الْفَصْلُ الْخَامِسُ

عَوْدَةُ أَبِي زِيَادٍ

(١) ذِكْرَيَاتُ الْإِصْطَبْلِ

لَقَدْ تَدَاوَلَتْنِي مُنْذُ ذَلِكِ الْحِينِ، كَثِيرٌ مِنَ الْأَيْدِي، (أَخَذَتْنِي هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ مَرَّةً)، وَحَلَلْتُ فِي أَمَاكِنَ عِدَّةٍ، لَقِيتُ فِيهَا فُنُونًا (صُنُوفًا) مِنَ السَّعَادَةِ، وَضُرُوبًا مِنَ الشَّقَاءِ.

وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ عَامًا قَضَيْتُهُ فِي ضَيْعَةٍ شَبِيهَةٍ بِضَيْعَتِكُمْ هَذِهِ، الَّتِي نَعِمْتُ فِيهَا بِلُقْيَاكِ (لِقَائِكِ) يَا «أُمَّ سَوَادَةَ».

وَكَانَ يُؤْنِسُنَا فِي الْإِصْطَبْلِ — حِينَئِذٍ — جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْفِيَاءِ، نَعِمْتُ بِحُبِّهِمْ، وَسُعِدْتُ بِإِينَاسِهِمْ. آهٍ يَا ابْنَةَ عَمَّ! أَيْنَ مِنْ عَيْنَيَّ ذَلِكِ الْعَهْدُ السَّعِيدُ، وَعَيْشُهُ الرَّغِيدُ (الطَّيِّبُ الْوَاسِعُ).

أَيْنَ مِنْ عَيْنَيَّ تِلْكِ الْبَقَرَةُ الْجَمِيلَةُ السَّمْرَاءُ الشَّعَرِ، الَّتِي كُنَّا نُطْلِقُ عَلَيْهَا لَقَبَ: الْخَنْسَاءِ.

وَأَيْنَ بِنْتُهَا الْجُؤْذَرَةُ: تِلْكِ الْعِجْلَةُ الظَّرِيفَةُ؟ أَيْنَ أُمُّ الْأَشْعَثِ: تِلْكِ الْعَنْزُ الرَّشِيقَةُ (ذَاتُ الْقَدِّ الْحَسَنِ اللَّطِيفِ)، الْمُرْتَفِعَةِ الْقَرْنَيْنِ، الطَّوِيلَةُ اللِّحْيَةِ، الْمَوْفُورَةُ النَّشَاطِ، الدَّائِمَةُ الْجَرْي، الَّتِي لَا تَكَادُ تَسْتَقِرُّ فِي مَكَانِهَا لَحْظَةً؟ وَأَيْنَ وَلَدُهَا أَبُو بُجَيْرٍ: ذَلِكِ الْفَتَى الْحَبِيبُ إِلَى نَفْسِ كُلِّ مَنْ رَآهُ؟ لَقَدْ كَانَ — حِينَئِذٍ — فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهِ. وَمَا أَظُنُّهُ بَاقِيًا — إِلَى الْيَوْمِ — عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ!

figure

أَيْنَ أُمُّ فَرْوَةَ: تِلْكِ النَّعْجَةُ الْبَيْضَاءُ الْمَرِحَةُ (الَّتِي اشْتَدَّ فَرَحُهَا وَنَشَاطُهَا حَتَّى جَاوَزَ الْحَدَّ). شَدَّ مَا كَانَتْ تُزْهَى وَتَخْتَالُ حِينَ نُنَادِيهَا بِـ«أُمِّ فَرْوَةَ»: تِلْكِ الْكُنْيَةِ الْحَبِيبَةِ إِلَى نَفْسِهَا. وَأَيْنَ وَلَدُهَا: الطَّليُّ؟ مَا كَانَ أَجْمَلَهُ حَمَلًا (خَرُوفًا فَتِيًّا)! وَمَا كَانَ أَظْرَفَ شَعْرَهُ الْمُجَعَّدَ (شَعْرَهُ الَّذِي فِيهِ الْتِوَاءٌ وَتَقَبُّضٌ)!

