المطاردة

كانَت الشوارع قد بدأَت تخلو من المارة بعد أن تجاوزَت الساعة منتصف الليل، وكان من السهل على عضو العصابة أن يرى «نوسة» وهي تجري محاوِلةً الوصول إلى أقرب شرطي، ولكن الرجل اقترب منها بدون أن تعثر على من تستغيث به … وكانَت قد اقتربَت من إشارة مرور … وكانَت الإشارة مضاءةً باللون الأحمر، ولكن عندما أصبحَت بجوارها تمامًا تغيَّرَت الإشارة إلى الأخضر … وكان بجوارها سيارة مُستعدَّة للانطلاق، فلم تتردَّد «نوسة»؛ فتحَت الباب وألقَت بنفسها داخل السيارة بدون كلمة واحدة! ولم يكن في استطاعة من تقود السيارة إلا الانطلاق بها … ونظرَت «نوسة» من الزجاج ورأَت عضو العصابة وهو يجري بجوار السيارة … ولكن عبثًا حاول؛ فقد انطلقَت كالسهم … وسرعان ما غاب وجهه عنها … وتنهَّدت في ارتياح.

كانَت السيدة التي تقود السيارة قد أفاقَت من دهشتها، ونظرَت إلى «نوسة» وفي عينَيها تساؤل واضح عن معنى ما حدث، فقالَت «نوسة»: آسفة جدًّا … إن ما حدث ليس تصرُّفًا مهذَّبًا أبدًا … ولكن كان هناك من يُطاردني!

لم يكن في منظر «نوسة» الرقيق الأنيق ما يُخشى منه، كذلك كانَت لهجتها صادقةً تمامًا، فقالَت السيدة: لقد رأيتُه يجري خلفك قبل ركوبك السيارة … وهذا ما دعاني إلى الإسراع بك … ماذا حدث؟

نوسة: إنها قصة طويلة … وكل ما أرجوه أن أنزل في أقرب مكان إلى ميدان «باب الخلق».

قالَت السيدة: سأوصلك!

ثم أدارَت عجلة القيادة، ومضَت السيارة الفاخرة تشق طريقها … وفي هذه اللحظة أدركَت «نوسة» أن صاحبة السيارة ليسَت غريبةً عنها … إنها وجه مألوف لديها، لم تستطِع أن تتبيَّنه وهي مطارَدة وخائفة وفي ضوء السيارة الخفيف، أمَّا الآن … وبعد أن حدَّثَتها السيدة الرقيقة الجميلة، لم يكن هناك أدنى شك في أنها الفنانة العظيمة «فاتن حمامة»!

عندما تبيَّنَت «نوسة» هذه الحقيقة؛ دقَّ قلبها انفعالًا، ثم قالَت ﻟ «فاتن»: أنت … «فاتن»؟

ردَّت «فاتن» برقة: نعم!

نوسة: لقد تحقَّق لي الليلة أمنيتان غاليتان … أن أنجو من العصابة، وأن أراك!

فاتن: عصابة! … أي عصابة؟! إنك فتاة صغيرة جميلة، ما دخلكِ أنتِ بالعصابات وغيرها … أم أنت تُحبين السينما وتتخيَّلين نفسك بطلة؟

نوسة: إنني بطلة مغامرات ولكن بدون سينما!

فاتن: من الأفضل أن أذهب بك إلى بيتك … فمسألة العصابات هذه لا تُعجبني.

نوسة: أُؤكد لحضرتك أنها الحقيقة … وإذا سمحتِ لي أن أزوركِ فسوف أروي لكِ هذه القصة كلها!

فاتن: إن ذلك يُسعدني جدًّا، ولولا أنني مرتبطة بموعد تصوير الآن في الهرم لذهبت معك.

نوسة: بالمناسبة، أين كنا عندما التقيتُ بك؟

فاتن: بجوار «بنك مصر» بشارع «محمد فريد»!

ووصلَت السيارة إلى «باب الخلق» وأوقفَت الممثِّلة الشهيرة سيارتها أمام مديرية الأمن، ونزلت «نوسة» مسرعة، واجتازَت البوابة بدون أن تُلقي بالًا إلى احتجاج الشرطي الذي كان يقف عليها … وانطلقَت كالسهم إلى مكتب المفتش «سامي» … ولكن قبل أن تصل إليه فوجئَت بباب يُفتح … وكالحلم برز «تختخ» بحجمه المتميِّز … وأسرعَت «نوسة» تُلقي بنفسها بين ذراعَيه.

