بداية مثيرة

كانتْ بدايةً مثيرةً لأُمسية تصورَت «لوزة» أنها ستكون أمسيةً هادئة؛ فقد تركَت «عاطف» في غرفته مشغولًا بأدوات النِّجارة التي اشتراها حديثًا، ونزلَت هي إلى الحديقة لانتظار الأصدقاء الثلاثة «تختخ» و«مُحب» و«نوسة». وجلسَت «لوزة» تراقبُ فراشةً جميلةً كانَت تخفق بأجنحتها بين الأزهار فتبدو كزهرةٍ طائرة … وبينما هي تستمتع بهذا المشهد الجميل سمعَت صوتَ خطواتٍ سريعةٍ تأتي من باب الحديقة المفتوح، وعندما رفعَت بصرها لتعرف القادم، شاهدَت صديقتها الجديدة الصغيرة «ناهد» وهي مُقبلةٌ عليها وقد بدا على وجهها الاهتمام.

وقفَت «لوزة» تستقبل صديقتها الصغيرة، ومدَّت يدَها للسلام عليها، ولكن «ناهد» أسرعَت تقول: تعالَي معي!

لوزة: إلى أين؟ ولماذا؟

ناهد: إلى منزلنا. إن شيئًا غريبًا جدًّا حدثَ هناك!

ومدَّت يدها تضعها في يد «لوزة» وتجذبها، واضطُرَّت «لوزة» للسير معها وهي شديدةُ الدهشة، ومضَت «ناهد» تقول: عثرتُ على رجلٍ في صندوق!

لوزة: رجل في صندوق؟! كيف؟!

ناهد: رجل داخل صندوقٍ مغلقٍ في حديقة منزلنا!

توقَّفَت «لوزة» وقالَت ﻟ «ناهد»: أرجوكِ يا «ناهد»! لا بد أن تقولي لي كلَّ شيء قبل أنْ أخطو خطوةً أُخرى … ما هي بالضبط حكايةُ رجلِ الصندوق هذه؟

ودار برأس «لوزة» شريطُ تَعَرُّفها ﺑ «ناهد» منذُ أُسبوعَين؛ فقد انتقلَت «ناهد» ووالدها ووالدتها إلى «فيلا» قريبةٍ منهم، وفي أثناء لعب «ناهد» بدرَّاجتها، وقعَت أمام منزل «لوزة» التي أسرعَت إلى إسعافها، ومنذ تلك اللحظة ارتبطتا بصداقةٍ لطيفةٍ … وحكَت «لوزة» لها بعض مغامراتها مع الأصدقاء، فاهتمَّت «ناهد» جدًّا بها، وأصبحَت كلما قابلَتها أَلحَّت عليها أن ترويَ لها مزيدًا من المغامرات، كما أَبدَت رغبةً شديدةً في أن تنضمَّ إلى المغامرين الخمسة في مغامراتهم المقبلة.

دار هذا في رأس «لوزة» في ثوانٍ قليلة، وهي تنظرُ إلى وجه «ناهد» الذي كان متضرِّجًا بالدم من أَثَر انفعالِها الشديد، وجريها من منزلهم إلى منزل «لوزة».

قالَت «ناهد»: سأحكي لكِ ونحن نسير. ومضتا، وقالَت: خرج والدي ووالدتي في زيارةٍ لبعض الأصدقاء، وتركوني مع عمِّ «سيد» الطبَّاخ، الذي احتاجَ إلى شراءِ بعض المواد التموينية من الجمعية التعاونية، فخرج ووعدني ألَّا يتأخَّر، وهكذا جلستُ في الحديقة وحيدة؛ فكما تعرفين نحن لم نجد بوَّابًا ﺑ «الفيلا» بعد.

ووصلتا إلى الشارع، ومضَت «ناهد» تحكي في صوتٍ متقطِّعٍ من فرط الانفعال: وبعد خروج عمِّ «سيد» بحوالي نصف ساعة، وصلَت سيارةُ نقلٍ تحمل مجموعةً من الصناديق وغيرها، ونزل منها السائق وسألني عن والدي، فقلتُ له إنه خرج، فقال إنه أحضر لنا الثلَّاجة التي أرسلها لنا عمي من الخارج … وكنتُ أعرف أن عمي الذي يعمل في «إيطاليا» سيرسل لنا ثلَّاجة، وهكذا طلبت من السائق أن يُنزلها في الحديقة، وقام هو والحمَّال بإنزالها فعلًا، ووقَّعتُ له على إيصالٍ بالتسلُّم بهذا القلم.

