بين السماء والأرض

نظر «محب» و«عاطف» إلى حيث أشار «تختخ» … كانَت هناك قصاصة من جريدة «الأهرام» ملصقة بعناية على صفحةٍ من الورق الأبيض، وكان بها صورة وعنوان كبير مكتوب فيه «مجرم خطير يهرب من حارسه».

وأخذ «تختخ» يقرأ المعلومات بصوتٍ مرتفع: هرب أمس مجرم خطير من حارسه … المجرم يُدعى «همَّام قناوي»، وهو متهم في جريمة قتل … وقد سبق القبض على «همَّام» في جرائم سرقة بالإكراه وخطف، واستطاع الهرب من سجنه … وتمَّ القبض عليه بعد معركة حامية في الجبل، وأُودع السجن تمهيدًا لمحاكمته … وأمس في أثناء نقله من السجن إلى المحكمة استطاع مغافَلَة حرسه والجري، وكانَت هناك سيارة في طريق جانبي في انتظاره قفز إليها وانطلقَت به قبل أن يلحق به الحُرَّاس.

وقد أحدث هرب «همَّام» انزعاجًا شديدًا في مختلِف دوائر الأمن العام، وقد وُزِّعَت نشرة بأوصافه، كما وافتنا إدارة المباحث الجنائية بصورة له ننشرها هنا. وقد دعَت وزارة الداخلية المواطنين الاشتراك في مطاردته بالإدلاء عن أية معلومات تُؤدِّي للقبض عليه، وخصَّصَت ١٠٠ جنيه لهذا الغرض.

ثم قرأ «تختخ» أرقام التليفونات التي أوردتها الوزارة للاتصال بها والإدلاء بالمعلومات التي تتوافر للمواطنين.

قال «عاطف»: لا أدري ما صلة المجرم الهارب بما نحن فيه … هل تقصد أن هذا المجرم هو رجل الصندوق؟

تختخ: لا شك في هذا … إن «همَّام قناوي» هو رجل الصندوق!

عاطف: وكيف توصَّلتَ إلى هذا الاستنتاج العجيب؟!

تختخ: سأقول لك … واضح أن «نوسة» شاهدَت هذا الرجل ضمن رجال العصابة عندما اختطفوها … وإذا نظرتَ إلى العينَين والحاجبَين فستعرف أنه رجل الصندوق … فأنا أذكر أن «ناهد» وصفَت ما رأَته، وبأن له حاجبَين كثيفَين، أحدهما مقطوع … وهذا هو الحاجب المقطوع.

وأشار «تختخ» إلى الصورة، ثم قال: إنه ليس واضحًا جدًّا هنا … ولكن نظرةً مُدقِّقةً تُؤكِّد أنه هو … وهكذا استخدمَت «نوسة» الذكية اتفاق الكلمة السرية لتُؤكِّد أن المعلومات التالية للكلمة تخص اللغز الذي نعمل فيه … وهكذا أشارَت إلى الأرشيف، وإلى الصفحة … ولا أدري ماذا فعلَت العصابة … هل سمعَت ما قالَته «نوسة» وعاقبَتها أو لا؟

محب: في إمكاننا أن نتصل ﺑ «ناهد» الآن وندعها تُشاهد هذه الصورة لتتأكَّد.

تختخ: أُؤكِّد لكَ أن هذا الرجل هو رجل الصندوق … ولا داعي لإضاعة الوقت.

عاطف: وماذا نفعل؟

•••

في تلك الأثناء كانَت «لوزة» و«نوسة» تجلسان في غرفةٍ مغلقة، وكانَت العصابة بعد اختطافهما قد ربطَت عيونهما حتى لا تعرفا أين تذهبان، ولم تفكَّ الرباط إلا بعد أن دخلتَا إلى الغرفة.

نظرَت «نوسة» حولها، ثم قالَت: وهكذا وقعنا ببساطة … فماذا نفعل الآن؟

لوزة: لا أدري، ولكن لعل المكالمة التليفونية قد وضعَت الأصدقاء الثلاثة على الطريق الصحيح … وإن كان ذلك ليس سهلًا!

