مغامرة الجوهرة الزرقاء

زرتُ صديقي شيرلوك هولمز في صباح اليوم الثاني بعد عيد الميلاد لأُهنِّئه بهذه المناسبة. كان مُسترخيًا على الأريكة وهو يرتدي رداء نومٍ أُرجوانيَّ اللون، وفي مُتناوَل يده إلى اليمين حامل الغُليون، وبالقُرب منه كومةٌ من الجرائد الصباحية المجعَّدة، التي من الواضح أنه كان يُطالعها حديثًا. وبجانب الأريكة كان ثَمَّةَ كرسيٌّ خشبي عُلِّقَت على طَرَف ظهره قبَّعةٌ مصنوعة من اللباد القاسي، والتي كانت رثَّةً وبالية من كثرة الاستخدام ومُشقَّقةً في مواضعَ كثيرة. كان وجود عدسةٍ مكبِّرة ومِلقط على مقعد الكرسي يُوحي بأن القبَّعة قد عُلِّقَت بهذه الطريقة بغرض أن تُفحص.

حدَّثتُ هولمز قائلًا: «أرى أنك مشغول؛ ربما أكون قد قاطعتُك.»

قال هولمز: «لا، أبدًا، يُسعدني أن يكون لديَّ صديقٌ يمكنني مناقشة النتائج التي أتوصل إليها معه. الأمر تافه تمامًا.» وأشار بإبهامه نحو القبَّعة القديمة، ثم أردف قائلًا: «ولكن فيه بعض النقاط التي لا تخلو من الإثارة، بل والتي قد تكون مَدعاةً للتعلُّم أيضًا.»

جلستُ على كُرسيه ذي الذِّراعَين ودفَّأتُ يديَّ أمام نيران مَوقِده المتأجِّجة؛ إذ إن صقيعًا حادًّا كان قد بدأ، وكانت النوافذ مُغطَّاةً بطبقةٍ سميكة من بِلَّوْرات الثلج. عَلَّقتُ قائلًا: «أعتقد أنه بالرغم من أن هذا يبدو أمرًا عاديًّا، فإنه يرتبط بقصةٍ خطيرة. إنه الخيط الذي سيقودك لحلِّ لُغزٍ ما ولإنزال العقاب على مرتكب جريمةٍ ما.»

ردَّ شيرلوك ضاحكًا: «لا، لا، لا تُوجَد أي جرائم. إنها فقط واحدةٌ من تلك الحوادث الصغيرة الغريبة التي تحدُث عندما يكون لديك أربعة ملايين شخصٍ يتزاحمون في مساحة لا تتجاوز بضعة أميالٍ مُربَّعة؛ ففي خِضَم أفعالِ وردودِ أفعالِ هذا الحشد الكثيف من البشر، من المتوقَّع أن يحدُث أيُّ مزيجٍ مُحتمَل من الأحداث، وستظهر العديد من القضايا التافهة التي قد تُصبِح غريبةً ومُثيرة دون أن ترقى إلى مستوى الإجرام. ولقد صادَفنا بالفعل هذا النوع من القضايا.»

علَّقتُ قائلًا: «يُوجَد الكثير منها بالفعل حتى إنَّ ثلاثًا من القضايا الستِّ الأخيرة التي دَوَّنتُ أحداثها، كانت تخلو تمامًا من أيِّ جريمةٍ قانونية.»

«بالضبط. إنك تُلِمح إلى مُحاولتي استعادةَ أوراقِ إيرين آدلر، وإلى القضية الفريدة الخاصة بالآنسة ماري ساذرلاند، وإلى مغامرة الرجل ذي الشفَة المُلتوية. حسنًا، ليس لديَّ شكٌّ في أنَّ هذه المسألة الصغيرة ستندرج تحت نفس التصنيف البريء للقضايا. هل تعرف بيترسون؛ الحاجب بالفندق؟»

«أجل.»

«هذه الغنيمة تخصُّه.»

«إنها قبَّعته.»

«لا، لا، لقد وجدَها، وصاحبها غير معروف. أرجو أن تنظُر إليها باعتبارها مشكلةً تحتاج إلى تفكير، وليست مجرد قُبَّعةٍ مُمزَّقة. بدايةً، فيما يتعلق بكيفية وصولها إلى هنا، فقد وصلَتْ صباح عيد الميلاد بصحبة إوزَّةٍ سمينة لذيذة، لا أشكُّ أنها تُشوى الآن أمام نيران بيترسون. أمَّا عن الحقائق، فهي كالآتي: في حوالي الساعة الرابعة صباحَ يومِ عيد الميلاد، كان بيترسون، وهو رجل أمين جدًّا كما تعلم، عائدًا من احتفالٍ صغير، وكان يسير في طريق توتنهام كورت متجهًا إلى منزله. رأى أمامه في ضوء المصباح الغازي رجلًا طويلًا بعض الشيء يمشي وهو يترنَّح قليلًا وتتدلَّى من على كتِفه إوزَّةٌ بيضاء. وعندما وصل إلى زاويةِ شارعِ جودج، اندلعَتْ مشاجرة بين هذا الغريب وعُصبة من الأشقياء. أطاح أحدهم بقُبَّعة الرجل، فرفع عصاه للدفاع عن نفسه وأَرجحَها فوق رأسه، فحَطَّم نافذة المحل التي كانت خلفه. هُرِع بيترسون ليحمي الغريب من المُعتدِين عليه، ولكن الرجل كان مصدومًا من أنه قد كَسَر نافذة المحل. وعندما رأى شخصًا يرتدي زيًّا رسميًّا ويندفع نحوه، ألقى إوزَّته وركض مُسرعًا واختفى وسط متاهة الشوارع الصغيرة التي تقع في نهايةِ طريقِ توتنهام كورت. هرب الأشقياء أيضًا عندما رأَوا بيترسون، الذي وجد نفسه وحدَه في ميدان المعركة مُسيطرًا على غنائم النصر، التي تتمثل في هذه القبَّعة المُمزَّقة وإوزَّة عيدِ الميلاد بشَحمِها ولحمها.»

«ومن المؤكد أنه أعادها إلى مالكها، أليس كذلك؟»

«هنا تكمن المشكلة يا صديقي العزيز. صحيحٌ أنه كان مكتوبًا على بطاقةٍ صغيرة مربوطة بساق الإوزَّة اليسرى عبارة «إلى السيدة هنري بيكر»، وصحيحٌ أيضًا أنَّ الحرفَين الأوَّلَين من الاسم «ﻫ. ب.» كانا مكتوبَين على بِطانةِ هذه القُبَّعة، لكن بما أنه يُوجَد الآلاف ممن يُدعَون بيكر، والمئات ممن يُدعَون هنري بيكر في مدينتنا هذه، فليس من السهل إعادة هذا الشيء المفقود لأيٍّ منهم.»

«ما الذي فعله بيترسون إذن؟»

«أحضَرَ لي القُبَّعة والإوزَّة في صباح عيد الميلاد لأنه يعلم أنني أهتمُّ حتى بأبسط القضايا. لقد احتفظْنا بالإوزَّة حتى هذا الصباح عندما ظَهرَت علاماتٌ تقول إنه، رغم أن الصقيع طفيف، سيكون من الأفضل أن تُذبَح دون أيِّ تأجيلٍ لا داعي له؛ وبالتالي، أخذَها بيترسون ليذبَحها، بينما احتفظتُ أنا بقُبَّعة الرجل المجهول الذي فقَدَ عَشاءَ يومِ عيد الميلاد.»

«أولم يُعلن عما فقَدَه؟»

«لا.»

«إذن، ما الدليل الذي يمكن أن يكون لديكَ عن هُويته؟»

«فقط القَدْر الذي يمكننا استنتاجُه.»

«مِن قُبَّعته؟»

«بالضبط.»

«ولكنك تمزح! ما الدلائل التي يمكنكَ جمعُها من هذا الشيء القديم المُمزَّق المصنوع من اللباد؟»

«إليكَ عدستي. أنت تعرف أساليبي. ما الذي يمكنك أن تستنتجه، أنت شخصيًّا، عن شخصية الرجل الذي كان يرتدي هذا النوع من القُبَّعات؟»

حملتُ القُبَّعة الرثَّة في يديَّ وأخذتُ أتفحَّصها وأنا أشعر بالأسف. كانت قُبَّعةً سوداء عادية جدًّا لها الشكل الدائري المعتاد، وكانت خشِنةً وبالية. كانت البطانة مصنوعةً من الحرير الأحمر الذي تغيَّرَ لونه تغيُّرًا كبيرًا. لم يكن عليها اسمُ صانعها، ولكن كما قال هولمز، كان الحرفان الأوَّلان «ﻫ. ب.» مكتوبَين بنحوٍ سيِّئٍ على أحد الجوانب. كانت حافتُها مثقوبة، ولكن الشريط المطاطي الذي يُستخدَم لتثبيت القُبَّعة على الرأس كان مفقودًا. أمَّا باقي الأجزاء فقد كانت مُشقَّقةً ومُترَّبة بشدَّة ومُبقَّعةً في أماكنَ عديدة، على الرغم من أنه كان هناك على ما يبدو بعض المحاولات لإخفاء البُقَع التي تغيَّرَ لونها من خلال تلطيخها بالحِبر.