ومدَّت يدها بقلم حبر جاف صغير، ثم مضَت تقول: وقضيتُ بعض الوقت في المنزل، ثم عدتُ إلى الحديقة. كنتُ أُريد أن أفعل أيَّ شيءٍ يُسلِّيني، فأخذتُ أدور حول الصندوق، ولم يكن هناك شيء غير عادي، حتى بدا لي وأنا غيرُ مُصدِّقةٍ أن ثمَّة قطعةً صغيرةً من الخشبِ تتحرَّك بهدوءٍ وحذرٍ في جدار الصندوق … أغمضتُ عينَي وفتحتهما وأنا أشكُّ فيما أرى، ولكن ذلك كان صحيحًا …

وصمتَت «ناهد» لحظات، وعادَت تتحدَّث وقد شدَّت انتباه «لوزة» التي كانَت تستمع باهتمامٍ بالغ: اقتربتُ بهدوء فلاحظتُ وجود ثقوبٍ صغيرةٍ بجوار الفتحة التي كانَت في حجم قطعة الشوكولاتة المتوسِّطة … وانحنَيتُ على الفتحة ونظرت …

وتوقَّفت «ناهد» عن السير وأمسكَت بذراع «لوزة»، فالتفتَت «لوزة» إليها وشاهدَت في عينَيها بريقًا غريبًا، وقالَت «ناهد»: نظرت … فرأيتُ عينَين تنظران إليَّ في حذر … وخوف!

وابتلعَت «ناهد» ريقها، ثم قالَت: ولم تكد عيناي تلتقيان بالعينَين الغريبتَين حتى أغلقتُ الفتحة سريعًا، وخُيِّل إليَّ أنني سمعتُ آهةً خافتةً تصدر من صاحب العينَين!

وعادَتَا تسيران، ومضَت «ناهد» تقول: وقفتُ مذهولةً لا أدري ماذا أفعل! كيف تحوَّلَت الثلاجة إلى رجل؟! ماذا حدث؟ هل هناك خطأ؟ كان رأسي يدور كالدُّوامة وأنا أنظرُ حولي فلا أجد أحدًا أتحدَّث معه أو أستشيره فيما يجب أن أفعله … وقرَّرتُ أن أُحاول معرفة من بداخل الصندوق … فمددتُ يدي أُحاول فتح النافذة الصغيرة التي أَطلَّت منها العينان، وكانَت مخفاةً بمهارة، ولكني استطعتُ العثور عليها، وأخذتُ أدق بأصابعي لعلي أسمع صوتًا، فلم يردَّ أحد، وحاولتُ فتحها فلم أستطع … ووضعتُ أُذني على الفتحة وحاولتُ الاستماع … وبالتأكيد كان هناك صوت تنفُّس ثقيل.

وكانتا قد اقتربتا من «الفيلا»، فأسرعَت «ناهد» تُكمل قصتها قائلة: وقرَّرتُ أن أحضر إليكِ سريعًا … فأنتِ مغامرة، وقد يُمكنكِ حلُّ هذا اللغز.

واقتربتا من باب الحديقة، وكانَت «لوزة» تُفكِّر بسرعة … هل هذا الكلام صحيحٌ أو مجرَّد أوهام؟ هل شاهدَت «ناهد» العينَين أو خُيِّل إليها هذا فحضرَت سريعًا إليها قبل أن تتأكَّد؟!

على كل حال — هكذا قالَت «لوزة» لنفسها — سوف أتأكَّد بعد ثوانٍ قليلة … ثم فكَّرَت … لو صدقَت «ناهد» فيما قالَت، فماذا تفعل؟ لا شيء إلا أن تُسرع إلى المغامرين لتُخطرهم بما حدث … وأحسَّت بقلبها يدقُّ سريعًا … فهي مُقبلةٌ على مغامرة!

ودخلَتا الحديقة، وكان الصندوق هناك بجوار السُّلم، وصدرَت عن «ناهد» صرخةٌ خافتة، ثم قالت: يبدو لي … يبدو لي …

وقبل أن تُتم جملتها كانَتا قد وصلتَا إلى الصندوق … وأكملَت «ناهد» جملتَها قائلة: يبدو لي أنه ليس الصندوق نفسه!

أحسَّت «لوزة» بضيقٍ مفاجئ … فبعد أن أعدَّت نفسها لمغامرة، إذا بالمغامرة تُفلتُ سريعًا من أصابعها … ووقفَت «ناهد» وقد علا وجهها الذهول وهي ما تزالُ تُحدِّث نفسها.

دارَت «لوزة» حول الصندوق، وأخذَت تدق على جوانبه وتتصنَّت؛ لكن لم يَبدُ أن هناك شيئًا غير عادي فيه … فالتفتَت إلى «ناهد» التي قالَت في ضيق: أُؤكِّد لكِ يا «لوزة» … أنه ليس الصندوق الذي كان هنا من قبل … إن الصندوق الآخر كان محكم الإغلاق … إنه الطول نفسه، والعرض واللون تقريبًا، ولكن …

وصمتَت قليلًا، ثم عادَت تقول: ولكني رسمتُ على الصندوق الآخر بهذا القلم وردةً صغيرة … أنتِ تعرفين أنني أُحب الرسم … وأُخطِّط على كل شيء أراه، وقد رسمتُ وردةً على الصندوق في مثل هذا المكان.

وأشارَت على مكان في الصندوق … لم يكن عليه أيُّ رسم.