نوسة: لحسن الحظ أن العصابة لم تسمع ما قلتُه … وإلا لتعرَّضتُ لعقاب شديد.

لوزة: أرجو أن يعرف الأصدقاء الثلاثة ما تقصدين.

نوسة: أعتقد أنهم سيفهمون … ولكنهم إذا كانوا قد عرفوا رجل الصندوق، فلستُ أدري كيف يمكنهم الوصول إلينا في الوقت المناسب … هذا إذا كانوا قد عادوا وعرفوا الرسالة …

لوزة: وفي الوقت المناسب قبل هرب الرجل أو تهريبه؛ فلعلك لاحظتِ معنى الأقوال المتناثرة التي كان رجال العصابة يتبادلونها عند إحضارنا إلى هنا … إنهم سيتحرَّكون في منتصف الليل!

قامَت «نوسة» وأخذَت تطوف بالغرفة … كانت غرفةً فاخرة الأثاث … وقد وضع لهما رجال العصابة كميةً من الفاكهة ودورقًا للماء … وكان الجو حارًّا، والغرفة مغلقة الأبواب والنوافذ، فشعرَت الصديقتان بالضيق … واقتربَت «نوسة» من النافذة وأخذَت تفتحها … وفي تلك اللحظة فُتح الباب وبدا على عتبته أحد أفراد العصابة وصاح بها: دعي النافذة! لا تقربي منها وإلا …

ردَّت «لوزة» بغضب: إننا سنختنق! … نُريد بعض الهواء! …

الرجل: افتحي الزجاج فقط.

وفتحَت «نوسة» الزجاج … واستطاعَت أن تسمع من بعيد ضجيج الشارع، وكان الرجل قد انصرف، فقالَت «نوسة»: إننا في مكانٍ قريب من وسط «القاهرة»؛ فهناك أصوات سيارات كثيرة تمر … ولكننا أيضًا في مكان مرتفع جدًّا؛ فالصوت يصل إلينا ضعيفًا … وفي الأغلب نحن في آخر دور في العمارة … فهذا الحر واضح أن سببه أن ما فوقنا هو السطح مباشرةً حيث تُسلِّط الشمس أشعتها طول النهار.

لوزة: هذه استنتاجات قيِّمة … ولكن ماذا نفعل بها؟

نوسة: قد نستفيد منها بشكلٍ أو بآخر.

واقتربَت «نوسة» من باب الغرفة وفتحَته بهدوء شديد. وفوجئَت بالحارس الذي يقف أمام الباب يثور ثورةً شديدة … ثم يُغلق الباب بشدة … وسمعَت صوت المفتاح وهو يدور في القفل.

وبدون تردُّد أسرعَت إلى النافذة، وبهدوء شديد فتحَت «الشيش» … ثم أطلَّت من النافذة، ورفعَت رأسها إلى فوق، ونظرَت إلى أسفل … كانَت استنتاجاتها كلها صحيحة … فقد كانَت في الدور الأخير من إحدى العمارات … وكانَت النافذة تفتح على الجزء الخلفي من العمارة … (المنور)، وكان الظلام يسوده … ولكن على الضوء البعيد القادم من الشارع المجاور استطاعَت أن ترى إفريزًا عريضًا يُحيط بالعمارة كلها تحت النافذة مباشرة … وخطر ببالها شيء شديد الخطورة، ولكن كان فيه الأمل الوحيد للخروج من المأزق.

قرَّرَت «نوسة» أن تنزل من النافذة إلى الإفريز وتسير عليه. كان من المحتمل أن تفقد اتزانها وتسقط في الشارع … وكان عليها أولًا أن تُقنع «لوزة» أنها فرصة بعد أن أعمى الغضبُ حارسَ غرفتهما فأغلق الباب عليهما بالمفتاح، وترك لهما حرية الحركة، وقد لا يستمر هذا كثيرًا.

