الأندلس حتى عصر ابن رشد
فتح المسلمون شبه جزيرة الأندلس سنة ٩٢ﻫ في عهد الدولة الأُموية على يد طارق بن زياد، فتوالى عليها الولاة من قِبل الخليفة القائم بدمشق، حتى جاءها الأمير عبد الرحمن بن معاوية، المُلقب بعبد الرحمن الداخل، فارًّا من الشام بعد ذهاب مُلك أُسرته على يد الدَّولة العباسية، واستولى على حاضرتها قرطبة سنة ١٣٨ﻫ، وقد أَسَّسَ هذا البطل في هاتيك البلاد دولة لأُسرته الأُموية بالمغرب بعد أفول نجمها بالمشرق، وصار منها خلفاء يُنافسون العباسيين ببغداد، وظلَّ الأمر كذلك حتى زالت دولتهم بموت هشام المعتد بالله سنة ٤٢٧ﻫ من غير أن يترك وارثًا لملكه.
في عام ٥٥٨ﻫ توفي عبد المؤمن، فولي الأمر من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف الملقب بالمنصور، وهو الذي شجع ابن رشد على التفلسف وشرْح أرسطو، وبعد وفاته ولي الأمر ابنه يوسف يعقوب الذي حكم من سنة ٥٨٠–٥٩٥ﻫ، وفي عهد هذا الأمير كانت نكبة ابن رشد والمُشتغلين بالفلسفة، بعد مُحاكمة لا ظل للعدل فيها.
كل هذا الذي يُقرره ابن خلدون حق لا شبهة فيه، فإنَّ البحث التاريخي يُؤكد لنا أنَّه تمر بالأمم فترات يطُول عهدها أو يقصر تبعًا لما يُحيط بها من ظروف، يكون همها الأوَّل وغرضها الأساسي المُحافظة على كيانها وتوطيد سُلطانها، ثم مُحاولة توسيع هذا السلطان؛ فإذا استتب لها الأمر ورسخت أقدامها وأمنت على نفوذها وسلطانها، شرعت تستكمل وسائل الأبهة والعظمة، ومن ذلك الضربُ بنصيب وافر في المعارف والعلوم القديم منها والحديث.
لهذا ليس بدعًا أن ترى الدَّولة الأُموية التي أَسَّسها صقر قريش بالأندلس تُعنى قبل كل شيء بتوطيد سُلطانها في البلاد التي اقتطعتها من المملكة الإسلامية، وتُحاول التوسع في هذا السلطان بافتتاح ما يمكن فتحه مما جاورها من النواحي، ولا عجب إذن حين نرى أمراء هذه الدولة وخلفاءها — إلا في فترات قصيرة — ويتبعهم الأهلون، مُنصرفين عن الفلسفة والعلوم إلا ما تعلق منها بكتاب الله وسنة رسوله، والفقه واللغة، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية.
وفي عهد الحكم المستنصر بالله (٣٥٠–٣٦٦ﻫ/٩٦١–٩٧٦م)، ابتدأت العلوم الفلسفية تأخذ مكانة ملحوظة، فإن قلب هذا الخليفة قد أخذ بشغافه المجد الأدبي أعظم مما أخذ به المجد الحربي الذي شغل أباه عبد الرحمن الناصر، فكان له فخر افتتاح هذه الدراسات العالية، وتمهيد سُبلها للرَّاغبين فيها والمُتطلعين إليها؛ حتى لقد جمع ما قد أَلَّف فيها من كل نواحي الأرض وأقطارها.
ولكي نحكم على ما وصلت إليه الأندلس في ذلك العصر من العناية بالعلوم والآداب، نذكرُ أنَّ بعض المؤرخين ذكروا أنَّ فهرست كتب خزائن الحَكَم بلغت أربعة وأربعين مُجلدًا لا تشتمل إلا على أسماء الكتب وحدها، وأنَّ عدد الكتب نفسها بلغ أربعمائة ألف مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر.
كما نذكُر أيضًا أنَّه قد بلغت العنَايةُ بإيثار الأندلس بعيون المؤلفات، أنَّ الحكَم كان يعمل على إحضار الثمين من المؤلفات الحديثة العهد قبل أن تظهر في بلاد مُؤلفيها، ومن ذلك أنه كما يقول المقري نقلا عن ابن خلدون: «بعث في كتاب الأغاني إلى مؤلفه أبي الفرج الأصبهاني، وأرسل إليه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنُسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق.»
وكان يُذْكي هذه الجهود ويدفع إلى الأمام تلك الحركة العلمية التي تعدُّ من أزهى الحركات العلمية، ما رانَ أيامَ الحكم من التَّسامح «الذي لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرف له نظيرًا أو مثالًا واحدًا، فأولئك العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون كانوا يتكلمون لغة واحدة هي العربية، ويتناشدون الأشعار العربية، ويُشاركون في الدراسات الأدبية والعلمية نفسها.
