الزيف

كان التياترو مُكتظًّا بالنظَّارة، حيث كانت تُمثَّل رواية البخيل لموليير، وكان جمهوره كالمُعتاد خليطًا من طلَّاب التسلية ومُحبِّي الظهور ومُدَّعي الفن وعُشاق الخيال. وكان علي أفندي جبر، المُترجِم بوزارة الزراعة، بين الجالسين في الصفوف الأمامية، وكان يتتبَّع التمثيل بين اليقظة والنوم، واضعًا خدَّه على يده، ومُسنِدًا مرفقه إلى مسند المقعد. وكان قد طالَع في بعض المجلات عن الرواية ما جعله يظنُّها آية من آيات الكوميدي، فجاء التياترو بنفسٍ توَّاقة إلى الضحك والسرور، وسُرعانَ ما خاب رجاؤه وفترَت حماسته، وكاد يستسلم للنعاس، ولكن الأقدار أرادت أن تتبرَّع بتعويضه عن خيبته؛ ففي أثناء الاستراحة دنا منه النادل وانحنی على أذنه، وقال باحترام وتأدُّب: هل للبك أن يتفضَّل بالذَّهاب إلى البنوار رَقْم واحد؟

ثم ذهب إلى حال سبيله، ونظر علي أفندي إلى البنوار رقم واحد فرأى الستار الأبيض مُسدَلًا عليه، فأدرك أن به «حريمًا»، وقام من توِّه وغادَر الصالة، وقصد إلى البنوار وهو يضرب أخماسًا في أسداس، وطرَق الباب مُستأذنًا، فسمع صوتًا رخيمًا لا يعرفه يقول: تفضَّل.

فتردَّد لحظةً سريعة لأنه أدرك — لدى سماعه الصوت الغريب — أن في الأمر خطأً، ولكنه كان من الرجال الذين تغلبهم على نفوسهم في مَحضر النساء جسارةٌ غير محدودة، وحُب للمُجازَفات، وثقة بالنفس وطيدة، فاقتحم الباب غير هيَّاب، وصار وجهًا لوجه أمام السيدة الجالسة. وكانت في الأربعين مُمتلئة الجسم ناضجة الأنوثة، يُزيِّن وجْهَها العاجيَّ حُسنٌ تُرکي مُمصَّر، ويدل على طبقتها العالية ثوبُها الأنيق ونظرتها الرفيعة وحُليُّها الثمينة، وقد بُهِر الرجل أمام روعة الحُسن، وانحنى باحترام وهو يقول في إشفاق: «وا أسفاه، ستعلم السيدة بالخطأ وسُرعانَ ما تنتهي المقابلة!» ولكن خاب ظنُّه لأن السيدة ابتسمت إليه تُحيِّيه كأنه هو المَعني، وقالت برِقة تُعرِّفه بنفسها: أرجوك ألا يسوءك إقلاقي لراحتك .. أنا أرملة المغفور له علي باشا عاصم!

يسوءه! ينبغي أن يَعدَّ نفسه من المحظوظين في هذه الدنيا؛ لأن سيدة كتلك السيدة تقول له مِثل ذلك الكلام بتلك اللهجة الرقيقة! تُرى لماذا دعته لبنوارها؟ فهو لا يَذكُر أنه رآها من قبل، وإن كان يعلم عِلم اليقين أنه قرأ اسمها في بعض الأخبار الخاصة بالجمعيات النسائية، وخيَّل إليه غروره أنها ربما رأته من حيث لم يرَها، وأنها ربما وقع في نفسها منه — كما حدث لغيرها، وإن كُنَّ لَسْن من نوعها — ما علَّقها به؛ فإذا صدَق حدسه — والدلائل تُجمِع على صِدقه — فهي تدعوه كما دعت قديمًا امرأةُ العزيز فتاها!

وأحسَّ بنشوة فرح وزهو، وقال للمرأة بكل رقة وهو ينظر إليها كما ينظر الإنسان إلى شيءٍ ثمين يملكه: العفو يا صاحبة السعادة .. خادمك.