استدارَت إلى الداخل وأشارَت ﻟ «لوزة» التي أقبلَت عليها مُتلهِّفة، فقالَت «نوسة»: «لوزة»، هناك مغامرة خطرة ولكن لا حلَّ إلا الإقدام عليها … انظري!

وأشارَت إلى أسفل النافذة، فتدلَّت «لوزة» هي الأخرى ونظرَت … ورأَت الإفريز، وبدون أن تُخبرها «نوسة» بما تنوي أدركَت «لوزة» كل شيء، وقالَت: هذه مغامرة خطرة جدًّا يا «نوسة» … إن العمارة قديمة … وقد يكون الإفريز متآكلًا فتسقطين في الشارع.

نوسة: إنني سأذهب وحدي!

لوزة: كيف؟

نوسة: إنني خائفة عليكِ يا «لوزة»، وواحدة منا تكفي للقيام بالمغامرة وحدها … وكل المطلوب منك أن تُعطِّلي العصابة أطول فترة ممكنة؛ فهم سيفتحون الباب عاجلًا أو آجلًا … فعليك بتعطيلهم، حتى أجد وسيلةً للتصرُّف.

بدَت «لوزة» مُتردِّدة، فقالَت «نوسة»: لا وقت للتردُّد يا «لوزة» … تعالَي نُحرِّك هذا الكرسي الكبير ونضعه خلف الباب لتعطيل من يُحاول الدخول.

وبهدوءٍ شديد تعاونَت الصديقتان في حَمل كرسي كبير ووضعه خلف الباب، ثم تعانقتا في حبٍّ شديد … وصعدَت «نوسة» إلى النافذة بمساعدة «لوزة»، وعندما وجدَت نفسها تنظر إلى أسفل اعتراها خوفٌ شديد، ولكنها تذكَّرَت نصيحةً قرأَتها يومًا: «إذا كنتَ تقف في مكانٍ مرتفع، وتخشى من الدوار، فلا تنظر إلى أسفل» … وهكذا رفعَت رأسها إلى أعلى، ودلَّت قدمَيها حتى وصلتا إلى الإفريز … وكانَت يدها ما تزال في يد «لوزة»، فأحسَّت بيد «لوزة» وهي تضغط يدها بحنان وتشجيع.

اختارَت «نوسة» أن تتجه إلى ناحية المنور المظلم بحثًا عن مواسير المياه، فإذا وجدَتها فإنها ستنزل عليها إلى أرض الشارع … ومضَت تنقل قدمَيها واحدةً بجوار الأخرى في هدوءٍ وحذر … وتذكَّرَت تحذير «لوزة» من أن يكون جزء من الإفريز متآكلًا فتسقط، واعترَتها رجفة … ولكنها عاودَت السيطرة على أعصابها … فعليها أكثر من واجب … إنقاذ «لوزة» … الإيقاع بالعصابة الشريرة، وبخاصةٍ أنها منذ فترةٍ طويلة لم تشترك في حل الألغاز اشتراكًا فعليًّا. وسارَت ببطء وحذر … وكانَت أصوات السيارات تصلها على البعد، والأضواء القادمة من بعيد تُنير لها بعض الشيء … وفجأةً وجدَت نفسها تصل إلى نافذة مضاءة بضوء خفيف … كانَت عقبةً فعلية … فليس من الممكن تجاوزها إلا بمخاطرة شديدة … واقتربَت من النافذة بهدوء، واستجمعَت كل ما تملك من مرونة ومن ضبط الأعصاب، ونظرَت إلى داخل النافذة … واستطاعَت أن ترى ركنًا من غرفة، ولم يكن في الركن أحد … وفكَّرَت «نوسة» سريعًا … عليها الآن إمَّا أن تُحاول تجاوز النافذة، وذلك خطر ليس بعده خطر … وإمَّا أن تدخل الغرفة ولْيحدث ما يحدث.

