رجل مفقود

اتجه «تختخ» رأسًا إلى محطة المعادي، وركب القطار إلى «القاهرة»، ثم اتجه إلى مكتب المفتش «سامي»، واستقبله صديقه المفتش بترحاب كبير، وطلبَ «تختخ» أن ينفردَ بالحديث مع المفتش، وسرعان ما أُخليَت الغرفة وأصبحا وحيدَين.

قال «تختخ»: إن عندي بعض المعلومات التي يبدو أنها هامة، وأُريد أن آخذ رأيكَ فيها.

وروى «تختخ» للمفتش كلَّ المعلومات والأحداث والاستنتاجات التي عنده، وعندما انتهى «تختخ» من حديثه ظلَّ المفتش صامتًا لحظات، ثم قال: عندنا كما هو واضح ثلاثةُ احتمالات … الأوَّل: أن يكون الرجل يقوم بخدمةٍ من أجل الوطن، وهذا ما سأُحاول أن أعرفه … والثاني … أن يكون الرجل مخطوفًا، وسوف نُراجع كشوف المتغيِّبين عن منازلهم في الفترة الأخيرة … والثالث … أن يكون هذا الرجل يقوم بعملٍ شريرٍ لا نعرف ما هو … وعلينا أن نفحص هذه الاحتمالات كلَّها.

وسكت المفتش لحظات، ثم قال: هذا إذا كنتَ متأكِّدًا أن «ناهد» لم تتوهَّم كلَّ ما حدث، وأنها تفعل هذا لإثارة جوٍّ من الغموض والإثارة حولها.

قال «تختخ»: إنني أضع هذا الاحتمال في حسابي … ولكنني أُرَجح أن ما قالَته صحيح … وعلى كلِّ حالٍ لن نخسر شيئًا إذا تابعنا الموضوع لبعض الوقت.

المفتش: ليس عندنا رسميًّا ما يمكننا عمله، وعلى المغامرين الخمسة أن يبدءوا وحدهم، وسنُساعدهم عندما يحتاجون للمساعدة.

قام «تختخ» واقفًا وهو يشكر المفتش، ثم قال: إن ما أنتظره من سيادتك أن تُبلغني عمَّا إذا كان الرجل يقومُ بخدمةٍ في سبيل الوطن أولًا، ثم كشف المفقودين في الفترة الأخيرة.

المفتش: نعم، وسيستغرق ذلك بعضَ الوقت.

تختخ: لا بأس … سنبدأ نحن تحرياتنا، وإذا وصلنا إلى شيء فسوف نُبلغك به.

المفتش: اتَّفقنا … وإلى اللقاء … ولا تنسَوا تعليماتي الدائمة … خذوا حذركم، ولا تُعرِّضوا أنفسكم للمخاطر.

وخرج «تختخ» إلى الشارع … كانَت هناك مهمَّةٌ أخرى يقوم بها في «القاهرة» قبل العودة إلى المعادي … فركب الترام إلى محطة باب الحديد، ثم اتجه إلى شارع «نجيب الريحاني» حيث توجد «الشركة العالمية للنقل»، التي قامَت إحدى عرباتها بنقل الصندوق. لم يجد صعوبةً في العثور على الشركة، ووقف على الطوار الآخر يرقبها متظاهرًا في الوقت نفسه أنه يتفرَّج على إعلانات سينما «ريتس» التي تقع مقابل الشركة مباشرة.

كانَت هناك سيارةٌ واحدةٌ من سيارات الشركة وبعض الحمَّالين، ولم تكُن الشركةُ أكثر من غرفة مكتبٍ واسعة، مزدحمةٍ ببعضِ الموظَّفين والعملاء … ولم يكُن الرجال الثلاثة الذين نقلوا الصندوق — كما وصفَتهم «ناهد» — بين الموجودين. وفكَّر «تختخ» أنهم في مهمَّة لم يعودوا منها بعد. ووقف فترةً يتأمَّل حركة العمل في الشركة، ولكنه لم يجِد شيئًا غير عادي يمكن أن يَلفت الانتباه، وقرَّر أن يعود إلى المعادي … فمن الواضح أنه لن يعثر على معلوماتٍ هامة في هذه الوقفة … وبينما هو يستعدُّ لمغادرة الشارع والعودة إلى باب اللوق … شاهد سيارةً من سيارات الشركة مقبلة … فتوقَّف لحظاتٍ يرقبها حتى وقفَت … وعندما نزل منها الرجال الثلاثة الذين كانوا فيها، لم يشُكَّ لحظةً أنها السيارة التي نقلَت الصندوق إلى منزل «ناهد» … فقد كان أحدُ الرجال الثلاثة طويلًا له حدبة واضحة في ظهره … قال «تختخ» لنفسه: لا بد أنه «جنيدي». ثم الثاني وكان قصيرًا متينًا … ومرةً أخرى همس «تختخ»: لا بد أنه «كعبورة» … فهو فعلًا «مكعبر».