وهمَّ أن يُقدِّم لها شخصه العزيز، واستدلَّت السيدة من لهجته على ذلك، فأشارت إليه بيدها البضَّة، وقالت بسرعة وهي تَبسِم عن درٍّ نضيد: وهل أنتَ في حاجة إلى تعريف يا أستاذ …؟ تفضَّل.

وجلس كما أرادت، ولكن عبارتها الأخيرة قلبَت ما بنفسه رأسًا على عَقِب؛ فعَلاه الوجوم، وأطفأ الكدر نور السرور في عينَيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون فاتنًا محبوبًا من النساء، وأن تقع في غرامه حَرمُ عاصم باشا، ولكن مما لا ريب فيه أنه في حاجة إلى تعريف ككل إنسان، وأنه لم يكن أبدًا في غِنًى عن التعريف، فماذا تعني السيدة الجميلة بقولها هذا؟ إنه يكاد يهتدي إلى وجه الحق، وقد ساعَده على ذلك قولها له «يا أستاذ»؛ فهل تظنُّ السيدة أنه شاعر مصر الأكبر، بل شاعر الشرق العربي جميعًا الأستاذ محمد نور الدين؟

والحق أن المشابهة التي بينه وبين سيِّد الشعراء معروفةٌ مشهورة، يعلم بها جميع أصحابه، وطالما جعلوا منها موضوعًا للتنكيت والقفش؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل الذي يحدُّ من أعلى بجبهةٍ عالية، ومن أسفل بذقنٍ عريضة، وكلاهما له هذا الأنف الروماني العظيم، والشارب الشركسي الغزير، ولا اختلاف بينهما إلا أنه أطول من الشاعر وأعظم امتلاءً؛ وهذا يدل على أن السيدة — فيما لو صدَق ظنُّه — لم ترَ الشاعر إلا في إحدى صوره التي تظهر أحيانًا في المجلات والصحف.

وا أسفاه! ذاق حلاوة الفوز ومرارة الهزيمة في لحظةٍ واحدة، فهل يتراجع ويرضى بالغنيمة بالإياب؟ ولكن مِثل هذا التردد لم يكن ليُخالِجَه إلا لحظاتٍ قصيرة العمر؛ لأنه — كما قلنا — يفقد رشاده في حضرة النساء، ولا يفكر إلا في انتهاب اللذة واقتناص الفرصة، فجلس مُبتسمًا على ما به من خيبةٍ مريرة، مُطمئنًّا كما ينبغي لشاعر مصر العظيم.

وقالت السيدة: سيدي الأستاذ، إن معرفتي بك قديمة جدًّا لا كما تظن، وإن أفضالك على روحي لا تُقدَّر بثمن، ولا يُحصيها عد، وطالما منَّيتُ نفسي بالتحدث إليك، وكم كان فرحي عظيمًا حين عثر بصري بك فلم أتردَّد عن دعوتك، وإني أرجو يا سيدي أن تغفر لي تطفُّلي.

فقال علي أفندي وقلبُه يلعن الشاعر: ما أسعدَني بعطفك يا سيدتي! إننا معشر الشعراء لنحرق أرواحنا في سبيل الخلود والشهرة، ومثل إعجابك يا سيدتي أثمَنُ لديَّ من الخلود والشهرة!

فتورَّدَت وَجْنتا المرأة، ورنَت إليه بعينَين ناعستين، وقرأت في عينَيه ما حملها على تجنُّب حديث العواطف وإن كانت تُضمِر الرجوع إليه في المستقبل! فقالت: هل أعجبَتك الرواية؟

الرواية التي صدَّعت رأسه وفرَّ منها إلى النعاس!

إنه كان حكيمًا فلم يُسارِع إلى مُصارَحتها برأيه، ولم تنتظر السيدة جوابه، فقالت بثقة: لا شك أنك تُعجَب بها أيَّما إعجاب؛ لأنها من تلك الفكاهة العالية التي كتبتَ عنها فصلًا رائعًا في كتابك الخالد «فلسفة الجمال»، وقد كان هذا الفصل سبيلي إلى تذوُّق موليير وتوين وشو.

