وادي العناكب

قُرْب منتصف النهار، وصل المطارِدون الثلاثة بغتةً إلى منعطف في قاعِ مجرًى مائي يطل على وادٍ رَحْب وشاسع للغاية. كان الحصى الخشن والملتوي في قاع المجرى الذي سلكوه أثناء تعقُّب أثر الهاربين؛ يمتد ليصل إلى منحدر عريض، حيث توقَّفوا جميعًا عن تعقُّب الأثر، ثم امتطَوْا جِيادهم حتى وصلوا إلى ربوة صغيرة ذات أشجار خضراء داكنة، وهناك توقَّفَ ثلاثتهم مجددًا؛ صاحب اللجام المُرصَّع بالفِضة، ويليه الرجلان الآخَران.

ظلوا لبعض الوقت يعاينون بعيون متلهفة المساحةَ الفسيحة الممتدة أسفلَ منهم. كانت الأرض الجرداء تمتد لمسافات شاسعة جدًّا، وتخلو إلا من بعضِ الشجيرات الشائكة اليابسة المتناثرة هنا وهناك، والآثارِ الباهتة لمجرًى — صار الآن جافًّا من المياه — يخترق وسط الأرض المقفرة بالحشائش المصفرَّة الجافَّة. تنصهر المساحات الأرجوانية في النهاية مع المنحدرات ذات اللون الضارب إلى الزُّرقة للتلال الممتدة بعيدًا — تلال قد تكون أكثر اخضرارًا نوعًا ما — ومن فوقها بزغت قممُ الجبال التي تكسوها الثلوج، والتي تبدو وكأنها معلَّقة في زُرقة الفضاء، وتمتد لمسافة أوسع وأكثر انحدرًا جهةَ الشمال الغربي؛ حيث تجتمع أطراف الوادي. وفي اتجاه الغرب، يتَّسع الوادي حتى الأطراف المعْتِمة المترامية تحت السماء؛ حيث تبدأ الغابات. غير أن الرجال الثلاثة لم يولُّوا وجوهَهم شَطر الشرق أو الغرب، وإنما وجَّهوا أنظارهم بثباتٍ نحوَ الوادي.

كان الرجل النحيف ذو الشَّفة المجروحة أولَ مَن تكلم؛ فقال متنهدًا بنبرة تكسوها خيبةُ الأمل: «لا أثرَ لهم في أي مكان، ولكنهم على أي حالٍ كانوا يسبقوننا بمسيرة يوم كامل.»

أضاف الرجل القصير من فوق حصانه الأبيض: «إنهم لا يدركون أننا نتعقَّبهم.»

ردَّ القائد بمرارة كما لو كان يكلِّم نفسه: «هي كانت لتعرف.»

– «حتى إنْ عرفت، لا يمكنهم الإسراع؛ إنهم لا يمتطون أيَّ دوابَّ باستثناء البغل، كما أن قدم الفتاة ظلت تنزف طوالَ اليوم …»

رمقه صاحب اللجام المرصَّع بالفِضة في حدَّة بنظرةٍ غاضبة خاطفة، ثم زمجر في غضب قائلًا: «أتظن أنني لم ألحظ ذلك؟»

همس القصير بينه وبين نفسه قائلًا: «هذا من شأنه أن يساعد على أي حال.»

حدَّق النحيف ذو الشفة المجروحة بلا مبالاة، ثم أردف قائلًا: «مستحيل أن يكونوا قد اجتازوا الوادي. إذا ما أسرعنا العَدْو بالخيل …»

ثم رمق الحصان الأبيض بنظرة خاطفة وصمت.

قال صاحب اللجام المرصَّع بالفِضة: «اللعنة على الخيول البيضاء جمعاء!» ثم أخذ يتفحَّص الجواد الذي شملته اللعنة.

نظر القصير إلى أسفل فيما بين أذنَيْ حصانه المنقبضتين.

ثم قال معلِّقًا: «لقد بذلتُ قُصارَى جهدي.»

حدَّق الآخران مرةً أخرى عبر الوادي لبعض الوقت، بينما مرَّر النحيف ظهرَ يده فوق الشفَة المجروحة.

