أخبار هامة

أدرك الأصدقاء من تحرُّكات «تختخ» ونظراته كيف وصل إلى الاستنتاج بأن هناك صندوقًا آخر غير الموجود قد وصل إلى الحديقة من قبل، وقال «تختخ» يشرحُ استنتاجاته: إن الحديقة لحسن الحظ قد رُويَت هذا الصباح … وما زالَت الأرض مُبتلَّةً تَسمحُ باستقراء الآثار التي تركَتها الأقدامُ التي تحرَّكَت عليها … فهذه أقدامٌ غائصة في الأرض، وواضح أنها تحمل ثقلًا كبيرًا … وها هي ذي تعود وتترك آثارًا أخفَّ بعد أن تخلَّصَت من حمولتها … وهذه آثار الأقدام نفسها غائصةٌ في الأرض مرَّةً أخرى، وهذا دليل على أنها عادَت تحمل ثقلًا آخر … بل إن الصندوق الأول ترك آثارًا واضحةً على العشب الأخضر … وفي استطاعتنا قياس هذه الآثار ومعرفة طول وعرض الصندوق بالضبط.

هزَّت «لوزة» رأسها قائلة: كيف لم يخطر ببالي أن أقوم أنا بهذه الاستنتاجات؟! إنها واضحةٌ جدًّا!

علَّق «عاطف» بسخرية: هكذا كلُّ شيء في العالم يبدو سهلًا بعد أن نعرفه.

ردَّت «نوسة» معاتبة: صحيح … ولكن «لوزة» كانَت مشغولةً بالبحث عن صندوقٍ فيه رجل، وعندما لم تجِده نسيَت كلَّ شيء، وربما فكَّرَت في أن المسألةَ كلَّها كانَت مجرَّد وهمٍ من جانب «ناهد».

تحدَّثَت «ناهد» فقالَت: إن ما ذكرَته «لوزة» كان حقيقة … لقد رأيتُ عينَي الرجل، ورسمتُ وردةً على الصندوق بالقلم.

مُحب: وكيف عرفتِ أنه رجل؟

ناهد: كان هذا واضحًا؛ فحاجباه كثيفان جدًّا، وأحدهما مقطوعٌ من نصفه، وجبهتُه مُتغضِّنة، وشعره منكوشٌ عليها … بالإضافة إلى نظرته.

تختخ: ماذا تقصدين؟

ناهد: كانَت نظرات رجلٍ خطير!

رفع «تختخ» حاجبَيه وهو يسمع هذه الجملة، وفكَّر قليلًا، وتصوَّر الأصدقاء أنه سيُعلِّق عليها، ولكنه هزَّ رأسه، ثم لاذ بالصمت.

قالت «نوسة»: هكذا ثبتَ أنه كان هناك صندوقٌ به رجلٌ أُنزل في هذه الحديقة … ثم نُقِل منها وأُحضر هذا الصندوق … فما هي استنتاجاتكم حول هذه الحقائق؟

سكتَ الجميع، ثم قال «تختخ»: ليس هناك سوى احتمالٍ واحد … إن الصندوق الأوَّل الذي كان به الرجلُ قد أُحضر خطأً إلى هذا المكان لتشابه الصندوقَين، ثم عندما اكتشفوا هذا الخطأ عادوا فأخذوا الصندوق، ووضعوا بدلًا منه هذا الصندوق.

عاطف: من هم الذين اكتشفوا؟

تختخ: الذين وضعوا الرجل في الصندوق!

عاطف: هل تقصدُ أن الرجل خُطف ووُضع في الصندوق بالرغم منه؟

تختخ: لا أدري … فلو أنه كان مخطوفًا لصاح في طلب المساعدة عندما وجد «ناهد»، ولكنه لم يفعل ذلك، بل أغلق النافذةَ الصغيرة وأخفى نفسه، ولم يَردَّ على دقَّات «ناهد» على الصندوق. ولكن ليس هناك ما يمنعُ من أن يكون مخطوفًا واعتبر «ناهد» ضمن أعدائه.