صاح «تختخ»: «نوسة»!

وصاحَت «نوسة»: «تختخ»!

تختخ: أين «لوزة»؟

نوسة: ما زالَت في أيدي العصابة!

وظهر «محب» و«عاطف» وخلفهم ظهر بعض الضبَّاط.

وقال «تختخ»: لقد وصلَت إلينا رسالتك، وأبلغنا إدارة البحث الجنائي، والمفتش «سامي» ليس هنا، وكان في نيتنا الآن أن نتجه إلى شركة النقل ونفتحها عَنوة؛ فقد نجد طريقًا إلى مكان العصابة … وقد ضاع وقت طويل في …

نوسة: إن العصابة في عمارة بجوار «بنك مصر» بشارع «محمد فريد»!

قال أحد الضبَّاط: إنها قريبة من هنا! … هيا بنا!

نوسة: قد لا نلحق بهم … فمن المؤكَّد أنهم أسرعوا يُغادرون المكان بعد أن هربتُ منهم …

تختخ: هربت؟

نوسة: طبعًا! … وهل تظن أنهم أطلقوا سراحي؟!

كان الحديث يدور وهم يُسرعون إلى الشارع، حيث كانَت في انتظارهم ثلاث عربات محمَّلة برجال الشرطة … وسرعان ما صفَّرَت السيارات وانطلقَت إلى شارع «محمد فريد».

روَت «نوسة» في الطريق للأصدقاء الثلاثة ما جرى لها هي و«لوزة».

وقال «تختخ»: ماذا فهمتم من الحديث الذي دار بين رجال العصابة؟

نوسة: فهمنا أنهم سيذهبون إلى «الإسكندرية» ومعهم الصندوق.

تختخ: منذ متى؟

نوسة: منذ ساعة تقريبًا!

ثم التفتَ «تختخ» إلى أحد الضبَّاط قائلًا: أقترح أن تذهب سيارة إلى شارع «محمد فريد» ومعها «نوسة» لتدلها على العمارة، وتُسرع سيارة إلى طريق «الإسكندرية» الصحراوي … وسيارة إلى طريق «الإسكندرية» الزراعي.

الضابط: لماذا؟

تختخ: لأن العصابة أخذَت معها رجل الصندوق «همَّام القناوي» وسافرَت إلى «الإسكندرية» … وإذا حسبنا الزمن اللازم لتجهيز سيارة النقل والصندوق … وسرعة سيارة النقل؛ فهم الآن على أول الطريق إلى «الإسكندرية»!

وأمسك الضابط ﺑ «ميكروفون» الاتصال اللاسلكي وتحدَّث، ثم توقفَت السيارات الثلاث، فركبَت «نوسة» و«محب» مع السيارة الذاهبة إلى مقر العصابة، وركب «تختخ» مع السيارة الذاهبة إلى الطريق الزراعي المتجه إلى «الإسكندرية»، وعادَت الصفارات للانطلاق، واندفعَت السيارة التي بها «تختخ» إلى الطريق الزراعي، واندفعَت السيارة التي بها «عاطف» إلى الطريق الصحراوي.

وقد وضع «تختخ» في اعتباره أن يُوجد واحدٌ من المغامرين في كل سيارة ليكون بجوار «لوزة» عندما يعثرون عليها؛ فهي إمَّا في مقر العصابة، أو أخذَتها العصابة معها حيث اتجهَت.

كانَت عين «تختخ» على مؤشِّر السرعة في سيارة الشرطة القوية … وكان السائق البارع يُطلق صفارته فتُضاء له الأنوار الخضراء، ويندفع بسرعة تتجاوز السبعين كيلومترًا في الساعة، وعندما وصلوا إلى بداية الطريق أخذ مُؤشِّر السرعة يرتفع تدريجيًّا … ثمانين … تسعين … مائة … مائة وعشرين … وكانَت السيارة تُزمجر ولا تكاد تمس الأرض.

قال الضابط مُحدِّثًا «تختخ»: أرجو ألَّا يكونوا قد استبدلوا السيارة!

