر المتوسط.

وبذلك يكون فاسْكُو دوغاما أولَ عَدُوٍّ كبير للبحر المتوسط.

١٦

وأعظمُ رجلٍ اقتطف أعظمَ مَجْدٍ بين الرُّوَّاد، وبين جميع الناس على ما يُحتمل، كان من أبناء البحر المتوسط الذي عَرَفَ كيفَ يظلُّ وفيًّا له، ونستطيع أن نقطع بأنه إيطاليٌّ وُلِدَ في جِنِوَة وإن كانت إحدى عشرةَ مدينةً تتنازع شرفَ كونها مَسْقَطًا لرأسه، ولولا ذلك ما أوصى لمسقط رأسه العزيز، جِنِوَة، بكتابِ الصلواتِ الذي أخذه من البابا والذي «كان مدار سُلْواني في كفاحي وسِجْني»، ولا يُمْكِنُ أن يُعْرَفَ هل كان يهوديَّ الأصل أوْ لا، ولكن من الممكن أن يُسْتَنَد لتأييد ذلك إلى صورته وإِلى خُلُقَيْه: الثباتِ وحبِّ المجد، اللذيْن يَفْضُلَان حُبَّ المال لدى مُعْظَم اليهود (!).

أَجلْ، فاق مَجْدُ كُولُونْبُس مَجْدَ جميع الرُّوَّاد الآخرين؛ وذلك لأنه اكتشف قارَّةً بأَسْرِها، لا جزيرةً واحدة فقط، ولكنْ بما أن هذا الاكتشافَ مَدِينٌ للمصادفة وبما أنه مات جاهلًا مَدَاه البعيدَ فإنه لا يُسَوِّغ وحدَه مجدَه الوحيدَ، وأكثرُ ما أتاه من المجد كان من سُمُوِّ نَفْسِهِ وقوة سَجِيَّته، فعظمةُ كُولونْبُس مستقلةٌ عن عِظَم اكتشافه.

وتكفي مقابلةُ صورته بصُوَرِ رُوَّاد عصره الآخرين ليُرَى أنه أعظمُ من رئيس، ويهيمن الذكاء عليه أكثر من هيمنة قوة الطبع مع إبدائه هذه القوة أيضًا بما يثير العجب، وانظر إلى صورته تُبْصِرْه أَجْرَد الوجه نَتِيفَ الشعر لطيفَ الجبين فلا يوحِي بجبين مُفَكِّر، صغيرَ الفم فلا يوحي بفمِ طالبِ مُتَعٍ كثيرة، بل يدلُّ على صمتٍ في مُعْظَم الوقت، صاحبَ ذَقَنٍ عاطلٍ من الغِلْظَة عَطَلًا تامًّا، ذا عينين دَجْنَاوَيْن فيلوح أنهما تنظران إلى الباطن، وهذه هي سيماءُ رجلٍ رزين معتزلٍ يُفَضِّلُ الخرائطَ الجغْرافية والكتبَ على الاكتشافاتِ، ويُفَضِّلُ الاكتشافاتِ على الفُتُوح، وكان ابنُ زمنِه كُولُونْبُس لا يخشى اقتحامَ الخَطر كالمَلَّاحين، ومع ذلك فإِنه لم يكن وَلُوعًا بالقيادة، بل كان كَلِفًا بإثبات عَدْلِ حساباتِه، وكان يمكنه أن يعيش وحيدًا، وهذا ما لا يَقْدِر عليه الرؤساء.

ولم تكن روحُ المغامرة، ولا حبُّ الذَّهب، حافزيْن له إلى حركة العصر الكُبْرى، وهو لم ينتسب إلى تلاميذ القرون القديمة الذين أثارهم حبُّ المجد كسِزَار بورْجيا وبولِيفار، ويَظْهَر أن كرِيسْتُوف كُولُونْبُس، الذي نعته هنُبُولْد بالعالِم الكبير، قد دُفِعَ إلى قيامه برحْلاته عن شعوره بالشرف وعن يَقِينِه اللذين كانا يَحْمِلانه على إثباته بالأعمال ما كان يعتقده ويَعْلَمه صحيحًا، ولولا هذا المُحَرِّكُ، ولو كان دوكًا، لا صُعْلوكًا مَوْلِدًا، لقَضَى على ما يُحتمل، حياةً سعيدة بين جَدُرِ مكتبه كالفلُورَنْسِيِّ الكبير تُوسْكانِلِّي الذي كانت خرائطه ورسائلُه أعظمَ مُوحٍ إليه كما هو ظاهر.