نوسة: إن معرفة سبب دخول الرجل في الصندوق مسألةٌ هامة … فهناك فارقٌ بين أن يكون مخطوفًا، أو يكون قد دخل الصندوق برغبته.

تدخَّل «مُحب» في الحديث قائلًا: هذا ما يجب علينا معرفته … وهي مسألةٌ ليست سهلة!

لوزة: ما دامَت عندنا هذه الحقائق فإن في إمكاننا أن نبدأ البحث.

مُحب: من أين؟

سكتَت «لوزة»، فقالَت «نوسة»: في إمكاننا إذا عرفنا شركة النقل التي أحضرَت الصندوق أن نبدأ البحث فيها.

تختخ: معقولٌ جدًّا … هل لاحظتِ اسم الشركة يا «ناهد»؟

فكَّرَت «ناهد» قليلًا، ثم قالَت: لا أتذكَّر بالضبط … ربما كانَت «الشركة الدولية للنقل» … ومع ذلك يمكن التأكُّد من اسمها عندما يعود أبي.

لوزة: إننا يجب ألَّا نُضيع وقتًا؛ فإن كلَّ دقيقةٍ لها قيمتُها.

ناهد: إنني أعرفُ أين أبي الآن، وفي إمكاني الاتصال به.

نظر «تختخ» إلى ساعته، ونظر إلى الشمس الغاربة، ثم قال: أعتقد أننا لن نستطيع عمل شيء في هذا المساء؛ فقد هبط الظلام، وشركات نقلِ الأثاثِ لا تعملُ ليلًا في العادة، فلْننتظر الصباح.

ثم التفتَ إلى «ناهد» قائلًا: خذي حذركِ الليلة، فربما كانَت مشاهدتُكِ الرجلَ في الصندوق مسألةً خطيرة، وقد يكون هناك من يهمُّه ألَّا تَروي ما شاهدتِه لأحد.

وعندما استعدَّ الأصدقاءُ للانصراف قالَت «نوسة» ﻟ «ناهد»: بالمناسبة، لماذا لم يُدخلوا الصندوقَ إلى المنزل وتركوه في الحديقة؟

ردَّت «ناهد»: أنا التي طلبت منهم ذلك؛ فقد طلب مني عم «سيد» ألَّا أدع أيَّ شخصٍ يدخل المنزل في غيابه.

مُحب: وهل تذكرين شكلَ الرجال الذين أنزلوا الصندوق؟

ناهد: طبعًا. لقد كانوا ثلاثة … السائق، وحمَّال قصير قوي، وآخر طويل وله حدبةٌ واضحةٌ في ظهره.

مُحب: وهل عرفتِ أسماءهم؟

ناهد: أذكرُ أنه كان يُنادي بعضُهم بعضًا باسم «جنيدي» للحمَّال الطويل، و«كعبورة» للحمَّال القصير القوي، أمَّا الثالث فلا أذكر اسمه.

عاد «تختخ» يُحذِّر «ناهد» قائلًا: خذي حذرك، وراقبي كلَّ شيء جيدًا، إنني أتوقَّع أن تكوني محور اهتمام هؤلاء الناس ما دمتِ قد شاهدتِ الرجل الذي في الصندوق.

وانصرف الأصدقاء، وكان الظلام قد هبطَ على المعادي، فقرَّروا أن يعودوا إلى بيوتهم على أن يجتمعوا مرةً أخرى في الصباح. وعندما خلا «تختخ» إلى نفسه أخرجَ مُفكرته الصغيرة، وقيَّد بها كلَّ المعلوماتِ التي حصلوا عليها من «ناهد»، وكتبَ اسمَ شركة النقل، وأسماء العمَّال الثلاثة الذين نقلوا الصندوقَين، ومكان اسم الثالث علامة استفهام.