وَأَيْنَ أَبُو دُلَفَ: ذَلِكِ الْخِنَّوْصُ (الْخِنْزِيرُ الصَّغِيرُ) الْمُكَفَّتُ الْأَنْفِ (يَعْنِي: أَنَّ أَنْفَهُ مُتَضَامٌّ مُتَكَبِّبٌ)؟ وَأَيْنَ صَدِيقِي الْعَزِيزُ «لَاحِقٌ». لَقَدْ كَانَ — يَا أُمَّ سَوَادَةَ — جَوَادًا (حِصَانًا) جَمِيلًا. أَسْمَرَ، كَرِيمَ الطَّبْعِ. وَقَدْ ذَكَّرَتْنِي بِهِ شَمَائِلُكِ (طَبَائِعُكِ وَأَخْلَاقُكِ) النَّبِيلَةُ، وَمَا مَيَّزَكِ اللهُ بِهِ مِنْ لُطْفٍ وَدَمَاثَةٍ (خُلُقٍ سَهْلٍ).

وَأَيْنَ ابْنُ وَازِعٍ: حَارِسُ الْإِصْطَبْلِ، الْجَرِيءُ الْيَقِظُ، الَّذِي كَانَ اسْمُهُ يَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الذِّئَابِ وَاللُّصُوصِ جَمِيعًا.

وَمَا أَنْسَ — مِنْ تِلْكِ الْأَيَّامِ الْبَهِيجَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا فِي ذَلِكِ الْإِصْطَبْلِ الْفَسِيحِ — لَا أَنْسَ لَيْلَةً اسْتَيْقَظْتُ فِيهَا عَلَى رَنِينِ صَوْتٍ عَالٍ، تَبَيَّنَ لِي — بَعْدَ قَلِيلٍ — أَنَّهُ مُنْبَعِثٌ مِنْ جَلَاجِلِ أُمِّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزِ) فَعَاتَبْتُهَا، فَاعْتَذَرَتْ عَمَّا بَدَرَ مِنْهَا. وَمَا كَادَتْ تُتِمُّ اعْتِذَارَهَا حَتَّى اسْتَيْقَظَتِ الْخَنْسَاءُ (الْبَقَرَةُ) مِنْ نَوْمِهَا، وَأَنْحَتْ عَلَيْهَا بِاللَّائِمَةِ (أَقْبَلَتْ عَلَيْهَا تَلُومُهَا). وَاسْتَيْقَظَ مَعَهَا أَبُو دُلَفَ (الْخِنْزِيرُ)، وَالطَّلِي (الْحَمَلُ)، وَأَبُو بُجَيْرٍ (الْجَدْي)، وَأُمُّ فَرْوَةَ (النَّعْجَةُ)، وَأُمُّ الْأَشْعَثِ (الْعَنْزُ)، وَلَاحِقٌ (الْجَوَادُ). يَا لَهَا لَيْلَةً بَهِيجَةً، مَرَّتْ بِنَا كَمَا تَمُرُّ الْأَحْلَامُ السَّعِيدَهُ! لَقَدْ مَثَّلْنَا تِلْكِ اللَّيْلَةَ — مَسْلَاةً رَائِعَةً فِي ذَلِكِ الْإِصْطَبْلِ الْفَسِيحِ.»

•••

وَدَفَعَنِي الشَّوْقُ إِلَى تَعَرُّفِ تَلْكِ الْمَسْلَاةِ الَّتِي مَثَّلَها «أَبُو زِيَادٍ» وَأَصْحَابُهُ في الْإِصْطَبْلِ، فَأَفْضَى إِلَيَّ (أَخْبَرَنِي) بِهَا فِي أُسْلُوبٍ مُمْتِعٍ جَذَّابٍ.

وَقَدْ حَفَزَنِي (دَفَعَنِي) فَرْطُ الْإِعْجَابِ بِتِلْكَ الْمَسْلَاةِ (الْكُومِدْيَا) إِلَى تَصْدِيرِ خَوَاطِرِي بِهَا (جَعْلِهَا صَدْرًا لَهَا وَدِيبَاجَةً)، لِتَكُونَ أَوَّلَ مَا تَمْتَعُ بِهِ أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ.

