الفصل الثاني

ذلك منزل مرقص أفندي عبد الملك الموظف بحسابات وزارة المالية، وهو صديقٌ أثير للشيخ سلطان، كثيرًا ما قضيا الليالي بقهوة السيدة يلعبان النرد ويُجيلان بينهما الأحاديث. جمع بينهما المسكن المتقارب والأصدقاء المشتركون. وكان أطفال المنزلَين يلعبون في مكانٍ واحد، فكانت إيفون بنت مرقص أفندي تلعب مع عباس ابن الشيخ سلطان، وكان ملعبهما في شارع الملك الناصر حيث السيارات قليلة المرور.

جمعهما ذلك الملعب سنوات طوالًا من العمر، وشبَّ بينهما ذلك الهوى الطفل الذي يخفق مع خفق الطفولة الندي البريء. وأمسكت إيفون مرقص بفانوس رمضان ومشت به مع عباس وصحْبه يصيحون إياحا الخالدة، وأمسك هو سعف النخل في أحد السعف، ولعبت إيفون الكرة، وقفر عباس الحبل، وعرفا الحب يومذاك. عرفاه حبًّا عفيفًا جائحًا، فإن غاب صعدت إلى منزله تستدعيه، وإن غابت صعد إلى منزلها يستدعيها، لا يجدان من ذلك حرجًا، ولا من كلا البيتَين أي عجب.

وتمرُّ الأيام قاسيةً كشأنها حين تمر، فإذا بإيفون شابة وإذا بعباس فتًى، وإذا البيت يحبس إيفون عن الملعب وعن عباس جميعًا، وإذا بعباس إن طاف حول بيتها رمقته عيون غير راضيةٍ يحسُّ فيها الاستنكار، وينصرف خجِلًا يتلفت وراءه في حسرةٍ وألم.

ولكن هذا لم يمنعه أن يجد لنفسه مرقبًا أمام بيتها يستطيع منه أن يراها وهي تسعى إلى المدرسة في العربة، ولم يمنعها أيضًا أن تراه في مرقبه هذا. وحينئذٍ كانت تعلم أن الشوق قد بلغ أقصاه، فتحتال على أُمِّها أن تسمح لها بزيارة وهيبة، وهكذا كانا يلتقيان، ولكن أي لقاء؟ …

كان مرقص أفندي قد اتفق مع الأسطى جبر أن يأتي لابنته كل صباحٍ ليذهب بها إلى المدرسة ويعود بها منها مقابل مائة قرش في كل شهر. وكان الأسطى جبر صادقًا في مواعيده، وقد كان صدق مواعيده هذا هو الجحيم الذي يصلاه عباس.

فما استطاع يومًا أن يختلس كلمةً من إيفون، وما استطاع يومًا أن يقترب منها، وكيف له بهذا والأسطى جبر بمشهد؟ وأمَّا البيت فأهول من الأسطى جبر وأشدُّ نكاية.

إن أمه لن تسمح مطلقًا بجلوسه مع إيفون، بل إن أخته وهيبة أيضًا لن تسمح. بحسبه أن يدخل إلى الحجرة مصطنعًا أنه لا يدري أن أحدًا غير أخته بها، أن يصطنع سؤالًا عند وهيبة، وما هي إلا ريثما تلتقي العيون بومضة من نجوى، أو تلتقي الأيدي بلمسةٍ من شوق عارم، حتى تفترق الأعين وتنفصم الأيدي … ثم تمرُّ الأيام ثقالًا بطيئات حتى يذهب مرةً أخرى إلى مرقبه، أو تأتي هي بلا دعوةٍ من وقفته الصامتة على الطوار الآخر من منزلها.

ولم يكن يستطيع أن يذهب في كل يوم؛ فسكَّان المنازل المجاورة يعرفونه ويعرفونها، وهم يعرفون ألَّا عمل له بهذا الشارع، فإذا تعوَّدوا رؤيته فلن تلبث الألسنة أن تتحرَّك، وما يلبث أبوه أن يمده وينهال عليه بعصاه التي لم يُعفِه منها أنه أصبح على أبواب الجامعة.