فجأةً قال صاحب اللجام الفِضي: «تعالَيا!» تحرَّك القصير وهز لجامه، ووطِئتْ حوافر الخيول الثلاثة بخفةٍ الحشائشَ الذابلة بعددٍ لا يُحصى من الخطوات، بينما كانوا في طريق العودة نحو الأثر …

سلكوا في حذرٍ المنحدرَ الطويل الممتد أمامهم، ومروا على رقعة قاحلة من الشجيرات الشائكة والمتشابكة والأشكال الجافة العجيبة للأغصان المدبَّبة التي تنمو بين الصخور، متَّجهين نحو السهل في الأسفل. وهناك كان الأثر يتضاءل؛ حيث إن التراب كان شحيحًا، وكان العشب الوحيد الموجود في هذه المنطقة هو ذلك القش اليابس المحروق الذي يفترش الأرض. ولكن عن طريق المعاينة المتفحصة عن كثب، والانحناء على رقاب الخيول والتوقُّف من آنٍ لآخَر، استطاع هؤلاء الرجال البيض تدبُّرَ الوسائل لتعقُّب أثر فريستهم.

ظهرت أماكنُ وطئَتْها أقدامٌ من قبل، وحشائش خشنة ذات أطراف ملتوية ومدهوسة، وآثارٌ كافية للأقدام تتَّضح من آنٍ لآخَر. رأى القائد لطخة دماء بُنية اللون؛ حيث مرت على الأرجح الفتاة المختلطة العِرق، فنعتَها بالغبِيَّة بصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد.

تفقَّدَ النحيف أثر قائده، بينما امتطى الرجل القصير الحصان الأبيض من ورائه هائمًا، وكأنه غارق في حلم. امتطَوْا جِيادهم وساروا واحدًا تلو الآخَر، يتصدَّرهم صاحب اللجام الفِضي، ولم ينبِس أيٌّ منهم بكلمة قَطُّ. وبمرور بعض الوقت، بدا للرجل القصير الذي يمتطي الحصان الأبيض أن الدنيا يخيِّم عليها السكون التام. استغرق في حُلمه أكثر. وباستثناء الضجيج الخفيض لجيادهم وصوت معداتهم، غمر الواديَ الشاسعَ بأكمله هدوءٌ مقلق وكأنه لوحة مرسومة.

سار أمامَه سيده ورفيقه، كلٌّ منهما يميل إلى الأمام ناحية اليسار بحرص شديد، وأمامَهما تحرَّكت ظلالُهما صامتة، ترافقهما في أشكال مستدَقَّة الطرَف، بلا ضجيج، وعلى مقربة أكثر كان ظله جاثمًا. نظر من حوله في مختلف الاتجاهات؛ يوجد شيء لا يدري ما هو. تذكَّرَ الصدى المتردد من ضفاف الوادي، والحركةَ المستمرة المصاحبة لتدافُع الحصى وتحوُّل مساره. وفوق ذلك، لم تهبَّ أي نسمة هواء على الإطلاق. كان هذا كل ما في الأمر! يا له من مكان شاسع وهادئ؛ وكأنه يغطُّ في قيلولة الظهيرة المضجِرة! كانت السماء مفتوحة وصافية، باستثناء سِتار رقيق داكن من الضباب بدأ يتجمع أعلى الوادي.

فرد ظهره باستقامة، وحرَّك لجام حصانه في عصبية، ومدَّ شفتيه ليطلق صفيرًا؛ فخرجت منهما تنهيدة. استدار على سرج حصانه لبرهة من الوقت، وحدَّق في دهاليز الجبل وممراته الضيقة التي خرجوا منها؛ فلم يجد شيئًا سوى الفراغ! كانت المنحدرات على كلا الجانبين فارغة بلا أدنى إشارة إلى وجود حيوان من أي نوع أو شجرة حتى، فضلًا عن وجود إنسان بالطبع. أيُّ أرض هذه؟! يا لها من أرض مقفرة! ثم عاد إلى وضعه السابق مرة أخرى.

شعر بسرور لحظي عندما رأى ثعبانًا على هيئة عصًا ملتوية ذات لون أرجواني داكن، يبرز فجأةً ويختفى وسط الحشائش اليابسة؛ فعلى أي حال، ثَمة حياة في هذا الوادي اللعين! وما زاد بهجته أكثر نسمةُ هواء واهنة هبَّت على وجهه وكأنها همسة عابرة، وانحدارٌ بسيط جدًّا لشجيرة يابسة ذات شعاب سوداء اللون فوق تلة صغيرة، ولمحاتٌ أولية تنمُّ عن احتمالية هبوب نسيم. بلَّلَ إصبعه بكسل، ورفعه لأعلى.

ثم توقَّف بسرعة ليتفادى الاصطدام بالنحيف، الذي توقَّف بارتباك عند الأثر. وفي تلك اللحظة المربكة، لاحَظَ أن سيده ينظر إليه.