قلتُ وأنا أُعيدُها لصديقي: «لا يُمكنني أن أرى أيَّ شيء.»

«على العكس يا واطسون، يمكنك أن ترى كلَّ شيء، ولكنك تعجز عن فَهم ما تراه. إنك شديد التردُّد في التوصُّل إلى استدلالاتك الخاصة.»

«إذن أخبرْني، أرجوك، بما يمكنك الاستدلال عليه من هذه القُبَّعة؟»

التقط هولمز القُبَّعة وحدَّق بها بأسلوبه الاستنباطي الغريب الذي كان يُميِّزه، وقال: «لعلها أقلُّ إيحاءً مما كان يمكن أن تكون عليه، ومع ذلك، هناك بعض الاستدلالات التي يسهُل جدًّا التوصُّل إليها، وهناك استدلالاتٌ أخرى يمكن وصفُها بأنها ذاتُ احتماليةٍ كبيرة على أدنى تقدير. يدلُّ مظهرها بالطبع على أنه رجلٌ شديد الثقافة، وأنه كان ميسور الحال إلى حدٍّ ما خلال السنوات الثلاث الماضية، ولكنه يمرُّ حاليًّا بأيامٍ صعبة. كان يتمتع بالحكمة والبصيرة، ولكنه لم يعُد كما كان، مما يُشير إلى تراجُعٍ أخلاقي، عندما نضعُه في اعتبارنا في ضوء تراجُع ثروته، يبدو أنه يُشير إلى وقوعه تحت تأثير بعض الأشياء المُفسِدة؛ مُعاقَرة الخمر على الأرجح. وهذا قد يُفسِّر أيضًا حقيقةً واضحة تَتمثَّل في أنَّ زوجتَه لم تعُد تُحبُّه.»

«عزيزي هولمز!»

استمرَّ في كلامه مُتجاهلًا اعتراضي قائلًا: «وعلى الرغم من ذلك، فهو يحتفظ بقدْرٍ من احترام الذات. إنه رجل يعيش حياة الدَّعَة ولا يخرج كثيرًا ولِياقتُه البدنية ضعيفةٌ تمامًا. إنه في منتصف العمر وذو شعْرٍ أشيَبَ كان قد قصَّهُ خلال الأيام القليلة الماضية، وكان يَدهُنه بكريم الليمون. هذه هي الحقائق الأوضح التي يمكن استنتاجُها من قُبَّعته. وبالمناسبة، أيضًا، من المُستبعَد تمامًا أن يكون منزله مزوَّدًا بالغاز.»

«إنك تمزح بالتأكيد يا هولمز!»

«إطلاقًا. هل من الممكن، حتى هذه اللحظة التي أخبرتُك فيها بهذه الاستنتاجات، أن تكون غير قادرٍ على استيعابِ كيفيةِ وصولي إليها؟»

«ليس لديَّ شكٌّ في أنني شديد الغباء، ولكن لا بُدَّ أن أعترف أنني لا يمكنني مُتابعتك. على سبيل المثال؛ كيف استنتجتَ أن هذا الرجل مُثقَّف؟»

للإجابة على سؤالي، وضع هولمز القُبَّعة على رأسه بسرعة، فغطَّتْ جبهتَه واستقرَّتْ على الجزء العلوي من أنفه، وقال: «إنها مسألة السَّعة الحجمية؛ فرجل له دماغٌ ضخم كهذا لا يمكن أن يكون غبيًّا.»

«وبالنسبة لتراجُع ثروته؟»

«عمر هذه القُبَّعة ثلاث سنوات، ولقد كانت تلك الحوافُ المُسطَّحة الملتوية عند الأحرُف دارِجةً في ذلك الوقت. إنها من أفضل أنواع القُبَّعات، انظر إلى الشريط المصنوع من الحرير المضلَّع والبطانة الممتازة. إذا كان هذا الرجل قادرًا على شراء قُبَّعةٍ باهظة الثمن قبل ثلاثِ سنوات، ولم يتمكَّن من شراء أُخرى منذ ذلك الحين، فهذا يعني أن وضعَه المادي قد تراجَع بشدَّة.»

«حسنًا، هذا واضحٌ بما يكفي بالتأكيد، ولكن ماذا عن الحِكمة والتراجُع الأخلاقي؟»

ضحِك هولمز وقال وهو يضع إصبعه على القُرص الصغير وعلى حلقة الشريط المطاطي: «ها هو دليل الحكمة والبصيرة. لا تُباع القُبَّعات به أبدًا. فإذا كان هذا الرجل قد طلب واحدًا، فهذا يُشير إلى قدْرٍ من الحكمة، لأنه بذَل كلَّ جُهده ليحتاط من الرياح. ولكن بما أنَّنا رأينا أنه قد قطع الشريط المطاطي ولم يهتمَّ باستبدالِ آخَر به، فهذا يدلُّ على أنه لم يعُد على نفس القدْر من الحكمة والبصيرة كما كان من قبل، وهذا دليلٌ واضح على الاستهتار. من ناحيةٍ أخرى، لقد سعى لإخفاء بعض هذه البُقَع الموجودة على اللَّباد عن طريق تلطيخها بالحِبر، مما يدلُّ على أنه لم يفقِد احترامه لِذاته بالكامل.»

«منطقُكَ معقول بلا شك.»

«أمَّا بالنسبة للنقاط الأخرى، وهي أنه في منتصف العمر وشعره أشيَب وأنه قد جرى قصُّهُ مؤخَّرًا وأنه يَستخدِم كريم الليمون، فيمكن معرفتها كلها من خلال الفحص الدقيق للجزء السُّفلي من البطانة. تكشف العدسة عن وجودِ عددٍ كبير من نهايات الشَّعر التي قُصَّت بمقصِّ حلَّاق؛ إذ تبدو جميعها مُلتصقة، وتُوجَد رائحةٌ مميزة لكريم الليمون. هذا الغُبار، كما تلاحظ، ليس الغُبار الرمادي الرملي الموجود في الشارع، بل الغُبار المنزلي البُنِّي الرقيق، مما يدلُّ على أن القُبَّعة كانت مُعلَّقة داخل المنزل مُعظم الوقت، في حين أن علامات الرطوبة الموجودة في القُبَّعة من الداخل تُثبِت أن مُرتديها كان يتعرَّق كثيرًا، وبالتالي، لا يمكن أن تكون لياقته البدنية في أفضلِ حالاتها.»

«ولكن زوجته … قلتَ إنها لم تعُد تُحبُّه.»

«هذه القُبَّعة لم تُنظَّف منذ أسابيع. عندما أرى أن قُبَّعتك، يا عزيزي واطسون، قد تراكَم عليها غُبارُ أسبوعٍ كامل، وعندما تسمح لك زوجتُك بالخروج هكذا، فسيؤسفني أن أُخبركَ حينها بأنكَ أصبحتَ سيِّئَ الحظِّ بما فيه الكفايةُ لأن زوجتك قد فقدَتِ اهتمامَها بك.»

«ولكنه قد يكون عازبًا.»

«لا، لقد كان يُحضِر الإوزَّة إلى المنزل كشكلٍ من أشكال الصُّلح لزوجته. هل تذكُر البطاقة التي كانت مربوطةً حول ساق الإوزَّة؟»

«لديك إجابةٌ لكلِّ شيء. ولكن بحقِّ الربِّ كيف استنتجتَ أنَّ منزله غير مُزوَّد بالغاز؟»

«قد تحدُث بُقعة شحم أو اثنتان بالصُّدفة، ولكن عندما أجِد ما لا يقلُّ عن خمس بُقَع، فأعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك أيُّ شكٍّ بأن مُرتدي القُبَّعة يتعرَّض بنحوٍ مُتكرِّر للشَّحم المحترِق؛ إذ ربما يصعد الدَّرَج ليلًا وهو يحمل قُبَّعته في يدٍ، وشمعةً في الأخرى. على أي حال، شُعلة الغاز لا تتسبَّب في بُقَع الشحم. هل اقتنعت؟»

قلتُ وأنا أضحك: «حسنًا، هذه براعةٌ شديدة من جانبك، ولكن بما أنه لم تُرتكَب أيُّ جريمة، كما قلتَ للتو، ولم يقع أيُّ ضررٍ سوى فقدان الإوزَّة، فيبدو هذا كله مجرَّد مَضْيَعة للجُهد.»

