الفصل السادس

ملاذُّ كَنْدِيد

في مرارةٍ من الألم، كتب كَنْدِيد كتابًا مؤثِّرًا إلى صدر الديوان الأكرم، وَصَفَ فيه حاله النفسية وصفًا بَلَغَ من القوة ما حَمَلَه به على إقناع الصفويِّ بأن يُعْفِيَ كَنْدِيد من خِدَمه، ويريد صاحب الجلالة أن يكافئه على خِدَمه، فيمنحه راتبًا عظيمًا جدًّا، وإذ أُعفِي فيلسوفنا من وطأة الجاه، بَحَثَ في ملاذِّ الحياة، عن تفاؤل بَنْغَلُوس، وقد عاش حتى هذا الحين في سبيل الآخرين، ناسيًا أنه كان صاحب سرايٍ — كما يظهر.

وقد ذَكَرَ ذلك مع كل ما توحي به هذه الكلمة من إحساس، ويقول لخَصيِّه الأول: «ليُعَدَّ كل شيء حتى أدخل عند نسائي»، ويجيب الرجل مخافتًا: «مولاي، الآن تستحق يا صاحب السعادة لقبَ الحكيم، فلم يكن الرجال الذين عَمِلْتَ في سبيلهم كثيرًا أهلًا ليشغلوا بالَكَ، وأما النساء …» ويقول كَنْدِيد متواضعًا: «ربما.»

وكان يقوم في أقصى حديقة، حيث كان الفن يساعد الطبيعة على إنماء محاسنها، بيتٌ صغير على طراز بسيط مع هَيَف، ويختلف هذا البيت بذلك عن البيوت التي تُرى في ضواحي أجمل مدينة بأوروبا، ولم يَدْنُ كَنْدِيد منه إلا محمرَّ الوجه، وكان الهواء حول هذا المنزل الهادئ الفاتن يَنْشُر عطرًا لذيذًا، وكانت الأزهار المتشابكة تشابُكًا غراميًّا تسير عن غريزة اللذة كما يظهر، وكانت تحتفظ هنالك بمختلف جواذبها لزمنٍ طويل، ولم يكن الورد ليخسر هنالك رُواءه، وكان منظر الصخرة — التي ينحدر عنها السيل بهديرٍ أصمَّ مبهم — يدعو النفس إلى تلك السوداء العذبة، التي تسبق الشهوة، ويدخل كَنْدِيد — وهو يرتجف — بهوًا يسوده الذوق والبهاء، فتُجذب الحواسُّ فيه بسحر خفيٍّ، وتقع عيناه على تِلِماك، الشابِّ الذي يتنفَّس على الغزْل بين حُوريات بلاط كَلِبْسُو، ثم يُحوِّل عينيه إلى ديانا نصف العارية، والفارَّة إلى ذراعيْ أنْدِيمْيُون الناعم، ويزيد ارتباكه عند نظره إلى فينوس، المنقولة عن فينوس الإيطالية نقلًا صادقًا، وإنه لكذلك إذ قرَعَ أُذنَيه نَغَم إلهي؛ وذلك أن فرقةً من الفتيات الكُرْجيات مرَّت مستورةً ببراقعها، فتؤلِّف حوله رقصًا غنائيًّا، أصدق من الرقصات الشهوانية التي ما فَتِئَتْ تُعرَض على المسارح الصغيرة منذ موت القيصرِين والبُونْبيين.

ويُؤْتَى بإشارة متَّفق عليها، فتسقُط البراقع، وتزيد السَّحَنات المملوءة معنًى في حرارة اللهو، ويُبدي هؤلاء الحسان أوضاعًا فاتنة، ولكن على غير سابق خطة كما يَلُوح، فلا تُعرِب إحداهن بلواحظها عن غير هوًى لا حدَّ له، ولا تُظهِر الأخرى غير تراخٍ ليِّن، ينتظر ملاذَّ من دون أن يُبْحَث عنها، وتنحني ثالثة وتنهض حالًا لتشاهد أثر مُغْرِياتها الساحرة، التي يعرِض الجنس اللطيف مثلها بباريس في وضَح النهار، وتفتح رابعةٌ ثوبها قليلًا، كشفًا لساقٍ لها تستطيع إلهاب رجُل رقيق، وينقطع الرقص، وتبقى الحِسانُ ساكناتٍ.