ولبُرهة من الوقت، تصنَّعَ الاهتمام بالأثر. وبينما كانوا يواصلون طريقهم مرة أخرى على صهوات جِيادهم، تأمَّلَ ظلَّ سيده وقبعته وكتفه وهو يظهر ويختفي وراء منحنيات جسد الرجل النحيف الذي كان على مسافة أقرب. كانوا قد قطعوا مسيرة أربعة أيام على صهوات جِيادهم، تاركين خلفهم حدود عالمهم المألوف، متجهين إلى هذا المكان الموحِش، يفتقرون إلى الماء، ومن دون مؤن غذائية سوى شريحة لحم مجفف مختزنة أسفل سروجهم، ليقطعوا تلك الصخور والجبال التي لم يطأها أحد مطلقًا قبل هؤلاء الهاربين.

كل هذا من أجل فتاة، مجرد طفلة عنيدة! ولدى الرجل مدينةٌ كاملة بأُناسها؛ فتياتها ونسائها، ليمارس أحقر نزواته فيها! لماذا هذه الفتاة تحديدًا بدافعٍ من حماقة مشبوبة؟ هكذا تساءل القصير في نفسه، ثم اكفهرَّ وجهه ولعق شفتيه الجافتين بلسان مُسْودٍّ. كان هذا اختيار سيده، وهذا كل ما يعرفه. السبب هو أنها سعت إلى الفرار منه …

لفت انتباهَه صفٌّ كامل من أعواد الخَيْزُران الطويلة ينحني في تناغُم، ثم خفقت أطراف الوشاح الحريري الملتف حول رقبته، وطار الوشاح ليسقط أرضًا. كان النسيم يشتد أكثر وأكثر نازعًا ذلك السكون الخانق المخيم على الأجواء؛ ولا بأسَ بهذا.

قال النحيف: «مرحَى!»

توقَّف ثلاثتهم بغتةً.

تساءل السيد قائلًا: «ماذا هناك؟ ماذا؟»

قال النحيف وهو يشير إلى أعلى الوادي: «هناك!»

– «ماذا؟»

– «ثَمة شيء قادم نحوَنا!»

وبينما كان يتحدث، اعتلى حيوان أصفر اللون هَضْبةً وهبط في اتجاههم. كان كلبًا بريًّا ضخمًا قادمًا يسابق الرياح بخطًى ثابتة، وقد تدلَّى لسانه خارج فمه. كان يركض بعزم شديد، وكأن هدفًا منتصبًا أمام ناظرَيْه، حتى بدا أنه لا يرى الفرسان الذين يقترب منهم. كان يركض وأنفه مرتفع لأعلى، وكان من الواضح أنه لا يتتبَّع رائحةً ولا طريدة. وحينما اقترب منهم أكثر، تحسَّسَ القصير سيفه، وهتف النحيف: «إنه مسعور.»

«اصرخا!» قالها الرجل القصير ثم صرخ.

ظل الكلب يتقدَّم، وحين استلَّ القصير سيفه بالفعل، انحرف الكلب ومر لاهثًا من جانبهم واجتازهم. تتبَّعت عينا الرجل القصير فراره، وقال: «لم يكن يوجد على فمه زَبَد.» تطلَّعَ صاحب اللجام المرصَّع بالفِضة نحو الوادي لبعض الوقت، ثم صاح أخيرًا: «هيا بنا! هذا لا يهم.» ثم نخس حصانه ليتحرك مرةً أخرى.

صرف القصير ذهنه عن لغز الكلب الذي بدا أنه لا يلوذ بالفرار إلا من الريح، واستغرق عوضًا عن ذلك في التفكير العميق في طباع البشر. «هيا بنَا!» همس في سره، وتتابعت أفكاره قائلًا لنفسه: «لماذا يحق لرجل واحد أن يقرِّر ويقول «هيا بنَا!» بهذا الحزم الهائل؟ لطالما كان صاحب اللجام الفضي يقولها على مدار حياته. لو أنني قلتها …!» ولكن الناس يتعجبون حين يُعصَى السيد حتى في أكثر الأوامر جموحًا. وقد بَدَت هذه الفتاة المختلطة العِرْق بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى الجميع كذلك، مخبولةً، أو لعلها كافرة. ومن باب المقارنة، فكَّرَ القصير مَليًّا في الفارس النحيف ذي الشَّفَة المجروحة؛ فهو جَسور مثل سيده، وشجاع بالطبع، بل ربما أكثر شجاعة منه، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ مِن طبعه الطاعة، لا شيء سوى الطاعة الكاملة والصارمة …

قطع استغراقَ الرجل القصير في الأفكار وأعاده مرةً أخرى إلى أمورٍ أكثر إلحاحًا؛ شعورُه الأكيد بتحرُّكات على يديه وركبتيه. سار بجَوَاده إلى جوار زميله النحيف، وقال له بصوت خفيض: «هل لاحظتَ الخيول؟»

نظر إليه النحيف مستفهمًا.