بينما كان هولمز يفتح فمه ليرد، فُتِحَ الباب على مِصراعَيه وهُرِع حاجب الفندق بيترسون داخلَ المنزلِ بوجنتَين مُتورِّدتَين وعلى وجهه تعبيرُ دهشةٍ وذهول.

قال لاهثًا: «الإوزَّة يا سيد هولمز! الإوزَّة يا سيدي!»

«هاه! ماذا عنها؟ هل عادت إلى الحياة وطارت من نافذة المطبخ؟» استدار هولمز على الأريكة ليرى وجه بيترسون المُندهِش بصورةٍ أوضح.

«انظر إلى هذا يا سيدي! انظر لما وجدَتْه زوجتي في حوصلتها!» مدَّ بيترسون يدَه وكان يستقرُّ في وسط راحته حجَرٌ أزرقُ لامع مُتألق، أصغر حجمًا من حبَّة الفول، ولكنه شديد الصفاء واللَّمعان وكأنه شرارةٌ كهربية تتلألأ في تجويفِ راحةِ يده.

انتصَب هولمز وأطلق صافرة اندهاشٍ قائلًا: «يا إلهي يا بيترسون! إنه كَنزٌ ثمين بلا شك! أعتقد أنك تعلم ماهيَّته، أليس كذلك؟»

«هل هو ماسةٌ يا سيدي؟ حجَرٌ كريم. إنه يقطع الزُّجاج وكأنه سكِّينُ معجون.»

«إنه أكثر من مجرَّد حجَرٍ كريم عادي. إنه حجرٌ كريمٌ فريد من نوعه.»

صِحتُ قائلًا: «لا تقُل إنها جوهرة الكونتيسة موركار الزرقاء!»

«إنها هي فعلًا. أعرف حجمها وشكلها؛ إذ إنني كنتُ أقرأ الإعلان بشأنها في جريدة «ذا تايمز» كلَّ يومٍ مؤخَّرًا. إنها جوهرةٌ فريدة من نوعها، ولا يمكن تقدير قيمتها، ولكن قيمة المكافأة المُقدَّمة التي تبلغ ألف جنيهٍ إسترليني لا ترقى بلا شكٍّ إلى جزء من العشرين من سعر الجوهرة في السوق.»

قال الحاجب وهو يسقط بقوةٍ جالسًا على المقعد وقد أخذ يُحدِّق فينا واحدًا تلوَ الآخر: «ألف جنيهٍ إسترليني! يا إلهي الرحيم!»

«هذه هي المكافأة، وأستطيع أن أؤكِّد أن هناك اعتباراتٍ عاطفيةً تكمُن خلف هذا الأمر، تلك التي من شأنها أن تدفع الكونتيسة إلى التخلِّي عن نصف ثروتها، إن استدعى الأمر، لاستعادة الجوهرة.»

عَلَّقتُ قائلًا: «لقد ضاعت، إن كانت تُسعفني الذاكرة، في فندق كوزموبوليتن.»

«حدَث هذا في الثاني والعشرين من ديسمبر، على وجه التحديد؛ أي قبل خمسةِ أيامٍ فقط. اتُّهِمَ سبَّاكٌ يُدعى جون هورنر بأنه قد سَرقَها من عُلبة حُلي الكونتيسة. كانت الأدلة ضدَّه قوية للغاية لدرجة أن القضية أُحيلت إلى المحكمة الجنائية. لديَّ خبرٌ عن هذا الأمر هنا كما أظن.» فتَّش هولمز وسط صُحُفه وهو يُلقي نظرةً سريعة على التواريخ، حتى أخرج إحدى الصُّحف المجعَّدة وفرَدَها، ثم طبَّقها وقرأ الفقرة التالية:

سرقة جوهرة في فندق كوزموبوليتن. اتُّهِمَ سبَّاكٌ يُدعى جون هورنر، يبلغ من العمر ٢٦ عامًا، بسرقة الجوهرة الثمينة التي تُعرَف باسم الجوهرة الزرقاء، من عُلبة حُلي الكونتيسة موركار، في الثاني والعشرين من الشهر الحالي. قدَّم جيمس رايدر، كبير خادمي الغُرَف بالفندق، شهادةً مَفادُها أنه قد أخذ هورنر لغُرفة الملابس الخاصة بالكونتسية موركار في اليوم الذي وقعَتْ فيه السرقة، ليلحم القضيب الثاني للمَوقِد، والذي كان مفكوكًا. لقد بقي مع هورنر لبعض الوقت، ولكن جرى استدعاؤه، وعند عَوْدته، وجد أن هورنر قد اختفى، وأن مجموعة الأدراج قد فُتِحَت عنوة، وأن عُلبة الحلي الصغيرة المصنوعة من جِلد السختيان التي اعتادت الكونتيسة أن تحتفظ بحُليها بداخلها، كما اتضح فيما بعدُ، كانت على طاولة التزيُّن خالية. أبلغ رايدر عن هورنر على الفور، وأُلقيَ القبض عليه في المساء نفسه، ولكنهم لم يعثروا على الجوهرة، لا بحوزته ولا في غُرفته. شهِدَتْ كاثرين كيوساك، خادمة الكونتيسة، تحت القَسم بأنها سمعَتْ صرخة رايدر المُرتعبة عندما اكتشف السرقة، وبأنها هُرِعت إلى الغرفة، فوجدَتِ الوضع كما وصَفه الشاهد السابق. قدَّم المفتش برادستريت من المنطقة بي الأدلة السابقة مما أدَّى إلى اعتقال هورنر الذي قاوَمَ بنحوٍ محموم واحتجَّ مؤكدًا بأقوى العبارات على براءته. قُدِّم دليل آخر ضدَّ السجين يُفيدُ بإدانتهِ بتهمةِ سطوٍ سابقة، لكن رفض القاضي أن يتَّخِذ حُكمًا سريعًا في القضية، وأحال الجريمة إلى المحكمة الجنائية. أمَّا بالنسبة لهورنر، الذي أبدى انفعالًا شديدًا أثناء وقائع المحاكمة، فقدْ فَقَدَ الوعي عندما سمع الحُكم وحُمِلَ إلى خارجِ قاعة المحكمة.

أَردَف هولمز بتأمُّلٍ عميق وهو يرمي الجريدة جانبًا: «هممم! يكفينا هذا بشأن المحكمة. الأمر الذي علينا تحديده الآن هو تسلسُل الأحداث التي وَقعَت بدايةً من اكتشاف عُلبة الحُلي المسروقة، وانتهاءً بحوصلة الإوزَّة في طريقِ توتنهام كورت. كما ترى يا واطسون، لقد كشفَتِ استنتاجاتُنا الصغيرة جانبًا أكثرَ أهمية وأقلَّ براءة. ها هي الجوهرة؛ لقد وُجِدت في حوصلة الإوزَّة، وقد أتت الإوزَّة من السيد هنري بيكر، الرجل ذي القُبَّعة الرثَّة والصفات الأخرى التي أضجرتُكَ باستنتاجها؛ لذا، يتوجَّب علينا الآن أن نشرع في البحث بجديةٍ عن هذا الرجل ونتأكَّد من الدَّور الذي لَعِبه في هذا اللُّغز الصغير. وحتى يَتأتَّى لنا ذلك، لا بُدَّ أن نلجأ لأبسطِ الوسائل أولًا، التي ستتمثَّل بلا شك في الإعلان الذي سأَنشُره في جميع الصحف المسائية. وإذا فشِلَت هذه الطريقة، فسألجأ إلى أساليبَ أخرى.»

«ما الذي ستقوله في الإعلان؟»

«أعطني قلمَ رصاصٍ وقُصاصةَ الورق هذه. والآن: «عُثِر في زاوية شارع جودج على إوزَّة وقُبَّعةٍ سوداءَ مصنوعة من اللباد. يمكن للسيد هنري بيكر استعادتهما من خلال الحضور في تمام السادسة والنصف مساءً إلى ٢٢١بي، شارع بيكر.» حسنًا هذا واضحٌ وموجز.»