وقد أعان كثيرٌ من العوامل على سيره مندفعًا اندفاعًا يلوحُ أولَ وَهْلَةٍ أنه مخالفٌ للصواب، وقد شَعَرَ هذا الغلامُ، وقد شَعَرَ تُوَيْجِرُ الصوف المماثلُ لأبيه هذا، بانجذابه إلى البحر من فوره، فجَابَ، فيما بين الرابعةَ عشرةَ والرابعةِ والعشرين من سِنِيه، قسمًا كبيرًا من البحر المتوسط ولا سيما صِقِلِّية وساقز، ثم رَكِب المحيطَ الأطلنطيَّ متوجِّهًا إلى أفريقية الغربية وإنكلترة، وإلى إيرْلَنْدة على ما يُحتمل، وكان يقضي جميع وقته في رَسْم الخرائط وكان يَدْرُس علمَ الكَوْن ويسأل أُولِي الخبرة ويجَرِّب الآلاتِ ويطالع الكلاسِيَّ من المؤلَّفات، ويظهر أنه تَعَلَّمَ كلَّ شيءٍ بنفسه جالسًا في زاويةٍ من السفينة تحت السارية وعلى كُدْسٍ من قُلُوسٍ٤٧ دارسًا متأمِّلًا حتى يُدْرِك ما كان الآخرون قد لاحظوه فقط، وما كان قد طاف فيه من جزءٍ صغير من الأرض وَقَفَ به على العناصر الضرورية للاطِّلاع على كِيَان دُنْيَانا، وعلى توزيع القارَّات والمحيطات، فعلى الرائد أن يكون شاعرًا مُتَهَوِّسًا قبل كلِّ شيء.
ويبلغ الثلاثين من عمره فيُوَفَّق لتَزَوُّج بُرْتغاليةٍ من أسرةٍ كبيرة مع أنه أجنبيٌّ؛ أي بابنةٍ لحاكم وقريبةٍ لرئيس أساقفةٍ، ولم يكن مظهرُه، ولا هَيَفُه، ولا ما لا يملكه من ثروةٍ، سببَ هذا التغيير الحاسم، بل ذكاؤه وشخصيتُه، ولم يكن فيه شيء مما عند دُون جوَان،٤٨ وهو، مع ذلك، وفضلًا عن هذا الزواج الساطع، استطاع بعد موت زوجه أن يَغْزُوَ امرأةً إسبانية ممتازة فيُرْزَق منها ابنًا من غير أن تكون امرأةً رسميةً له.

ويلتهم كُولُونْبُس في ذلك الحين ما وَجَدَه في مكتبةِ حَمِيه المرحوم من خرائطَ ووثائق، ولم تنفكَّ حياتُه وأنظارُه، منذ مغادرته إيطالية نهائيًّا، تتأثَّرُ مُتَطَلِّعةً إلى الغرب، ومع ذلك فإِنه مَدِينٌ بجميع ما كان يَعْرِف للبحر المتوسط ولمراسلته تُوسْكانِلِّي الفلورنسيِّ الذي كان لديه مثلُ تلك المعارف قبلَه، ولكن مع عدم مغامرةٍ في البحر المحيط مطلقًا، وكان من الناس مَن يَعْرِفون، قبل كولونبس بزمنٍ طويل، إمكانَ بلوغِ الصين والهند من ناحية الغرب، وكان يُوجَدُ عند كُولُونْبس ذكاءٌ ونشاط، وكلُّ ما كان يُعْوِزُه هو مَلِكٌ حَامٍ ومركَبٌ.

وما كان من أَمَلِ مصادفةِ جزائرَ مجهولةٍ في المحيط الأطلنطيِّ مشتملةٍ على كنوزٍ خيالية يُمْكِن مَلِكًا مَلَّاحًا أن يحاول تحقيقَه، ويُوفَّق كُولُونْبس، مستعينًا بأقرباء زوجه، ليُقَدَّم إلى بَلاط الملك بعد انتظار طويل، ويَفْتِن الملكَ بوعده فَتْحَ بلاد أُسْطورية، ويَبْدُو كلُّ شيء ملائمًا لكُولُونْبُس، وذلك من حيث قوةُ صحته ويُمْنُ زواجه وارتقاؤُه فوق أصله الوضيع وحسنُ قبوله في البلاد الأجنبية حتى قبل أن يُنْجِز أمرًا. وكان كولُونْبُس وحدَه يَعْرِف نداءَ وَحْيِه وتلبيةَ هذا النداء، وكان لديه العلمُ والإقدامُ وما يحتاج إليه المَلَّاح والجغْرَافِيُّ من معارف، وكان لديه من السِّحْرِ الشَّخْصِيِّ ما يستميل معه الملك عند عَطَلِه من وثائقَ مُقْنِعة.