•••

وَلَمَّا سَأَلْتُ «أَبَا زِيَادٍ» أَنْ يُتِمَّ مَا بَدَأَهُ مِنْ حَدِيثٍ، قَالَ: «إِنَّ تَارِيخِي — يَا أُمَّ سَوَادَةَ — مُتَشَعِّبٌ، حَافِلٌ (مَمْلُوءٌ) بِالْكَوَارِثِ وَالْمِحَنِ (الْمَصَائِبِ وَالْخُطُوبِ). وَحَسْبِي أَنْ أَجْتَزِئَ (أَكْتَفِي) مِنْهُ بِأَشَدِّهِ أَثَرًا فِي نَفْسِي.

(٢) السَّفِينَةُ الْغَارِقَةُ

قُلْتُ لَكِ — يَا «أُمَّ سَوَادَةَ» — إِنَّنِي تَقَلَّبْتُ فِي فُنُونٍ مِنَ السَّعَادَةِ، وَضُرُوبٍ مِنَ الشَّقَاءِ. وَلَقَدْ مَرَّ عَلَيَّ — بَعْدَ أَنْ مَاتَ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ، وَانْتَقَلَتْ أَمْلَاكُهُ إِلَى غَيْرِهِ — زَمَنٌ طَوِيلٌ زَاخِرٌ بِفُنُونِ الْبَلَاءِ، وَجَالِبَاتِ الشَّقَاءِ.

وَعَلَى مَا كَابَدْتُهُ — مِنْ عَمَلٍ مُضْنٍ (مُمْرِضٍ) وَسُوءِ مُعَامَلَةٍ — سَمْعِتُ النَّاسَ يَنْعَتُونَنِي (يَصِفُونَنِي) بِالرَّشَاقَةِ (حُسْنِ الْقَدِّ وَلُطْفِهِ)، وَالْأَنَاقَةِ (الْجَمَالِ الْمُعْجِبِ).

وَذَاتَ يَوْمٍ جَاءَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُوسِرِينَ (الْأَغْنِيَاءِ)، فَاشْتَرَانِي، وَسَارَ بِي حَتَّى بَلَغْنَا شَاطِئَ الْبَحْرِ، حَيْثُ أَقَلَّتْنِي (حَمَلَتْنِي) سَفِينَةٌ مَعَهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ السَّيِّدَ الْجَدِيدَ يَقُولُ إِنَّ لَهُ بِنْتًا صَغِيرَةً، وَإِنَّهَا تَرَى فِي مِثْلِي خَيْرَ أَنِيسٍ وَصَاحِبٍ. وَثَمَّةَ (هُنَا) اسْتَرَحْتُ، وَدَبَّ فِي قَلْبِي دَبِيبُ الْأَمَلِ، فَقَدِ اعْتَقَدْتُ أَنَّ حَظِّي الْحَسَنَ قَدْ عَادَ إِلَيَّ. وَلَكِنْ شَدَّ مَا خَابَ ظَنِي، فَقَدْ غَرِقَتِ السَّفِينَةُ بِمَنْ فِيهَا وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ — غَيْرِي — مِنْ رَاكِبِيهَا. وَلَقَدْ كُنْتُ فِيهَا مِنَ الْمُغْرَقِينَ، لَوْلَا أَنَّنِي — لِحُسْنِ حَظِّي أَوْ سُوئِهِ — قَدْ نَجَوْتُ مِنَ الْغَرَقِ، وَسَلِمْتُ مِنَ الْهَلَاكِ، بِأُعْجُوبَةٍ.