«واضحٌ جدًّا. ولكن هل سيرى الإعلان؟»

«حسنًا، من المؤكد أنه سيُتابع الصحف؛ فتلك الخسارة بالنسبة لرجلٍ فقير تُعتبَر خسارةً فادحة. من الواضح أنه كان خائفًا جدًّا من سوء حظِّه الذي يتمثَّل في كسر النافذة، ومن قدوم بيترسون بحيث إنه لم يفكر سوى في الهرَب، ولكن لا بُدَّ أنه يندَم أشدَّ الندَم منذ ذلك الحين على اندفاعه الذي جعله يترُك إوزَّته. ظهورُ اسمه سيجعله يرى الإعلان؛ لأن كلَّ من يعرفه سيُخبره عنه. تفضَّل يا بيترسون، خُذ الإعلان وسارِع إلى وكالة الإعلانات وتأكَّد من أنه سيُنشَر في الصحف المسائية.»

«أيُّ صُحفٍ يا سيدي؟»

«أوه، في «ذا جلوب»، و«ستار»، و«بول مول»، و«سانت جيمسز»، و«إيفينينج نيوز»، و«ستاندرد»، و«إيكو»، وأيِّ صحيفةٍ أخرى تخطُر ببالك.»

«حسنًا يا سيدي، ولكن ماذا عن الجوهرة؟»

«أوه، أجل، سأحتفظ بالجوهرة، شكرًا لك. وبالمناسبة يا بيترسون، اشترِ إوزَّة في طريق عودتك واترُكها لي هنا؛ إذ لا بُدَّ أن يكون لدَينا واحدةٌ لنُعطيها لهذا الرجل بدلًا من التي تلتهِمُها أسرتُكَ الآن.»

عندما ذهب الحاجب، التقط هولمز الجوهرة وأخذ يتفحَّصها في الضوء، وقال: «إنها رائعة! انظر كيف تلمع وتتلألأ! إنها بالطبع نواة تدور في فلكها الجريمة، مِثل كلِّ الأحجار الكريمة؛ إنها طعومٌ لأتباع الشيطان. وقد يكمن خلف كل جانبٍ من جوانب الجواهر الأكبر والأقدم، جريمةٌ دموية. إنَّ عُمر هذه الجوهرة لم يراوِح العشرين عامًا بعد، ولقد عُثِر عليها على ضِفاف نهر آموي في جنوب الصين، وتمتاز بأنها تتمتع بكلِّ خصائص العقيق، فيما عدا أنَّ لونَها أزرقُ بدلًا من الأحمر الياقوتي الذي يُميِّزه. وعلى الرغم من حداثتها، فإنَّ لها بالفعل تاريخًا أسود؛ فقد وَقعَتْ جريمتا قتْل، وعمليةُ حرْق باستخدام حامض الزاج الكبريتي، وانتحار، والعديد من عمليات السطو من أجل هذه القطعة من الفحْم المُتبلوِر الذي يُساوي وَزْنه أربع حبَّات. من يظنُّ أن شيئًا شديد الصِّغَر كهذا سيكون بابًا يؤدي إلى المشانق والسجون؟! سأضعها في خِزانتي وأُوصِدها الآن، وسأتواصَل مع الكونتيسة لأُخبرها أنها بحوزتِنا.»

«هل تعتقد أن هذا الرجل الذي يُدعى هورنر بريء؟»

«لا يمكنني القطْع.»

«حسنًا، هل تعتقد إذن أنَّ الآخَر هذا، هنري بيكر، له أي علاقةٍ بالأمر؟»

«حسنًا، أعتقد أن الأكثر احتمالًا أنه بريء تمامًا، وأنه لم يكن لدَيه أدنى فكرة أنَّ الطائر الذي يحمِله كان ذا قيمةٍ أثمنَ كثيرًا مما لو كان مصنوعًا من الذهب الخالص. ومع ذلك، سأُحدِّد هذا الأمر باختبارٍ بسيط جدًّا إذا حصلْنا على ردٍّ على إعلاننا.»

«وبطبيعة الحال لا يُمكنكَ أن تفعل شيئًا حتى ذلك الحين، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«في هذه الحالة سأستكمل جولتي المهنية، ولكنَّني سأعود مساءً في الوقت الذي ذكرتُه؛ لأنني أرغب في أن أعرف حلَّ هذه القضية المعقَّدة.»

«سأكون سعيدًا لرؤيتك. سأتناول العَشاء في السابعة، يُوجَد دجاجة، على ما أظن. بالمناسبة، في ضوء الأحداث الأخيرة، ربما ينبغي عليَّ أن أطلُب من السيدة هادسُن أن تَفحَص حَوصلتَها!»

أخَّرتْني إحدى الحالات وكان الوقت قد جاوَز السادسة والنصف بقليلٍ عندما وجدتُ نفسي في شارع بيكر مرةً أخرى. وعندما اقتربتُ من المنزل، رأيتُ رجلًا طويل القامة يرتدي قَلنسوةً اسكتلندية ومِعطفًا مُزرَّرًا حتى ذَقنه ينتظر بالخارج في الضوء نصف الدائري القادم من شرَّاعة الباب. وبمجرد وصولي، فُتِحَ الباب ودخلْنا معًا غرفة هولمز.

قال هولمز وهو ينهض من مقعده ذي الذِّراعَين ويُرحِّب بزائره بالطريقة اللطيفة السَّلِسة التي يمكنه أن يتظاهر بها بكلِّ سهولة: «السيد هنري بيكر على ما أظن. تفضَّل على هذا المقعد بجانب المدفأة يا سيد بيكر. إنها ليلةٌ باردة، ولقد لاحظتُ أنَّ دورتك الدموية أكثر تكيُّفًا مع الصيف منها مع الشتاء. أوه، واطسون، لقد أتيتَ في الوقت المناسب! هل هذه هي قُبَّعتك يا سيد بيكر؟»

«أجل يا سيدي، إنها قُبَّعتي بلا شك.»

كان رجُلًا ضخمًا ذا أكتافٍ مُستديرة ورأسٍ ضخمٍ ووجهٍ عريضٍ ذكيٍّ ينحدِر لِلِحيةٍ مُدبَّبة ذات لونٍ بُني أَشيَب. كان أنفه مُتورِّدًا قليلًا وكذلك وَجْنتاه، وكانت يداه الممدوتان ترتعشان رعشةً خفيفة، وهو ما جعلني أتذكر استنتاجات هولمز عن عاداته. كان معطفه الأسود الطويل القديم مُزَرَّرًا حتى رقبته، وياقَتُه مرفوعة، وكان مِعصماه الضعيفان يبرُزان من كُمَّيه دون أي علامةٍ لارتدائه قميصًا أو وجودِ أطرافِ أكمام. كان يتحدَّث بإيقاعٍ بطيء مُتقطِّع، ويختار كلماته بعناية، وكان يُعطي انطباعًا عامًّا أنه رجلٌ مُتعلم ومُثقَّف، ولكنه تعرَّض لِصَفعاتِ القدَر.

قال هولمز: «لقد احتفَظنا بهذَين الشيئَين لِعدةِ أيامٍ لأننا توقَّعنا أن تنشُر إعلانًا عنهما تضع فيه عنوانك. أشعر بالحيرة الشديدة وأريد أن أعرف السبب وراء عدم نشرك إعلانًا.»

ضحك زائرُنا بخجَلٍ قائلًا: «لم أعُد أمتلك الكثير من المال كما كان الحال من قبلُ. لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ أن عصابة الأشقياء التي هاجمتْني قد سرقَتْ قُبَّعتي وإوزَّتي، فلم أهتمَّ بإنفاق المزيد من المال في مُحاوَلةٍ يائسة لاستعادتهما.»

«هذا أمرٌ طبيعي. بالمناسبة، فيما يخصُّ الإوزَّة، لقد اضطُرِرْنا لأكلها.»

نهض زائرنا على نحوٍ غيرِ مكتمل من مَقعده وهو منفعلٌ ليقول: «أكلها!»

«أجل؛ فإن لم نفعل ذلك فقد كانت ستُصبح عديمة الفائدة. ولكنني أعتقد أن هذه الإوزَّة الأخرى الرائعة الموضوعة على الطاوِلة الجانبية، والتي لها نفس الوزن تقريبًا، ستفي بغرَضِك تمامًا، أليس كذلك؟»

أطلق السيد بيكر زفرةَ ارتياحٍ وقال: «أوه، بالتأكيد، بالتأكيد.»