ولكن هذا العمل المجيد الذي شاده الحَكَم قُضي عليه في شبابه، وهذا العهد الذهبي للدراسات العلمية والفلسفية لم يستمر طويلًا، فقد تحالفت عوامل مُختلفة على هدم ذلك الصرح العالي الذي أقامه نصير العلم والفلسفة بقرطبة، وعلى إطفاء ذلك المصباح الوهاج الذي كان يُنير السبيل أمام طلاب هذه الدراسات.
وذلك أنَّه بعد وفاة الحَكَم الثاني المستنصر بالله (٣٦٦ﻫ/٩٧٦م)، خلفه ابنه هشام المؤيَّد، وكان غلامًا حدثًا لم يُجاوز العاشرة من عُمره، فاستبدَّ به الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، وساعدته على هذا والدة الخليفة، ولم يجد الحاجب المنصور بدًّا من استمالة العامة إليه ولَمِّ جميع عناصر الشعب حوله.
وكان من هذا أن استجاب لجهل الجمهور وتعصب الفقهاء، وعمد أوَّل تغلبه على السلطة إلى خزائن الكتب التي بذل الحكَم عمره وكل ما يملك في جمعها، وأفرز ما فيها — بمحضر من أهل العلم والدين — من كتب علوم الأوائل القديمة، ما عدا كتب الطب والحساب، وبعد ذلك أمر بإعدامها.
على أنَّه ليس مما يهم كثيرًا في هذا البحث أن نُحقق الدوافع التي دفعت المنصور إلى إعدام كتب العلوم القديمة، وإن كنا نكاد نجزم بأنَّه ليس منها الحدَبُ على الدين ودفعُ ما قد يتعارض مع بعض العقائد التي جاء بها، بل لعل اجتماع تلك العوامل يرجع إلى عمله على ستر فَعْلته في اغتصابه السلطة، واسترضاء العامة ورجال الدين؛ ليتأتَّى له المحافظة على الجاه والسلطان.
- (١) إن أهل الأندلس لم يكونوا في هذا العصر من مُحِبِّي الدراسات الفلسفية، ويدلنا على هذا ما سبق أنْ نقلناه عن صاعد الأندلسي، وما ذكره المقرِّي نقلًا عن ابن سعيد في بيان حال أهل الأندلس في فنون العِلْم من أنَّ «كل العلوم لها حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم؛ فإنَّ لهما حظَّهما عند خواصِّهم، ولا يُتظاهر بهما خوف العامة، فإنَّه كلما قيل: فلانٌ يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يُرفع أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة، وكثيرًا ما كان يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرَّب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أولَ نهوضه.»١٦
- (٢) إنه لهذا؛ وبعد مرسوم الحاجب المنصور بتحريم الاشتغال بالفلسفة، صار الذين يشتغلون بها يستخْفون حتى عن أصدقائهم الحميمين، وذلك خشية أن يحكم عليهم بالزندقة والإلحاد إذا افتضح أمرهم.١٧ كما كان هؤلاء الذين استمروا يحملون شُعلة التفلسف عرضة كذلك لكثير من المحن والأرزاء، بل لفقدان الحياة.فقد جاء في ترجمة ابن باجة المُتوفى سنة ٥٣٣ﻫ أنه كان «علامة وقته وأوحد زمانه، وبُلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا إهلاكه مرات وسلمه الله منهم.»١٨وكذلك يذكر لنا ابن أبي أصيبعة في ترجمة الحفيد أبي بكر بن زُهر، أنَّ المنصور أبا يوسف يعقوب من خلفاء الموحدين، وقد ولي سنة ٥٨٠ﻫ، قصد أَلَّا يترك شيئًا من كتب المنطق والحكمة باقيًا في بلاده، وأباد كثيرًا منها بإحراقها بالنار، وتوعد بكبير الضرر من يُضبط مُشتغلًا بهذه العلوم أو عنده شيء من كتبها.١٩وقد استَمَرَّ الحال كذلك — إلا في فترات قصيرة — إلى أيام ابن رشد، فقد روى لنا المراكشي خبر أوَّل اتصال بينه وبين أمير المؤمنين أبي يعقوب من الموحدين، وفيه أنَّه عندما دَخَل عليه وجده وابن طفيل وحدهما، وبعد أن سأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه قال له: ما رأيهم (يعني الفلاسفة) في السماء أقديمة هي أم حادثة؟ فأدرك ابن رشد الحياء والخوف، وأخذ يتعلل وينكر اشتغاله بالفلسفة.٢٠
وسنورد في الفصل التالي الخاص بحياة ابن رشد كثيرًا من هذه الشواهد التي تبين بجلاء كيف كانت الفلسفة علمًا ممقوتًا بالأندلس، وكيف كان رجالها وطلابها مضطهدين في هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية.
- (٣)
برغم هذا وذاك كله لم تمت الفلسفة باضطهاد أهلها وإبادة أكثر مؤلفاتها، وظَلَّ هناك جماعة تحمل شعلة التفلسف وتُعنى بالدراسات العقلية النظرية وبكتب الأوائل.