فحَمِد الله أن لم يَذكُر رأيه الحقيقي، وهزَّ رأسه باسمًا، وقال باطمئنانٍ عجيب: البخيل آيةٌ فنيةٌ رائعة، وهي من الآيات التي لا تمنح كُنوزَها مرةً واحدة. ولقد قرأتها مرةً وأخرى، وها أنا ذا أُشاهدها للمرة الثالثة، وفي كل مرة أفوز بحُسنٍ جديد!

فابتسمت السيدة وقالت: إذَن أصاب ظني!

فقال علي أفندي: إنكِ يا سيدتي آية في الذكاء.

ولم يأذن الوقت بالاسترسال في الأحاديث؛ إذ دقَّ الجرس مُعلِنًا انتهاء الاستراحة، فاضطُرَّ علي أفندي أن يستأذن في طلب الانصراف، وقالت السيدة وهي تُودِّعه: أرجو أن تُشرِّف قصري بزیارتك.

فقال وهو ينحني على يدها: لي عظيم الشرف يا سيدتي.

– يوم الأربعاء الساعة السابعة مساءً .. شارع خمارويه رقم ۱۰ بالزمالك.

وتنهَّدت المرأة ارتياحًا، وظنَّت أنها نالت أُمنية من أعزِّ أمانيها. وكانت مخلوقةً سعيدة الحظ كأن الأقدار تتوخَّى راحتها؛ تزوَّجت من رجل من رجال مصر القانونيين المعدودين، فتمتَّعت برجولته، وكفاها الموتُ شرَّ شيخوخته، وترك لها مالًا وجاهًا واسمًا عظيمًا، ولكن ضايَقها ظهور منافسة خطيرة لها هي أرملة الدكتور إبراهيم باشا رشدي، يَجري ذِکر جمالها — مِثلَها — على الألسُن، وتتحدَّث بثرائها المجتمعات، وقد وضعتهما المصادفات في حيٍّ واحد، وأغْرَت بينهما العداوة والبغضاء؛ فكلتاهما تتمتَّع بأنوثةٍ ناضجة وجمالٍ فتَّان وثروةٍ طائلة، وتَملِك قصرًا فخمًا يَتِيه على قصور الأُمراء. وكانت كلٌّ منهما تعتزُّ بنفسها، وتودُّ لو يغلب نورها نور الأخرى، فتنافستَا في اقتناء السيَّارات الثمينة والتُّحف النادرة والثياب الأنيقة، وتسابقتَا في ميدان الظهور تَعرِضان حسنهما وتَنثُران حديثهما، واتخذت كلٌّ منهما بطانة من كرائم الأُسر والآنسات المثقَّفات. وقد علمَت حرم عاصم باشا يومًا أن مُنافِستها دعَت إلى تأليف جمعية المرأة الحديثة، فلم يرتَح لها جانب حتى كوَّنَت جمعية تعليم الأُميات. وسمعَت يومًا بأن الأخرى تبرَّعَت بمبلغٍ كبير من المال مُساهَمةً في إنشاء مدرسة كبيرة، وأن الصحف أثنَت عليها جميل الثناء، فأمرَت بتشييد جامع كبير في عزبتها، ودعت لالتقاط صوره مُصوِّرَ أكبر مجلة في مصر، وطلبت إليه أن يُثني على ورعها وتقواها!