«بالطبع لا يزال لدَينا ريشٌ وساقانِ وحوصلةُ طائرك وما إلى ذلك؛ لذا إذا كنتَ ترغب في …»

انفجر الرجل ضاحكًا من أعماقه وقال: «يمكن أن تكون هذه الأشياء مُفيدةً كمجرَّد آثارٍ تبقَّت من مُغامرتي، ولكن فيما دُون ذلك، فلا أرى أيَّ فائدةٍ لما تبقَّى من أعضاء إوزَّتي الراحلة! لا يا سيدي، أعتقد، بعد إذنك، أنني لا أريد سوى هذه الإوزَّة الممتازة التي أراها على الطاولة الجانبية.»

نظر شيرلوك هولمز نحوي نظرةً سريعة وهزَّ كتِفَيه قليلًا.

وقال: «ها هي قُبَّعتك إذن، وها هي إوزَّتك. بالمناسبة، هل يمكنك أن تُخبرني من أين حصلتَ على الإوزَّة الأخرى؟ فأنا أهوى تربية الطيور، ونادرًا ما رأيتُ إوزَّةً جيدة كتلك.»

قال بيكر الذي نهض ووضع إوزَّته الجديدة تحت إبطه بإحكام: «بالطبع يا سيدي، يتردَّد عددٌ قليل منَّا على نُزُل ألفا، بالقُرب من المتحف. ستجدنا في المتحف نفسه نهارًا. هل تفهمني؟ أنشأ مُضيفنا الكريم وينديجيت هذا العام نادِيًا لمُحبي الإوز، يحصُل كلُّ واحدٍ منَّا من خلاله على إوزَّة في عيد الميلاد لقاء دفع بنساتٍ قليلة كلَّ أسبوع. لقد سدَّدتُ المبلغ بالكامل، وأنت تعلم الباقي. أدينُ لك بالكثير يا سيدي؛ إذ لا يليق بسنِّي ولا بمكانتي أن أرتدي تلك القَلنسوة الاسكتلندية.» انحنى بيكر بتفاخُرٍ مُضحك وبطريقةٍ مُبالغ فيها لكلَيْنا وانطلق في طريقه.

قال هولمز بعد أن أغلق الباب خلفه: «يكفي هذا بالنسبة للسيد بيكر. من المؤكد أنه لا يعرف شيئًا عن الأمر. هل أنت جائع يا واطسون؟»

«ليس بدرجةٍ كبيرة.»

«إذن أقترح أن نُحوِّل الغَداء إلى عَشاء ونتناوله لاحقًا وأن نطرُق على الحديد وهو ساخن ونتتبَّع مِفتاح حلِّ اللُّغز هذا.»

«بكلِّ تأكيد.»

كانت ليلةً قارصة البرودة، فارتدَينا معطفَينا وغَطَّينا رقبتَينا جيدًا برابطتَي عنق. بالخارج، كانت النجوم تتلألأ في سماءٍ صافية وأجواءٍ باردة، وكانت أنفاس المارة تنبعث على شكلِ دُخان وكأنها طلقاتٌ نارية كثيرة العدد. كان وقْع أقدامنا عاليًا وحادًّا بينما كنَّا نجُول في حيِّ الأطباء وشارع ويمبول وشارع هارلي، وكذا شارع ويجمور وصولًا إلى شارع أكسفورد. وصلْنا في ربع ساعة إلى بلومزبيري عند نُزُل ألفا، وهو فندقٌ صغير في زاوية أحد الشوارع التي تمتدُّ إلى هولبورن. دفع هولمز باب الحانة الخاصَّة وطلَبَ كوبَين من الجِعة من صاحب المكان ذي الوجه المتورِّد والذي كان يرتدي مِئزرًا أبيض اللون.

قال هولمز: «لا بُدَّ أن تكون جِعتك ممتازةً إذا كانت على نفس القدْر من جودة إوزِّك.»

بدا الرجل مُندهشًا وقال: «إوَزِّي!»

«أجل، لقد كنتُ أتحدَّث منذ نصفِ ساعة مع السيد هنري بيكر، العُضو في نادي الإوزِّ الخاص بك.»

«أوه! أجل فهمتُك، ولكن كما ترى يا سيدي، فإوزَّته لم تكن من عندي.»

«فعلًا! فمنْ كان مصدرها إذن؟»

«حسنًا، لقد حصلتُ على درزينتَين من الإوزِّ من بائعٍ في كوفينت جاردن.»

«حقًّا؟ أعرف بعضهم. من كان البائع؟»

«اسمه بريكينريدج.»

«أوه! لا أعرفه، حسنًا في نخب صحتك الجيدة وازدهارِ نُزُلك أيها المدير، تُصبح على خير.»

قال هولمز: «والآن لنذهب إلى السيد بريكينريدج.» وأردف وهو يُزرِّر معطفه بمجرَّد خروجنا في الأجواء شديدة البرودة: «تذكَّر يا واطسون أنه على الرغم من أنَّ لدَينا شيئًا بريئًا كالإوزَّة من ناحية، فإن لدينا من ناحيةٍ أخرى رجلًا سيُحكم عليه بالتأكيد بالحبس لمدة سبعِ سنواتٍ مع الأشغال الشاقَّة ما لم ننجَحْ في إثبات براءته. من الممكن أن تؤكِّد تحقيقاتُنا أنه مُذنب، ولكن، على أيِّ حال، لدَينا خيطٌ مفقود أغفلَتْه تحقيقاتُ الشرطة، ولقد وقع في أيدينا من قبيل الصدفة. دعنا نتتبَّعه حتى نهايته المريرة. لنتوجَّه جنوبًا إذن بخطوة سريعة!»

مَررْنا عبر هولبورن إلى شارع إيندِل وعبرَ سلسلةٍ من الأحياء الفقيرة إلى سوق كوفينت جاردن. حَملَ واحدٌ من أكشاك البيع الكبيرة اسم بريكينريدج، وكان مالِكُه رجلًا ضخمًا ذا وجهٍ حادٍّ وسوالفَ مُشذَّبةٍ ويُساعد صبيًّا في إغلاق مِصراع المتجر.

قال هولمز: «مساء الخير، إنها ليلةٌ باردة.»

أومأ البائع وألقى نظرةً خاطفة مُتشكِّكة على رفيقي.

أردف هولمز قائلًا: «لقد بيعَتِ الإوزُّات كلها كما أرى.» وأشار إلى الألواح الرخامية الخالية.

«يمكنني أن أبيع لك خمسمائة صباح الغد.»

«هذا لا يُفيد.»

«حسنًا، يُوجَد البعض في هذا الكشك الذي لدَيه شُعلة غاز.»

«أوه، ولكنهم نصحوني بالتوجُّه إليك.»

«من الذي رشَّحني لكَ؟»

«مالكُ نُزُلِ ألفا.»

«أوه، أجل، لقد بِعْتُهُ بضع عشراتٍ منها.»

«لقد كانت طيورًا جيدة أيضًا. من أين حصلتَ عليها؟»

لدهشتي، أثار هذا السؤال موجةً من الغضب في نفس البائع.

قال ورأسه مائلٌ لأحد الجانبَين وذِراعاه موضوعتان على خصره: «حسنًا إذن، ما الذي تقصده يا رجل؟ لنتحدَّث بوضوحٍ الآن.»

«إنني واضح بما يكفي. أودُّ معرفة من الذي باعك الإوزَّ الذي بعتَهُ لنُزُل ألفا.»

«حسنًا، لن أُخبرك. ماذا الآن؟!»

«أوه، إنها مسألةٌ غير مهمة، ولكنني لا أعلم لِمَ يُغضبك أمرٌ تافِه كهذا!»

«لِمَ أنا غاضِب؟! قد تُصبح غاضبًا إذا تعرَّضتَ للإزعاج مِثلي. عندما تدفع مبلغًا جيدًا من المال لتحصُل على سلعةٍ جيدة، فلا بُدَّ أن يتوقَّف الأمر عند هذا الحد، ولكن بدلًا من ذلك، تجد نفسك مُحاصرًا بالأسئلة، «أين الإوز؟» و«لمن بعتَ الإوز؟» و«ما المبلغ الذي تُريده لقاء الإوز؟» عندما يسمع المرء كلَّ هذه الجلَبَة المُثارة حول الإوز، يظنُّ أنه الإوزُّ الوحيد في العالم!»