وذلك أنَّه قد أفلت من محنة الحاجب المنصور بعض الكتب العلمية والفلسفية، فانتشرت في البلاد كما انتشر أمثالها من الكتب التي بيعت مع ما كان من الذَّخائر بقصر قرطبة أيام فتنة البربر، أو التي نُهِبت عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم لها عنوة.٢١وقد ظلت هذه الكتب تنتقل من يدٍ ليدٍ، سرًّا مرة وجهرًا أخرى، وأحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنع، وساعد على هذا اشتغالُ قرطبة والقابضين على السلطان بالحرب الأهلية والاضطرابات والثورات من الخارجين عليهم، من أواخر القرن الرابع إلى أوائل الخامس الهجري، عن تعقب من يشتغل بالدراسات الفلسفية.٢٢ويُضاف إلى هذه العوامل أنَّ بعض الأمراء الذين ولُوا الحكم بالأندلس كانوا يضمرون حُبَّ الفلسفة ويشجعون التفلسف سرًّا أحيانًا، وأحيانًا كان هؤلاء العلماء يلقَون لديهم قدرًا كبيرًا من الحماية والتشجيع جهرًا، فقد كان مالك بن وُهيب الإشبيلي من الفلاسفة الظاهرين، ومع هذا فقد استدعاه يوسف بن تاشفين في حضرته وجعله عالمه وجليسه.٢٣وكذلك يذكر لنا القاضي مروان الباجي أنَّ المنصور أبا يوسف يعقوب من الخلفاء الموحدين، وقد مَرَّ اسمه آنفًا، لما قصد إعدام كتب المنطق والحكمة عهد بالأمر إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأراد بذلك «أنَّه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يُقال عنه إنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها.»٢٤ وشاء الحَسدُ أن يحمل بعض أعداء ابن زهر على السعاية به إلى المنصور بأنَّه يُعنى بهذه العلوم وعنده الكثير من كتبها، وعُمل بذلك محضر شهد عليه كثيرون، ولكنَّ النتيجة لم تكن فحص هذا الاتهام، بل كانت عقابَ الشاكي والحكم بسجنه، ثم قال المنصور: «إنني لم أوَلِّ ابن زهر في هذا حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه، ولا يقال عنه …»٢٥وهذا يدلُّ في رأينا على أنَّ اضطهاد المُشتغلين بالفلسفة كان مردُّه في كثير من الحالات إلى الرَّغبة في استمالة العامة والفقهاء، فإنَّ على هاتين الطائفتين تقوم الدولة غالبًا ويستمر السلطان للقائمين به.
- (٤) بل إنَّ الخليفة أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كان شديد الميل للفلسفة، فأمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكَم المستنصر بالله الأُموي،٢٦ وإنه لم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب.٢٧
ثم كان منه أن اصطفى الفيلسوف ابن طفيل الذي لم يزل يجمع إليه العلماء من جميع الأقطار، ويُنبه عليهم ويحضُّه على إكرامهم.
وفي حُبِّ أبي يعقوب هذا الفلسفة ورجالها نُشير إلى ما كان من تشجيعه لابن رشد وطلبه منه أن يشرح أرسطو، وسيجيء الحديث عن هذا بالتفصيل.
هذا، وكل تلك الأمور التي نسجلها هنا تدلنا بوضوح على تأصل الفلسفة في تلك البلاد، على كره من أهلها للفلسفة وما إليها بسبيل، حتى إنه لما عبَر عبد المؤمن بن عليٍّ البحر إلى الأندلس وبايعه وجوهها، جلس للناس وللشعراء مجلسًا حافلًا، فكان أول من أنشده مادحًا له أبو عبد الله محمد بن حَيُّوس قصيدة له جاء فيها:
بلغ الزمان بهديكم ما أمَّلاوتعلمَت أيامُه أن تعدلاوبِحَسْبه أن كان شيئًا قابلًاوجد الهداية صورة فتشكلا٢٨وهذا دليلٌ على أنَّ بعض الأفكار الفلسفية وهي هُنا المادة والصورة، قد تأصَّلت في الأعماق حتى جرت شعرًا على ألسنة الشعراء، كما تدلُّ هذه الأمور أيضًا على أنَّه كما يقول «رينان» بحق: كل الجهود التي بذلت لهدم الفلسفة لم يكن منها إلا أنها أذكتها؛ فهذا سعيد الطليطلي يؤكد أنَّ دراسات العلوم القديمة في زمنه (١٠٦٨م) كانت أكثر ازدهارًا من أي زمن مضى.٢٩كما تدل كذلك على أنَّ ابن رشد قد جاء بعد عصر عقلي كبير زاهر، وإن كانت هذه الدراسات وقفت في الأندلس فجأة لعوامل مختلفة، ومن هذه العوامل التعصب الديني والانقلابات السياسية، والحروب التي قام بها الفرنجة، حتى إنه بموت ابن رشد سنة ٤٩٥ﻫ/١١٩٨م، فقدت الفلسفة الإسلامية آخر ممثل ونصير لها.