وكان آخر ما نمى إلى مسامعها من أخبارِ مُنافِستها ما لاكَته الألسُن من أن الموسيقار المعروف الأستاذ الشربيني قد شُغِف بها حُبًّا، وأنه لا يفتأ يتردد على قصرها، وأن الدور الذائع الصيت «حبِّيت يا قلبي»، الذي يتغنَّى به المصريون جميعًا وتهفو إليه نفوسهم؛ لُحِّن بوحي جمالها! وما علمَت بهذه الأخبار حتی الْتهبَت نفسها الْتهابًا واحترق قلبها احتراقًا، وتلفَّتَت يَمنةً ويَسرةً تبحث عن عاشق «شهير» تصير بحبه حديثًا مُمتعًا، وتغدو له وحيًا مُلهِمًا، فذكرت شاعر مصر محمد نور الدين؛ فهو المصري الوحيد الذي له ما للشربیني من الشهرة والمكانة، وهو أجدر الناس بتخليدها في قصيدة كما خلَّد الشربيني مُنافِستها في أسطوانة. وفي تلك الأثناء رأت الشاعر مُصادَفةً في التياترو، وكانت تُفكر في وسيلةٍ تَصِل بها إليه، فهل كنَّا مُغالِين إذ قلنا إنها نالت أُمنية من أعز أمانيها؟

•••

أما علي أفندي جبر، فقد رجع إلى مقعده وهو يُلقي على الحاضرين نظرةً فاحصة خشيةَ أن يكون الشاعر الأصلي بين النظَّارة! وقد ساءل نفسه: «ألا يَجدُر بي أن أفرَّ؟» ولكنه لم يكن جادًّا في سؤاله؛ لأنه لم يعتَد الفرار من ميدان النساء.

ولم يألُ جهدًا في التأهب والاستعداد ليُتقِن تمثيل شخصيته الجديدة، فطبع بطاقات بِاسم محمد نور الدين، ورأى عن حكمةٍ أن يُلقيَ نظرةً سطحية على مُؤلَّفات الشاعر؛ فذهب إلى مكتبه وطلب مُؤلَّفاته، فسأله الكُتبي: كلها؟

فقال: نعم.

فقال الرجل: الطلب غير ممكن الآن يا أستاذ؛ لأن بعضها نَفِد، والبعض غير موجود في المكتبة؛ فإذا انتظرت إلى الغد …

ولكنه قاطَعه مُتسائلًا: ما الحاضر بين يدَيك؟

فقال الرجل: دواوينه الأربعة؛ النور والظلام، والجحيم، والرحلة الروحية، والسماء السابعة؛ وکتاب فلسفة الجمال، والرحلة الشرقية، والجزء الثاني من كتاب الغد.

وهالَه الأمر وأُسقطَ في يده، ولم يرَ بُدًّا من ابتياعها جميعًا، وكانت المرَّةَ الأولى في حياته التي يشتري فيها ديوان شِعر؛ لأنه بطبعه لا يُحبُّ الشعر ولا يهضمه، ولا يجد مُسوِّغًا مُطلَقًا للقوافي التي يُضمِّنها معانيه؛ فلماذا لا يُرسِل الكلام على سجيَّته؟ وإنه لينفث في آذان النساء غزلًا يعتقد أنه أرَقُّ الكلام وأمتعه، ومع هذا لم يشعر بالحاجة إلى تنسيقه في بيت من الشعر، ولم يقرأ من الشعر طَوال حياته سوى المحفوظات المدرسية وهو كاره؛ فما كان يَخطُر له على بالٍ أن يشتريَ ديوانًا من الشعر فضلًا عن أربعة دواوين كاملة، ولكنْ قدر فكان!

وقال لنفسه مُتبرِّمًا وهو يحملها إلى بيته: «أعقِلُ أن يُكلِّفني الحب مالًا أو مطاردةً خطرة أو صبرًا طويلًا أو شجارًا عنيفًا، أما الذي لا أعقله أن يتقاضاني قراءةَ هذه الكتب؛ فهل أنا عاشقٌ أم تلميذ؟»

وأخذ يُقلِّب صفحات الكتب، فغصَّ بالشعر كما توقَّع ولم يَفقَه له معنًى، ولو كان يسيرًا مثل «إذا نام غِرٌّ في دُجى الليل فاسهَرِ» لَهانَ الأمر، ولكنه كان من نوعٍ عجيب؛ سهل الألفاظ مُغلَق المعاني! وهذا غزَل نور الدين، فما بالك لو تطاوَل إلى الأغراض الأخرى التي يَجفل قلبه من مجرد تلاوة عنواناتها؟! والأدهى من ذلك وذاك أنَّ نثره ليس بخير من شعره؛ فقد قرأ صفحات من کتاب فلسفة الجمال ما كان يظنُّ أن إنسانًا عاقلًا ينشرها على الملأ، وضاق صدره بنور الدين وشِعره ونثره فرَمی بالكتب جميعًا، ولكنه قال بإصرار وعناد: «سأذهب يوم الأربعاء.»