«لا تروق لها هذه الريح.» قالها الرجل القصير، وكان قد تخلَّف عن الرَّكْب، في حين كان صاحب اللجام الفِضي يلتفت إليه.

قال ذو الوجه النحيف: «لا بأس.»

واصَلوا مسيرتهم لبعض الوقت في صمت. تتبَّعَ الرجلان المتقدِّمان في سيرهما الأثرَ مثبتَيْن أعينهما أسفل منهما، بينما راقَبَ الرجل المتأخر عن الرَّكْب الضبابَ الرقيق الذي زحف على الوادي الفسيح رويدًا رويدًا، ولاحظ كيف تشتدُّ الريح لحظةً بلحظة. وناحيةَ أقصى اليسار رأى خطًّا من كتل ضخمة داكنة اللون؛ ربما كانت خنازير تعدو بسرعة عبر الوادي، إلا أنه لم ينبِس ببِنْت شَفَة ولم يعلِّق على اضطراب الخيول.

ثم رأى أولَ كُرة آتية صَوْبه، وبعد ذلك تبعتها كرة ثانية ضخمة بيضاء اللون؛ كرةٌ ضخمة لامعة بيضاء، وكأنها رأس ضخم من زغب النباتات الشائكة، تَسُوقها الريح بعُرْض الطريق. حلَّقت هذه الكرات عاليًا في الهواء، وهبطت وارتفعت مرةً أخرى، واستغرقت دقيقة، ثم مرت سريعًا واجتازتهم؛ ولكنْ ما إنْ رأتها الخيول حتى زاد اضطرابها.

وفي الحال رأى المزيدَ من هذه الكرات الطائرة — التي سرعان ما جاء منها المزيد والمزيد — تُسرِع نحوه عبر الوادي.

لفت انتباهَهم صوتٌ حادٌّ قصير، وعبرَ الطريق جاء خنزير بري ضخم مسرعًا، مستديرًا برأسه لوهلة ليُلقِيَ نظرة عليهم، ثم اندفع في عُجالةٍ عبر الوادي مرةً أخرى. وعند هذه النقطة توقَّفَ ثلاثتُهم، وبقُوا على سروج خيولهم، يُحَملقون في الضباب الكثيف الذي كان يحلُّ عليهم.

قال القائد: «لولا هذا الزَّغَب من النباتات الشائكة …!»

لكنْ في تلك اللحظة اندفعت نحوَهم كرةٌ كبيرة متطايرة على بُعْد ياردات عديدة. لم تكن واضحةَ المعالم على الإطلاق، بل كانت شيئًا ضخمًا أملسَ ومهلهلًا ورقيقًا — وكأنها مُلاءة كُوِّرت دون ترتيب، أو قِنديل بحر هوائي، إنْ جاز التعبير، يتكوَّر على نفسه أكثر فأكثر — ومع مضيِّها قُدمًا، خلَّفت من ورائها خيوطًا عنكبوتية وشرائطَ طويلة تطفو في الهواء.

قال القصير: «هذا ليس زَغبًا من النباتات الشائكة.»

رد النحيف قائلًا: «لا يعجبني الأمر.»

ثم رمق كلٌّ منهما الآخَر.

صاح القائد قائلًا: «اللعنة! إن الأجواء معبَّأة بها، ولو حافظت على هذه الوتيرة لفترة طويلة، فلسوف تعرقلنا تمامًا عن المسير.»

حثَّهم شعور غريزي — كذلك الذي ينتاب قطيعًا من الغزلان يقترب منه شيء مبهم — على أن يستديروا بخيولهم في اتجاه الرياح، ويسيروا بالرَّكب لبضع خطوات ويحدِّقوا في حشود الكتل الهائمة في الهواء والقادمة نحوهم. لقد حملتها الرياح بسرعة وسلاسة، لترتفع وتهبط بلا ضجيج، وتغوص في الأرض، ثم ترتد لأعلى مرةً أخرى وتحلق عاليًا؛ كل هذا في حركة واحدة متقَنة، وبثبات محكم وهدوء تام.