قال هولمز بلا مُبالاة: «حسنًا، ليست لديَّ أي صِلةٍ بأيِّ أشخاص آخَرين كانوا يستفسرون عن الأمر. إذا لم تُخبرنا، فلن يعود الرهان قائمًا. هذا هو كلُّ ما في الأمر. ولكن فيما يخصُّ الطيور، أنا على استعدادٍ دائم لأن أدعم رأيي، وأراهن بورقة خمسةِ جنيهاتٍ على أنَّ الإوزَّة التي أكلتُها قد تَرَبَّت في الريف.»

سارع البائع قائلًا: «حسنًا، إذن فقد فقدْتَ مَالَك؛ لأنها تَرَبَّت في المدينة.»

«هذا غيرُ صحيحٍ على الإطلاق.»

«بل صحيح.»

«لا أُصدِّق ذلك.»

«هل تعتقد أنك تعرِف عن الطيور أكثر منِّي، أنا من أُربِّيها منذ أن كنتُ طفلًا؟ أقول لك إنَّ كلَّ الطيور التي بيعتْ لنُزُل ألفا قد تربَّت في المدينة.»

«لن تُقنعني أبدًا لأُصدِّق ذلك.»

«هل تُراهن إذن؟»

«ستخسَر مالك فحسْب، لأني أعلم أنني على صواب. ولكني سأُراهنك على جنيهٍ ذهبي فقط لأُلقِّنك درسًا ألا تكون عنيدًا.»

ضحِك البائع بشراسةٍ وقال: «أحضِر ليَ الدفاتر يا بيل.»

أحضَرَ الفتى الصغير دفترًا صغيرًا رفيعًا وآخَرَ ضخمًا ذا ظهرٍ مُشحَّم ووضعهما أسفلَ المِصباح المعلَّق.

قال البائع: «والآن أيها السيد المغرور، كنتُ أظنُّ أنني قد بعتُ الإوزَّ كلَّه، ولكن قبل أن أُغلِق ستجِد أنه لا تزال هناك واحدةٌ فقط. هل ترى هذا الدفتر الصغير؟»

«حسنًا!»

«هذه هي قائمة الأشخاص الذين أشتري منهم. هل ترى؟ حسنًا، هنا في هذه الصفحة القائمة الخاصة بمُورِّدي الريف، والأرقام التي تلي أسماءهم تُشير إلى أماكن سجلَّاتهم في دفتر الحسابات الكبير. والآن! هل ترى هذه الصفحة المكتوبة بالحبر الأحمر؟ حسنًا، هذه قائمة بمورِّدي المدينة الذين أتعامَل معهم. والآن انظر إلى ذلك الاسم الثالث، واقرأه لي فحسْب.»

قرأ هولمز: «السيدة أوكشوت، ١١٧ طريق بريكستون، ٢٤٩.»

«بالضبط. والآن ابحث عن هذا الرقم في دفتر الحسابات الكبير.»

فَتَحَ هولمز الدفتر على الصفحة المُشار إليها وقال: «ها هو المكتوب. السيدة أوكشوت، ١١٧ طريق بريكستون، مُورِّدة بَيض ودواجن.»

«والآن، ما آخِر بندٍ مُسجَّل؟»

«٢٢ ديسمبر، ٢٤ إوزَّة بسعر سبعة شلنات وستة بنسات.»

«بالضبط، ها أنت ذا. وأسفله؟»

«بيعت إلى السيد وينديجيت من نُزُل ألفا مُقابل اثنَي عشر شلنًا.»

«ما الذي ستقوله الآن؟»

بدا هولمز مُحبطًا بشدَّة، وسحب جُنيهًا ذهبيًّا من جَيبه وألقاه على اللَّوح الرُّخامي واستدار وعلى وجهه تعبيرٌ بالامتعاض الشديد الذي لا يمكن أن يصِفه الكلام. وعلى بُعد يارداتٍ قليلة، توقَّف هولمز أسفلَ أحدِ أعمدة الإنارة وضحِك من أعماقه ضحكته الصامِتة التي كانت تُميِّزه.

وقال: «عندما ترى رجلًا سوالِفُه مقصوصة بهذا الشكل وجريدة بينك أون تبرُز من جيبه، فيمكنك دائمًا أن تطرح رهانًا لاستدراجه. أعتقد أنني لو كنتُ قد وضعتُ مائة جُنيهٍ إسترليني أمام هذا الرجل، لم يكن ليُعطيني معلوماتٍ كاملةً كالتي حَصلتُ عليها منه فقط من خلال إقناعه بأنه يهزمني في رهان. حسنًا يا واطسون، أظنُ أننا نقترِب من نهاية رحلتنا، والأمر الوحيد الذي علينا تقريره هو ما إذا كان يتعيَّن علينا الذهاب إلى السيدة أوكشوت الليلة أم أن نُرجئ ذلك إلى الغد. واضحٌ مما قاله هذا الرجل الفظُّ أنه يُوجَد آخرون غيرنا يهتمُّون بالأمر، وعليَّ أن …»

قطع كلامه فجأةً صوتُ هرَج ومرَج صاخِب آتٍ من كشك البيع الذي كنَّا قد غادَرْناه لتوِّنا. وعندما استدَرْنا، رأينا رجلًا ثملًا صغير الحجم يقِف في منتصف دائرة الضوء الأصفر الآتي من المِصباح المُتأرجِح، بينما كان بريكينريدج يقِف في باب كُشكِهِ وهو يهزُّ قبضتَيه بقوة في اتجاه الرجل المُنكمِش.

صاح بريكينريدج قائلًا: «لقد ضِقتُ ذرعًا بك وبإوزِّك، أتمنى أن تذهبوا جميعًا إلى الجحيم. إذا أتيتَ لتُضايقني مرَّةً أخرى بكلامك السَّخيف، فسأُطلِقُ كلبي عليك. أحضر السيدة أوكشوت إلى هنا وسأُجيب عليها، ولكن ما علاقتك أنت بالأمر؟ هل اشتريتُ الإوزَّ منك؟»

تأفَّف الرجل الصغير قائلًا: «لا، ولكن إحداها كانت مِلكًا لي.»

«حسنًا، اطلُبها من السيدة أوكشوت إذن.»

«قالت لي أن أطلُبها منك.»

«حسنًا، يمكنك إذن أن تَطلُبها من ملك بروسيا، لا يُهمُّني. لقد نِلتُ كفايتي. أخرج أنفك من هذا الأمر!» ثم هُرِع بقوة إلى الأمام، فرحل السائل بسرعة واختفى في الظلام.

همس هولمز قائلًا: «أوه! قد يوفِّر هذا علينا زيارةً لطريق بريكستون. تعالَ معي وسنرى ما الذي يُمكننا معرفته من هذا الرجل.» ذرَع رفيقي الشارع عبر التجمُّعات المُبعثرة من الناس الذين كانوا يتسكَّعون حول الأكشاك المُضاءة، وسرعان ما لحِقَ بالرجل الصغير ولمسَ كتِفَه. وثَبَ الرجل وهو يستدير، وفي ضوء المصباح الغازي، تمكنتُ من رؤية وجهه الذي هربتْ منه الحيوية وصار شاحبًا.

سأل بصوتٍ مُرتعش: «من أنت إذن؟ ما الذي تُريده؟»

قال هولمز بلطف: «مَعذرة، لقد سمعتُ دون قصدٍ الحديث الذي دار بينك وبين البائع الآن، وأعتقِد أنني يمكنني مُساعدتُك.»

«أنت؟ من أنت؟ كيف يمكن أن تعرف أيَّ شيءٍ عن الأمر؟»

«اسمي شيرلوك هولمز، ومهنتي هي أن أعرف ما لا يعرفه الآخرون.»

«ولكن كيف يمكن أن تعرف شيئًا عن هذا الأمر؟!»

«معذرةً ولكني أعرِف كلَّ شيء عنه. إنك تُحاول تتبُّع أَثَر بعض الإوزِّ الذي باعتْه السيدة أوكشوت، من طريق بريكستون، إلى بائعٍ يدعى بريكينريدج، الذي باعه بدَوره إلى السيد وينديجيت من نُزُل ألفا، الذي عَرضَهم للبيع في ناديه الذي يحمل السيد هنري بيكر عضويته.»

صاح الرجل الصغير بيدَين ممدودتَين وأصابع مُرتعشة: «أوه، إنك مَن كنتُ أتوق للقائه يا سيدي. لا يمكنني أن أصِف لك كم أنا مُهتمٌّ بهذا الأمر.»

