المكالمة التليفونية

أسرع «تختخ» لمقابلة الشاويش، وانفضَّ الاجتماع، فقام «محب» و«عاطف» بالاتجاه إلى الشارع ٩٦ حيث يسكن «علَّام القاضي» الذي أخبرهم المفتش عن اختفائه، وذهبَت «نوسة» إلى المنزل للعمل في الأرشيف، وكانَت قد قضَت بضعة أيام لا تعمل فيه بسبب إصابتها بالبرد. واتجهَت «لوزة» مع «ناهد» إلى منزلها لتبقى بجانبها، فجلستَا في الحديقة حتى بدأ الظلام يهبط … فقرَّرتَ «لوزة» العودة إلى منزلها.

ولم تكَد «ناهد» تصل ومعها «لوزة» إلى باب الحديقة حتى ظهر «سيد» الطبَّاخ يُطل من الباب ويقول لها: تليفون لكِ يا «ناهد».

أسرعَت «ناهد» ومعها «لوزة» إلى صالة «الفيلا» … وكانَت سمَّاعة التليفون ملقاةً بجواره، فأسرعَت «ناهد» ترفعها إلى أذنها وفمها وقالت: ألو … ولكن أحدًا لم يرد … عادَت تصيح: ألو! … ولكن بدلًا من أن تسمع أحدًا يُحدِّثها، سمعَت مجموعةً من الأصوات تتحدَّث، وكادَت تضع السمَّاعة لولا أنها سمعَت كلمة «صندوق» تتردَّد في التليفون … وتنبَّهت فورًا، وأشارَت إلى «لوزة» أن تقترب وتسمع معها …

وسمعتا صوتًا يقول: نحرق الصندوق … وسكت الصوت قليلًا، ثم عاد يقول: ولكن ذلك قد يلفت نظر الناس … معقول … وعاد الصوت يبتعد … ثم عاد يقول: والآن اذهبوا أنتم … العنوان كما تعرفون عند «الاستاد» … ثم صمت لحظات وعاد يقول: في المعادي طبعًا … وخذوا السيارة الزرقاء …

قالت «لوزة» بصوت منخفض: ضعي السمَّاعة بهدوءٍ شديد.

ووضعَت «ناهد» السمَّاعة، وقالَت «لوزة»: إنها صدفة غير معقولة … لقد فهمتُ من المكالمة أنهم يُريدون التخلُّص من الصندوق … ألم تفهمي ذلك؟ وقبل أن ترد «ناهد» دقَّ جرس التليفون مرةً أخرى، ورفعَت «ناهد» السمَّاعة، وسمعَت من يطلبها فقالَت: أنا «ناهد»!

وسمعَت صاحبَ الصوت يقول: لقد علمنا أن ولدًا سمينًا قد عرف بعض الأشياء عن حكاية الصندوق … ألم نُنبِّه عليكِ ألَّا تقولي لأحد؟

لم تردَّ «ناهد»، فعاد صاحب الصوت يقول: هذه آخر مرة نُنبِّهك … ونحن نعرف أن هذا الولد يسكن قريبًا منك، وأن له هواية حل الألغاز والاشتراك في المغامرات، فاطلبي إليه أن يبتعد عن طريقنا … إن ما نقوم به لمصلحة الوطن؛ فلا داعي لأن يتدخَّل … وإلا … ووضع الرجل السمَّاعة، فأغلقَت «ناهد» التليفون والتفتَت إلى «لوزة» التي كانَت هي الأخرى قد استمعَت إلى المكالمة.

قالت «لوزة»: لقد نسي سمَّاعة التليفون مرفوعةً في المكالمة الأولى … وهكذا عرفنا معلومات على أكبر جانب من الأهمية … فهم سيُحاولون التخلُّص من الصندوق الليلة، وهذا الصندوق أكبر دليل لدينا … فماذا نفعل؟

ناهد: يجب الاتصال أولًا ﺑ «تختخ» و«محب» و«عاطف» و«نوسة» لاستشارتهم، ثم نتصرَّف على ضوء هذه المناقشة.

لوزة: أعرف ذلك … ولكني أخشى ألَّا نجدهم! على كل حال لنتصل أولًا.

واتصلَت «لوزة» بمنزل «تختخ» فلم تجِده قد عاد بعد، وكذلك «محب» و«عاطف» … فسردَت ﻟ «نوسة» ما سمعَته هي و«ناهد» عن الصندوق في التليفون، وسألَتها: ماذا نفعل الآن يا «نوسة»؟

ظلَّت «نوسة» صامتةً لحظات، ثم قالَت: إننا لا نعرف متى يصل رجال العصابة إلى المعادي … وقد يصلون الآن … والأصدقاء غير موجودين … ويجب أن نتصرَّف نحن … وسكتت لحظات، ثم قالَت: سأُقابلك الآن يا «لوزة»، واتركي «ناهد»، وأَوصيها أن تتصل بين فترة وأخرى ﺑ «تختخ» و«محب» و«عاطف»، وتُحيطهم علمًا بما حدث … أمَّا نحن فسنذهب إلى «الاستاد»، واتصلي بوالدتكِ وقولي لها إنكِ تسهرين معي هذا المساء … لأن والدي ووالدتي مسافران.