دخل السائق إلى مكتب الشركة، على حين نزل الحمَّالان فجلسا على الرصيف، وأخلدا إلى الراحة بعد أن طلبا من صبيٍّ صغيرٍ أن يُحضر لهما كوبَين من الشاي.

عاد «تختخ» يُراقب في اهتمامٍ وهو يتمنَّى أن يحصل من الحمَّالَين على أية معلومات يمكن أن تُلقي ضوءًا على حكاية الصندوق … من أين أتى؟ إلى أين ذهب؟ من صاحبه؟! وأخذ يقلب عشرات الخطط في ذهنه حتى يبدأ الحديث إليهما، ولكن في كل مرةٍ كان يجدُ ثغرةً في الخطة يمكن أن تُثير انتباه الرجلَين … وأخيرًا قرَّر أن يتسكَّع بجوارهما فقد يسمع شيئًا يُهمُّه … فعلًا عبَر الشارعَ مُتَّجهًا إليهما … كان مستغرقًا في التفكير فلم يلتفت إلى سيارةٍ مقبلةٍ بسرعة، ما كاد سائقها يلمحه حتى أطلق آلة التنبيه بشدة، وداس على الفرامل إلى أقصاها … وقد استطاع فعلًا أن يُنقذَ «تختخ» من موتٍ محقَّق، ولكن العجلة الأمامية أصابَت «تختخ» إصابةً أوقعَته على الأرض … وسرعان ما تجمَّع المارة … وكان أقرب الناس إليه الحمَّالَين اللذَين كانا يجلسان على الرصيف … فقفزا مسرعَين إليه، وحملاه وأجلساه على كرسيٍّ بجوار الشركة … نزل سائق السيارة صائحًا منفعلًا … واجتمع الناس كلٌّ يُدلي برأيه … وكان الحمَّال الأحدب يجس جسم «تختخ» باحثًا عن إصابة … ولكن «تختخ» طمأنه قائلًا: لا شيء والحمد لله … بضع إصابات بسيطة.

وأخذ الناس يُلقون اللوم على السائق، ولكن «تختخ» إحقاقًا للحق قال: إنني أنا المخطئ … فقد كنتُ أسير بلا وعي.

وانصرف السائق إلى سيارته التي سدَّت الطريق، وارتفعَت خلفها عشرات من آلات التنبيه الغاضبة.

انصرف الناس سريعًا كما تجمَّعوا … وكان الصبي قد أحضر صينيةً عليها كوب الشاي، فمدَّ السائق القصيرُ يده إلى «تختخ» بكوب ماءٍ وقال: اشرب.

وشرب «تختخ» الكوب وشكر الرجل، وقال الحمَّال الطويل: هل تشعر بشيء؟

قال «تختخ»: أبدًا … بعض آلام خفيفةٍ في جنبي وذراعي. شكرًا لكما.

الحمَّال: الحمد لله.

وأحسَّ «تختخ» أنهما رجلان طيبان … وفي الوقت نفسه أدرك أن الفرصة ملائمةٌ للحصول على بعض المعلومات منهما … لقد استيقظَت فيه غريزة المُغامر … فنسي ما حدث وتيقَّظ ذهنه للعمل.

لم يكن عنده شكٌّ في أنهما الحمَّالان اللذان نقلا الصندوق إلى منزل «ناهد»، وهذه هي فرصته … وقرَّر أن يسلك طريقًا سريعًا ومختصرًا للحصول على ما يُريد، فقال وهو ينظر إلى السيارة نظرةً فاحصة: لقد رأيتُ هذه السيارة أمس الأوَّل في المعادي …

ردَّ الطويل «جنيدي»: في المعادي … نعم … فعلًا.

عاد «تختخ» يقول: كانَت تنقل صندوقًا كبيرًا من الخشب إلى منزل في الشارع رقم ٤٤ هناك. إنني أسكن قريبًا منه.

لم يردَّ الرجلان، فنظر إليهما «تختخ» في انتظار الرد، ولكن «كعبورة» قال: هل أنت على ما يرام الآن؟

قال «تختخ»: نعم.

قام الرجلان واقفين، وقال «كعبورة»: تستطيع أن تنصرف فعندنا عملٌ بعد قليل.

وتركاه ودخلا إلى مكتب الشركة، ودُهش «تختخ» لتغيُّرهما المفاجئ، وأدرك أن السر الذي يبحث عنه ليس سهلًا … وأن الحمَّالَين مشتركان فيه بشكلٍ ما.

وقرَّر أن يقوم لينصرف، ولكن فجأةً خرج من مكتب الشركة رجلٌ أنيقٌ ووقفَ أمامه قائلًا: لقد علمتُ أنكَ أُصبت … أرجو ألَّا يكون قد حدث شيءٌ خطير.

قام «تختخ» واقفًا، وأحسَّ بآلامٍ في جسده كلِّه، ولكنه تمالك نفسه وقال: لا … لا شيء مُهم.

الرجل: تعالَ، تفضل في الداخل وسأُرسل لإحضار طبيبٍ أو أستدعي الإسعاف.

تختخ: أشكرك … لا شيء يستدعي كلَّ هذا.