وفي المَوعد المسمَّى ذهب إلى قصر السيدة الجليلة بشارع خمارويه، وكان باديَ الوجاهة والأناقة، وأرسل بطاقة إلى ربَّة القصر، فقاده الخادم إلى صالون رائع لم يرَ أجمل منه على كثرةِ ما غشيَ من الصالونات الفخمة، ولكنه لم يدهش لأن مَنظر الحديقة والقصر الخارجي سلَبَه كل دهشة. وكان يكره الانتظار؛ لأن أمثاله من المُغامِرين تؤاتيهم النجدة بداهةً وارتجالًا، وتُشحَذ أسلحتهم في أثناء المَعمعة، مَثلُه في ذلك مَثلُ الخطيب المطبوع الذي يُلهِمه الجمهور المعاني فيَتدفَّق؛ ولذلك أحسَّ بارتياحٍ عجيب حين رآها تُشرِق عليه من باب الصالون في فستان أبيض غير كتوم، يُعلِن عن جمال كل ثنيَّة من ثنیَّات جسمها اللَّدْن، ويَبِين خاصَّةً عن الخصر الدقيق الذي يتعلق به كَفَلاها الثقيلان، فطرَد بقوة إرادته بقيةَ قلقٍ كانت عالقةً بنفسه، وانحنی باحترام، فأعطَته يدها فضغط عليها بحُنو، ثم قال وهما يجلسان: لقد حسبتُ الأيام ساعةً فساعة!

فابتسمَت السيدة وقالت بلهجة لم تخلُ من عتاب: هذا معنًی مُبتذَل لا قرابة بينه وبين معانيك الشعرية الخالدة.

فاحتدم الغيظ في قلبه، ولعن الشعر والشاعر، وتذكَّر قراءته لبعض المعاني «الخالدة» التي لم يَفقَه لها معنًی، وعَجِب کیف تُؤثِرها هذه السيدة العجيبة على عبارته البسيطة التي طالما نصبَت الشِّراك وغزَت الحصون! وأراد أن يلتمس لعجزه عن خلق المعاني «الخالدة» عذرًا فلسفيًّا، فقال: مَعذرةً يا سيدتي، إني إذا غشيَني لألاء الحُسن السامي ترکت نفسي على فطرتها، وهجرت إلى حينٍ المعانيَ التي يُبدِعها التفكير والتكلف.

فاتَّسعَت عينا السيدة الجميلتان، وقالت بإنكار: یا عَجبًا! ألستَ القائل يا أستاذ في مقدمة ديوانك إن شِعرك شِعر الفطرة والطبع؟ أوَلستَ الآخذ على شعراء المدرسة القديمة تكلُّفهم؟!

فأُسقطَ في يده، ووجد أن الحذر لم ينفعه، وخشيَ أن يفقد ثقته بنفسه، فقال بلهجة العالم الذي يعني ما يقول: إن الشعر يا سيدتي مزيج من الفطرة والتفكير، والتفكير غير التكلف، وما أردت قولَه هو أن الشاعر في حضرة الحُسن يستبدُّ به الشعور الخالص.

وأشفق من أن تسأله مثلًا عن الفرق بين التفكير والتكلف أو معنى الشعور الخالص، ولكن السيدة قالت بإعجاب: صدَقتَ يا أستاذ، ولعل هذا يُفسِّر قولك إن الشِّعر لا يُعبِّر عن عاطفة إلا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها.

فهزَّ رأسه مُبتسمًا وهو يتنهَّد ارتياحًا: وهو الحق المُبين يا سيدتي. أرى أن رأسك مُتوَّج بتاجَي الحُسن والأدب!

