تمهيد

في السنة ١٩٣٩ صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب بعنوان «النقد والدراسة الأدبية». أما في هذه الطبعة فقد اكتفيت بتسميته «الدراسة الأدبية» وهي وافية بغرض الكتاب الذي يُعالج موضوع النظر الأدبي.

وقد رأيت أن النظر الأدبي، على الجملة، ينفرع إلى قسمين أساسيين: قسم أول يتناول دراسة الآثار الأدبية من حيث هي مبانٍ ومعانٍ، وقسم آخر يتناول دراسة الآثار الأدبية من حيث هي نتاج أشخاص وعصور. أما القسم الأول فهو النقد الأدبي بالذات، وغرضه معرفة الأصول اللغوية والفنية التي بها يتثقف الذوق فتعينه أن يحكم على الآثار الأدبية بالتوفيق والجودة، أو بالتقصير والرداءة، وأما القسم الآخر فهو التاريخ الأدبي، وغايته تصوير التفاعل الذي يقع في زمان ومكان بين شتى المؤثرات فيترك طابعه على مشاعر الأدباء ومداركهم، وعلى آثارهم الأدبية.

وصحيح أن النقد الأدبي لا يتيسر عزله كل العزل عن التاريخ الأدبي، إلا أنهما مع ذلك عملان مستقلان، وما أكثر ما نُهمل هذه الحقيقة في تعليمنا الأدب، ما أكثر ما نلقِّن الطالب أحوال هذا العصر أو ذاك، وأوضاع هذه البيئة أو تلك، وسيرة هذا الأديب أو ذاك، ونعتقد أننا لقَّناه النقد الأدبي، والواقع أننا إنما لقناه تاريخ الأدب لا النقد الذي هو بالنتيجة مران على الذوق والحكم الفني.

ولنضرب مثلًا، قال عروة بن حزام:

يكلفني عمي ثمانين ناقة
وما لي والرحمن غير ثمان

فقد نعلم أن عروة بن حزام — قائل هذا البيت — شاعر بدوي من شعراء الغزل عهدَ بني أمية. بل قد نجادل في أن عروة هذا شخص حقيقي أو اصطنعته مخيلة القصاصين للإمتاع أو للتعزية، وقد نعلم أن هذا البيت من قصيدة طويلة قالها عروة قبيل مصرعه. كذلك قد نعلم أن عروة أحب عفراء ابنة عمه منذ الصغر، على أنه كان فقيرًا لا يملك إلا ثماني نياق، فلما طلب يدها للزواج أباها عليه عمه وامرأة عمه إلا إذا أدى مهرها ثمانين ناقة؛ فسافر في طلب المهر، وحين عاد غانمًا موفقًا وجد قبرًا قيل له عفراء ماتت ودُفِنت فيه؛ فأحس لوعة محرقة وطفق ينتحب على القبر حتى أتيحت له عجوز بشَّرته أن عفراء حية وأنها زُوِّجت أميرًا شاميًّا ورحلت معه إلى بلده؛ فخف عروة إلى الشام ولقيه زوجها فدعاه إلى داره فأكبر عروة هذا السماح من خصمه ونكص راجعًا، وفي الطريق نظم قصيدته ولفظ أنفاسه. ثم ما لبثت أن أدركته ابنة عمه فسقطت إلى جانبه جثة هامدة.

أقول قد نعلم هذه الحقائق كلها فيما يتعلق بعروة، وقد نستنتج ما نستنتج عن فواجع الحب والوفاء في البادية وعبث المال والجاه بعواطف القلوب في المجتمع، إلا أننا لا نزال في نطاق التاريخ الأدبي، ولن ندخل نطاق النقد الأدبي حتى نستحضر أصولنا اللغوية الفنية ونتساءل: هل أحسن عروة في هذا البيت من حيث هو كلام شعري يجري على وزن ويؤدي معنى موافقًا بليغ الوقع في النفس؟

وإذن فهذا الكتاب يتألف من بابين كبيرين: باب النقد الأدبي وباب التاريخ الأدبي، وهو يجتهد أن يعوِّد الطالب صحة النظر الأدبي بفرعيه: النقد والتاريخ، ولا سبيل إلى الجدال أن صحة النظر الأدبي جانب جليل من جوانب الثقافة العامة التي تسعى، فيما تسعى، أن يحس الناس الجمال ويدركوا القيمة في جميع الأشياء ومنها هذه العبارة المرسلة نثرًا أو قصيدًا موزونًا، والتي نسميها أدبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