أَتَعْرِفِينَ كَيْفَ سَلِمْتُ؟ لَقَدْ فَتَحَ أَحَدُ الْمَلَّاحِينَ بَابَ غُرْفَتِي قُبَيْلَ أَنْ يَمْلَأَهَا الْمَاءُ، وَكَانَ قَدِ ارْتَفَعَ حَتَّى غَمَرَ قَوَائِمِي (عَلَا يَدِي وَرِجْلِي). وَرَأَيْتُنِي — حِينَئِذٍ — أُغَالِبُ الْأَمْوَاجَ وَأُصَارِعُهَا، ضَارِبًا إِيَّاهَا بِكُلِّ قُوَّتِي. ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ قَوَائِمِي عَلَى السَّاحِلِ، وَلَمَسْتُ أَرْضَ الشَّاطِئِ فَجْأَةً. وَثَمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى الضِّفَّةِ قَرِيبًا مِنِي. فَأَمْسَكَ بِي مِنْ مَعْرَفَتِي (شَعْرِ عُنُقِي)، ثُمَّ جَذَبَنِي مِنَ الْمَاءِ فَأَخْرَجَنِي.

(٣) صَيَّادُ السَّمَكِ

وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ — كَمَا عَلِمْتُ فِي قَابِلِ أَيَّامِي — صَيَّادَ سَمَكٍ شَدِيدَ الْفَقْرِ، فَأَخَذَنِي مَعَهُ إِلَى عُشَّتِهِ الْحَقِيرَةِ الْبَائِسَةِ. وَكَانَتْ فَرْوَتِي الْجَمِيلَةُ لَا تَزَالُ مُبْتَلَّةً، فَلَمْ يُعْنَ (لَمْ يَهْتَمَّ) بِتَجْفِيفِهَا، فَارْتَعَشْتُ مِنَ الْبَرْدِ. وَرَآنِي أَرْتَعِدُ (أَرْتَعِشُ)، فَلَمْ يَأْبَهْ لِأَمْرِي، وَلَمْ يَحْفِلْ بِمَا أَصَابَنِي.

ثُمَّ وَضَعَنِي فِي زَرِيبَةٍ قَدِيمَةٍ الْبُنْيَانِ، مُتَدَاعِيَةِ الْجُدْرَانِ (مُتَهَدِّمَةِ الْحِيطَانِ). وَكَانَتْ — عَلَى قَذَارَتِهَا — يَتَخَلَّلُهَا تَيَّارٌ مِنَ الْهَوَاءِ. وَقَدْ بَخِلَ عَلَيَّ — إِلَى ذَلِكِ — بِحُزْمَةٍ مِنَ الْقَشِّ، تَكُونُ لِي مِهَادًا (فِرَاشًا)، أُرِيحُ نَفْسِي عَلَيْهِ، فِي أَثْنَاءِ النَّوْمِ.

(٤) الْأُسْرَةُ الْبَائِسَةُ

يَا لَهُ مِنْ عَهْدٍ طَوِيلٍ حَافِلٍ (مَمْلُوءٍ) بِفُنُونِ الْبُؤْسِ، وَضُرُوبِ الشَّقَاءِ. فَلْأَمُرَّ سَرِيعًا بِهَذِهِ السِّنِينَ التَّاعِسَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا عِنْدَ الصَّيَّادِ. فَمَا أَشُكُّ فِي أَنَّ الْمَتَاعِبَ الَّتِي حَفَلْتُ بِهَا حِينَئِذٍ كَانَتْ — عَلَى كَثْرَتِهَا — قَلِيلَةَ الْخَطَرِ، لَأَنَّهَا لَا تَتَجَاوَزُ فِقْدَانَ الطَّعَامِ، أَوْ فِقْدَانَ الْمَاءِ النَّظِيفِ، أَوْ فِقْدَانَ الْعِنَايَةِ بِمَشْطِ شَعْرِي، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكِ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ الَّتِي يُهَوِّنُهَا الصَّبْرُ.

وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ، فَقَدْ بَذَلَ الصَّيَّادُ الْفَقِيرُ قُصَارَى جُهْدِهِ (غَايَةَ مَا فِي وُسْعِهِ)، وَلَمْ يَتَعَمَّدِ التَّقْصِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِي. لَقَدْ كَانَ عَائِلًا (كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ يَعُولُهُمْ، أَعْنِي: يَقُوتُهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ)، وَكَانَتْ زَوْجُهُ مُعْتَلَّةَ الْجِسْمِ، لَا تَكَادُ تُفِيقُ مِنْ أَمْرَاضِهَا. وَلَمْ يَكُنْ حَظُّ تِلْكِ الْأُسْرَةِ الْمَنْكُودَةِ فِي الْحَيَاةِ بِأَحْسَنَ مِنْ حَظِّي التَّاعِسِ. لَقَدْ كُنَّا جَمِيعًا أُسْرَةً مُهْمَلَةَ الْعِنَايَةِ، لَمْ تُظْفِرْهَا الدُّنْيَا بِشَيْءٍ مِنَ الرِّعَايَةِ. وَشَعُثَ شَعْرِي (تَفَرَّقَ) شَيْئًا فَشَيْئًا. وَهَزَلْتُ، وَشَعَرْتُ بِالذِّلَّةِ، بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ الْعُجْبَ وَالزَّهْوَ بِجَمَالِي. وَلَكِنِي بَقِيتُ — بِرَغْمِ هَذَا — مُحْتَفِظًا بِقُوَّتِي. وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكِ فَإِنَّا — مَعْشَرَ الْحَمِيرِ — قَادِرُونَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، مَعْرُوفُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، نَتَحَمَّلُ شَظَفَ الْعَيْشِ (خُشُونَتَهُ) دُونَ أَنْ نُحِسَّ أَلَمًا، أَوْ نَشْعُرَ بِغَضَاضَةٍ (ذِلَّةٍ).»

(٥) عَابِرُ سَبِيلٍ

فَقُلْتُ لَهُ: «صَدَقْتَ يَا ابْنَ عَمَّ، فَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ عَنْكُمْ. وَلَكِنْ خَبِّرْنِي كَيْفَ تَسَنَّى (تَيَسَّرَ) لَكَ أَنْ تُفَارِقَ هَذَا الصَّيَّادَ؟»

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ» مُفَكِّرًا: «هَذَا مَا لَمْ أَفْهَمْهُ إِلَى الْآنَ. لَقَدْ حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي مِشَنَّتَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ سَمَكًا، وَذَهَبْتُ بِهِمَا إِلَى السُّوقِ. ثُمَّ وَقَفْتُ أَمَامَ الدُّكَّانِ الَّذِي دَخَلَهُ صَاحِبِي. وَإِنِّي لَوَاقِفٌ، إِذَا بِرَجُلٍ عَابِرِ سَبِيلٍ قَدْ وَقَفَ وَنَظَرَ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ مُتَعَجِّبًا:

«وَيْ! مَا أَجْمَلَهُ حِمَارًا، لَوْ رُزِقَ حَظًّا مِنَ الْعِنَايَةِ، وَلَقِي نَصِيبًا مِنَ الرِّعَايَةِ. أَمَا إِنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَظَافَةٍ وَطَعَامٍ، لَبَذَّ (فَاقَ) «سُكَيْنًا» ذَلِكَ الْحِمَارَ الَّذِي لَا يَكُفُّ عُمْدَةُ الْقَرْيَةِ عَنِ الْمُبَاهَاةِ بِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ بَنَاتِ صَعْدَةَ (مِنْ نَسْلِ حُمُرِ الْوَحْشِ)، لَا مِنْ بَنَاتِ شَحَّاجٍ: جَدِّنَا الْأَعْلَى الْقَدِيمِ. وَلَقَدْ كَادَ الْجُوعُ وَالْإِهْمَالُ يَقْتُلَانِهِ وَيُعْجِزَانِهِ عَنِ الْعَمَلِ، وَيَسْلُبَانِهِ الرَّشَاقَةَ وَالنَّشَاطَ.

أَلَا لَيْتَ صَاحِبَهُ يَبِيعُهُ فَأَشْتَرِيَهِ مِنْهُ بِأَي ثَمَنٍ شَاءَ.»