واستيقظ «تختخ» في صباح اليوم التالي نشيطًا، ولم يكَد ينزل على السلَّم الداخلي ﻟ «الفيلا» حتى سمع جرس التليفون يدق، فأسرعَ إليه ووجدَ «لوزة» على الخط، وكانَت منفعلة، وقالَت بسرعة: صباح الخير … لقد اتَّصلَت بي «ناهد» الآن، وقالَت إنها عرفَت اسمَ الشركة التي نقلَت الصندوقَين … اسمها «الشركة العالمية للنقل»، ومقرُّها في شارع «نجيب الريحاني».

ردَّ «تختخ»: ولكن لماذا يبدو صوتكِ منفعلًا هكذا؟ إن اسم الشركة ليس سببًا … هل هناك أخبارٌ أخرى؟

لوزة: نعم … إن «ناهد» تُريد أن تُقابلكَ الآن؛ فعندها معلوماتٌ تُريد أن تقولها لكَ أنتَ وحدك!

تختخ: أنا وحدي؟! لماذا؟!

لوزة: لا أدري … وقد اتَّفقتُ معها على أن نحضرَ معًا إليكَ بعد قليل.

تختخ: مرحبًا بكما … سأكون مستعدًّا بعد ربع ساعة.

أسرعَ «تختخ» بتناول إفطاره، ثم خرج إلى الحديقة حيث اختارَ كرسيًّا في ظل شجرةِ «النبق» العالية التي تقعُ عند المدخل، وجلس ورأسه يدور بعشرات الأفكار … ماذا تريد منه «ناهد»؟ وما هي المعلومات التي تُريد أن تقولها له وحده؟ ولماذا لم تقُلها لصديقتها «لوزة»؟

ولم يطُل تساؤله؛ فقد ظهرَت الفتاتان على باب الحديقة وقد بَدَا واضحًا على «ناهد» أنها تحمل أخبارًا هامة، وبعد أن تبادل الثلاثة التحية قالَت «لوزة»: سأسبقكما إلى حديقتنا حيث يأتي بقية المغامرين، فالحقا بنا إلى هناك بعد الانتهاء من حديثكما.

ونظر «تختخ» إلى «لوزة» بتقدير، لقد رتَّبَت كلَّ شيء، وانصرفَت مسرعةً وتركَتهما.

فقال «تختخ»: لماذا تُريدين الحديثَ إليَّ وحدي يا «ناهد»؟ لقد اعتاد المغامرون الخمسة ألَّا يُخفي بعضُهم عن بعضٍ شيئًا.

ناهد: آسفةٌ جدًّا … ولكن لقد طلب مني ألَّا أتحدث إلى أحدٍ مطلقًا!

تختخ: من هو؟

ناهد: رجل الصندوق … أو بالتحديد مندوب عنه!

تختخ: هل اتصل بك؟!

ناهد: نعم، كما توقَّعتَ أنت تمامًا!

تختخ: اروي لي كلَّ شيءٍ بالتفصيل.

ناهد: اليوم في الثامنة صباحًا اتصلَ شخصٌ بمنزلنا، كان أبي وأمي قد خرجَا بالسيارة فهما كما تعرف يعملان، وبقيتُ وحدي في «الفيلا»، مع عم «سيد» الطبَّاخ … وردَّ على المكالمة عمُّ «سيد»، ثم ناداني وقال إن هناك مكالمةً تليفونيةً لي.

وسكتَت «ناهد» لحظاتٍ تستردُّ أنفاسَها اللاهثة، ثم قالَت: وذهبتُ إلى التليفون وسمعتُ صوتًا يقول: هل أنتِ «ناهد»؟ فلمَّا رددتُ بالإيجاب قال إن عنده رسالةً على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية لي … وأنه يُهمُّه جدًّا ألَّا أُخبر بها أحدًا مطلقًا حتى أبي وأمي، وإلا تعرَّضتُ لخطرٍ شديد!