فتورَّد خدَّاها وقالت بحماس: إني واحدة من قرَّائك المُعجَبين .. وقد قرأتُ مُؤلَّفاتك بإمعان وشغف.

فقال: أين لي قرَّاء مِثلك يا سيدتي العزيزة؟ .. إن البلد لا يُقدِّر الكاتبين.

– هذا حق وا أسفاه على وجه العموم! ولكن يُقال إن لك جمهورًا تُحسَد عليه يا سيدي الأستاذ.

فأشار بيده إشارةً تدل على الأسف وقال: لو أُتيحَ لي أن أكتب باللغة الإنجليزية مثلًا!

فسألته السيدة بقلق: أوَليس لك الجمهور الذي تُحسَد عليه؟

فقال باطمئنان: جمهور قُرَّائي يربو على ضِعفَي جمهور أي كاتب آخر في الشرق الإسلامي.

– يا لها من مكانةٍ سامية!

فهزَّ رأسه أسفًا وقال: لقد دفعت شبابي وقوَّتي ثمنًا لها.

– أآسفٌ أنت على هذا؟

– لا أدري.

– لقد خلَّدتَ شبابك في آثارك الباقية.

– أيهما أفضَل؟ أن يُخلَّد شبابي کي يتمتَّع به غيري أم يَفنى وأتمتَّع به وحدي؟

– لا تناقُض بين الاثنين؛ فإنك تستطيع أن تستهلكه في مُتعتك ثم تُخلِّده في شِعرك، أتسألني وأنت أستاذي؟!

– هذه سعادة لا تُتاح لغير المجدودين.

– وإنك لمن المجدودين.

فنظر إليها نظرةً لو تحوَّلَت إلى كلمة لوقَع قائلها تحت طائلة قانون العقوبات، وكان يُجيد هذه اللغة، ثم قال بخُبث: إنكِ يا سيدتي تتحدَّثين عن حظِّي كما لو كان مصيره بين يدَيك.

فتخضَّب خدَّاها باحمرارٍ طبیعي غلَب أحمرها الصناعيَّ الخفيف، وما كانت تكره أن يكون مصير سعادته بين يدَيها، ولكنها ادَّخرت هذا الحديث إلى وقتٍ آخر، فغيَّرَت مَجراه وقالت فجأةً: ينبغي أن أنتهز فرصةَ وجودك معي لأسألك عن معنى بعض الأبيات الشعرية التي استغلقَت عليَّ.

فخفق قلبه خفقةً شديدة أيقظَته من غيبوبة الغرام، وذُعِر ذُعرًا شديدًا؛ إذ کیف له بشرح معاني شِعر نور الدين المُغلَقة وهو الذي لا يفهم أيسَر الشعر وأسلَسه؟ وخشيَ إن تردَّد أن يخسر كل شيء بعدَ أن أوفى على الفوز، فقال بقوة: اعفيني يا سيدتي.

فسألته دهِشةً: ولمَ؟ هل يَبرَم الشاعر بشعره أحيانًا؟

– لیس الأمر كذلك، ولكن قد يسمو الشاعر حينًا على شعره فيَخاله بعض مظاهر العالم المادي! وإني الآن في نشوةٍ روحية من تلك النشوات التي تخلق الشعر، فكيف أنزل إلى الشرح والتفسير؟

فغمَرَتها موجة فرح وسعادة، وسألت نفسها: «تُرى هل أكون غدًا بطلةَ قصيدة رائعة خالدة؟» سألته في لهفة: أحقًّا ما تقول يا سيدي؟

– كيف يُداخِلك شك في هذا؟ تالله إذا لم تخلق هذه الساعة شِعرًا فلا خُلِق الشعر أبدًا!

فامتلأ قلب المرأة فرحًا ومنَّت نفسها بأسعد الأماني.

وفي تلك اللحظة دخلت خادم تُعلن قدوم زائرات، ولم تُفاجأ السيدة — كما فوجئ الأستاذ — بقدومهن، كأنها كانت على مَوعد معهن، وأمَرَت الخادمة بإدخالهن، وبعد لحظةٍ قصيرة دخل ثلاث آنسات حِسان يَحتار ماء الشباب في وجوههن، وتلقَّتهن بتَرحاب، وقدَّمت إليهن الشاعر بلهجةِ فخار قائلةً: الأستاذ محمد نور الدين سيِّد شعراء الشرق.