ومع ذلك لم يَبْدُ الملكُ صادقًا تِجاه كُولُونْبُس، فهو لم يَلْبَث أن عَهِدَ إلى بُرْتغاليين في القيام بالمشروع الذي تَصَوَّره كولونبس، ويخشى هؤلاء الأخطارَ فيَقْفُلُون راجعين، ويَخِيبُ أملُ كريستوف كُولُونْبُس فيَلْجَأُ إلى إسبانية، ويُسَهِّلُ موتُ زوجه هذا الانتقال، غير أن نَيْلَ الحُظْوَة لدى مَلِكَيْ إسبانية، فرديناند وإيزابِلَّا، أصعبُ مما حَدَث في البرتغال، ولا يستطيع الإنسانُ غيرَ الإعجاب بِصَبْرِ هذا الغريب العاطل من المال والمقام والذي لم يَكِلَّ في عشر سنين من تقديم العرائض والخِطط إلى البَلاط والحكومة فلم يقابَل بغير السُّخْرِية أو بتهمة الخِداع، ولم يكن الجوابُ الإسبانيُّ الرَّمْزِيُّ رفضًا باتًّا، بل كلامٌ يَنِمُّ على تمَلُّصٍ غيرِ مُجْدٍ.

وقد احتمل كريستوف كُولُونْبُس هذه المِحْنَة لِقُوَّتين ثابتتين في سجيته وهما: إيمانه بالله وإيمانه بكريَّة الأرض، والواقعُ أن هذين الاعتقادين لم يكونا متوافقين؛ وذلك لأن عصرَ النهضة قد زلزلَ الأولَ بإصراره على الثاني. أَجَلْ، إن كريستوف كُولُونْبس قد تَفَلَّت من هذا البرهان ذي الحَدَّين كما تَفَلَّت كوبرْنِيكُ وكِبلِر، غير أنه أكثر تَدَيُّنًا من هذين الرجلين كما يَظْهرُ، وهو لم يَنْفَكَّ يستشهدُ في رسائله برؤْيا القديس يُوحَنَّا وبالنبيِّ إرمياء وبنصوصٍ من التوراة ليُثْبِت اختيارَه منذ الأزل لهذه الرِّحْلَةِ نحو الغرب، وما كان لينتفع بهذه النصوص التَّوْرائية إلَّا بالإيمان، أو بسلوك سبيل المُجُون، نَيْلًا للحُظْوَة لدى رجال الدين في البَلاط.

ولم يكن كولونبس، ولم يصبح كولونبس، ماجنًا قَطُّ حتى في أشدِّ خَيْبَاتِ أمله مرارةً، وإنما كان، كرجلِ بحرٍ، يحتفظ لنفسه بإيضاح إلهاماته الرَّبَّانية إيضاحًا عينيًّا، فنَقَلَ الجنة في سياحته الثالثة ليجعلها في البلاد التي اكتشفها حديثًا، ومَنْ ينظر إلى ما في رسالته «كتابِ النبوءات» من نُبَذٍ وإلى وصاياه يَقْطَع بروحه الدينية أيضًا.

وكان عاملُ القوة الثاني، الذي صَبَرَ كولونبس به على انتظار عشر سنين ثم احتمل معه السقوطَ وسلاسلَ السجن المظلم، سببَ ثقته بنفسه الخارقةِ للعادة، والواقعُ أَن كولونبس لم يكن مبتدعًا ولا سيميائيًّا ولا ساحرًا حائزًا لأسرارٍ تجعله فوق الناس فيطالبَهم بما يريد، بل كان يَعْرِف أن الأرضَ كُرِيَّةٌ وأن آسية كثيرةُ الاتساع فيمكن الوصولُ إلى الهند من جهة الغرب، وهذا ما كان يشاطره إيَّاه معظم علماءِ ذلك العصر فيعتقدونه معه، وقد كانت خرائطُ الإيطاليِّ بين يَدَيْ كَرْدينالٍ إسبانيٍّ فاضلٍ منذ زمنٍ طويل. وكانت قد تَوَجَّهَتْ سُفُنٌ كثيرة من أشبونة وقادس إلى الغرب، وكانت كلُّها مُجَهَّزةً بالآلات الضرورية، وقد بلغت أُسْطُورةُ جزائرِ الذهب وجزائرِ الأَبَازِير من الذُّيُوع ما أَسفر معه الذهب الذي أحضره كُولُونْبس في نهاية الأمر عن تأييد بعض أقاصيص ماركوبولو وأحاديثِ كُتَّابٍ آخرين.