ولكن رجلًا بعينه العجوز استطاع أن يراه وأن يتعوَّد رؤيته أكثر من مرة في كل أسبوع. إنه رجلٌ تعوَّد أن يرى ويُحسن الرؤية، وتعوَّد أن يُلاحظ ويُحسن الملاحظة. وعلَّمته الأيام أن هذه الوقفة لا بد تُخفي من ورائها شيئًا. ولم يطُل به التفكير فيما تُخفيه؛ فما كان أيسر أن ينظر وراءه بعد أن يسعى بتلميذته إلى المدرسة، حتى يرى الواقفَ قد تحرَّك وعيناه ملتصقتان بظهر العربة لا تريمان عنها.

تحرَّى الأسطى جبر أن يأتي مبكرًا عن موعد نزول إيفون، وكرَّر ذلك أيامًا متتالية حتى كان اليوم. ولم يُضِع الأسطى جبر وقتًا؛ فقد أوقف العربة أمام منزل مرقص أفندي وقصد مسرعًا إلى عباس في وقفته. وذُهل عباس وأوشك أن يُولِّي الفرار، ولكن رجلَيه لم تسعفاه، وما أسرع ما جابهه الأسطى جبر: ماذا تفعل هنا يا أفندي؟!

– و… و… وأنت ما لك؟!

– عجيبة! … أنا ما لي؟! أأُخبر أباها ليودي بك في داهية؟!

– أنا … أنا ماذا فعلت؟!

وابتسم الأسطى جبر وقال في حنان: أتعرفك هي؟

ودُهش عباس من هذه اللهجة الناعمة، وسارع يقول وكأنما خشي عليها عاديًا يمسُّ سمعتها: لا … لا … أبدًا.

وقال الأسطى جبر في ابتسامة: خسارة.

– ما الخسارة؟

– لو كانتْ تعرفك لتغيَّر الوضع.

– كيف؟!

– لو كانت تعرفك … يعني لو كانت … لو …

– هيه … ماذا يحصل لو كانت تعرفني؟

– كنتُ جعلتُك تركب معها.

– ماذا؟! … ماذا تقول؟!

– ولكنها لا تعرفك.

وصمت عباس مستخزيًا أن يُبين عن كذبه، ولكن الأسطى جبر العجوز ذو دُربة ومراس: يا بني قل الصراحة لعمك جبر.

واستجمع عباس شجاعته وقال: الصراحة يا عم جبر … الصراحة.

– فهي تعرفك إذن، كم تدفع لتركب معها كل يوم؟

وعاد الموقف إلى حرجه، بل لعله عاد إلى موقف أشد حرجًا وضنكًا. ماذا يدفع؟ وكيف يدفع؟ إن كل ما يملكه قرش واحد لا يملك في اليوم غيره. وقال عباس: أدفع … أدفع … ماذا أدفع؟

– فلوس، فلوس طبعًا، أُتريد أن تركب مجانًا؟!

– ولكن يا عم جبر أنا تلميذ.

– وأنا عربجي.

– ولكن من أين أجيء لكَ بالفلوس؟

– هذا يا حبيبي ليس عملي، يكفي أنني سأجعلك تركب معها، أمَّا من أين تجيء بالفلوس فهذا عملك أنت.

– كم تُريد؟

– خمسة قروش.

– في المرة!

– طبعًا، أم تظن في الشهر؟

– أمري لله يا عم جبر.

– موافق؟

– لا أستطيع. من أين آتي بخمسة قروش؟ يكفيني النظر.

– كم تستطيع أن تدفع؟

– أبي يُعطيني قرش صاغ في اليوم.

– قرش صاغ واحد؟!

– واحد.

– النظر كثيرٌ عليك. أتأخذ قرش صاغ واحدًا وتُريد أن تحبَّ وتنظر؟!