نادى هولمز على عربةِ أُجرة كانت تمرُّ وقال: «في هذه الحالة، من الأفضل أن نُناقِش الأمر في غرفةٍ مريحة، وليس في هذه السوق العاصفة، ولكن قبلَ أيِّ شيء، أخبرْني أرجوك من الذي سأحظى بشرَفِ مُساعدته؟»

تردَّد الرجل للحظةٍ وقال ناظرًا إليه بِطرْفِ عينه: «اسمي جون روبينسون.»

فقال هولمز بلُطف: «لا، لا، اسمك الحقيقي. من الغريب دائمًا العمل مع صاحِب اسمٍ مُستعار.»

تورَّدتْ وجنات الغريب الشاحبة وقال: «حسنًا، اسمي الحقيقي هو جيمس رايدر.»

«بالطبع، كبير خادمي الغُرَف بفندق كوزموبوليتن. استقِلَّ العربة أرجوك، وقريبًا سأُخبرك بكلِّ ما تَودُّ معرفته.»

وَقفَ الرجل الضئيل الحجم وهو يتنقَّل ببصره سريعًا بيني وبين هولمز بمزيجٍ من الخوف والأمل كشخصٍ حائر لا يعرِف ما إن كان على مشارفِ كارثةٍ أم فَرَج، ثمَّ استقل العربة. وفي غضون نصف ساعة كنَّا قد عُدنا إلى غُرفة الجلوس في شارع بيكر. لم يتحدَّث أيٌّ مِنَّا أثناء رحلتنا، إلا أنَّ صوت الأنفاس المرتفع لرفيقنا الجديد، وعقْدَه لِيدَيه ثُمَّ حلَّها مرةً أخرى، كانا يعكسان التوتُّر العصبي الداخلي الذي كان يُعانيه.

قال هولمز بمرح ونحن ندخل الغرفة: «ها نحن ذا! تبدو النار مُناسبةً تمامًا في هذا الجو. يبدو أنك تشعُر بالبرد يا سيد رايدر. تفضَّل بالجلوس على الكرسي الخيزران. سأرتدي شبشبي قبل أن نُسوِّي هذه المسألة الصغيرة التي تخصُّك. والآن إذن! هل تُريد أن تعرف ماذا حلَّ بذلك الإوز؟»

«أجل يا سيدي.»

«أو بالأحرى، كما أعتقد، ما حلَّ بتلك الإوزَّة؟ إنك مُهتمٌّ كما أعتقد بإوزَّةٍ واحدة بعينها؛ إوزَّةٍ بيضاء اللون لها خطٌّ أسود على ذَيلها.»

ارتجفَ رايدر بالحماس وصاح قائلًا: «أوه يا سيدي، هل يمكنك أن تُخبرني أين ذَهبَت؟»

«لقد أتتْ هنا.»

«هنا؟»

«أجل، ولقد اتَّضح كم كانت إوزَّةً غير عادية. لا أتعجَّب لاهتمامك بها فلقد وضعَتْ بيضةً زرقاء بعد مَوتها؛ أجمل وألمع بيضةٍ زرقاءَ صغيرة رأيتُها على الإطلاق. إنها لديَّ هنا في مُتحفي.»

ترنَّح زائرنا واقفًا وأمسك برفِّ المَوقِد بيده اليمنى. فتح هولمز خزانته وأمسك بالجوهرة الزرقاء، التي تَلألأَت كالنجمة وخَرجتْ منها العديد من الأشعَّة المُستدقَّة الباردة البرَّاقة. وقفَ رايدر يُحملق بوجهٍ مُتوتِّر، وكان مُتردِّدًا هل يُطالب بها أم يتبرَّأ منها.

قال هولمز بهدوء: «لقد انتهتِ اللعبة يا رايدر. تماسَكْ يا رجل وإلا ستقع في النار! ساعِدْه ليعود إلى كرسيه مرةً أخرى يا واطسون. إنه لا يمتلك الشجاعة الكافية ليرتكِب جنايةً دون أن يُعاقَبَ عليها. أعطِهِ القليل من البراندي. حسنًا، يبدو أنَّ القليل من الدماء قد سرتْ في عروقه الآن. يا لكَ من شخصٍ ضعيف!»

ترنَّح رايدر للحظة وكاد أن يسقُط، ولكن أعاد البراندي القليل من الحيوية إلى وَجنتَيه، وجلس يُحدِّق بعينَين خائفتَين في الشخص الذي يُوجِّه له الاتهام.

«لديَّ جميع الخيوط في يدي تقريبًا، وجميع الأدلَّة التي قد أحتاجها؛ لذا ليس هناك سوى القليل من الأشياء التي تحتاج إلى أن تخبرني بها. وعلى الرغم من ذلك، نحتاج لاستيضاح هذا القليل لنستكمل القضية. لقد سمعتَ يا رايدر، عن جوهرة الكونتيسة موركار الزرقاء، أليس كذلك؟»

أجاب بصوتٍ مُتحشرِج: «لقد كانت كاثرين كيوساك هي من أَخبرتْني عنها.»

«أجل، خادمة الكونتيسة. حسنًا، لقد كان يصعُب عليك مقاومةُ إغراءِ تحقيقِ ثراءٍ سريع بكلِّ سهولة، كما كان الحال من قبلُ مع رجالٍ آخرينَ أفضلَ منك، ولكنك لم تكن دقيقًا في استغلال الوسائل التي استخدمتَها. يبدو لي يا سيد رايدر أنه ينمو بداخلك جانبٌ شِرِّير بحق؛ فقد كنتَ تعرف أن هذا الرجل، السبَّاك هورنر، قد تورَّط في أمرٍ مُماثل من قبل، وأن أصابع الاتهام ستُوجَّه إليه بلا شك. ما الذي فعلتَه إذن؟ لقد افتعلتَ مشكلةً صغيرة في غرفة الكونتيسة أنت وشريكتك كيوساك، ونجحتَ في أن يكون هورنر هو من يُرسَل لإصلاح هذه المشكلة. وعندما غادر، سرقتَ عُلبة الحُلي وأعلنتَ عن السرقة وتسبَّبتَ في القبض على هذا الرجل المسكين. وبعد ذلك …»

ألقى رايدر نفسه فجأةً على السجادة وأمسك بركبتَي هولمز وصرخ قائلًا: «ارحمْني، أرجوك! فكِّر في أبي وفي أمي! سيَفطُر هذا قلبهما. لم أحِدْ عن الطريق الصواب من قبل! ولن أحيدَ عنه بعد ذلك أبدًا، أُقسم على ذلك! أحلِف بالكتاب المقدَّس أنني لن أفعل ذلك. أوه، لا تُحِلِ الأمر إلى القضاء! بحقِّ الربِّ لا تفعل!»

قال هولمز بصرامة: «عُد إلى كرسيك! إنه الوقت المناسب لتتذلَّل وتركع، ولكنك لم تُفكِّر كثيرًا في هورنر المسكين الذي يقبَعُ خلف قفصِ الاتهام لجريمةٍ لا يعرف شيئًا عنها.»

«سأهرُب يا سيد هولمز. سأُغادر البلد يا سيدي. عندئذٍ، ستسقُط التهمة الموجَّهة ضدَّه.»

«هممم! سنتحدَّث عن ذلك، والآن لتُخبرنا بالقصَّة الحقيقية لما حدَث بعد ذلك. كيف وصلتِ الجوهرة إلى داخلِ حوصلة الإوزَّة؟ وكيف وصلتِ الإوزَّة إلى السوق؟ أخبرْنا بالحقيقة؛ إذ إنها أمَلُكَ الوحيدُ في النجاة.»

مرَّر رايدر لِسانه على شفتَيه الجافَّتَين وقال: «سأحكي الأمر تمامًا كما حدث يا سيدي: عندما اعتُقِلَ هورنر، بدا لي أنه من الأفضل لي أن أهرُب بالجوهرة على الفور؛ لأنني لم أكن أعرِف في أي لحظةٍ ستُقرِّر الشرطة أن تُفتِّشني وتفتِّش غرفتي. لم يكن هناك أي مكانٍ آمِنٍ في الفندق؛ لذا خرجتُ، كما لو كنتُ في مُهمَّةٍ ما، وتوجهتُ لمنزل أختي. كانت قد تزوَّجَت من رجلٍ يُدعى أوكشوت وكانت تعيش في طريق بريكستون حيث كانت تقوم بتسمين الطيور لبيعها في السوق. وطَوالَ طريقي إلى منزلها، بدا لي وكأن كلَّ رجلٍ قابلتُه كان شرطيًّا أو مُحققًا، وبالرغم من أنها كانت ليلةً باردة، فقد كُنت أتصبَّب عرقًا قبل أن أصِل إلى طريق بريكستون. سألَتني أختي ما الخطبُ وأَرادَت أن تعرف سبب شحوبي، ولكنَّني أخبرتها أنني كنتُ أشعُر بالضِّيق من واقعةِ سرقةِ الجوهرة بالفندق. بعد ذلك، ذهبتُ إلى الفِناء الخلفي ودخَّنتُ غليونًا وفكرتُ فيما يمكن أن يُعد التصرُّف الأفضل.

