تعقيب

بهذه الكلمة تنتهي هذه الرسالة عن «عقائد المفكرين في القرن العشرين»، وقد توخينا فيها أن نجعلها «نموذجية» تمثل العقائد من وجهات النظر على اختلافها.

ويرى من الفصول المتقدمة أن علوم القرن العشرين لا تبطل العقيدة الدينية، وأن للعلماء فيه موقفًا من العقيدة غير موقفهم في القرن السابق، فليس لعالم من علمائه أن يجزم بالإنكار والتعطيل مستندًا إلى حقائق العلم ونظرياته، وقد وجد منهم كثيرون يستخرجون من علومهم أسبابًا شتى للشك في الإنكار والتعطيل.

وقد انقسم علماؤه المعتقدون إلى فئات ثلاث: فئة منهم تؤمن بما فوق المادة أو الطبيعة، وفئة أخرى تلحق المادة نفسها بالمعاني المادية، وفئة ثالثة تؤمن بالقيم الإنسانية لأنها تعتبر العقيدة الدينية ترجمة لنوازع النوع الإنساني التي يقتضيها تكوينه طبقًا للسلامة والبقاء.

وملاحظتنا نحن على عقائد القيم الإنسانية أنها تقف بصاحبها دون الغاية الوافية من العقيدة؛ لأنها تتركه في الكون كله بغير سند يطمئن إليه، ولا تجاوز به حدود نوعه، وهو — أي النوع الإنساني — ضائع كله في الكون ما لم يكن لوجوده معنى أصيل مرتبط بالوجود الشامل لجميع الموجودات.

وعقائد القيم الإنسانية تقف دون الغاية حتى في المشاهدات المحسوسة التي لا خلاف عليها.

فكل علاقة بين الإنسان وبين «محيطه» ماثلة في غريزة من غرائزه أو نزعة من نزعاته.

فروح الجماعة تربطه بالمجتمع أو الوطن.

وغرائز الجنس تقود روابطه الحيوية بنوعه.

وآداب الأخلاق تقود روابطه أو معاملاته الإنسانية.

وليس بالمفهوم أن تتأصل فيه هذه العلاقات ولا تتأصل فيه علاقاته بالكون كله في صورة من الصور.

إن علاقة الإنسان بالكون أعرق وأوثق وأعمق من كل علاقة بإقليمه أو بعشيرته أو بنوعه، وليس بالمفهوم أن تترجم نوازعه عن علاقات العشيرة والإقليم والنوع ثم تخلو من ترجمة لعلاقته بالوجود كله، فإن لم تكن العقيدة الدينية هي ترجمة العلاقة الكونية فأين توجد هذه الترجمة؟ ولماذا تتأصل في الإنسان نوازع العلاقات بكل محيط ولا تتأصل فيه نوازع هذه العلاقة؟

لهذا نرى أن عقائد القيم الإنسانية تقف بالإنسان دون الغاية سواء نظرنا إلى طبيعة العقيدة وما تتطلبه من القوة والشمول، أو نظرنا إلى أطوار الإنسان في علاقاته بما حوله.

نعم إن القيم الإنسانية تؤسس في خلائق الإنسان الإيمان بالواجب، وإن قيامه بواجبه يبعث فيه الثقة والطمأنينة والعزاء، وإنه متى عرف القيم الإنسانية عرف الأحسن والأكمل وأعرض عن القبح والنقيصة، ومتى اهتدى إلى الواجب بين ما هو حسن وما هو قبيح صمد له وتبين طريقه في ظلمات المجهول.

ولكنه ولا ريب لا يكتفي بهذا الواجب لو علم بما هو أكثر منه وأكبر، وإنه لا يستغني معه عن سند له وسند للنوع الإنساني كله، ولا يجد هذا السند في شيء كما يجده في عقيدة تشمل الكون وما فيه بل تشمل الكون وما وراءه وتحيط بالزمن بغير ابتداء ولا انتهاء، وتلك عقيدة لا تملكها القيم الإنسانية ولا تدعيها، وإذا ملكتها فإنما تملكها بالرمز والإشارة وترفعها باختيارها فوق القيم الإنسانية جمعاء.