– وماذا أعمل؟

– اسمع! الطيبات لله، ادفع لي قرشَين في المرة.

– ليكن.

– اذهب إلى العربة واركب، واحذر أن يراكَ أحد.

وحين همَّت إيفون بالركوب ارتدَّت في جزع، فما استطاعت الابتسامة الخبيثة المرسومة على وجه عم جبر أن تُمهِّد عندها عن المفاجأة التي تُخفيها لها العربة. وهمس عباس: اركبي، لا تخافي.

وعادت إيفون لترى عباس، ثم ألقت نظرةً إلى عم جبر، ثم نظرت إلى أعلى لترى إن كان أحدٌ من أهل بيتها بالشباك، ثم ركبت واجفةً وهمست: كيف فعلتَ هذا؟!

وتحرَّكت العربة، وقال عباس: اتفقت مع عم جبر. وبعدُ يا إيفون؟

– وبعدُ فيمَ؟

– كيف أستطيع أن أراك؟

– كيف أدري؟ لقد استطعتَ أن تركب العربة، يبدو أنكَ أنت الذي تستطيع أن تجد الحل دائمًا.

– أهذا لقاء؟! إنها دقائق أختلسها اختلاسًا؛ فأنا لا بد لي أن أذهب إلى المدرسة، كما أنني لا أستطيع أن أذهب معكِ إلى مدرستكِ أو قريبًا منها؛ فقد تراني زميلاتك. كيف نلتقي؟ أنتِ لا تعرفين كم أشتاق إليك!

– اكتب لي.

– وماذا تنفع الكتابة؟

– وماذا نصنع.

– اسمعي، إنني أستطيع أن أخرج بعد صلاة العشاء؛ فإن أبي لا يخرج من حجرته بعد صلاة العشاء. أتستطيعين أن تخرجي أنتِ أيضًا؟

– أخرج؟! أخرج إلى أين؟

وقال عباس مفكِّرًا: إلى أين؟ إلى أين؟

– أتريدني أن أخرج من البيت؟

وحينئذٍ وقف عم جبر بالعربة وهو يقول: تفضل يا أستاذ، سندخل إلى شارع المدرسة.

وقال عباس: فكِّري وسألقاك بعد غد.

وقال الأسطى جبر: وأحضر معك ثلاثة قروش؛ فأنت اليوم لم تدفع إلا قرشًا واحدًا.

وأطرقت إيفون وهي تقول: لا أدري ماذا نفعل.

وقال عباس فجأة: أليس لديكِ صورة؟ أُريد منكِ صورة.

وقال الأسطى جبر: ميعاد المدرسة يا أفندي!

وقالت إيفون: ليس معي الآن صورة. أُحضرها لكَ في المرة القادمة.

ويقول عباس هامسًا: فأعطيني الآن أي شيءٍ منك، أُريد تذكارًا.

وعاد الأسطى جبر يقول في ضيق: ميعاد المدرسة يا إخواننا!

وأخرجت إيفون من جيبها منديلًا وأعطته مسرعةً إلى عباس، فاختطفه في لهفةٍ وقبَّله ووضعه في جيبه الداخلي، ثم نظر إليها: فكري في طريقة، أي طريقة. لا يهمك أن أتعب أو أُخاطر بحياتي؛ فإنِّي أُريد أن ألقاك.

وصاح الأسطى جبر: المدرسة يا أفندي!

ونزل عباس من العربة وهو يقول: بعد باكر …

وهمست إيفون والعربة تتحرَّك بها: مع السلامة.

وسمع عباس الهمسة، وظلَّ واقفًا يرقب العربة حتى أخفاها عنه الشارع الذي حادت به، ثم أخذ سمته إلى المدرسة يعدو إليها في نشوةٍ عارمةٍ لا ينسى أن يضع يده على الجيب الذي يحوي المنديل ويحتضنه إلى صدره كأنه بعضٌ من صدره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