لوزة: ولكن منطقة «الاستاد» واسعة جدًّا!

نوسة: سنبحث عن السيارة الزرقاء!

وشرحَت «لوزة» ﻟ «ناهد» دورها: عليك بمداومة الاتصال بمنازلنا، وإخطار من تجدين من المغامرين الخمسة بالمكالمة التليفونية، وقولي إنني و«نوسة» قد ذهبنا للبحث عن السيارة الزرقاء … وسنُحاول أن نرى ماذا تفعل العصابة هناك، وسنحصل طبعًا على رقم السيارة، وكل ما يمكن جمعه من معلومات …

ناهد: ولكن يا «لوزة» إنني خائفة عليكما!

ابتسمَت «لوزة» وقالَت: لا تخافي … إنها مُهمَّة سهلة؛ فلن نتدخَّل في شيء، وأقصى ما نعمل أننا سنقف ونُراقب من بعيد … ثم اتصلَت «لوزة» بوالدتها لتُطمئنها إذا تأخَّرَت، وقالَت لها: إن والدَي «محب» و«نوسة» مسافران، وسنسهر معهما … ثم أسرعَت للقاء صديقتها.

انطلقَت «نوسة» و«لوزة» وقد أحسَّتا بالتشوُّق للمغامرة المقبلة؛ فهما منذ فترة طويلة لم تشتركا في عمل معًا … وقد جاءت الفرصة …

وبينما كانتا متجهتَين إلى ناحية «الاستاد»، كان «تختخ» يركب القطار من محطة باب اللوق في «القاهرة» عائدًا إلى المعادي … وفي ذهنه يدور شريط الأحداث التي مرَّ بها في ذلك اليوم منذ ترك الأصدقاء وذهب إلى الشاويش، ثم إلى «القاهرة» للحصول على معلومات عن الشخصَين اللذَين تغيَّبا؛ «فتحي عوض» من شارع «كلوت بك»، و«علي أبو العينين» من شارع «شبرا».

كانَت مقابلته مع الشاويش ناجحةً إلى حدٍّ ما برغم أن الشاويش لم يردَّ على كل الأسئلة التي وجَّهها إليه «تختخ» عن السائق الذي أوصله إلى المعادي، والذي حذَّره الشاويش منه … كانَت المعلومات التي حصل عليها من الشاويش أن السائق — كما يتذكَّر الشاويش — مشهور باسم «طفاشة»، وهو من ذوي السوابق الخطرين … وقد عرفه الشاويش في بداية حياته مُتهمًا في قضية سرقة، وأنه دخل السجن لمدة ثلاث سنوات، ثم خرج … ولا يعرف الشاويش شيئًا آخر عنه، ولكن هذه المعلومات على كل حالٍ كانَت كافيةً لتُؤكِّد ﻟ «تختخ» أنه وقع على عصابةٍ خطيرة من الأشرار.

أمَّا رحلته إلى شارع «كلوت بك» وشارع «شبرا» فكان نصيبهما الإخفاق؛ فلم يحصل على معلومات ذات أهمية … ولكن كان يُرجِّح أن الرجلَين الغائبَين ليس لهما علاقة برجل الصندوق … فأحدهما ضعيف العقل وكثيرًا ما يتغيَّب عن منزله … والثاني تغيَّب بعد مشاجرةٍ بينه وبين أُسرته، ولعله يعود ما بين يوم وآخر.

وتذكَّر «تختخ» مُهمَّة «عاطف» و«محب» في المعادي … لقد ذهبا للحصول على معلومات عن «علَّام القاضي» الثري الذي يسكن في المعادي … فلعل «علَّام القاضي» هذا هو رجل الصندوق … ربما …

وعندما وصل إلى المعادي اتجه إلى منزله … لقد كانَت الساعة قد تجاوزَت الثامنة والنصف ليلًا، وقرَّر الاتصال بالأصدقاء تليفونيًّا ليعرف أخبارهم.

وعندما وصل أسرع إلى التليفون، وطلب منزل «عاطف» و«لوزة»، ولكن لم يجِدهما هناك، وكذلك اتصل ﺑ «محب» و«نوسة»، ولكنه أيضًا لم يجِدهما … ودُهش «تختخ»، ولكنه ظنَّ أنهم جميعًا ربما ذهبوا إلى «الكورنيش» للنزهة كما اعتادوا … فبدأ يخلع ثيابه عندما ظهرَت الشغَّالة وقالَت له إن «ناهد» اتصلَت به أكثر من مرة، وتُريده أن يتصل بها بمجرَّد وصوله، وقد كان في نيته فعلًا أن يتصل بها بعد أن يرتاح قليلا، ولكن حديث الشغَّالة جعله يعود إلى التليفون مرةً أخرى ويتصل ﺑ «ناهد». ولم تكَد ترد عليه حتى سألها عن الأصدقاء، فروَت له ما حدث، وكيف سمعَت المكالمة التليفونية، وحديث الرجل إلى أعوانه أن يذهبوا للتخلُّص من الصندوق قرب «الاستاد»، والسيارة الزرقاء التي سيذهبون فيها، وذهاب «لوزة» و«نوسة» إلى هناك لمتابعة ما يحدث.

