إلى المَنَار

يصير العِنَبُ أحمرَ في شهر سبتمبر، ويتحول بعضه إلى وَيْن،١ ويَغْدُو حُلْوَ الطعم في الجزيرة والبروفنس؛ حيث يكون الراحُ قِرْمَزيًّا خالصًا خفيفًا.

ويذهب حارس المنار وزوجته وأولاده الثلاثة إِلى الكَرْم الصغير المُعتَنَى به يومًا بعد يوم، وسينتهي اقتطاف العنب في هذا الأسبوع، وكان الأولاد يُسَرُّون، في البُداءَة، من الأكل حتى الشِّبَعِ من العِنَب المُذْهَبِ كلما جَنَوْه، وهم قد تَمَلَّئوا منه، وهم يَتَلَهَّوْن الآن مراهنين حَوْل مَنْ يقتطف أكثرَ من الآخر وحَوْلَ مَنْ يَمْلَأ سَلَّتَه أكثرَ من سواه، وأما أُمُّهم فهي مشغولةُ البال رصينةٌ، وهي تُبْصِر أَن البيع لا يعود بشيء نتيجةً لكثرة المحصول في هذه السنة، وهي ترى أن مائة الصَّاع من العنب تساوي من القيمة أقلََّ مما في العام الماضي بنسبة الربع، وإذا ما كان البستانيُّ تاجرًا أيضًا لم ينظر بعين الارتياح إلى مقاسمة جيرانِه إياه بَرَكةَ الأرض.

ويَقِفُ الحارس قريبًا من الكَرْم مسيطرًا عليه بطوله، وتبلغ الزوج من الطُّول ما تستطيع أن تَجْنِي معه عاليَ القُطُوف، ويجب على الأولاد أن يقفوا على رءوس أصابعهم، ومع ذلك فإن القُطُوفَ دانيةٌ في الغالب، وهي تكون من الدُّنُوِّ ما تقضي الضرورةُ معه في معظم الأوقات بمسح الغُبار الذي يسترها أو إزالتِه بالنَّفْخ، ويُلْقِي الحارس على أُسْرَته المحبوبة نظرة البَحَّارِ الخالصةَ الهادئة شاكرًا لِله، وينظر إلى ابنه الأكبر الذي يَحْمِل السَّلَّة ويضعها على الأرض حَذِرًا، ثم يسمع ابنته الصغرى وهي تنادي أخاها لشعورها بثِقَل سَلَّتِها، ثم يَعْدُو الابن الأصغر من طرفٍ إِلى آخر حاملًا إلى أبيه قِطْفَ عِنَبٍ يَظُنُّ أنه أكبرُ ما في الدنيا، ثم يركض نحو أمه ليمسح أنفه بمئزرها.

وما انفكَّ هذا المنظر الرِّعائيُّ في كلِّ خريف يُكَرَّر على شواطئ البحر المتوسط منذ ألوف السنين، وهو بعد أن كان من الطقوس المبهمة تحوَّل لدى الأغارقة إلى نوعٍ من الخِدَم الدينية، ثم صار عند الرومان عملًا مُنَظَّمًا ثم أصبح صناعةً فتجارةً.

واليومَ تراه استغلالًا تقوم بتنظيمه شِرْكات مهمة، ومع ذلك لا تَعْرِف بيوتُ التجارة التي تُرْسِل براميلَ مَرْسيلْية وجِنوَة ونابل شيئًا آخرَ غيرَ جداول الأرقام، وهي تجهل بين طقطقة الآلات الكاتبة ماذا يحدث في الكُرُوم، ولا يبالِي بالقُطُوف المنضودة غيرُ تجار الثِّمار، وتبدأ الأعمال التجارية بالبراميل والقوارير، ومهما يكن من أمرٍ فإن المنظر الرِّيفيَّ يتجلى تجلِّيًا ثابتًا في الكرمة، وهو ليس له من الفُتُون ما يكون له في موسم القَطْف.

ويَنْقُل الكَرَّامُ مثلَ عُدَّةٍ ذاتِ حَبْلٍ إلى حِماره، ويُعَلِّقُ سَلَّةً كبيرة به على حين يحفظ ابنه التوازنَ بجَرِّه الحبلَ من الناحية الأخرى، وتُعَلَّقُ السَّلَّةُ الأخرى، ويَسُوق الغلامُ الحمارَ، ويُكَرْدِح٢ الحمارُ نحو سُطُور الكرمة المُثْقَلَة بالثَّمَر، ثم يسير على الطريق المؤدية إلى قريةٍ على الشاطئ، وهنالك يُوضَع حِمْلُ الحيوان في باخرة صغيرة ويُنْقَل إلى حيث تَجْلُبُه عِجَالٌ إلى طولون.