وكان البلَدان، إسبانية والبرتغال، صاحِبَيِ المستعمرات الغربية منذ زمن طويل، وكان البابا قد وافق على تَمَلُّكِهما إياها قبل ولادة كريستوف كولونبس، وبما أن أحدًا لم يظنَّ وجود قارَّةٍ جديدة فيحاوِلَ اكتشافَها فإن جميع خِطط الارتياد من الغرب لم تَدُر حَوْلَ أمرٍ غير توسيع مَدَى المشاريع السابقة، وهذا إلى أن ذلك الجِنويَّ كان عاطلًا من المال والشهرة ومن توصية سَرِيٍّ ومن طرازٍ جديد لمركبٍ شراعيٍّ ومن طائرة ومن سلكٍ بَرْقيٍّ بحريٍّ ومن دليل على مفاخرَ سابقةٍ، وكان لا بُدَّ من اتصافِ هذا الوَلُوعِ المجهولِ الأمر، من اتصاف كريستوف كولونبس، بثقة عميقة بالنفس يَسْمُو بها شأنُه إذا ما أراد إقناعَ ملوكٍ أقوياءَ بأن يُسَلِّموا إليه سفنًا وبضعَ مئاتٍ من الناس.

وهذا يُفَسِّر عملَه دَأَبًا، وهذا يُفَسِّر جهادَه عشر سنين، للوصول إلى ما يسعى، ولو كان باحثًا عن الذهب راغبًا في الغِنَى، أو كان جغْرافيًّا محاولًا إِثباتَ افتراضاتِه، لاستطاع أن يَجِدَ مغامرًا مستعدًّا للسَّيْر معه، غير أن كُولُونبس طلب نَصْبَه من فوره أميرًا كبيرًا للبحر وحاكمًا ونائبَ مَلِكٍ في جميع البلدان الخيالية التي عَرَضَ نفسه لاكتشافها، على أن يكون ذلك وِراثيًّا، وقد كان هذا بِدْعًا قُلِّدَ فيما بعد، أَوَلم يكن على الكرادلة وأمراءِ البحر والقُوَّاد الذين يحيطون بالملك أن يَعُدوُّه مجنونًا، ويا لَلْفِكْرَة التي صَدَرَت عن هذا الأجنبيِّ النَّكِرَة حَوْلَ طلبه أمورًا يجب أن تَرْجِعَ إلى وارثِ أُسْرةٍ شريفة، أو بطلِ بحرٍ عُرِف شأنُه بمآثره، أو عالِمٍ ذي شهرة عالَمية!

وامرأةٌ؛ أي إيزَابِلَّا وحدَها، هي التي أدركت أمره، وإيزابلا هي التي سَلَّمت بجميع ما طلب، وكان من الاعتدال، وكان مما لا يثير الدَّهَش، طَلَبُ كُولُونْبس أن يأخذ عُشْرَ الكنوز التي يأتي بها، وثقةُ كُولُونْبُس بنفسه هي التي جعلت منه متطوعًا لا يُقاوَم، وهي التي نال بها بعثتَه الكبيرة في نهاية الأمر، وتَنِمُّ رسائلُه الأولى التي كتبها في بدءِ اكتشافاته على تلك الثقة، ومما جاء فيها:

أعطاني الله ما لم يُعْطِ أحدًا من الناس، أَجَلْ، كتب كثيرٌ من الناس حَوْل مَوْضُوع هذه الجزائر، ولكنها مما لم يَرَه أحدٌ قبلي، وذلك إلى أن وجودها كان يُعَدُّ من الأساطير … ولْتُقَم الصلواتُ في البلاد شكرًا لله حتى يَبْتَهجَ باتساع مملكته بين الأمم الوثنية أيضًا!