قفزَت إلى ذهن «تختخ» بعد سماع هذه المعلومات عشرات من الاستنتاجات والمخاوف، ثم سمع «ناهد» تقول له: «تختخ» … هل ما زلتَ تسمع؟

ردَّ «تختخ»: نعم.

ناهد: ماذا تفعل؟

تختخ: سأذهب للبحث عنهما فورًا … لقد كان تصرُّفًا أحمق منهما أن يذهبا في هذا الظلام لمطاردة عصابة خطيرة وشريرة مثل عصابة «رجل الصندوق»!

ناهد: ولكنهما لم يقولا إنهما سيُطاردان العصابة.

تختخ: إنني أعرفهما … وبخاصةٍ «لوزة»، سوف تندفع إلى المخاطرة، وأخشى كثيرًا أن تتعرَّضا لمتاعب قاسية.

لم تردَّ «ناهد»، فعاد «تختخ» يقول: إذا لم أتصل بكِ خلال ساعة من الآن، أو لم تتصل بكِ «نوسة» و«لوزة»؛ فاتصلي بالمفتش «سامي» وقولي له إنكِ صديقة لنا، واروي له كلَّ ما حدث.

ثم أعطاها رقم تليفون المفتش، ووضع السمَّاعة، وعاد يرتدي ما كان قد خلعه من ثيابه، وقفز خارجًا إلى درَّاجته، ومرَّ ﺑ «زنجر» فصفَّر له، وسرعان ما كان الكلب الأسود الشجاع يقفز إلى مكانه في السلة التي بظهر الدرَّاجة، وانطلقَا في الظلام في اتجاه «الاستاد».

كانَت الريح التي هبَّت تلك الليلة على غير انتظار تضرب وجه «تختخ» وشعره يتطاير معها … وذهنه يعمل بسرعةٍ خارقة … شيء ما في المكالمة التليفونية لم يكن يُعجبه، شيء لا يرتاح إليه … وتذكَّر «محب» و«عاطف» … لماذا لم يعودا هما أيضًا؟! أين ذهبا؟! لماذا تأخَّرا حتى الآن؟! إن المُهمَّة التي ذهبا من أجلها كانَت بسيطةً ولا تستحق كلَّ هذا الغياب، ولو أنهما هما اللذان ذهبا مكان «نوسة» و«لوزة» ما كان منزعجًا مثل انزعاجه الآن …

واقترب من مكان «الاستاد»، وبدأ قلبه يخفق … هل يجد «نوسة» و«لوزة»؟ وكانَت المنطقة مظلمةً وموحشة … فهي بعيدة عن العمران … وتذكَّر مغامرة «الرجل الذي طار» … لقد دار جزء منها في هذا المكان، وكان جزءًا خطيرًا من المغامرة.

دار «تختخ» حول «الاستاد» مرةً بدون أن يرى شيئًا مُثيرًا للانتباه، وأحسَّ بقلبه يقع في قدمَيه … لقد حدث شيء مُخيف لا يدري ما هو … ولكن … ألَا يمكن أن تكون «نوسة» و«لوزة» قد عادتَا الآن إلى منزلَيهما، ويكون تشاؤمه لا داعي له؟

وقرَّر أن يذهب إلى أقرب تليفون ويتصل بهما … وأسرع عائدًا بدرَّاجته إلى أقرب محلٍّ مفتوح، ولكن قبل أن يصل إليه — ومن أحشاء الظلام — برز شخص أمام الدرَّاجة … لم يستطِع «تختخ» أن يتفاداه إلا بعد أن استخدم الفرامل بشدة، وكاد يسقط على الأرض لولا أن استند بسرعةٍ على عمود نور قريب … وقال له الرجل: آسف جدًّا يا أستاذ، ثم انحنى على الأرض ومدَّ يده بشيء إلى «تختخ» قائلًا: يبدو أن ثمَّة شيئًا قد سقط منك في الظلام.

واختفى الرجل كما ظهر بدون أن يترك ﻟ «تختخ» فرصةً للحديث معه، وكان الشيء الذي أعطاه ﻟ «تختخ» ورقةً مطوية … أسرع «تختخ» بفتحها بأصابع مرتجفة؛ فقد أدرك أن فخًّا قد دُبِّر له وقد صحَّ ما توقَّعه؛ فقد كان في الورقة بضعة سطور جعلَت الأرض تميد تحت قدمَيه: «حذار … إننا نُنذرك ألَّا تتدخَّل في شئوننا؛ فنحن نُراقبك طول الوقت … ونُراقب أصدقاءك طبعًا، وقد عرفنا كلَّ شيء عنكم … والفتاتان الصغيرتان عندنا لنُؤكِّد لكَ أننا لا نهزل، وأن المسألة ليسَت مجرَّد لعب أطفال، وحذارِ من إبلاغ الشرطة وإلا …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