ويدعو الصمتُ كَنْدِيد إلى نفسه، وتشتعل لواعج الهوى في فؤاده، ويسرِّح ناظريه المولَعَيْن في كل ناحية، ويُقبِّل شفاهًا ملتهبة وعيونًا ندِيَّة، ويضع يده على كُراتٍ أبيض من المرمر، فترتدُّ بحركة هذه الكُرات العاجلة، ويُعجَب بنسبها، ويبصِر براعمَ قرمزيةً مشابهة لبراعم الورد، التي لا تنتظر لتتفتَّح غيرَ أشعة الشمس المحسنة، ويُقبِّلها بوجْدٍ، ويبقى فَمُه لاصقًا بها.

ويُعجَب فيلسوفنا حينًا بقامة فارعة، بقامة هيفاء ناعمة، ويُحرِقه التَّوق، فيلقي منديله على حورية، لم يرتدَّ طرْفها عن هذا الذي يلوح أنه يقول لها: «علميني السبب في ارتباكٍ لا عهد لي به»، والذي يحمرُّ وجهه، إذ يريد قول هذا، فتبدو أكثر ملاحةً ألف مرة، ويفتح الخَصيُّ من فوره باب غرفة خاصة بأسرار الغرام، ويدخلها العاشقان، ويقول الخَصيُّ لسيده: «ستكون سعيدًا هنا»، ويجيب كَنْدِيد: «آه! هذا ما أرجو.»

وكان سقف هذه الغرفة الصغيرة وجدرانها مستورةً بالمرايا، وكان يوجد في وسَطِها مضجع راحة من أَطْلس أَسْود، ويُلْقِي كَنْدِيد عليه الفتاة الكُرْجية، ويعرِّيها بسرعة لا تُصدَّق، وتدعه هذه الغادة يفعل، ولم تقاطعه إلا لتمُنَّ عليه بقُبُلات حارَّة، وتقول له بتركيةٍ صحيحة: «سيدي، يا لسعادة أمَتِك! يا لإكرامها بهيجانك!» وتصف جميع اللغات قوة الإحساس في فم مَنْ هم مُفْعَمون به، ويَفتِن هذا الكلامُ القليلُ فيلسوفَنا، وعاد لا يعي عن وجْدٍ، وكان كل ما يرى غريبًا عنه، ويا للفرق بين كُونِيغُونْد، التي سباها أبطال من البلغار واغتصبوها، والكرجية البالغة من العمر ثماني عشرة سنة من غير أن تُغتصَب! وكانت هذه أولَ مرة يَتَمَتَّع بها الحكيم كَنْدِيدُ، وكان ما يلتهِم ينعكس على المرايا، فيرى على الأطلس الأسود في كل جهة يلقي نظره عليها أجْمَلَ ما يمكن من الأجسام وأبيضها، فيكتسب بتضادِّ الألوان رونقًا جديدًا، ويشاهد فَخِذَيْن راسختين سمينتين، وهبوط خصر عجيب، ويشاهد … أراني ملزَمًا باحترام ما تنطوي عليه لغتنا من حياء زائف، وأكتفي بقولي: إن فيلسوفنا ذاق غير مرة ما يمكن أن يذوق من نصيب في السعادة، وإن الفتاة الكرجية أصبحت في قليل زمن داعيَه الكافي.

ويصرخ كَنْدِيد قائلًا من غير وعي: «أيْ أستاذي، أي أستاذي العزيز بَنْغَلُوس، إن كل شيء حسن هنا، كما ورد في إلدورادو، والمرأة الحسناء وحدها هي التي تستطيع أن تقضي أوطار الرجُل، وأراني سعيدًا ما أمكن، والْحَقُّ بجانب ليبنتز، وأنت فيلسوف عظيم، ومن ذلك أنني أراهن على كونكِ تميلين إلى التفاؤل، يا بُنيَّتي المحبوبة.»

وتجيب البُنيَّة المحبوبة: «يا حسرتا! كلَّا، لا أدري ما التفاؤل، ولكنني أُقْسِم لك، إن أمَتك لم تعرف السعادة قبل هذا اليوم، وإذا كان مولاي يأذن لي، فإنني أُقنِعه بأن أقُصَّ عليه مغامراتي باختصار.»

فيقول كَنْدِيد: «أودُّ ذلك، وأراني من الهدوء ما أستمع معه إلى رواية الأحاديث.»

وهنالك تتناول الأمَة الحسناء الكلام، وتأخذ في قول ما يأتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