مرت طلائع هذا الجيش العجيب عن يمين الفرسان الثلاثة ويسارهم. ارتعدت الخيول الثلاثة جميعها وهاجت بسبب واحدة من الكرات التي تدحرجت على الأرض لتتفكَّك في شكلٍ غير محدد وتنتشر على هيئة أشرطة وأطواق طويلة متشابكة. سيطرت على السيد نوبةٌ مفاجئة ومبالَغ فيها من نفاد الصبر، وأخذ يلعن صراحةً الكراتِ الهائمةَ من حوله. صاح قائلًا: «هَلُمَّا! هَلُمَّا! ما أهمية هذه الأشياء؟ إنها بلا أهمية. هيا عودا إلى تتبُّع الأثر!» ثم أخذ يسبُّ ويلعن حصانه، وجذب الشكيمة في حركة حادة عبر فم الحصان.

صاح بصوت جَهْوَرِي حانق: «سأقتفي أنا ذلك الأثر، أؤكد لكما على ذلك، ولكنْ أين هو الأثر؟»

أمسَكَ السيد بلجام حصانه الجامح، وأخذ يبحث وسط الحشائش، وفجأةً هبط على وجهه خيطٌ طويل لَزِج بينما سقط شريط رَمادي اللون على مِقْوَد الفرس، ثم شعر بجسم كبير وسريع الحركة ذي أرجل عديدة يجري على مؤخرة رأسه. رفع بصره ليكتشف أنَّ واحدة من تلك الكتل الرَّمادية مثبتةٌ فوقه، وتنشر أطرافَها وكأنها مركب شراعي ينشر أشرعته ليغيِّر اتجاهه، ولكنْ في صمت تام.

انتابه شعور بأن عيونًا كثيرة تترصده، وبأن مجموعة كبيرة من أجسام جاثمة ومن أطراف طويلة متعددة المفاصل تجذب حبالًا تتصل بجسم غامض يرغب في الهبوط فوقه. حملق لأعلى برهةً كابحًا زِمام فرسه الهائج بغريزة فطرية اكتسبها من سنوات طويلة في ممارسة الفروسية؛ حينئذٍ اصطدم جانبُ سيفٍ بظهره، ولمع نصلٌ فوق رأسه، ومزَّق بالونًا هائمًا من خيوط شبكة العنكبوت؛ فارتفعت الكتلة بأكملها بخفة، واندفعت بعيدًا بسرعة.

صاح النحيف قائلًا: «عناكب! الكتل تمتلئ بعناكب ضخمة! انظرْ يا سيدي!»

تابَعَ صاحب اللجام المرصَّع بالفضة الكتلَ المندفعة سريعًا.

– «انظرْ يا سيدي!»

وجد السيد نفسه يحدِّق في كتلةٍ مسحوقةٍ حمراء اللون على الأرض، لا تزال قادرةً — بالرغم من تمزُّقها — على تحريك أرجلٍ لا نفع منها الآن. وعندما أشار الرجل النحيف نحو كتلة أخرى تندفع ناحيتهم، استلَّ سيفَه بسرعة، في الوقت الذي تجمَّعَ فيه أعلى الوادي ستارٌ ضبابيٌّ وكأنه أقمشة بالية ممزَّقة. حاوَلَ أن يستوعب الموقف.

بينما أخذ القصير يصيح قائلًا: «هَلُمَّا إلى هناك! هَلُمَّا إلى هناك عبر الوادي!»

ما حدث بعد ذلك كان أشبه بمعركة فوضوية؛ رأى صاحبُ اللجام الفِضي الرجلَ القصير وهو يمر من جانبه يمزِّق بشراسة نسيجَ عنكبوت وهمي، ورآه وهو يصطدم بحصان النحيف، ويطرحه هو وراكبه أرضًا. وركض حصانه هو نفسه عدة خطوات قبل أن يتمكَّن من كبح جماحه. نظَرَ لأعلى ليتفادى مخاطر متصوَّرة لا وجودَ لها حقًّا، ثم عاد مرةً أخرى ليرى الحصان يتقلَّب على الأرض، والرجل النحيف يقف ويمزِّق من فوق الحصان بضربةٍ من سيفه كتلةً رَمادية طائرة تتدفق وتلتفُّ حولهما معًا. كانت كتلُ النسيج العنكبوتي تندفع مثل زَغَب كثيف وسريع من النباتات الشائكة فوق أرض مُقفِرة في يوم عاصف من شهر يوليو.

نزل القصير عن حصانه، لكنه لم يجرؤ على إطلاق سراحه. كان يحاول جاهدًا سحب الحصان — الذي يتقدَّم بصعوبة — مستخدِمًا ذراعًا واحدة، وبالذراع الأخرى يضرب بقوة بالسيف عشوائيًّا. اشتبك في معركة مع مجاسِّ الكتلة الرمادية الثانية، حتى تقهقرت عائدة.

