مُبارزة في الذكاء

نزل «تختخ» من السيارة أمام منزلِ «ناهد»، وتصرَّف ببساطةٍ كأنه نزل أمام منزله؛ فقد كان يعرف أن السائق سيُراقبه حتى يدخل من الباب، وهكذا لم يتردَّد وأسرع بدقِّ جرس الباب، وكأنه أحد سكَّان البيت، على حين يرمق بطرف عينه السيارة التي كان السائقُ يتظاهر بإدارة مُحرِّكها ولكنه لا يدور.

ورجَا «تختخ» أن تفتح «ناهد» البابَ حتى يدخل، فلو فتح عمُّ «سيد» الطبَّاخ فسوف يدورُ بينهما حديث، ويتضح أن المنزل ليس منزله … وتحقَّق رجاؤُه؛ فقد فتحَت «ناهد» الباب ودُهشَت قليلًا لأن «تختخ» دخل على الفور، ولكن دهشتها زالَت عندما أغلق «تختخ» الباب خلفه، ثم شرح لها الموقف في كلماتٍ سريعة.

كانَت آثار الحادثة واضحةً على ملابسه ويدَيه ووجهه، فذُعرَت «ناهد»، ولكنه أسرع يُطمئنها، ثم اتَّصل تليفونيًّا بالأصدقاء، فعرف أنهم جميعًا في حديقة منزلِ «عاطف» في انتظاره، فقال لهم إنه سيذهب إلى منزله لإبدال ثيابه، ثم يلحق بهم هناك، وطلب من «ناهد» إعارته درَّاجتها؛ فهي — وإن كانَت صغيرةً نوعًا ما — أفضل من السير على القدمَين في هذا الجوِّ الحار.

ووقف «تختخ» بجوار الباب، ثم طلب من «ناهد» فتحه وإلقاءَ نظرةٍ على الشارع … وقالَت «ناهد» وهي تُطلُّ من فتحة الباب: لقد انصرفَت السيارة … وهكذا أسرع «تختخ» إلى درَّاجة «ناهد»، وانطلق مسرعًا إلى منزله.

لم يكَد «تختخ» يصل إلى قرب منزله حتى فوجئ بالشاويش «فرقع» يتسكَّع بالقرب منه، ولم يكَد الشاويش يرى «تختخ» … حتى أسرع بدرَّاجته في اتجاهه، فوصلا في الوقت نفسه أمام باب الحديقة.

قال الشاويش وهو يرمق «تختخ» بنظرةٍ مستريبة: لقد ظننتُ أنكَ ستسبقني بالسيارة الكبيرة إلى المنزل، ولكني حضرتُ وسألتُ عنك فقيل لي إنكَ لم تحضر بعد، فأين كنت؟

كان «تختخ» متعبًا من أثر الحوادثِ التي مرَّت به، فقال للشاويش: هل هناك شيء محدَّد تُريده مني يا حضرة الشاويش؟

ارتبكَ الشاويشُ لهذه الملاحظةِ التي تتسمُ بالضيق، وتنحنح قائلًا: منظرك غريب … فأنتَ مصاب، وتركب درَّاجة بنات!

تختخ: هل هناك مانعٌ من أن أكونَ مصابًا، وأن أركب درَّاجة بناتٍ أو درَّاجة سيرك؟

الشاويش: ليس هناك مانعٌ طبعًا … ولكن …

تختخ: ولكن أشكرك يا شاويش على اهتمامك بي، ولكن أيضًا …

وفي تلك اللحظة اندفع «زنجر» كالسهم الأسودِ من باب الحديقة، وقفزَ على سيقان «تختخ» وأخذ يُرحِّب به.

وأدرك الشاويش أن «زنجر» بعد أن يُرحِّب ﺑ «تختخ» فسوف يُرحِّب به هو شخصيًّا على طريقته الخاصة … فبدأ يتحرَّك مسرعًا، ولكنه قبل أن يمشي قال ﻟ «تختخ»: لقد رأيتُ أن أُحذِّرك من السائق الذي كان يقود سيارتك.

