همس الجنون

ما الجنون؟

إنه فيما يبدو حالةٌ غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج؛ أما الباطن، أما الجوهر، فسرٌّ مُغلَق. وصاحبُنا يعرف الآن أنه نزل ضيفًا بعض الوقت بالخانكة، ويَذكُر — الآن أيضًا — ماضيَ حياته كما يَذكُره العُقلاء جميعًا، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة — قصيرةً كانت والحمد لله — فيَقِف وعيُه حيال ذكرياتها ذاهلًا حائرًا لا يدري من أمرها شيئًا تطمئنُّ إليه النفس. كانت رحلةً إلى عالمٍ أثيريٍّ عجيب، مليء بالضباب، تتخایل لعينَيه منه وجوهٌ لا تتَّضح ملامحها، كلما حاوَل أن يُسلِّط عليها بصيصًا من نور الذاكرة ولَّت هاربةً فابتلعَتها الظُّلمة. ويجيء أُذنَيه منه أحيانًا ما يُشبِه الهمهمة، وما إن يُرهِف السمع ليميز مواقعها حتی تفرَّ مُتراجِعةً تاركة صمتًا وحَيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارًا كثيفًا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تَخفى، فاندثرت دون أن يُتاح لها مؤرخٌ أمين يُحدِّث بأعاجيبها. تُرى كيف حدثت؟! متی وقعت؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئًا غير العقل، وأن صاحبه أمسى فردًا شاذًّا يجب عزله بعيدًا عن الناس كأنه الحيوان المُفترِس؟!

كان إنسانًا هادئًا أخَصُّ ما يُوصَف به الهدوء المُطلَق. ولعله ذاك ما حبَّب إليه الجمود والكسل، وزهَّده في الناس والنشاط؛ ولذلك عدَل عن مرحلة التعليم في وقتٍ باكر، وأبى أن يعمل مُكتفيًا بدخل لا بأس به. وكانت لذَّته الكبرى أن يطمئنَّ إلى مجلسٍ مُنعزِل على طوار القهوة فيُشبِّك راحتَيه على رُكبته، ويلبث ساعاتٍ مُتتابِعات جامدًا صامتًا، يُشاهد الرائحين والغادين بطرْفٍ ناعس وجَفنَين ثقيلين، لا يملُّ ولا يتعب ولا يجزع؛ فعلى كرسيِّه من الطوار كانت حياته ولذَّته. ولكنَّ وراء ذلك المَظهر البليد الساكن حرارةً أو حركةً في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال، كان تمثالًا من لحم ودم يلوح كأنما يُشاهد الناس وهو بمَعزل عن الحياة جميعًا.

ثم ماذا؟!

حدث في الماء الآسن حركةٌ غريبة فجائية كأنما أُلقيَ فيه بحجر.

كيف؟!

رأى يومًا — إذ هو مُطمئنٌّ إلى كرسيه على الطوار — عُمالًا يملئون الطريق، يرشُّون رملًا أصفر فاقعًا يَسرُّ الناظرين، بين يدَي مَوكبٍ خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشتَه شيءٌ فيتساءل: لماذا يرشُّون الرمل؟ ثم قال لنفسه إنه يثور فيَملأ الخياشيم ويؤذي الناس، وهم أنفُسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمُّونه، فلماذا يرشُّونه إذَن؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك، فخالَ أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد في عملية الرش أولًا، والكنس أخيرًا، والأذى فيما بين هذا وذاك؛ حيرةً أيَّ حيرة، بل أحسَّ ميلًا إلى الضحك، ونادرًا ما كان يفعل، فضحك ضحكًا متواصلًا حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ، فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حالٍ جديدة، ومضى يومه حائرًا أو ضاحكًا، يُحدِّث نفسه فيقول كالذاهل: يرشُّون فيؤذون ثم يكنسون .. ها ها ها!

وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حَيرته بعد. ووقف أمام المرآة يُهيِّئ من شأنه، فوقَعَت عيناه على ربطة رقبته، وسُرعانَ ما أدركَته حَيرةٌ جديدة، فتساءل: لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نَشقُّ على أنفُسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحَيرة ودهشة، ومضى يُقلِّب عينَيه في أجزاء من ملابسة جميعًا بإنكار وغرابة. ما حكمةُ تكفين أنفُسنا على هذا الحال المُضحِك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضًا؟ لماذا لا نبدو کما سوَّانا الله؟ بيدَ أنه لم يتوقَّف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادَر البيت كعادته.