قالَت «لوزة» مبتسمةً بعد أن ذهب ضيقها: لا بأس يا «ناهد»؛ فكثيرًا ما تُخيَّل إلينا أشياء لم تحدث … ولعل ضوء الشمس الغاربة قد انعكس على الصندوق فبدا لكِ ما وصفتِه.

احمرَّ وجه «ناهد» وقالَت: «لوزة» … يجبُ أن تُصدِّقيني … إنني أُؤكِّد لكِ أنني شاهدتُ عينَي الرجل … وأنني رسمتُ الوردة على الصندوق، وأن هذا الصندوق ليس هو الذي كان هنا منذ ساعة!

أحسَّت «لوزة» أن «ناهد» تقول الصدق، وهي متأكِّدةٌ ممَّا شاهدَت، فقالَت: هل يمكن استخدام التليفون؟

ناهد: طبعًا … لماذا؟

لوزة: سأستدعي الأصدقاءَ إلى هنا … لعلَّنا نستطيعُ معرفةَ ما حدث … إنهم مُتمرِّنونَ على الاستنتاجات، وقد نعرفُ لغزَ الصندوق.

وفتحَت «ناهد» الباب، وأسرعَت «لوزة» إلى التليفون، واتصلَت بشقيقها «عاطف»؛ فقد توقَّعَت أن يكون بقية المغامرين قد ذهبوا في موعدهم إلى كشك الحديقة حيث يجتمعون.

ردَّ «عاطف»، فقالَت «لوزة»: هناك لغزٌ صغير!

قال «عاطف» بسخريته المعتادة: من أي وزن، وزن الذبابةِ مثلًا؟

قالَت «لوزة» مُحتدَّة: لغز …

ثم تردَّدَت وخشيَت أن يسخرَ منها عندما تروي له الحكاية، فعادَت تقول: أعطني «تختخ» أُكلِّمه.

وجاء «تختخ» إلى التليفون، فقالَت «لوزة»: هناك لغزٌ ما … أو قُل إنه مشروعُ لغز، وأقترح ما دُمنا غير مشغولين بشيء أن نُفكِّر فيه.

تختخ: وما هي حكاية هذا اللغز أو هذا المشروع؟

وروَت «لوزة» ﻟ «تختخ» ما قالَته «ناهد»، حتى وصلَت إلى حضورها وكيف وجدَتَا الصندوق قد تغيَّر.

تختخ: تغيَّر؟! من الذي غيَّره؟

لوزة: لا أعرفُ، ولا «ناهد» تعرف. إننا نُريد حضورك لهذا السبب!

وعلى غير ما توقَّعَت «لوزة» تحمَّس «تختخ» للحضور، فأحسَّت «لوزة» ببعض الراحة، ووضعَت سمَّاعة التليفون، والتفتَت إلى «ناهد» قائلة: لقد تحمَّسُوا للحضور، وسوف نحل لكِ اللغز.

وعندما خرجَتَا من «الفيلا» كان عم «سيد» الطبَّاخ قد عاد، وعندما شاهد الصندوق قال: لقد حضرَت الثلَّاجة … الحمد لله.

وكادَت «ناهد» أن تروي له ما حدث، ولكن «لوزة» أشارَت إليها بالصمت، فتركَته وخرجَت إلى الحديقة.

جلسَتا بجوار الصندوق، ومضَت فترةٌ وهما صامتتان، ثم قالَت «ناهد»: شيء غريب! … كيف تغيَّر الصندوق؟!

قالَت «لوزة» تُطمئنها: الآن سوف نعرفُ ماذا حدث بالضبط؛ فالمغامرون الخمسة سوف يتدخَّلون.

وسمعتا صوت أجراس الدرَّاجات مقبلة، فقالَت «لوزة»: إنهم مُتحمِّسونَ فعلًا؛ فقد حضروا بالدرَّاجات حتى لا يُضيعوا وقتًا!

وظهرَت الدرَّاجات عند مدخلِ الحديقة، وظهر «زنجر» أيضًا، وأسرع إلى «لوزة» فقد كانا صديقَين.

نزل «تختخ» من على درَّاجته، وطلب من الأصدقاء جميعًا النزول قبل أن يدخلوا الحديقة، ثم طلب منهم ألَّا يدخلوا من الباب أيضًا، ودُهِش الأصدقاءُ، ولكن دهشتهم زالَت عندما وجدوا «تختخ» ينحني على الأرض عند مدخلِ الحديقة، ثم يمشي في اتجاه الصندوق مُحاذرًا، ثم يدور حوله، ثم يعود سائرًا على جانب الحشائش الخضراء وهو يتأمَّلها فاحصًا. وعندما رفع رأسه التفتَ إليه الأصدقاء، ومعهم «ناهد» أيضًا وقال «تختخ» بهدوء: لا شكَّ أنه كان هنا صندوقٌ آخر، وقد تمَّ استبداله بهذا الصندوق!

وتنفَّسَت «ناهد» الصُّعَداء؛ فقد تحقَّق الأصدقاءُ أنها قالَت الحقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