وقبل أن يترك الشاويش ﻟ «تختخ» فرصةً أخرى لمناقشته، أطلق ساقَيه في الدراجة، فانطلقَت بسرعة … على حين فتح «تختخ» فمه مندهشًا لما سمعه من الشاويش … إنها معلومات هامة تلك التي قالها الشاويش في جملته القصيرة، وكان يُهم «تختخ» أن يستكمل معلوماته عن هذا السائق … ولكن تعبه والدرَّاجة الصغيرة التي يركبها منعاه من محاولة اللحاق بالشاويش … وقرَّرَ «تختخ» الحديثَ إلى الشاويش «فرقع» عمَّا قاله في وقتٍ لاحق، برغم علمه أن الصراع الدائم بين المغامرين الخمسة والشاويش قد يجعل الحصولَ على معلوماتٍ من الشاويش مسألةً صعبة.

بعد أن اغتسل «تختخ» وغيَّر ثيابه، انطلق عائدًا بدرَّاجة «ناهد» إلى حيث كان الأصدقاء ومعهم «ناهد» ينتظرونه بفارغ الصبر؛ فقد نقلَت إليهم «ناهد» أخبار إصابة «تختخ»، ولكنه عندما وصل إلى الحديقة لم يترك لهم فرصةً لسؤاله؛ فقد روى لهم بسرعةٍ ما مرَّ به من أحداث، وأكَّد لهم أن إصاباته خفيفة، فقال «عاطف»: لقد كانَت إصابات مفيدة؛ فلولاها لما تعرَّفتَ بالحمَّالَين والرجلِ ذي الخاتم الذهبي، وركبتَ السيارةَ الفاخرة، وقابلتَ الشاويش.

تختخ: معك حق … إن الإصابات كان ثمنها مُجزيًا.

وسكت «تختخ» لحظات، ثم قال: أُحب أن أقول لكم استنتاجاتي بعد أن رويتُ لكم ما حدث … فمن الواضح أن «هؤلاء» … ويجب أن نُطلق عليهم تسميةً حتى يسهل الحديث عنهم …

سارعَت «لوزة» إلى الحديث قائلة: فلْنُسمِّهم «عصابة الصندوق»!

تختخ: لا بأس … وإن كنا حتى الآن لا نعرف ما إذا كانوا عصابةً أم لا؟ … فلْنقل إن «عصابة الصندوق» على درجةٍ كبيرةٍ من الذكاء … فبعد أن رأَت «ناهد» رجل الصندوق سارعوا إلى تحذيرها من أي حديث عنه … ثم عندما قلتُ للحمَّالَين إنني رأيتُ السيارة في المعادي، واعترف أحدهم بذلك، سارع الثاني إلى تغيير الحديث؛ ممَّا يعني أنهما تلقَّيَا تحذيرًا بعدم الحديث عن الصندوق، وأن الحمَّال الأوَّل تحدَّث سهوًا … ثم جاء مُدير الشركة ونفى تمامًا أن إحدى عرباته قد ذهبت إلى المعادي …

ونظر «تختخ» إلى الأصدقاء فوجدهم يُتابعون حديثه باهتمام، فمضى يقول: وإصرار مدير الشركة ذي الخاتم الذهبي على توصيلي بسيارته إلى منزلي يعني أنهم كانوا يُريدون معرفة منزلي، واهتمامهم بكل هذا يعني أن مسألة رجل الصندوق مسألة هامة جدًّا، وأعتقد أن لا علاقة لها بالدولة، وسوف نتأكَّد على كل حالٍ عندما يتصل بنا المفتش «سامي».

نوسة: وماذا يجب علينا أن نفعل حتى يتصل المفتش «سامي»؟ من غير المعقول أن ننتظر؛ فكل وقتٍ يمر ليس في صالحنا.

مُحب: ولعل رجل الصندوق قد نُقل الآن إلى حيث تُريد العصابة وانتهى الأمر … ولم يعُد هناك مغامرة ولا ألغاز!