فيما مضى كان لي صديق يُدعى مودزلي، وهو الذي سلك طريق السوء، وحُكم عليه وقضى مدة عقوبته في سجن بينتونفيل. قابلني في أحد الأيام بعد أن خرج من السجن، وتحدَّث عن حِيل اللصوص وكيف ينجحون في التخلُّص مما سرقوه. كنتُ أعلم أنه سيكون صادِقًا معي؛ لأنني كنتُ أعرف عنه بعض المعلومات؛ لذا قررتُ أن أتوجَّه مباشرةً إلى كيلبيرن حيث يسكن، وأن أُطلِعه على أمري. كان سيُعلِّمني كيف يمكنني تحويلُ الحجَر الكريم إلى مال، ولكن كيف يمكنني أن أصل إليه بأمان؟ فكرتُ في المعاناة التي مررتُ بها منذ خروجي من الفندق وفي أنهم قد يُوقفونَني في أي لحظة ويفتِّشونني ويجدون الجوهرة في جيب صدريتي. كنتُ أَستنِد على الحائط في ذلك الوقت وأنظُر إلى الإوزِّ الذي كان يتجوَّل حول قدَمي، وفجأة، واتتْني فكرةٌ ظننتُ أنني من خلالها يمكنني التغلُّب على أفضلِ المحقِّقين على الإطلاق.

أخبرتْني أختي قبل بضعةِ أسابيع أنني يُمكنني اختيار إوزَّة من إوزِّها كهدية عيد الميلاد، وكنتُ أعرف أنها تُوَفِّي بوعودها دائمًا. كنتُ سآخُذ إوزَّتي الآن وأضع فيها الجوهرة واتَّجه إلى كيلبيرن. كانت تُوجَد حظيرةٌ صغيرة في الفناء، ومن الجزء الخلفي منها، سُقْتُ إحدى الإوز، وكانت إوزَّةً كبيرة بيضاء ذات ذيلٍ مُخطّط. أمسكتُ بها وفتحتُ مِنقارها ودسَسْتُ الجوهرة أسفل حلقِها إلى أبعد نقطة تَمكَّن إصبعي من الوصول إليها. ابتلَعتِ الإوزَّة الجوهرة وشعرتُ بها وهي تهبط بطولِ حلقِها وتستقرُّ في حوصلتها، ولكنها ظلَّت تُرفرف وتُقاوم، فخرجَتْ أختي لترى ما الخطب. وبينما كنتُ أستدير لأتحدَّث إليها، أفلتتِ الإوزَّة من يدي ورفرفَتْ وانضمَّتْ إلى باقي الإوز.

سألتْني أختي قائلة: «ما الذي كنتَ تفعله بهذه الإوزَّة يا جيم؟»

قلت: «حسنًا، لقد قلتِ إنكِ ستُعطينني واحدةً كهديةِ عيد الميلاد، وكنتُ أنظُر أيُّها أسمن.»

قالت: «أوه، لقد خصَّصنا إوزة لك؛ إوزة جيم، هكذا نُسمِّيها. إنها البيضاء الكبيرة هناك. يُوجَد ستةٌ وعشرون منها؛ واحدةٌ لك، وواحدةٌ لنا، ودرزينتان للسُّوق.»

قلت: «شكرًا لكِ يا ماجي، ولكن بما أن الأمر سيانِ بالنسبة إليكِ، فأنا أُفضِّل الحصول على الإوزَّة التي كنتُ أُمسِكها للتو.»

قالت: «الأخرى أثقَلُ ثلاثة أرطال، لقد سَمَّنَّاها أكثر من أجلك.»

قلت: «لا يهم، سآخُذ الأخرى، وسآخُذها الآن.»

قالت بشيءٍ من الحنَق: «أوه، كما تحب. أي إوزَّة تُريد إذن؟»

«البيضاء هذه ذات الذيل المُخطَّط، التي تُوجَد في وسط السِّرب تمامًا.»

«أوه، حسنًا. اذبحْها وخُذها معك.»

حسنًا، لقد فعلتُ كما قالت يا سيد هولمز، وحملتُ الإوزَّة معي إلى كيلبيرن. أخبرتُ رفيقي بما فعلتُه؛ فقد كان من السهل أن أُخبر رجلًا مثله بشيءٍ كهذا، فضحِك حتى كاد أن يختنِق، وأحضرْنا سكينًا وشققْنا الإوزَّة. ولكني فَزِعتُ عندما لم أجد أيَّ أثرٍ للجوهرة، وأدركتُ أن خطأً فادحًا قد وقع. فتركتُ الإوزَّة وعُدتُ إلى أختي وهُرِعْتُ إلى الفناء الخلفي، ولكنني لم أجد إوزةً واحدة هناك.

صحتُ قائلًا: «أين الإوزُّ يا ماجي؟»

«لقد بعناه إلى التاجر يا جيم.»

«أيُّ تاجر؟»

«بريكينريدج، في كوفينت جاردن.»

سألتُها: «ولكن هل كانت تُوجَد إوزَّةٌ أخرى لها ذيلٌ مُخطَّط تمامًا كالإوزَّة التي اخترتُها؟»

«أجل يا جيم، كانت تُوجَد إوزَّتانِ ذواتا ذَيلَين مُخطَّطين، ولم أتمكَّن قَطُّ من التفرقة بينهما.»

حسنًا، بالطبع فهمتُ ما حدَث، وركضتُ بأسرعِ ما يمكن لقدَمي تَحمُّله إلى هذا الرجل الذي يُدعى بريكينريدج، ولكنه كان قد باع الإوزَّ كله جملةً واحدة، ورفض أن يُخبرني ولو كلمةً واحدة عمَّن اشتراه. لقد سَمِعتُماه بأنفُسِكما الليلة، لقد كان دائمًا ما يُجيبني على هذا النحو. تعتقد أختي أنني سأُصاب بالجنون، وأحيانًا أعتقد أنا نفسي ذلك. والآن، والآن فقد أصبحتُ مَوصومًا بالسرقة دون أن تمسَّ يداي حتى الثروةَ التي بِعتُ مُقابلَها سُمعَتي. ليُساعدني الرَّب! ليُساعدني الرَّب!» وانفجر في نوبةِ بكاءٍ مُتشنِّج ووجهُه مدفون بين يدَيه.

عمَّ الصمتُ طويلًا، ولم يكسِره سوى صوتِ تنفُّسه الثقيل والنقْر المنتظِم لأطراف أصابع هولمز على حافةِ الطاوِلة، ثم نهض هولمز وفتح الباب وقال: «اخرج!»

«ماذا! يا سيدي! أوه، فليُباركك الرَّب!»

«كفاك كلامًا. اخرج!»

وبالفعل لم يكن هناك حاجةٌ للمزيد من الكلام. هُرع رايدر مُندفعًا، وسُمِع صوت جلَبة على السُلَّم وصفقة بابٍ وصوتُ وقْعِ أقدامٍ تجري في الشارع.

قال هولمز وهو يمدُّ يدَه ليُحضر غليونه المصنوع من الفخَّار: «على أيِّ حالٍ يا واطسون، لم تُوكِّلني الشرطة لأسُدَّ أوجُهَ القصور لدَيها. لو كان هورنر في خطر، لأصبح الوضع مختلفًا، ولكن هذا الرجل لن يشهد ضدَّه، وستنهار القضية. أعتقِد أنني أُخفِّف العقوبة في إحدى الجنايات، ولكني بذلك قد أُنقذ رُوحًا من الهلاك. لن يرتكب هذا الرجل أيَّ خطأٍ آخر؛ فهو مُرتعبٌ للغاية. إذا دخل السجن الآن، فسيُصبح مجرمًا مدى الحياة. وإلى جانبِ ذلك، فهذا الموسم هو موسم المغفرة. لقد وضعَتِ الصدفة في طريقنا قضيةً غريبة وفريدة من نوعها، وحلُّها هو جائزتها. لو تفضَّلتَ بقرْع الجرس يا واطسون، فسنبدأ تحقيقًا آخرَ سيلعب فيه طائرٌ أيضًا دورًا أساسيًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