ولِمَ يلائمُ هذا المنظرُ سَجِيَّةَ البحر المتوسط أكثر من ملاءمته أيَّ مكانٍ آخر في الدنيا؟ أَلَا تشتمل كلِيفُورْنية والشِّيلي وخليج بِسْقايَة وفرنسة على عِنَبٍ كثير العُصَارَة؟ أَلَا تُنْتج بُورْدُو وبُورْغُونية ألطفَ خَمْر؟ بَلَى، ولكنَّ كلَّ خَمْر يُنْتَجُ حَوْل البحر المتوسط متقارب متماثل، وانظر إلى خَمْرِ أفينيون المُزَّةِ التي لا ينبُت شجرُ عِنَبِها بعيدًا من جزيرة المنار، وانظر إلى خمر شَرِيش الأندلسية المُزَّة، فإلى خمر مالَقَة الثقيلة، فإلى خمر تُوسْكانة الرطيبة، وإلى جميع خمر إيطالية الوسطى، فإِلى خمر كابري الوردية، فإلى خمر فالِرْن الأكثرِ إشباعًا والصادرةِ عن تُرْبةٍ بركانية، فإلى خمر مَرْسَالَة الفائرة، فإلى خَمْرِ بحر إيجه الخَطِرة، فإلى خمر قبرس الجيدة، تَجِدْ جميع هذه الأنواع تحمِلنا، مع اختلافها، إلى التفكير في فصيلة واحدة تنقل صفاتِها الخاصةَ بالبحر المتوسط قرنًا بعد قرن، ولجميع هذه الأنواع قوةُ التهييج من غير أن تُحْدِثَ دُوَارًا، ولجميع هذه الأنواع قوةُ الإنعاش من غير إسكار، فخمرُ البحر المتوسط وشعوبُه مُعْتَدلة مُشَمَّسة.

ولا يُفَكِّر القاطفون في غير العناقيد التي تَصِلَ أيديهم إليها، ولا يُفَكِّر القاطفون في خمر البلدان البعيدة مطلقًا، وأما الحِمار فإنه لا يبالي في غير أمر واحد، في غير الوقت الذي يجب عليه أن يَحْمِل فيه السِّلَال قبل أن تُنْزِل وقبل أن يعود إلى مَقَرِّه خفيفَ الخُطا مُسْرِعًا مع ركوب الغلام عليه، وأما الغلام الذي يضربه صارخًا فإنه يُفْتَنُ بعَدْوِه ويُقَهْقِه أخوه الأصغر.

ويعود الحارسُ إلى المنار مساءً، ويُجَرِّب آلاتِه بانتظام ومن غير شعور تقريبًا، وهو يَشُدُّها ويطبطب٣ عليها وينظر إليها بمؤخر عينيه كأنه يَفْحَصُها، ثم يَتَصَفَّح يوميةَ المنار بسرعة، ثم يعود إلى كتابه ويُلْقِي نظرة خاطفة على ما قرأة في الليلة الماضية، ويقول في نفسه: «… من حُسْن الحظِّ أن البحر لم يكن مُهْمَلًا كما يَبْدُو من العُنوان، وما أكثر ما نرى من الاضطرابات والمعارك في غضون الزمان كما يقع عندنا مع عَدِّها أعظمَ سَلْمًا! هو يُحْسِن وصف قُورْسقة، ولكنه لا يقول ما فيه الكفاية عن جزائر إيرْس، أَجَلْ، إن حكاية المعركة البحرية الحائرة مُحْكمَة، بَيْدَ أن هنالك مئاتِ الاقاصيص الأخرى حَوْلَ القراصين الذين كان من عادتهم أن يختبئوا في الخُلْجان الصغيرة من هنا والذين لم يسمع عنهم المؤلف حديثًا على ما يُحتمل، وكنتُ قد قرأَت كثيرًا من التفصيل عن لِيبانْتة، وغيرُ قليلٍ ما حَدَث حَوْل مَرْسِيلْيَة وطولون! والواقع أن الكتاب لم يتكلم غير قليل عن فرنسة على العموم، ولا ريب أن المؤلف أعظمُ إيلافًا لتاريخ إيطالية، ويمكنني أن أقصَّ عليه الشئ الكثير، وليس من الضروريِّ أن يكون المؤلِّفُ أسنَّ من قارئه على الدوام، ولي أملٌ في اشتمال ما يأتي على كثيرِ أرقامٍ وقليلِ فلسفةٍ، وعلى قليلِ تاريخٍ عن الملوك وكثيرِ قولٍ عن القواعد البحرية وعن التجارة، وسنرى …»
١  الوين: العنب الأسود.
٢  كردح: عدا عدو القصير.
٣  من اصطلاح العوام، وهي معربة من كلمة Tapoter الفرنسية وكلمة Tap الإنكليزية، فاستعملناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