وقدَّمَتهن إليه واحدةً واحدة قائلةً إنهن من عضوات جمعية تعليم الأمِّيات التي تتشرَّف برئاستها، ثم قالت: إنهن أديباتٌ مُثقَّفات، ولكن وا أسفاه فإن ثقافتهن قاصرة على الأدب الفرنسي الذي يتعشَّقنه إلى درجة أن جعلن الفرنسية لغةَ حوارهن، وإني أرجو أن يكون تعرُّفك بهن یا سیدي سببًا لتوجيههن إلى الثقافة العصرية.

فعجِب علي أفندي وتساءل دهِشًا: تُرى هل يُعلِّمن الفلَّاحات الأمِّيات مبادئ اللغة الفرنسية؟!

استطردت السيدة تقول للآنسات: ستَجِدن في صديقي الشاعر مُحدِّثًا جليلًا، ولكني ما لهذا دعوتكن الليلة، فقد حجزت البنوار الأول في تياترو رمسيس لنُشاهِد معًا رواية البخيل، ولا بأس أن يُشاهدها الأستاذ للمرة الرابعة إكرامًا لي.

والحقيقة أن السيدة ما قصدت بدعوتهن إلا أن تُذيع بينهن نبأ صداقتها للشاعر لكي يُذعِنها بدورهن في الصالونات الراقية فيتَّصل خبرها حتمًا بعلم مُنافِستها الخطيرة، وما ذَهابها بهن إلى تياترو رمسيس إلا لهذا الغرض نفسه.

وقد تضايَق علي أفندي من حضور الزائرات، وتضايَق أكثر من دعوته إلى التياترو، وكان يرجو أن تطول خلوتُه بها، ولكنه كان يُبالِغ في التشاؤم ولا يدري بالسعادة التي تُخبِّئها له الأقدار؛ ففي الاستراحة انتهزت السيدة فرصةَ خروج الآنسات من البنوار وقالت له في خَفَر: ستعود معي إلى القصر.

ولم يكن للدعوة إلا معنًى واحد، فتساءل علي أفندي؛ تُرى كيف يتخلص من الآنسات؟ ولكن السيدة لم تعمل لذلك حسابًا؛ فعند انتهاء التمثيل عادت السيارة بهم جميعًا، وودَّعهما الفتَيات عند مُبتدأ شارع خمارويه، ثم سارت بهما السيارة وحدهما إلى القصر السعيد، فأيقنَ أنه رغم طول تَجارِبه جاهلٌ بالنساء، وأنه لم يعرف قبل الآن امرأة مُغرَمة بالفضائح!

وكانت ليلة …

•••

وبعد يومَين ذهب علي أفندي جبر إلى زيارة المَعرِض الرابع عشر للفنون الجميلة. لم يكن من الهُواة، ولكنه كان من مُحبِّي الظهور والادعاء، وكان حبه للنساء يدفعه إلى ارتياد الأماكن التي يحتمل وجودهن بها، فمضى يسيرُ في الحُجرات الأنيقة وينظر بعينَين فاترتين إلى اللوحات، حتى استرعَت انتباهَه من بينها صورةُ فلَّاحة عارية تستحمُّ في النيل، وقد أجادت الريشة تصويرَ قدِّها النحيف وثديَيها الناهدَين، وأضفَت على سُمرة بشرتها سِحرًا شهويًّا عجيبًا، فوقف أمامها طويلًا لغير وجه الفن، وذكَر — لرؤيتها — ذلك الجسد البضَّ المُكتنِز، والردفَين المُكوَّرَين كأنهما إسفنجةٌ هائلة مُشبَّعة بالماء، والساقَين الممكورين، والبشرة العجيبة ذات الرائحة الزكية؛ ذكَر ذاك الحُسن الذي رمی به الحظ بين يدَيه قضاءً وقدرًا .. أي ليلة جميلة كأنها حُلمٌ لذيذ، لا يجود بمِثلها عالم الحقائق. وكأنه أراد أن يتأكَّد أنه حقيقة لا حُلم، فأخرج مُذكِّرته وقرأ فيها المَوعد المُنتظَر الذي كتبَته بيدها الرَّخْصة.