جزَّ السيد على أسنانه، وجذب اللجام، وخفض رأسه، ونَخس حصانه ليتقدَّم إلى الأمام. وتقلَّبَ الحصان الساقط على الأرض؛ حيث توجد دماء وأشكال متحركة على جانبَيِ التلال، وفجأةً تركه النحيف، وركض نحوَ سيده. ربما قطع عشر خطوات، لكن الخيوط الرمادية التفَّتْ حول ساقيه وعرقلَتْه؛ فأخذ يلوِّح بسيفه بحركات لم تكن لها جدوى. تموَّجت أشرطة رمادية اللون من حوله، وغطَّى وجهَه ستارٌ رقيق رمادي، وبيده اليسرى أخذ يضرب شيئًا على جسده، وفجأةً تعثَّر وسقط. جاهَدَ ليقف على قدمَيْه فسقط مرةً أخرى، وفجأةً بدأ يصرخ صراخًا مروِّعًا.

كان بوُسع السيد رؤية عناكب ضخمة فوق الرجل، وعناكب أخرى على الأرض أيضًا.

وبينما كان يجاهد ليُرغِم جواده على الاقتراب أكثر من هذا الجسم الرمادي الذي يتلوَّى ويصرخ وينازع في حركة صاعدة وهابطة، سمع صوت قعقعة الحوافر، ولمح القصيرَ بينما كان يحاول امتطاء صهوة جواده الأبيض مُمسِكًا بمَعْرَفته، وقد فقد سيفه، ثم لاذ بالفرار بسرعه خاطفة. ومرةً أخرى، التفَّ خيط لَزِج رمادي اللون من شِباك العنكبوت على وجه السيد. ومن حوله، ومن فوقه، بَدَا أن هذه الشبَكة من نسيج العنكبوت الهائمة والصامتة تلتفُّ حوله وتقترب منه …

لم يعرف مطلقًا إلى يوم وفاته كيف حدثت تلك الواقعة، وما حدث في هذه اللحظة تحديدًا؛ هل غيَّرَ اتجاه جواده، أم أن الجواد اندفع خلف رفيقه من تلقاء نفسه؟ يكفي القول بأنه في اللحظة التالية أخذ يَعْدو بالجواد بكامل طاقته عبر الوادي، ملوِّحًا بسيفه في الهواء بشراسة. ومن حوله في كل مكان، وبفعل النسائم المتسارعة، بَدَا له أن شِباك نسيج العنكبوت الشبيهة بالمناطيد، وشرائطها المتطايرة، وشراشفها الهائمة في الهواء، تسرع في مطاردة واعية ومدروسة.

تردَّدت أصواتٌ ما بين قعقعةٍ ودوِيٍّ مكتوم بينما كان صاحب اللجام المُرصَّع بالفِضة يمتطي جواده، وينطلق على غير هدًى، وقد بدَت على وجهه علاماتُ الخوف، مستطلعًا الأجواءَ ناحيةَ اليمين ثم ناحيةَ اليسار، ونصلُ سيفه في وضعِ استعدادٍ للطعن. وعلى بُعْد بضع مئات من الياردات أمامَه، كان القصير يمتطي الجواد الأبيض، دون أن يستقر تمامًا على السَّرْج، وفي أعقابه يتدلى ذيلٌ من نسيج العنكبوت الممزَّق. كانت أعواد الخيزُران تنثني أمامَهما، والرياح تهبُّ بانتعاش وقوة، ومن فوق كتفه كان بإمكان السيد أن يرى شِباك العنكبوت تُسرِع لتدركه …

انصبَّ بالغُ تركيزه على الفرار من شِباك العناكب، فلم يلحظ الوَهْد الضيق القابع أمامه إلا حين تأهَّب جواده للقفز؛ حينئذٍ أدرك أنه أساء الفهم والتقدير، وأساء التدخُّل. كان مائلًا إلى الأمام متشبِّثًا برقبة حصانه، ثم استقام في جلسته وعاد إلى الوراء، ولكن بعد فوات الأوان.

لكنْ لو فاته أن يقفز في خِضَم حماسه، فإنه لم يَنْسَ بأي حال من الأحوال كيف يسقط بلا أضرار؛ وهكذا استعان بمهاراته في الفروسية بينما كان يندفع في الهواء، وبالفعل سقط بلا إصابةٍ سوى كدمة في كتفه، في حين تدحرج فرسه على الأرض ليرفس في الهواء بسيقان متشنجة، ثم رقد في سكون تام. إلا أن طرَف نصل سيف السيد شقَّ طريقه عبرَ التربة الصُّلبة وتكسَّرَ عبرَها، كما لو أن القَدَر يرفض أن يحتفظ بلقب فارس لوقت أطول، وأفلَتَ وجهه من الاصطدام بطرَف السيف المتطاير بمقدار بوصة أو نحو ذلك.