لمعَت عينا «تختخ» باهتمامٍ بالغ، ثم قال: وما هي هذه الرسالة؟

ناهد: قال إن رجل الصندوق الذي رأيتُه أمس يقوم بعملٍ هام لمصلحة الوطن، ومن المهم جدًّا ألَّا يعرف أحدٌ حكايةَ وجوده في الصندوق، وإلا تعرَّضَت مهمَّته للإخفاق.

ومضَت «ناهد» بعد لحظاتٍ تستكملُ حديثَها: وقال لي إنني إذا أفضيتُ لأي شخصٍ آخر بهذا السر فسوف أتعرَّض أنا شخصيًّا للخطر الشديد … ولأنني لم أعرف كيف أتصرف؛ فقد فكَّرتُ في أن أقول لكَ أنتَ وحدكَ باعتباركَ زعيم المغامرين الخمسة، وأنكَ أكبرنا سنًّا، ويمكنكَ التصرُّف في هذه المعلومات بطريقةٍ أفضل.

هزَّ «تختخُ» رأسه، ومدَّ يده يربت على رأس «ناهد» وقال: أشكركِ على ثقتكِ بي، لقد تصرَّفتِ بحكمةٍ بالغة.

وأسند «تختخ» رأسه على كفه، واسترسل في تفكيرٍ عميق، لقد كانَت الأخبار هامةً فعلًا، ويجب فحصها جيدًا؛ ليس فقط لأن «ناهد» قد تتعرَّض للخطر بسببها، ولكن لأن المسألة قد تتعلَّق بأمن الوطن وسلامته.

وأخذَت «ناهد» تنظر إليه وتنتظر ما يقوله لها، ومضَت فترة، ثم قال «تختخ»: عليكِ أن تعودي الآن إلى منزلكِ فورًا … ابقَي فيه ولا تُغادريه مطلقًا لأي سببٍ حتى أتصل بكِ أنا.

ناهد: ألَا أذهب إلى حديقةِ «عاطف» لمقابلة بقية المغامرين؟

تختخ: لا … مطلقًا، عودي إلى بيتك، ولا تتصلي بنا إلا بعد أن أتصل بكِ أنا شخصيًّا، وقد لا تعرفين صوتي، فلْتكن كلمةُ السرِّ بيننا «الوردة»؛ نسبةً إلى الوردة التي رسمتِها على الصندوق … وكلما اتَّصلتُ بكِ سأقولُ لكِ هذه الكلمةَ حتى تتأكَّدي أنني أنا المتحدِّث … وأُريدكِ مرةً أخرى أن تكوني حذرةً جدًّا، ولا تقولي هذه المعلوماتِ لأي شخصٍ آخر.

انصرفَت «ناهد»، وسمعَ «تختخ» صوتَ جرس درَّاجتها وهو يدقُّ في الشارع، وتمنَّى في سرِّه ألَّا يحدث لها مكروه، ثم قامَ إلى التليفون واتَّصل بمنزل «عاطف»، وتحدَّثَ إليه قائلًا: «عاطف» … لن أتمكَّن من الحضور الآن؛ فهناك مهمَّة سأقوم بها قد تستمرُّ نحو ساعتَين، وسأعود إليكم.

عاطف: هل لهذه المهمَّة علاقةٌ برجل الصندوق؟

تختخ: نعم.

عاطف: قالَت لنا «لوزة» إن «ناهد» قابلتكَ لأن هناك أخبارًا مهمَّة، فما هي هذه الأخبار؟

فكَّر «تختخ» قليلًا، ثم قال: سوف أقول لكم كلَّ شيءٍ في الوقت المناسب … أمَّا الآن فالمصلحة تقتضي أن أحتفظ بهذه المعلومات لنفسي … فإلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