وكأنما المُصادَفة لم تَقنَع بما أتت من عَجبٍ عُجاب، فإنه لفي تأمُّله وتذكُّره إذ أحسَّ بیدٍ توضع على كتفه، فالْتفَت إلى الوراء فرأی صاحبته الجميلة واقفةً بين جماعة من السيدات الأرستقراطيات، واستولت عليه الدهشة وعلاه الارتباك. أما السيدة فقدِ التفتَت إلى صواحبها وقالت بتيه: ائذنَّ لي أن أُقدِّم إليكن صديقي الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.

فابتسمن إليه بترحيب إلا واحدة ردَّدت النظر بينه وبين الأرملة، وقالت ضاحكةً: يا لها من نكتةٍ بارعة يا سيدتي!

فسألتها السيدة: أيُّ نكتةٍ تعنين يا سيدتي؟

فلم تَحفِل السيدة بإنكار الأرملة الجميلة، وقالت وهي تَحدِج علي أفندي بنظرةِ استغراب: رُحماك يا ربي، الآن صدَّقت قول القائل: يخلق من الشبه أربعين!

فاحتدمت الأرملة غيظًا وقالت: إني لا أفقَه لما تقولين معنًى.

– بلی تَفقَهين كل المعنى وتُريدين أن تُضاحكينا، والحق أن الشَّبه الذي بين شاعرنا المجيد وحضرة البك شبهٌ عجيب.

فاشتدَّ الغيظ بالأرملة، والتفتَت إلى علي أفندي وقالت: تكلَّمْ يا أستاذ لتَعلَم عِصمتها أني لا أهزل.

وكان علي أفندي في حالةٍ يُرثى لها، وقد خانته جسارته تِلقاء نظرات السيدة الجريئة التي لا شكَّ تعرف الشاعر الأصليَّ تمام المعرفة، فلم يجد مناصًا من الهرب، فتظاهر بالدهشة، وابتسم إلى الأرملة البائسة وقال: معذرةً يا سيدتي .. يخلق من الشبه أربعين.

وكان يتكلم بلهجةٍ جِدِّية لا تترك أثرًا للشك في نفس السامع؛ فجحظَت عينا السيدة دهشةً وانزعاجًا، وعلا ضحك صاحباتها، وتأمَّلنَه بإمعان وهي تكاد تُجَن من الدهشة، وسألته: ألستَ أنت الشاعر؟

فأجاب بهدوء: کلا يا سيدتي .. أنا مُوظَّف بوزارة الزراعة.

– ألم تُقابِلني قبل الآن؟

– لم يحصل لي هذا الشرف یا سيدتي.

قال علي أفندي ذلك وأحنى رأسه تحيةً وذهب تاركًا السيدة لصديقاتها الضاحكات، وقالت السيدة الأخرى: إني أعجب كيف يخدعك بصرُك إلى هذا الحد، ألا ترَين أني فطنتُ إلى الحقيقة من النظرة الأولى؟!

فقالت الأرملة الذاهلة تُداري خجلها: ما أعجَبَ الشَّبه بينهما!

فقالت الأخرى: ولكن شتَّان ما بين قامتَيهما.

وقالت أخرى ساخرةً: سيَغضب «صديقك» الشاعر حين يعلم بهذا الخطأ الغريب.

وغادَر علي أفندي المَعرِض مُضطرِبًا. ولما تنسَّم الهواء الطَّلق انفجر ضاحكًا حتى دمعت عيناه، على أن الموقف لم يكن يخلو من دواعي الأسف ما دام قد خَسِر المَوعد المنتظَر، وكان يُمنِّي نفسه بأكثر من ليلةٍ واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