في اللحظة التالية، هبَّ واقفًا على قدميه، متفحِّصًا بأنفاس متقطعة شِباكَ العنكبوت المندفعة نحوه. فكَّرَ لدقيقة أن يركض، ثم تذكَّرَ الوهد الضيق أمامه، واستدار عائدًا ليتفادى على الفور إحدى شِباك العنكبوت المندفعة نحوه، ثم انحدر بسرعة خاطفة أسفل الجوانب الحادة للوادي مبتعدًا عن براثن العاصفة.

وخلف ساترٍ قوامُه ضفاف متحدرة لجدول جاف، جثم متربِّصًا رحيلَ هذه الكتل الرَّمادية الغريبة، ومنتظرًا سكون الريح حيث يصير الفرار ممكنًا. ظلَّ قابعًا هناك لوقت طويل يراقب الكتل الرَّمادية الممزَّقة الغريبة تجرُّ خيوطَها عبر أفق المشاهدة الضيق المتاح له.

وفي أثناء جلوسه المترقب، سقط عنكبوت شارد في الوهد الضيق بالقرب منه — يبلغ طوله من الساق إلى الساق قدمًا كاملةً، ويبلغ حجم جسده نصف قبضة يد الإنسان — وبعد أن لاحظ لبعض الوقت سرعتَه وخفةَ حركته المذهلة في البحث والمراوغة، واستفزَّه لمهاجمة سيفه المكسور، رفع حذاءه ذا الكعب الحديدي وسحقه بشراسة. كان يسبُّ ويلعن أثناء قيامه بذلك، ولوهلة من الزمن بحث ذهابًا وإيابًا عن عنكبوت آخَر.

وحين تأكَّد تمامًا من أن أسراب العناكب هذه لا يمكنها الانزلاق إلى الوادي الضيق، عثر على مكانٍ مناسب للجلوس، وجلس مستغرقًا في تفكير عميق، وشرع في قضم أظافره وعض أطراف بَنانه، كما هي عادته. ولم يستَفِق من شروده إلا مع قدوم صاحب الحصان الأبيض.

سمع وقع خطواته قبل أن يراه بوقت طويل؛ فقد سمع قعقعة حوافر، وتعثُّر خطوات، وصوتًا مُطَمْئنًا، ثم ظهر الرجل القصير في حالة رثَّة، ولا يزال يتبعه ذيلٌ من خيوط نسيج العنكبوت في أعقابه. اقترب كلٌّ منهما من الآخَر دون أن يتبادلا الكلام أو التحية. كان القصير قد بلغ به التعب والخزي قاعَ اليأس والقنوط، وأخيرًا توقَّف وجهًا لوجه أمام سيده الجالس. جَفَل الأخير قليلًا تحت ناظرَيْ تابعه، وأخيرًا قال بنبرةٍ تخلو من أي لمحةِ تسلُّط: «ماذا؟»

– «لقد تخلَّيتَ عنه؟»

– «لقد فرَّ حصاني.»

– «أعلم، وكذلك فر حصاني أيضًا.»

ضحِك على سيده في وجوم.

قال الذي كان صاحب اللجام المرصَّع بالفِضة: «قلتُ فرَّ حصاني.»

ردَّ القصير: «كلانا جبان.»

قضم الآخَر أظافره، واستغرق في التأمل بضع لحظات وهو يثبت ناظرَيْه على تابعه.

ثم قال بعد فترة صمت طويلة: «لا تَنعتْني بالجبان!»

– «أنت جبان، مثلي تمامًا.»

– «ربما كنت جبانًا؛ لكنْ ثَمة حدودٌ على المرء أن يخاف تعدِّيها. هذا ما تعلَّمته في النهاية. ولكني لستُ مثلك، هناك فارق بيني وبينك.»

– «لم أتصوَّر قطُّ، ولو في الأحلام، أن تتخلَّى عنه؛ لقد أنقذ حياتك قبلها بدقيقتين … لماذا أنت سيدنا؟!»

قضم السيد أظافره مرةً أخرى، واكتست ملامحه بالكآبة.

ثم قال: «لا أحد ينعتني بالجبان. كلا … فارس بسيف مكسور أفضل من فارس أعزل … لا يمكنك أن تتوقَّع من حصان أبيض مصاب أن يحمل رَجُلين، في رحلة تستغرق أربعة أيام. أنا أكره الخيول البيضاء، ولكنْ لا حيلةَ في الأمر. هل بدأتَ تفهمني؟ ألاحظ أنك تعتزم — بسبب ما رأيتَه وتخيَّلتَه — تلويثَ سمعتي؛ فأمثالُك هم مَن يقضون على الملوك. وفوق ذلك، أنت لم تَرُق لي قط.»