ومما جاء في وصيته:

لقد وهبتُ الهندَ باسم الرَّبِّ لمَلِكتنا وللملك كشيءٍ خاصٍّ بي، لقد أوجبتُ ارتباكَهما بحَمْلِهما على قبول هذه الهدية، وكانت هذه البلاد خَفِيَّةً، وكان لا يَعرِف طريقَ الوصول إليها أحدٌ.

وعلى ما كان من اعتقاد كُولُونْبس أنه في الدنيا القديمة مع وجوده في جزائر الأَنْتِيل لم يَنْفَكَّ يَتَكَلَّمُ بما يثير العجب عن «الدنيا الجديدة» التي اكتشفها، وما كان يَعْرِف أنه أحسنَ القولَ بهذا المقدار، وكان أسلوبه غريزيًّا لديه، وهو لم يتردَّدْ في معرفة آياتِ عبقريته الخاصة مع توكيده أنه مَدِينٌ لله في كلِّ شيء؛ ولذا لم تساوِرْه حَيْرَةٌ قَطُّ من استقباله ظافرًا بين أَشْبِيلِيَّة وبرشلونَة حين عَوْدته الأولى ولا من المَشْهَد المشهور الذي وقع في برشلونة فكان في أثنائه جالسًا وحدَه بجانب عَرْش المَلِكيْن وبمَرْأًى من البَلاط والجُمهورِ المجتمعيْن، وقد قَصَّ ما كان قد رآه وقد عَرَض الغنيمةَ التي أتى بها، وقد وَهَبَ هذا البُرْجَوازِيُّ الصغيرُ الغريب لأقوى ملوك عصره ذهبًا، وقد ظَلَّ أسابيعَ كثيرةً بجانب الملك وصار الرجلَ المُفَضَّلَ عنده، وقد أدخل ابنَه إلى البَلاط وصيفًا وجعل إخوتَه أشرافًا، وقد نال لقبًا كريمًا وحَمَل سلاحَ النبلاء، ولو ظَهر في القرن الثامنَ عشرَ لكان عشيقَ المَلِكة.

ولا يسعنا غيرُ الإعجاب بالوَضْع الباسل الذي اتَّخَذَه هذا الغريبُ، هذا الذي نال من الحُظْوَة ما نال، عندما صار عُرْضَةً لحسد البلاط ومكايده ولِمَا لا مَفَرَّ منه من المقاصد السَّيِّئة، ويرى هذا الرجلُ الذي اكتشف وسيطر على بلدٍ أجنبيٍّ ذي كنوزٍ أسطوريَّةٍ، نفسَه، بعد بضعِ سنين، أسيرَ حاكمٍ أرسله ذانك المَلِكان وفَوَّضا إليه أمرَ إرساله إلى إسبانية، ويَرْفِض ما عَرَضَه عليه رُبَّانٌ مُبَجِّلٍ له من فكِّ قيوده، ويَقْضِي سَفَرَه مُكَبَّلًا بالأغلال منتظرًا أمرَ المَلِكين بإطلاقه، ولا رَيْب في صحة ما رواه ابنُه ما دام كُولُونْبُسُ نفسُه قد عَلَّقَ سلاسلَه في غرفة عمله بعد حين.

ويَبْدُو كريستوف كُولُونْبُس عاليَ النفس في تلك الحال، ولم يَفُقْه رومانيُّ وَصَفَه بلُوتارْكُ سُمُوًّا في مقابلة القَدَر. وكان تاريخ رحلته الثالثة الفاجعُ جديرًا بأن يَكْتُب عنه شكسبير، وهو لم يستردَّ شرفَه ومقامَه إِلَّا ناقصًا، وهو لم يظفر بشيءٍ من ذلك في الحقيقة. والواقعُ أن نائبَ الملك المعزولَ كُولُونبسَ قد مات قبل نهاية قضيته، والواقعُ أنه وَجَدَ في ثقته بنفسه من المُعِين ما لم يَجِدْ في أيِّ وقتٍ كان، وقد ماتت الملكة إيزابِلَّا، التي أدركت أمرَه وحدَها، قُبَيْلَ وفاتهِ وقد كتب هذا الرجلُ المُعْوِزُ العاجز وصيتَه كملك.