التفتَ «تختخ» إلى «عاطف» وقال له: وما رأيكَ أنتَ يا «عاطف»؟

عاطف: أعتقد أن رجل الصندوق هذا إمَّا مجنون في طريقه إلى مستشفى المجاذيب بطريقةٍ مُبتكرة، وإمَّا نوع من القردة ذاهب إلى حديقة الحيوان … وإمَّا …

وقبل أن يُتم إجابته الساخرة قاطعته «لوزة» قائلة: إنكَ تُضيع وقتنا بهذه النكات غير الضاحكة، لقد قلتَ مئات التعليقات بدون أن …

ولكن «ناهد» التي كانَت معجبةً بشخصية «عاطف» الظريفة قاطعَتها هي الأخرى قائلة: لماذا هذا التحامل على «عاطف»؟ أليس من حقِّه أن يُبدي رأيه بالطريقة التي يُحبها؟! لقد حكيتِ لي مغامرات كثيرةً لعب فيها «عاطف» أدوارًا مُهمَّة.

رفع «تختخ» يده إلى فوق وقال: من فضلكم … أوقفوا هذه المباراة الكلامية، إنني ضد الرأي الذي يقول إن الزمن ليس في صالحنا، وإن رجل الصندوق قد وصل إلى المكان الذي تُريده العصابة … فقد عرفوا أن «ناهد» رأته، ولا بد أنهم سارعوا بإخراجه من الصندوق لفترة ما حتى يرَوا ماذا تفعل «ناهد»، وقد عرفوا الآن أنني أسكن معها أو أعرفها، وأنني حاولتُ الحصول على معلومات عن الصندوق. وأُؤكِّد لكم أن العصابة ستتحرَّك سريعًا لإخفاء كلِّ شيءٍ يتعلَّق بالصندوق وبمن كان فيه، وستتحرَّك أيضًا لإسكات «ناهد» وإسكاتي أيضًا!

أحسَّ الأصدقاء بالرهبة أمام حديث «تختخ»؛ فمعنى ذلك أنه هو و«ناهد» مُعرَّضان لخطرٍ جسيم قد يقع في أية لحظة، وقالَت «لوزة»: إن مُهمَّتنا الأساسية في هذه الحالة هي المحافظة عليكما!

تختخ: إنني بالطبع مُهتَم بسلامة «ناهد»، وقد اتفقتُ معها ألَّا تستجيب إلى أي نداء لإخراجها من منزلهم إلا إذا سمعَت كلمة السر مني — وبالطبع منكم — وهي كلمة «الوردة»؛ إشارةً إلى الوردة التي رسمَتها على الصندوق، والتي لا أظن أن العصابة سوف تلتفت إليها … وستكون دليلا هامًّا عندنا إذا استطعنا الحصول على الصندوق.

وفي هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون، وكان المتحدِّث هو المفتش «سامي» الذي طلب الحديث إلى «تختخ» … وكفَّ الأصدقاء عن الحديث، وأخذوا يُراقبون وجه «تختخ» ليرَوا آثار المكالمة على وجهه … وبعد دقيقة أشار «تختخ» ﻟ «لوزة» أن تُحضر ورقةً وقلمًا، فأسرعَت بإحضارهما، وأخذ «تختخ» يكتب، وكان من الواضح أن المفتش يُملي عليه شيئًا، ثم سمعوا «تختخ» يقول للمفتش: شكرًا لك … إن هذا يُعطينا فرصةً واسعةً للعمل.

ووضع «تختخ» السمَّاعة، ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: أمس قالَت لي «ناهد» شيئًا، وقد طلبتُم معرفته ولكني أخفيتُه عنكم … والآن أستطيع أن أقوله لكم … لقد أخبرتني «ناهد» أن شخصًا اتصل بها وقال لها إن رجل الصندوق يقوم بمُهمَّةٍ في سبيل الوطن، وطلب منها ألَّا تقول لأي إنسان شيئًا عن هذه المعلومات … ورأيتُ أن أُخفي هذه المعلومات لأنها لو كانَت صحيحةً فمن الأفضل فعلًا ألَّا يعرفها أحد … حتى ولا المغامرون الخمسة؛ فمصلحة الوطن فوق كل شيء … وقد أبلغتُ المفتش «سامي» بهذا، فاتصل بالجهات المسئولة التي نفَت هذه المعلومات، وهكذا أصبح من حقكم أن تعرفوا، ومن هذا أيضًا يتأكَّد لنا أننا أمام عصابةٍ خطيرةٍ وقوية، ولا يردعها شيء في سبيل المحافظة على أسرارها.