ولم يَعُدْ يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهرًا طويلًا قانعًا مُطمئنًّا. کیف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخِناقه على رغمه؟! أجل على رغمه. وقد اجتاحته موجةُ غضب وهو يحثُّ خُطاه، وكَبُر عليه أن يرضى بقيد على رغمه. أليس الإنسان حُرًّا؟ وتفكَّر مليًّا ثم أجاب بحماس: بلى أنا حُر. وملأه بغتةً الشعور بالحرية، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفَّه الطَّرَب. أجل هو حُر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينًا لا سبيل إلى الشك فيه، إنه حُر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء، غير مُذعِن لقوة أو خاضع لعلة لسببٍ خارجي أو باعثٍ باطني. حل مسألة الإرادة في ثانيةٍ واحدة، وأنقذها بحماسٍ فائق من وطأة العِلل. وداخَله شعور بالسعادة والتفوق عجيب، فألقى نظرةَ ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السُّبل مُسيَّرين مُصفَّدين لا يملكون لأنفُسهم ضرًّا ولا نفعًا؛ إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حين يريد، مُزدرِیًا کل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعورُه الباهر أن يُجرِّب قُوَّته الخارقة فلم يستطع أن يُعرِض عن نداء الحرية. توقَّف عن مَسيره بغتةً وهو يقول لنفسه: «ها أنا ذا أقف لغيرِ ما سبب.» ونظر فيما حوله في ثوانٍ ثم تساءل؛ أيستطيع أن يرفع يدَيه إلى رأسه؟ أجل يستطيع، وها هو ذا يرفع يدَيه غير مُكترِث لأحد من الناس. ثم تساءل مرةً أخرى؛ هل تؤاتيه الشجاعة على أن يقف على قدمٍ واحدة؟ وقال لنفسه: فلِمَ لا أستطيع؟ وما عسى أن يَعتاق حُرِّيتي؟! وراح يرفع يُسراه كأنه يقوم بحركةٍ رياضية في أناة وعدم مُبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤادَه طمأنينةٌ سعيدة، وملأته ثقةٌ بالنفس لا حد لها؛ فمضى يتأسَّف على ما فاته — طَوال عمره — من فُرَص كانت حَريَّة بأن تُمتِّعه بحُرِّيته وتُسعِده، واستأنف مَسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.

ومرَّ في طريقه إلى القهوة بمطعمٍ كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين، فرأى على طواره مائدةً مَلْأى بما لذَّ وطاب، يجلس إليها رجل وامرأة مُتقابلان يأكلان مريئًا ويشربان هنيئًا، وعلى بُعدٍ يسير جلس جماعة من غِلمان السُّبل عرايا إلا من أسمالٍ بالية، تَغْشى وُجوهَهم وبشرتَهم طبقةٌ غليظة من غبار وقذارة؛ فلم يرتَح لما بين المَنظرَين من تنافر، وشارَكَته حريتُه عدم ارتياحه فأبَتْ عليه أن يمرَّ بالمطعم مرَّ الكرام، ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزمٍ ويقين: «ينبغي أن يأكل الغِلمان مع الآخرين.» ولكنَّ الآكلَين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام، هذا حقٌّ لا ريب فيه، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوَّثَت بالتراب فما من قوةٍ تستطيع أن تحرمها الغلمان؛ فهل ثَمة مانعٌ يمنعه من تحقيق رغبته؟ .. هيهات، وربما كان التردد مُمكِنًا في زمنٍ مضى، أما الآن … واقترب من المائدة بهدوء، ومدَّ يده إلى الطبق وتناوَل الدجاجة، ثم رمی بها عند أقدام العرايا، وتحوَّل عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأتِ أمرًا نُكرًا، غير عابئ بالزئير الذي يُلاحِقه مُفعَمًا بأقذع السِّباب والشتائم، بل غلبه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكًا حتى دمعت عيناه، وتنهَّد بارتياح من الأعماق، وعاوَده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.

وبلَغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأنَّ إليه كعادته، بيدَ أنه لم يستطِع هذه المرَّةَ أن يُشبِّك راحتَيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود. لم تُطاوِعه نفسه؛ فقد فقدَت قُدرتها على الجمود، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه، حتی همَّ بالنهوض، إلا أنه رأى — في تلك اللحظة — شخصًا غير غريب عن ناظِرَيه، وإن لم تَصِله به أسباب التعارف. كان من رُواد المقهى مِثله، وكان جسمًا ضخمًا وأوداجًا مُنتفِخة، يسيرُ مرفوع الرأس في خُيلاء، مُلقيًا على ما حوله نظرةَ تَرفُّع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو، كأنما يُثير الخلقُ في نفسه ما تُثيره الديدان في نفسٍ رقيقة مُرهَفة الحِس، وكأنه يراه لأول مرة. بدا له قُبحُه وشذوذه عاريًا، فغالَبَته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكَّت هذَين اليومين تُعابِثه، ولم تُفارِقه عيناه، وثبتت خاصةً على قفاه يَبرُز من البَنِيقة عريضًا مُمتلئًا مُغْريًا. وتساءل؛ أيَتركُه يمرُّ بسلام؟ مَعاذَ الله، لقد ألِفَ داعيَ الحرية، وعاهَده ألا يُخالِف له أمرًا. وهزَّ مَنكبَيه استهانةً، واقترب من الرجل فكاد يُلاصِقه، ورفع يده وهوی بكفِّه على القفا بكل ما أُوتيَ من قوة، فرنَّت الصفعة رنينًا عاليًا، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكًا، ولكن لم تنتهِ هذه التَّجرِبة بسلام كأُختها السابقة، فالْتفَت الرجل نحوه في غضبٍ جنوني، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربًا ورکلًا حتى خلَّص بينهما بعض الجلوس. وفارَق القهوة لاهثًا، ومن عَجبٍ أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم؛ وعلى العكس من ذلك ألمَّت بحواسه لذةٌ عجيبة لا عهد له بها من قبل، وافترَّ ثَغرُه عن ابتسامة لا تُزايِله، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يَغْشيان أيَّ ألم، ولم يَعُد يكترث لشيءٍ غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان، وأبى أن يغيب عنها ثانيةً واحدة من حياته؛ ومن ثَم ألقى بنفسه في تیَّارٍ زاخر من التجارِب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تُقهَر. صفعَ أقفية، وبصقَ على وجوه، وركلَ بطونًا وظهورًا، ولم ينجُ في كل حال من اللكمات والسِّباب؛ فحُطِّمت نظَّارته، ومُزِّق زرُّ طربوشه، وتهتَّك قميصه، ونغضَت ثنيَّتاه، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر، ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارَق الابتسام شفتَيه، ولا خمدت نشوة فؤاده الثَّمِل؛ ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هيَّاب.

ولما آذنَت الشمس بالمغيب عثرَت عيناه المُتجوِّلتان بحسناء مُقبِلة مُتأبِّطة ذراعَ رجل أنيق المنظر، تَرفُل في ثوبٍ رقیق شفَّاف، تكاد حلمةُ ثديها تثقب أعلى فُستانها الحريري، وجذب صدرُها الناهد عينَيه فزادتا اتساعًا ودهشة، وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوةً فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.

وكان عقله — أو جنونه — يُفكر بسرعةٍ خيالية، فخطرَ له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة! إن رجلًا ما فعل ذلك على أية حال، فليَكُن هذا الرجل. واعترض سبيلهما، ومدَّ يده بسرعة البرق وقرص! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات، وأحاط به كثيرون، ولكنَّهم في النهاية تركوه! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم، ولعل نظرة عينَيه المُحملِقتَين أفزعتهم. تركوه على أية حال. ونجا ولم تكَد تزداد حالته سوءًا! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه، فهالَه ما يرى من تمزُّقها وتهتُّكها. وبدلًا من أن يأسى على نفسه راح يَذكُر ما دار بخَلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينَيه نظرةٌ غائبة، وعاد يتساءل؛ لماذا يدع نفسه سجينًا في هذه اللفائف تُشَد على صدره وبطنه وساقَيه؟! وناءَ بثِقلها، وشعَر لوطأتها باختناق، فغليَت مَراجله، ولم يستطع معها صبرًا، وأخذت يداه تنزعانها قطعةً قطعة، بلا تمهُّل ولا إبطاء، حتى تخلَّص منها جميعًا؛ فبدا عاريًا كما خلقه الله، وعابَثَته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكًا، واندفع في سبيله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