ومن الناس مَنْ يَعُدُّون خاتمة كُولُونْبس محزنة، فَيَودُّون لو يُصْرَخ في قبره حَوْلَ كُفْرَان العالم ومَعْنَى ما اكتشف، ولا يَعْرِف مَن يُفَكِّرُون على هذا الوجه ذلك الوَجْدَ الخفيَّ في هذا المتهوس الذي يُحِسُّ في وعْيِه الباطنيِّ ما لا يمكنه أن يكون تامَّ الاطلاع عليه، وقد خضع كُولُونْبس لهذا الوجد، وقد عَرَف كُولُونْبس ببصيرته وثقته بنفسه أهميةَ عمله، وقد سُجِّلَ خطؤه في الخرائط، لا في روحه، وقد قَيَّدَ على نسخة من كتاب العالِم الطبيعيِّ بلِينِي قولَ سنيكا: «ستأتي قرون يَكْسِرُ البحرُ المحيط فيها القيودَ التي تحيط بنا، وهنالك تُفْتَح لنا أبواب بلدٍ بالغِ الاتساع، وسيكشف مدير الدَّفَّة عوالمَ جديدةً، ولن تَظلَّ ثُولِه أقصى نُقْطةٍ في العالَم المعروف.»

١٧

تحقق أمر تلك القرون التي أنبأ بها سنيكا وزَيَّنَها كُولُونْبس، ووقع ارتيادُ بحارٍ بعيدة، ولَسُرْعان ما عُرِف وجود بحرٍ محيطٍ آخر وراء ما كان قد سُمِّي «الهند»، وماذا كان خَطْبُ البحر المتوسط بعد ذلك؟ وأين كانت رسالته التاريخية التي قامت على نقل السلع والثَّقَافة وموادِّ التجارة بين آسية وأفريقية والأمم المتمدنة القديمة؟ وإذا ما أمكن أن يُذْهَبَ إلى الهند بطريق المحيط الأطلَنطيِّ فيوصَل إلى قارَّةٍ جديدة مجهولة، وإذا ما أمكن فتحُ بلادٍ لا حَدَّ لها ولا حصرَ لكنوزِها وانْتِهابُها فماذا يبقى من الشأن لذلك البحر الداخليِّ الصغير الذي ظَلَّ مركزًا للعالم فيما بين سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد وسنة ١٥٠٠ بعد الميلاد؟

أُهْمِلَ البحر المتوسط، ووَجَّهَ الأقوياءُ والملوك والأغنياء والمَلَّاحون أبصارَهم نحو المحيط الأطلنطيِّ، وكان هذا الانقلابُ السريع فريدًا في تاريخ الحروب ولم يُكَرَّر إلَّا بعد ثلاثة قرون؛ أي حينما جعلت قناة السويس من البحر المتوسط بحرًا ذا فائدةٍ عالمية للمرة الثانية.

ومع ذلك فإن الحضارة ظَلَّت قائمةً على شواطئه، وقد تصرَّف البابا، الذي كان يسيطر على النفوس رئيسًا عاليًا، بكنوز العالم الجديد وَفْق هواه المهيمن، وقد مَضَتْ بضعة أشهر على عَوْدَة كُولُونْبس الأولى فأذاع إسكندر بُورْجيا منشورين بابَويَّيْن بدا فيهما حَكَمًا أدبيًّا فقَسَّم بين ابْنَتَيْه الكاثوليكيتين، إسبانية والبرتغال، ما فُتِحَ من البلدان حديثًا بخطٍّ فاصلٍ على الخريطة، ولم تفتأ أُمَّتَا المَلَّاحِين الحديثتان تانِك تتنازعان حَوْل حكم سليمانَ الجديدِ ذلك مدة ثلاثة قرون، ولم يُسَلَّم بمبدأٍ جديدٍ لحرية البحار إلَّا في زمن حديث جدًّا، ولا ترى في المناطق التي بَقِيَ فيها شيء يَنْتَظر مَن يكتشفُه؛ أي المناطِق القطبية، مهيمنًا غيرَ حَقِّ الأقوى، وذلك من دون التفاتٍ إلى البابا أو جمعية الأمم أو أية سلطة أخرى.

ويُذِيعُ أستاذٌ ألمانيٌّ أن الإيطاليَّ أَمِرِيكوفِسْبوشِي اكتشف قارَّةً جديدة، وهكذا يَجْعَل له من المجد ما لم تسمع به أُذُن وما لم يستحقَّه، ويخالف هَنْبُولْدُ هذه النظرية، ويُسَمَّى البلدُ الوحيد الذي اكتشفه أَمِرِيكو: كُولُونْبيا، نسبةً إلى كُولُونْبُس، ومع أن الرائدين إِيطاليان فإِنك لا تَجِدُ قسمًا من العالم الجديد يَتَكلَّمُ أهلوه باللغة الإيطالية، كما أنه لم يُتَحَدَّث فيه بالإيطالية قَطُّ.