وسكت «تختخ» عندما لاحظ نظر الأصدقاء مُوجَّهًا إلى الورقة التي كتبها، فرفعها أمامهم قائلًا: أمَّا هذه الورقة فهي تحمل كشفًا بأسماء الأشخاص الذين تغيَّبوا عن منازلهم في الأسبوع الماضي، وقد طلبتُها من المفتش باحتمال أن يكون رجل الصندوق أحد المتغيِّبين عن مساكنهم الذين أبلغ أهلُهم عنهم …

وأخذ «تختخ» يقرأ الكشف … ويُناقش مع الأصدقاء كل اسم واحتمال أن يكون هو رجل الصندوق. وكان الكشف يحتوي على تسعة أسماء، بينها ثلاثة أطفال، وسيدتان، وأربعة رجال أحدهم في السبعين من عمره، وقد استبعد الأصدقاء طبعًا الأطفال والمرأتَين والرجل العجوز، وكتب كلٌّ منهم كشفًا بأسماء الرجال الثلاثة الآخرين … وقد كان بينهم واحد يسكن في المعادي … ممَّا دفع الأصدقاء إلى التوقُّف أمام اسمه طويلًا.

كان اسمه «علَّام القاضي»، وهو ثري يُقيم مع زوجته، وليس له أولاد، في الأربعين من عمره، وعنوانه ١٩ شارع ٩٦، وسرعان ما كان «محب» و«عاطف» يستعدَّان للذهاب إلى العنوان لجمع المعلومات عنه. أمَّا الشخصان الآخران فكان أحدهما يُدعى «فتحي عوض» من شارع «كلوت بك»، ولفت نظر «تختخ» قرب العنوان من شارع «نجيب الريحاني» حيث تُوجد «شركة النقل العالمية»، فأخذ على عاتقه مهمَّة الحصول على المعلومات اللازمة عنه.

أمَّا الثالث فكان يُدعى «علي أبو العينين»، ويسكن في شارع «شبرا» رقم ٥٤، وقد ضمَّه «تختخ» إلى مسئولياته قائلًا: ما دمتُ سأذهب إلى «القاهرة»؛ فمن الأفضل أن أقوم بالمهمَّتَين في وقتٍ واحد.

ناهد: أليس لي دور معكم؟

تختخ: إن لكِ أهم دور … كوني قريبةً من التليفون باستمرار … إن كل مكالمة تصلكِ ستكون مُهمَّةً جدًا.

والتفتَ إلى «لوزة» فقالَت: لقد عرفتُ مُهمَّتي … سأبقى أطول فترة ممكنة بجوار «ناهد»! وابتسم «تختخ» وربت على كتفها قائلًا: إنكِ دائمًا تقرئين أفكاري.

أمَّا «نوسة» فقالَت: سأعود الآن إلى مُهمَّة إعداد الأرشيف الخاص بالمغامرين الخمسة.

ناهد: ما معنى أرشيف؟

محب: إنه جمع الأوراق الخاصة بعملٍ ما وتنظيمها للرجوع لها عند الحاجة. و«نوسة» تقوم بجمع الحوادث التي تنشرها الجرائد، والمعلومات الخاصة بالمجرمين، وصورهم، وتنظيمها؛ للعودة إليها عند الحاجة.

وفجأةً قفز «تختخ» واقفًا وقال: كيف نسينا؟!

ماذا نسينا؟

تختخ: الشاويش … إن معلوماته عن السائق من أهم ما يمكن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