قال القصير: «سيدي!»

قال السيد: «كلا!» وردَّدها ثانيةً: «كلا!»

نهض بحزم، بينما تحرَّك القصير. ولمدة دقيقة تقريبًا، أخذ كلٌّ منهما يحدِّق في الآخر. كانت كرات العناكب تتطاير فوق رأسَيْهما، ثم كانت حركةٌ سريعة بين الحصى وأقدام تركض وصرخة يأس ولهاث، ثم ضربة قاضية …

قُرْب حلول الليل، سكنت الريح، ثم غربت الشمس في هدوء وسكينة، وأخيرًا وصل الرجل الذي كان يمتلك فيما مضى الزمام المرصَّع بالفِضة، بحذر شديد، بالقرب من منحدر بسيط خارج الوهد الضيق مرةً أخرى، ولكنه كان يقود الجواد الأبيض الذي كان مِلكًا للقصير من قبل. لقد فكَّر في العودة إلى جواده ليستعيد لجامه المُرصَّع بالفِضة مرةً أخرى، لولا أنه خشي الليل، وخشي أن يلاحقَه هبوب الريح داخل الوادي. بالإضافة إلى ذلك، كان يكره كثيرًا فكرةَ أن يرى حصانه مُغطًّى بخيوط شبكة العنكبوت، أو ربما يراه وقد افترسته العناكب على نحوٍ بغيض.

وبينما كان يفكِّر في شِباك خيوط العنكبوت، وكلِّ المخاطر التي اجتازها، والطريقةِ التي حافَظَ بها على حياته في ذلك اليوم؛ تحسَّسَت يدُه حِرْزًا معلَّقًا حول رقبته، وربَّتَ عليه لدقيقة بامتنانٍ صادق. وبينما كان يفعل ذلك، جابت عيناه الوادي.

قال: «لقد أفقدتني العاطفة صوابي. والآن، لقد لاقَتْ ما تستحقه. هم أيضًا بلا ريب …»

وفجأةً، بعيدًا عن المنحدرات المغطاة بالأشجار الكثيفة عبر الوادي، وفي الأجواء الصافية التي تصاحب غروب الشمس، رأى بوضوحٍ لا لبسَ فيه سحابةً صغيرة من الدخَان.

عند تلك اللحظة، تحوَّلَ تعبيره عن التسليم المستكين إلى غضب ذاهل. دخَان؟! أدار رأس الحصان الأبيض في الاتجاه المعاكس، وتردَّد. وبينما كان يفعل ذلك، تحرَّكت نسائم الهواء عبر الحشائش من حوله مُصدِرة صوتًا خفيفًا، وعلى بُعْد بضعة أعواد من الخيزُران تأرجح شرشف ممزَّق من الخيوط الرَّمادية. نظر إلى شِباك العنكبوت، ثم نظر إلى الدخَان.

قال في النهاية: «ربما ليسوا هم أصحاب الدخَان، على أي حال.»

لكنْ في قرارة نفسه، لم يكن هو نفسه يصدِّق ما يقول.

وبعد أن حدَّق في الدخَان لبعض الوقت، امتطى الجواد الأبيض.

وبينما كان يقود الجواد، شقَّ طريقَه وسط كتل متشابكة من نسيج العنكبوت. ولسببٍ ما كان يوجد الكثير من العناكب النافقة على الأرض، وما بقيَ منها على قَيد الحياة كان يتغذَّى على رفاقه بشراهة. وعلى وقع صوت حوافر جواده، فرَّت العناكب هاربة.

لقد انتهى زمن خطورتها؛ فبالرغم من سُمِّيَّتها، فإن هذه العناكب لا يمكنها أن تؤذيَه — ولو بالقدر القليل — مع وجودها على سطح الأرض، وغياب الريح التي تحملها، أو الشراشف الهائمة التي تنقلها.

أخذ يضرب بحزامه العناكب التي ظنَّ أنها تقترب أكثر من اللازم، وما إنْ فرَّ عددٌ منها نحوَ مكان مقفر، حتى عزم على الترجُّل عن حصانه وسَحْقها بحذائه؛ إلا أنه تغلَّبَ على هذه النزوة. وبين الفَيْنة والأخرى، كان يستدير على سَرْجه وينظر من خلفه إلى الدخَان.

ثم أخذ يتمتم مِرارًا وتَكرارًا: «عناكب! حسنًا، حسنًا … في المرة القادمة، لا بد أن أنسج شبكةً لأظفر بصيدي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