وكان التجار أولَ مَنْ أدرك أمرَ الانقلاب الأكبر الذي حَدَث في تاريخ البحر المتوسط، وقد راعهم ما صَنَعه فاسْكُو دُوغاما أكثرَ مما صَنَعه كُولُونْبُس، وقد أَيْقَن سادةُ البُنْدُقية هؤلاء ما ينتظرهم من مصير، وقد كانوا من البصيرة ما يُوَجِّهُون أبصارهم معه نحو بَرْزَخ السويس من فَوْرِهم لإمكان حَفْرِ قناةٍ فيه ولوجودِ قناةٍ فيه مرتين فيما مضى، وإن كان ذلك على شكلٍ ابتدائيٍّ إلى الغاية، ومما نَعْرِف أن البندقية فاوضت سلطانَ مصرَ في هذا الموضوع حَوالَي سنة ١٥١٠، بَيْدَ أن تُرْكية كانت تَتَّسِع في ذلك الدَّوْر، فابتاع السلطان نهائيًّا لقبَ الخليفة ورايةَ النبيِّ المُقَدَّسة من آخر العباسيين بالقاهرة. وكان الترك في عَصْرِ ارتقائهم من القوة العظيمة ما لا يَتَنَزَّلون معه عن شيء للبندقيين في دور زوالهم، وكان غَرْبُ آسية قبضتَهم، وصارت مصرُ مُلْكًا لهم، وَلِمَ يَفْتَحُون طريقَ السويس تسهيلًا لأعمال النصارى إذَنْ؟

وكان أُفولُ البندقية يطابقُ أفولَ البحر المتوسط من وجوهٍ أخرى، وكانت بيزة وجِنِوَة قد خَسِرَتا سلطانَهما منذ زمن طويل، وكانت إيطالية منقسمةً إلى دُوَيْلَاتٍ كثيرة مستقلة، وكان كلٌّ من إسبانية وفرنسة مُوَحَّدًا على العكس من ذلك، أو يلوح أنه مُوَحَّدٌ على الأقل، وكان يَتَأَلَّف من الترك دولةُ البحر المتوسط العُظْمَى الوحيدة لتَحَوُّل الدول الغربية عنه مقدارًا فمقدارًا.

ولم يكن الانتقام غيرَ ذي عملٍ في خُسْرَان البندقية مقامَها المهيمن منذ حِلْف كَنْبرِي بين سنة ١٥٠٨ وسنة ١٥١٠، وكان البابا والإمبراطور وملك فرنسة غِضَابًا من محالَفاتٍ سَرْمَدِيَّة بين البندقية والكافرين، فانتزعا منها أملاكًا كثيرةً مع اجتناب إذلالها تمامًا. وقد أخذ الإسبان والبرتغاليون، الذين اغْتَنَوْا بالاكتشافات الحديثة، يسيطرون على البحر المتوسط، وقد زاد الإنكليزُ والهولنديون سلطانَهما فيه، ولو لم يكن غيرُ البرابرة مَنْ يَسْطُو على موانئه وشواطئه لَوُجِدَ فيه أجانبُ على الدوام كما تَرَى.

وهنالك مطابقةٌ بين ذلك النشوء وارتقاءِ الدول القومية الغربية السريع، وهُجِرَ البحرُ المتوسط المُهَذِّبُ للإِنسانية مدة ألفي سنة، وحَلَّق خيال العالم فوق بحارٍ محيطة أخرى. أَجَلْ، لم تغادر الحضارة سواحلَها، غير أنها انزوت مُعْتَزِلةً، وقد عادت غيرَ ساطعةٍ عندما لاحت في وَضَحِ النهار مرةً أخرى، أو أنها صارت تُرَى نادرًا فيما وراء شواطئ البحر المتوسط، وقد فتح العالَم دورًا جديدًا استحوذت التجارة والمقايضة فيه على النفوس، وليست القَارَّات الجديدة هي التي أدت إلى هذا الغَرَض، بل تَرَى هذا الغَرَض هو الذي حَفَزَ إلى اكتشافها منذ صار الناسُ جُسُرًا مستطلعين.