(٦) عِنْدَ سَقَطِي

وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ خَرَجَ الصَّيَّادُ مِنَ الدُّكَّانِ. وَبَعْدَ أَنْ حَادَثَ ذَلِكِ الْغَرِيبَ، رَفَعَ الْمِشَنَّتَيْنِ مِنْ فَوْقِ ظَهْرِي، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى حَيْثُ لَا أَدْرِي.

وَأَصْبَحَ ذَلِكِ الْغَرِيبُ سَيِّدًا لِي مُنْذُ هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدِ اتَّضَحَ لِي — فِيمَا بَعْدُ — أَنَّهُ كَانَ سَقَطِيًّا.»

فَقُلْتُ لَهُ مُتَعَجِّبَةً: «وَمَا هُوَ السَّقَطِي، فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ يَا أَبَا زِيَادٍ؟»

فَقَالَ: «إِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّجِرُ فِي سَقَطِ الْمَتَاعِ (رَدِيءِ الْأَشْيَاءِ). وَقَدْ تَعَوَّدَ السَّقَطِي أَنْ يَمُرَّ بِي عَلَى أَبْوَابِ الْمَنَازِلِ. وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ، يَتَّجِرُ فِي الْخُضَرِ لِيَبِيعَهَا فِي الْمُدُنِ. وَقَدْ أَلِفْتُ جَرَّ مَرْكَبَتِهِ، وَالسَّيْرَ عَلَى قَوَائِمِي طُولَ النَّهَارِ، وَارْتَاحَتْ نَفْسِي لِتِجَارَةِ الْخُضَرِ. فَقَدْ كُنْتُ أَجُرُّ مَرْكَبَةً صَغِيرَةً كُلَّ صَبَاحٍ، وَأَسُوقُهَا فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، حَيْثُ أَقْضِي مَعَهُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ، بَلْ كُلَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. فَكَانَ طَعَامِي مَوْفُورًا (كَثِيرًا)، وَالْخُضَرُ مِنْ أَشْهَى الزَّادِ لَدَيَّ بَالطَّبْعِ. فَسَمَنْتُ، وَحَسُنَتْ صِحَّتِي، وَاسْتَرْدَدْتُ (اسْتَرْجَعْتُ) قُوَّتِي مِنْ جَدِيدٍ. وَلَكِنَّ جِلْدِي لَمْ يَظْفَرْ بِمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنَ الْمَشْطِ وَالتَّنْظِيفِ قَطُّ. وَلَعَلَّكِ تَدْهَشِينَ إِذَا أَخْبَرْتُكِ أَنَّنِي لَقِيتُ بَعْدَ ذَلِكِ — مِنْ فُنُونِ الْإِهْمَالِ — مَا لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لِي عَلَى بَالٍ. أَتُصَدِّقِينَ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظْفَرُ بِالرَّاحَةِ طُولَ اللَّيْلِ؟ وَأَنَّ مَا كُنْتُ أَلْقَاهُ مِنَ الضَّرْبِ — فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ — قَدْ حَرَمَنِي نَوْمِي، وَأَقَضَّ مَضْجَعِي لَيْلًا (جَعَلَهُ خَشِنًا، وَالْمَضْجَعُ: الْمَحَلُّ الَّذِي يَضَعُ جَنْبَهُ بِهِ). فَلَمْ تَطْعَمْ جَفْنَايَ غَمْضًا (لَمْ تَذُقْ عَيْنَايَ نَوْمًا).»

فَقُلْتُ لَهُ فِي هُدُوءٍ: «لَعَلَّ مَتَاعِبَكَ قَدْ أَتْلَفَتْ صِحَّتَكَ، وَصَيَّرَتْكَ مَغْلُوبًا عَلَى أَعْصَابِكَ، وَحَبَّبَتْ إِلَيْكَ الْعِنَادَ، فَأَصْبَحْتَ حَرُونًا شَيْئًا؟»