وهنا تعرض لنا مشكلة الشر كرة أخرى، وهي المشكلة التي قلنا إنها لا تخص القرن العشرين ولا يزال لها شبح قائم في كل زمان، ويكفي أنها في الأديان نفسها مجسمة في مثال الشيطان.

فما الذي يمنع المفكرين في هذا العصر أن يسلموا ضمائرهم إلى عقيدة دينية فيما فوق الطبيعة؟

إن السؤال هنا ينصرف إلى الشاكين والمترددين ولا ينصرف إلى مفكري العصر الذين آمنوا بما فوق الطبيعة إيمان المعرفة أو إيمان التسليم.

والشاكون المترددون يقولون إننا عاجزون عن التوفيق بين كمال الله وقدرته وبين الكون الذي تعتريه النقائص وتعيش فيه الشرور.

نقول: وهل هم قادرون على التوفيق بين كمال الله وقدرته، وبين الكون الكامل والمخلوقات الكاملة والحالة السرمدية التي لا يوجد فيها ما يشكوه أحد أو ما يخالف مشيئته أحد؟

هل الكون الذي يبعث فيهم العقيدة هو الكون الذي يرضى فيه كل مخلوق في كل حالة وفي كل حين؟

إن تصور هذا الكون أصعب جدًّا من تصور الكون كما نعهده ونزاوله، وما لم يكن في مذهبهم أن العقيدة مستحيلة أصلًا فالعقيدة في الكون الذي نحن فيه أقرب من العقيدة في كون يفرضونه وهمًا ولا يستطيعون أن يفرضوه متبينين متثبتين.

والذي يحيك في نفوسنا بإزاء هذا الموقف أن المسألة مسألة زمن وتجربة، وأن الزمن فاصل غدًا في أمر الاعتقاد ونبذ الاعتقاد، فإذا مضت الأيام بعد الأيام وثبت من التجربة بعد التجربة أن الخلو من العقيدة فقر في الشعور بالحياة والقدرة على العمل وشذوذ عن سواء الخلق، فالعقيدة يومئذ فارضة لنفسها مفروضة في العقول لا محالة، أو يعجز الإنسان عن استلهام عقيدته فتلك آية الفناء وإفلاس الحياة والأحياء.

وقد رأينا في الفصل السابق عالمًا من جلة علماء العصر يمد بصر العلم مليون سنة ولا يتخيل الإنسان متروكًا لنفسه عاملًا على صلاحه مائتي سنة ولاء من هذا الدهر الطويل ما لم يكن له اعتقاد وما لم تكن لاعتقاده نخوة وحماسة.

ونخال أن مائتي سنة كافية للفصل في أزمة العقيدة الحاضرة، بل نخال أن القرن الحادي والعشرين قمين أن يتقدم بالضمير الإنساني خطوة أوسع من خطوته بين القرن التاسع العشر والقرن العشرين. وإن علم النفس سيلاقي علم الذرة في الشقة الوسطى التي لا تزال حتى اليوم فاصلة بين المادية والروحانية، ومن يعش ير عيانًا ما نراه باعتقاد وتقدير.

ونختم الرسالة كما بدأناها مذكرين من يعوزه التذكير في هذا المقام: إننا لم نكتبها لنبسط القول في معتقدات الغرب جميعًا، فهذا شرح يطول ولا تستوعبه المكتبات بله الصفحات، وإنما أردنا بهذه الرسالة بيان العقيدة كما تفرض نفسها على المفكر المجتهد في القرن العشرين خاصة، فلا محل فيها لشرح العقائد التي توارثها الأبناء عن الآباء ولا للكلام على الذين رفضوا كل اعتقاد ولا سند لهم من علوم القرن العشرين، وحسبنا من محصول القول في هذا المقصد أن نصف قرن لم ينقض على المفكرين دون أن يطرقوا من أبواب العقيدة كل باب أدركوه بالبصيرة والتفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