تختخ: لا أعتقد … إنها إحدى السيارات التي تملكها «الشركة العالمية للنقل» … فصاحبها مشترك مع العصابة … أو هو زعيم العصابة ذاتها.

ومضَت السيارة طائرةً على الطريق … وأنوارها الكشَّافة العالية تُطلق فيضًا من الضوء القوي على جميع السيارات التي تسبقها … وقد كانَت سيارات قليلة في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل … وكانَت هذه السيارات تقف إلى الجانب الأيمن كلما سمعَت الصفارة العالية.

وفجأةً وقعَت الأضواء على سيارة نقل تقف فجأة … ويقفز منها عدد من الرجال انطلقوا يجرون في الظلام إلى المزارع … ولم يكن في استطاعة سائق سيارة الشرطة أن يتوقَّف فجأةً وإلا انقلبَت السيارة المسرعة … وهكذا أخذ يكبح جماح السيارة شيئا فشيئا، وعندما توقَّفَت كانوا قد تجاوزوا سيارة النقل بمسافة طويلة، فعاد السائق يقود السيارة إلى الخلف حتى وقف بجوار سيارة النقل تمامًا، وقفز الضباط شاهرين أسلحتهم.

كانَت هي سيارة «شركة النقل العالمية» … وكان الصندوق عليها.

وصعد بعض الرجال إلى السيارة، وانطلقَت الكشَّافات اليدوية في المزارع، وانطلق صوت من «ميكروفون» الشرطة يُنادي أفراد العصابة بالاستسلام.

قفز «تختخ» إلى ظهر سيارة النقل، وبجوار الصندوق كانَت كومة من القش من تحتها كان يصدر أنين مكتوم … وأزاح «تختخ» كومة القش، وشاهد «لوزة» مربوطةً ومكمَّمةُ وملقاةُ على أرض السيارة.

أسرع «تختخ» يفك وثاق المغامرة الصغيرة الباسلة … ورفعها بين ذراعَيه وهي شبه مغمًى عليها … ولكنها لم تكَد تُحس بيدَيه حتى فتحَت عينَيها وقالَت بصوت واهن: «تختخ» … لقد وصلتَ في الوقت المناسب!

واحتضنها «تختخ»، وطبع على جبينها قبلةً أودعها كل حنانه وحبه للمغامرة الصغيرة.

وصعد أحد الضباط إلى سطح سيارة النقل، وأشار «تختخ» إلى الصندوق، فألقى الضابط ضوء كشَّافه القوي … ودقَّ «تختخ» بإصبعه على الصندوق، ولكن شيئًا لم يحدث … ودقَّ مرةً أخرى … ولكن الصندوق لم يصدر عنه أي صوت.

وخشي «تختخ» أن يكون قد وقع ضحية وهم، فأخذ الكشَّاف من الضابط واقترب من الصندوق وأخذ يتأمَّله … دقَّ قلبه فرحًا عندما وجد الوردة الصغيرة التي رسمَتها «ناهد».

قال «تختخ» بثقة: يا حضرة الضابط … الرجل داخل الصندوق.

واقترب الضابط، وبكعب حذائه دقَّ الصندوق دقَّات قويةً وصاح: اخرج يا «همَّام» لقد وقعت! … اخرج باسم القانون وإلا أطلقتُ الرصاص.

وأتبع التحذير بجذب زناد مدفعه الرشَّاش … وحدثَت حركة داخل الصندوق، ثم فُتحَت فتحة صغيرة، وعلى ضوء الكشَّاف بدَت العينان القاسيتان، والحاجبان الكثيفان … وأحدهما ناقص.

ونظرَت العينان بدون أن تريَا تحت وقْع الضوء الشديد، فقال الضابط: ابقَ مكانك؛ فهذه أفضل طريقة حتى لا تهرب، ثم جلس فوق الصندوق ومدفعه الرشاش في يده.

جاء ضابط آخر وقال لزميله: إننا نُطاردهم في المزارع … وسنحتاج إلى قوات إضافية.

قال الضابط الأكبر رتبة: اتصل لاسلكيًّا، واطلب من قسم الشرطة القريب أن يُحاصر المكان بقواته … واستوقف أي سيارة عائدة إلى «القاهرة» لتأخذ هذَين البطلَين الصغيرَين معها.