(٧) قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ

فَأَجَابَنِي فِي لَهْجَةِ الْيَائِسِ الْحَزِينِ: «لَعَلَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكِ صَحِيحٌ. عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ لَمْ يَعُدْ يُجْدِينِي نَفْعًا.» فَقُلْتُ لَهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَنِ قَضَيْتَ مَعَ هَذَا السَّقَطِي؟» فَقَالَ: «لَازَمْتُهُ إِلَى مَا قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَضَتْ! وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ، مَا بَغَّضَ إِلَيَّ الْحَيَاةَ. فَلَمْ أَعُدْ أَحْفِلُ بِالْبَقَاءِ، وَأَصْبَحْتُ لَا أُبَالِي حَيَاتِي وَمَمَاتِي، فَهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ. فَلَا تَعْجَبِي إِذَا أَخْبَرْتُكِ أَنَّنِي زَهِدْتُ فِي الطَّعَامِ، وَقَلَّ أَكْلِي شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى هَزَلَ جِسْمِي، وَاعْتَلَّتْ صِحَّتِي. وَمَا زِلْتُ أَرْتَكِسُ (كُلَّمَا نَجَوْتُ مِنْ عِلَّةٍ، رَجَعَتْ إِلَيَّ)، وَيَشْتَدُّ بِي ضَعْفِي، حَتَّى عَجَزْتُ عَنْ جَرِّ الْمَرْكَبَةِ. وَأَصْبَحْتُ أَنُوءُ بِمَا أَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالٍ (لَا أَقُومُ بِهَا إِلَّا مَجْهُودًا مُتْعَبًا مُثْقَلًا).»

(٨) عَجْزُ الشَّيْخُوخَةِ

فَقُلْتُ لَهُ: «ثُمَّ مَاذَا حَدَثَ؟» فَقَالَ: «لَقَدْ ضَجِرَ (ضَاقَ) بِي صَاحِبِي كَمَا ضَجِرْتُ بِهِ، وَمَلَّنِي كَمَا مَلِلْتُهُ. فَقَالَ لِي — ذَاتَ يَوْمٍ — عَابِسًا: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَحْتَمِلَ بَقَاءَكَ عِنْدِي بَعْدَ الْيَوْمِ. فَإِنَّكَ عَاجِزٌ عَنِ الْعَمَلِ. فَمَا حَاجَتِي إِلَى عَاجِزٍ مِثْلِكَ؟ خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَجُولَ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ (تَمْشِي فِي نَوَاحِيهَا)، لَعَلَّكَ تَهْتَدِي بِنَفْسِكَ إِلَى بَيْتِ مُوسِرٍ (غَنِي) كَرِيمٍ: يُؤْوِيكَ، وَيُطْعِمُكَ، دُونَ أَنْ تُؤَدِّي لَهُ عَمَلًا.» ثُمَّ تَرَكَنِي فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ.»

(٩) فِي مُنْتَصَفِ الشِّتَاءِ

فَقُلْتُ لَهُ: «لَقَدْ حَدَّثْتَنِي: أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ أَخْرَجَكَ مِنْ بَيْتِهِ، مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، أَعْنِي: أَنَّهُ طَرَدَكَ فِي مُنْتَصَفِ فَصْلِ الشِّتَاءِ. فَكَيْفَ صَنَعْتَ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟» فَقَالَ: «ذَهَبْتُ أَرْتَادُ (أَطْلُبُ) الْأَمَاكِنَ الْخَلَوِيَّةَ، وَأَنْتَقِلُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى. وَلَمْ يَكُنْ بِي قُدْرَةٌ عَلَى أَكْلِ مَا خَشُنَ مِنَ الطَّعَامِ، مِمَّا كُنْتُ أَقْنَعُ بِهِ فِي أَيَّامِ شَبَابِي. فَقَدْ ضَعُفَتْ أَسْنَانِي عَنِ الْقَضْمِ (تَكْسِيرِ الْيَابِسِ مِنَ الطَّعَامِ)، فَلَمْ تَعُدْ تَقْوَى عَلَى طَحْنِ مَا آكُلُهُ، كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ. وَأَبْغَضْتُ النَّاسَ، وَعَافَتْهُمْ نَفْسِي (كَرِهَتْهُمْ)، فَآثَرْتُ (اخْتَرْتُ) الْبُعْدَ عَنْهُمْ، بَعْدَ مَا لَقِيتُهُ مِنْ فُنُونِ الْأَذِيَّةِ وَنِسْيَانِ الْحُقُوقِ، وَضُرُوبِ الْعُقُوقِ (صُنُوفِ الْعِصْيَانِ، وَالِاسْتِخْفَافِ، وَتَرْكِ الشَّفَقَةِ).»