وبعد لحظات تردُّد دارَت «نوسة» حول نفسها بحذر شديد ممسكةً ﺑ «شيش» النافذة المفتوح حتى واجهَت الغرفة … ووقع بصرها على فراش تنام فيه فتاة في مثل سنها وحدها … ومدَّت «نوسة» قدمها، وخطَت داخل الغرفة، وسرعان ما كانَت بداخلها … ووصل إلى أذنَيها صوت تنفُّس الفتاة النائمة التي دارَت حول نفسها حتى واجهَت «نوسة» التي ارتفعَت دقَّات قلبها في انتظار ما سيحدث … وقفَت لحظات، ولكن أنفاس الفتاة عادَت إلى الانتظام.

تحرَّكت «نوسة» بحذر داخل الغرفة، وكان بابها مواربًا، فنظرَت منه محاذرة، ووجدَت صالةً أنيقةً بها مصدر الضوء الخفيف … ولم يكن هناك أحد … فتقدَّمَت متجهةً إلى الباب على أطراف أصابعها … كانَت تخشى أن يكون الباب مغلقًا بالمفتاح، وألَّا يكون المفتاح فيه … ولكن لحسن الحظ كان المفتاح في الباب. وبينما هي تتقدَّم إلى الباب، خبطَت في كرسي، وبعد لحظة سمعَت صوتًا من الداخل يقول: ماذا تفعلين يا «ليلى»؟

كان واضحًا أن الأم تظن أن ابنتها في الصالة، فردَّت «نوسة» وهي تتظاهر بالسعال حتى لا يبدو صوتها متغيِّرًا: أشرب.

ووقفَت في مكانها كالتمثال لحظات … ثم عاودَت التقدُّم من الباب في حذرٍ شديد وهي تنظر إلى مواضع قدمَيها، ثم مدَّت يدها إلى المفتاح، واستجمعَت كل ما تملك من ضبط الأعصاب، وأدارَت المفتاح … ثم فتحَت «الترباس»، وخرجَت من الشقة وهي لا تُصدق أن كل هذا حدث ببساطة … ثم أغلقَت الباب خلفها بهدوءٍ بعد أن تأكَّدَت من خلو الطريق.

كان هناك مصعد فأسرعَت إليه وفتحَت الباب ودخلَت … وبينما هي تُغلق الباب وجدَت الشقة المجاورة يُفتح بابها، وشاهدَت أحد رجال العصابة يندفع إلى الخارج … كان واضحًا أنهم اقتحموا الغرفة ولم يجدوها … وأن المطاردة بدأَت بأسرع ممَّا تتوقَّع … أغلقَت الباب سريعًا، ثم ضغطَت زر النزول، وأسرع المصعد نازلًا … كان المصعد قديمًا بطيئًا، وخشيَت «نوسة» لو أن عضو العصابة ظنَّ أنها النازلة، ونزل على السلالم؛ لاستطاع اللحاق بها … وقد كان شكُّها صحيحًا … فقد استطاعَت أن تسمع في هَدْأة الليل صوت أقدام تقفز السلالم … ولكن لم تكن من السرعة بحيث تستطيع أن تسبقها. ومضى المصعد يشق طريقه نازلًا … وفي الطابق الثالث وجدَت شخصًا يقف على الباب ويُشير لها بالتوقُّف … ولكنها لم تلتفت إليه … ومضى المصعد ينزل ببطء وهدوء … وكانَت «نوسة» تُحس أنه أبطأ من السلحفاة … وأن الثواني ساعات طويلة، وكان المشي على إفريز العمارة قد أرهق أعصابها، وأحسَّت بالدماء تتصاعد في رأسها وتكاد تفجرها … ومضى المصعد … وأخيرًا … أخيرًا جدًّا وصل إلى الطابق الأرضي. وفتحَت الباب مسرعةً وقفزَت إلى خارجه … كان بينها وبين باب العمارة مدخل كبير، فأسرعَت تجري بكل ما تملك من قوة، وعندما وصلَت إلى الباب التفتَت خلفها … فاتسعَت عيناها رعبًا وهي ترى عضو العصابة القبيح الوجه يصل إلى أول السلَّم ويراها، ويصيح بها: انتظري!

ولكنها قفزَت إلى الشارع وأسلمَت ساقَيها للريح … وخلفها الرجل يُحاول اللحاق بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