كان «تختخ» مندهشًا لهذا الاهتمام غير العادي، وازدادَت دهشته عندما مدَّ الرجلُ يدَه وأمسك بذراعه، ثم اقتاده وهو يبتسم إلى داخل المكتبِ قائلًا: تعالَ استرِح قليلًا واشرَب شيئًا.

لم يتردَّد «تختخ» فدخل، ووجد الحمَّالَين يقفان بجوار مكتبٍ جلس إليه الرجل الأنيق بعد أن أشار له بالجلوس.

نظر «تختخ» ناحية الحمَّالين، وشاهد على وجهَيهما تعبيرًا ما … وفي عيونهما نظرةٌ تُحذِّره من خطرٍ وشيك!

قال الرجلُ الأنيقُ وهو يهزُّ يدَه فيلمع فيها خاتمٌ ذهبيٌّ ضخم: لقد سمعتُ أنكَ شاهدتَ سيارتنا في المعادي.

قال «تختخ»: نعم … أمس الأوَّل.

الرجل: ورأيتَ فيها صندوقًا خشبيًّا؟

تختخ: نعم.

الرجل: لا بد أنك مخطئ؛ فلم تقُم سيارةٌ من سيارات الشركةِ بنقل أية صناديقَ إلى المعادي مطلقًا!

تختخ: ولكن …

وكاد أن يقول للرجل إن أحد الحمالَين اعترف أن السيارة كانت في المعادي أمسِ الأوَّل، ولكن نظرةً إلى وجه الحمَّال أقنعَته ألَّا يقولَ هذه الجملة، فاستكمل حديثه قائلًا: ولكن يبدو لي أنني رأيتُها.

وابتسمَ الرجلُ عن أسنانٍ أشبه بالأنياب وقال: أؤكد لكَ أنكَ كنتَ مخطئًا!

ابتسم «تختخ» أيضًا تأدُّبًا وقال: ممكنٌ طبعًا.

وأحضرَ الصبيُّ زجاجةً من «الكوكاكولا» ﻟ «تختخ» فشربَها شاكرًا، ثم همَّ بالقيام، ولكن الرجلَ ذا الخاتم الذهبيِّ قال متظارفًا: إن المعادي بعيدة، فانتظِر وسوف أُرسل إحدى سياراتنا لتوصيلك.

وصمتَ قليلًا، ثم قال: سيارتي الخاصة.

وصاح: استدعوا «حمودة» لتوصيله!

وقف «تختخ» معترضًا وقال: أشكرك جدًّا … ولكنِّي أستطيع العودةَ في «تاكسي»!

قال الرجل مُصِرًّا: ولماذا تُكلِّف نفسَك؟ ستعود بك السيارة.

لم يجِد «تختخ» بُدًّا من الرضوخ برغم إحساسه بما في ذلك من خطرٍ عليه … وأحسَّ بمزيجٍ من الخوف المُبهم والخطر، وأدرك أن توصيله ليس كرمًا من صاحب الخاتمِ الذهبيِّ بقدرِ ما هو عملٌ يستهدف شيئًا آخر.

ووقفَت أمام الشركة سيارةٌ رماديةٌ فاخرة، وودَّع مديرُ الشركةِ «تختخ» حتى الباب، ثم ركب «تختخ» وانطلقَت السيارة في طريقها إلى المعادي.

أخذ «تختخ» يُفكِّر في شريط الساعات التي مرَّ بها … لقد وصل إلى حقائقَ هامةٍ ومثيرة، ولكن «هؤلاء» أيضًا عرفُوا حقائقَ لا تقلُّ أهمية … وكان يقصد ﺑ «هؤلاء» من اشتركوا في عملية الصندوق.

وخطر له — والسيارة تشق طريقَها إلى المعادي — أن «هؤلاء» قد يختطفونه … مثلًا قد تنحرف السيارة عن طريقها وتمضي إلى طريقٍ آخر … مثلًا أن تدخل إلى «جراج» بدعوى الإصلاح أو غيره، ثم ينقضُّ عليه من يشل حركته، ثم يُنقل إلى مكانٍ لا يعرفه أحد.

وتحفَّزَت أعصابُه للنضال، وأخذ يُحرِّك ذراعَيه وقدمَيه كأنما سيدخل معركة، ولكن فجأةً قفزَت إلى رأسه فكرة … إنهم يقصدون فقط أن يعرفوا عنوانه … وعليه أن يُضلِّلهم … وفعلًا مضَت السيارة في طريقها المعتادِ إلى المعادي … وسأله السائق عن الطريق إلى منزله … فقال له: شارع ٤٤ … إنهم يعرفون عنوان «ناهد»، فليكن عنوانُه هناك أيضًا.

ووقفَت السيارةُ في إحدى إشارات المرور، ونظر «تختخ» من النافذة، وكم كانت دهشته عندما وجد الشاويش «فرقع» يقف بدرَّاجته، ويُحدِّق في وجهه بدهشةٍ شديدةٍ وهو يراه يركب هذه السيارةَ الفاخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