(١٠) خَاتِمَةُ الْآلَامِ

فَقُلْتُ لَهُ: «لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَشْرَارًا كَمَا تَظُنُّ. وَسَتَرَى فِي هَذِهِ الدَّسْكَرَةِ (الضَّيْعَةِ)، أَقْصَى مَا تَصْبُو (غَايَةَ مَا تَمِيلُ) إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّكْرِيمِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.

كُنْ عَلَى ثِقَةٍ — يَا أَبَا زِيَادٍ — أَنَّكَ لَنْ تُضْرَبَ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَلَنْ تَلْقَى إِلَّا خَيْرًا. فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّوَابِّ الَّتِي تَقْطُنُ (تَسْكُنُ) فِي هَذِهِ الضَّيْعَةِ (الْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي تُنْبِتُ الْغَلَّاتِ) تُعَامَلُ أَحْسَنَ مُعَامَلَةٍ. فَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَلَنْ تَلْقَى مَعَنَا إِلَّا مَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُكَ، وَيَرْتَاحُ لَهُ خَاطِرُكَ (قَلْبُكَ).»

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ» وَالشَّكُّ يُسَاوِرُهُ (يُغَالِبُهُ): «أَتَظُنِّينَ أَنَّهُ سَيُسْمَحُ لِي بِالْبَقَاءِ إِلَى جِوَارِكُمْ مَعَ مَا تَرَيْنَ مِنْ عَجْزِي عَنْ أَدَاءِ أَيِّ عَمَلٍ؟»

(١١) اَلْفَرَسُ الْعَجُوزُ

فَأَجَبْتُهُ: «نَعَمْ، فَإِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الضَّيْعَةِ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَكَ نَهْبَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ (فَرِيسَةً لَهُمَا)، وَلَنْ يُسْلِمَكَ إِلَى الرَّدَى (الْمَوْتِ) إِلَّا حَتْفَ أَنْفِكَ (مَوْتًا طَبِيعِيًّا)، مَتَى حَانَ حَيْنُكَ (مَتَى جَاءَ أَجَلُكَ).

كُنْ وَاثِقًا مِمَّا أَقُولُ. فَإِنَّ فِي دَسْكَرَتِنَا (ضَيْعَتِنَا) هَذِهِ فَرَسًا عَجُوزًا، اسْمُهَا «سَبَلٌ»، قَدْ أَعْجَزَتْهَا الشَّيْخُوخَةُ عَنِ الْعَمَلِ، بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْ أَرْذَلَ الْعُمُرِ، وَنَاهَزَتْ سِنُّهَا السَّادِسَةَ وَالْعِشْرِينَ. وَهِيَ سَعِيدَةٌ بِالكَوْنِ مَعَنَا، وَالْبَقَاءِ إِلَى جَانِبِنَا؛ وَقَدْ هَامَ الْأَطْفَالُ بِحُبِّهَا، وَأَلِفُوا (تَعَوَّدُوا) رُكُوبَهَا كُلَّمَا أَتَاحَتْ لَهُمُ الْفُرَصُ لِقَاءَهَا. وَهِيَ أَلِيفَةٌ وَادِعَةٌ (سَاكِنَةٌ هَادِئَةٌ) لَا تُؤْذِي أَحَدًا مِنْهُمْ، بَلْ تُبَادِلُهُمُ الْمَحَبَّةَ، وَتُصْفِيهِمُ الْوِدَادَ (تُخْلِصُ فِي حُبِّهِمْ).»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