وخَسِر الكفاحُ الذهنيُّ منزلتَه في القرون الثلاثة التي عَقَبَتْ ذلك، وصار تاريخ البحر المتوسط تاريخًا تجاريًّا سياسيًّا تَبَعًا لذلك، وأصبح هذا البحر الذي كان مصدرَ كلِّ حافزٍ يَتَلَقَّى حوافزَه من الخارج، وغَدَتْ سفنُه أهمَّ من الأفكار التي يَنْشُرُها، وَغَدَت السِّلَعُ أثمنَ من الآدميين.

وأضحت هذه السِّلَعُ أقلَّ إثارةً لطمع أوروبة من قبلُ، ويأتي الذَّهَبُ من البلدان الجديدة البعيدة، وتُرْسَل إليها المُنْتَجات الخاصة، وتَحَوَّل البحر الذي كان مركزًا للعالَم إلى بحيرة داخلية، وعاد امتلاكُ مرافئه وشواطئه لا يكون مدارَ طمع الأقوياء، وانْدَلَق أبناء البحر القديم نحو العالَم الجديد.

١  الغيد: جمع الأغيد، وهو من لانت أعطافه.
٢  النورس: طائر مائي في حجم الحمام أو أكبر يعلو في الجو ثم يزج نفسه في الماء، ولا يأكل غير السمك، ويُدعى أيضًا «زمج الماء».
٣  الوكنة: عش الطائر.
٤  الأضواج: جمع الضوج، وهو منعطف الوادي.
٥  المقري: الذي يقري الضيف.
٦  Genou، وهي بمعنى الركبة.
٧  الدوكات: نقود ذهبية يساوي الواحد منها اثني عشر فرنكًا.
٨  مَلَقَه: تودَّد إليه وتذلَّل له.
٩  المساك: ما يُمسك به.
١٠  امتار: جمع الطعام والمؤنة.
١١  نسبة إلى تيتان، وهو ابن السماء والأرض كما جاء في الأساطير.
١٢  Classique.
١٣  بكاريا: من فلاسفة إيطالية وعلمائها في الفقه الجزائي (١٧٣٨–١٧٩٤).
١٤  السبابة: الإصبع التي بين الإبهام والوسطى.
١٥  Toulouse.
١٦  Gascogne.
١٧  Paroisse, Parish.
١٨  الندوب: جمع الندب، وهو أثر الجروح.
١٩  لقب بطلة فرنسة جان دارك.
٢٠  برامانت: مهندس بناء إيطالي (١٤٤٤–١٥١٤).
٢١  برنيني: مصور ونحات ومهندس إيطالي (١٥٩٨–١٦٨٠).
٢٢  Dramatique.
٢٣  الصلوات: معابد اليهود.
٢٤  Comptabilité double.
٢٥  Dynamisme.
٢٦  ابن نبتون، وهو جبار ذو عين واحدة في وسط جبهته كما جاء في الأساطير.
٢٧  Classique.
٢٨  Chèque.
٢٩  الأطناف: جمع الطنف، وهو ما أشرف خارجًا عن البناء.
٣٠  البانتليك: اسم جبل في بلاد اليونان.
٣١  النغيل: ولد الزانية لفساد نسبه.
٣٢  Les Philippe.
٣٣  Classique.
٣٤  نسبة إلى الغسق، وهو ظلمة أول الليل.
٣٥  من ولاية رومانية الإيطالية.
٣٦  السفافيد: جمع السفود، وهو حديدة يُشوى عليها اللحم.
٣٧  Canalisation.
٣٨  Parachutes.
٣٩  Mécanique.
٤٠  Les notes.
٤١  الغفارة: رداء واسع يلبسه رجال الدين في الكنائس.
٤٢  الحيزوم: وسط الصدر.
٤٣  المصاطب: جمع المصطبة، وهي المكان الممهَّد القليل الارتفاع يُجلس عليه.
٤٤  الشِّبام: الحشاك، وهو عود يُعرَّض في فم الجدي ونحوه ليمنعه من الرضاع.
٤٥  الدوكا: نقد ذهبي تترجح قيمة القطعة منه بين عشرة فرنكات واثني عشر فرنكًا.
٤٦  جمع الدوكا، وقد مر معناه.
٤٧  القلوس: جمع القلس، وهو حبل للسفينة ضخم.
٤٨  دون جوان: رجل أسطوري إسباني غاوٍ للنساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