في مساء اليوم التالي كان هناك اجتماع بهيج ضم المغامرين الخمسة و«ناهد» والمفتش «سامي» في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد.

قال المفتش: إنني أنقل إليكم شكر المسئولين عمَّا قمتم به من عمل بطولي لإقرار العدالة والقبض على المجرم الخطير «همَّام قناوي».

ناهد: إن القصة ما زالَت محتاجةً إلى بعض التفسير … ماذا كان «همَّام قناوي» يفعل داخل هذا الصندوق؟

التفتَ المفتش «سامي» إلى تختخ قائلًا: أظن من الممكن أن يشرح لنا «تختخ» ما توصَّل إليه من استنتاجات.

قال «تختخ» وابتسامة ترف على شفتَيه: أعتقد أن بقية المغامرين قد عرفوا الحكاية … فقد هرب «همَّام»، وساعدَته عصابة من أصدقائه فيها صاحب «شركة النقل العالمية» … ولمَّا كان «همَّام» يعرف أن الشرطة تجِدُّ في أثره، وأنهم سيعثرون عليه مهما اختفى؛ فقد قرَّر أن يهرب إلى الخارج … وكانَت الوسيلة شحنه في صندوق مغلق وتصديره عن طريق «الإسكندرية» … وربما زوَّروا له جواز سفر يستعمله عندما يصل إلى البلد الأجنبي … هذا ما توصَّلتُ إليه … ولعل المفتش يُضيف إلى هذا الاستنتاج تفاصيل أخرى … وبخاصةٍ عند تفتيش الصندوق في «الإسكندرية».

المفتش: إن الاستنتاج صحيح … ولكن التفاصيل أخطر بكثير … فقد استطعنا القبض على كل أفراد العصابة تقريبًا، واكتشفنا مسألةً أخرى خطيرة، بل في الحقيقة مسألتَين.

وسكت المفتش لحظات، ثم مضى يقول: المسألة الأولى: أن عصابة «شركة النقل العالمية» مُتخصِّصة في تهريب المجرمين الخطرين … الذين يستطيعون أن يدفعوا لها مبالغ كبيرة … وقد سبق أن هرَّبَت العصابة رجلَين آخرَين كان المطلوب القبض عليهما … هرَّبَتهما بواسطة الصناديق وجوازات السفر المزيَّفة.

محب: ولكن كيف تمرُّ الصناديق في جمرك «الإسكندرية»؟ … ألَا تُفتَّش هناك؟

المفتش: سؤال هام جدًّا كما سبق ﻟ «تختخ» أن لاحظ أيضًا … وهذه هي المسألة الثانية … فقد اتفقَت العصابة مع سائق في شركة تصدير الثلَّاجات أن يضعوا الصندوق المطلوب تهريبه بين صناديق الثلَّاجات التي تُصدِّرها مصر إلى الخارج! والمسألة ببساطة أن ينتظر سائق سيارة الثلَّاجات في مكانٍ مظلمٍ من الطريق الزراعي ليلًا … وتصل سيارة شركة النقل، ويتم إنزال أحد صناديق الثلَّاجات، ويوضع مكانه الصندوق الذي به المجرم الفار …

هزَّ الأصدقاء رءوسهم في دهشة، فقال المفتش: وهكذا أصبتُم ثلاثة عصافير بحجر واحد … أوقعتم ﺑ «همَّام القناوي»، وبعصابة النقل، وبالسائق عديم الذمة … فأُهنِّئكم من كل قلبي.

التفتَ «تختخ» إلى «ناهد» قائلًا: الفضل ﻟ «ناهد»؛ فنظرة منها أوقعَت كل هؤلاء.

التفتَت «ناهد» إلى «نوسة» قائلة: أعتقد أن الفضل الأول يعود إلى «نوسة». إنها بطلة هذه المغامرة المثيرة.

صاح الأصدقاء جميعًا في نفَس واحد: فعلًا!

وقال المفتش: لهذا فإني أُهديها جائزة وزارة الداخلية … وقدرها مائة جنيه.

نوسة: اسمحوا لي أن أقول … إننا جميعًا اشتركنا في هذه المغامرة … وباسمكم جميعًا أتبرَّع بهذا المبلغ لإحدى الجمعيات الخيرية التي يختارها المفتش «سامي».

وصاح الأصدقاء مرةً أخرى في نفَس واحد: موافقون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