مقدمة

جافن كينيدي1

أتاح لنا إيمون باتلر في هذا الكتاب مقدمة بارعة جديرةً بالإعجاب إلى آدم سميث، فصوَّره لنا كإنسان وكفِكْر، وهي على حد علمي أفضل ما كُتِب من مقدمات موجَزة تعرِّف بهذا الرجل، ومن شأنها أن تتيح للجميع التعرُّف على الوجه الحقيقي لآدم سميث.

ولقد كان باتلر موفَّقًا في تحاشيه الجدل المثار حول الاقتصاد السياسي لدى سميث، والذي كتب عنه الكثيرون على مر السنين. ويعد الوصف المقدم لسميث، شخصًا وأعمالًا، تقييمًا دقيقًا لمزيجه الفكري الفريد عن تطور المجتمع البريطاني حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

نشر آدم سميث كتابه الأقل شهرة «نظرية المشاعر الأخلاقية» قبل سبعة عشر عامًا من إصدار كتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، وهناك ما يؤكد على أن الفجوة الزمنية التي تفصل بين الكتابين تدل على أن سميث استعاض عن القيمة الأخلاقية لعمل الخير وأَحَلَّ محلها المصلحة الشخصية اللاأخلاقية كمحفِّز للفعل البشري. ومن الملاحظات التي خطَّها طلاب لم تُعرَف أسماؤهم في العامين (١٧٦٢-١٧٦٣)، يمكننا أن نستدلَّ على أن أجزاء كبيرة من محاضرات سميث قد عاودت الظهور، على نحوٍ يكاد يكون حرفيًّا، في كتابه «ثروة الأمم» في ١٧٧٦. كما نشر محاضراته التي ألقاها حول الأخلاق خلال الفترة الزمنية (١٧٥١–١٧٦٤) بين دفتي كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (١٧٥٩)، وهذا يعني أن آدم سميث لم يحمل آراء متناقضة حول الدوافع البشرية.

كان سميث فيلسوفًا في الأخلاق، ولم يكن الاقتصاد قد حظي في القرن الثامن عشر بمكانته كعلم منفصِل كما أصبح عليه الحال في نهاية القرن التاسع عشر. ولا شك في أنه كان هناك الكثير من الكتَّاب السابقين لسميث والمعاصِرين له ممَّن ألفوا كتيبات حول موضوعات اقتصادية (وتحتفظ جامعة ييل بعدة آلاف منها تعود إلى ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر)، وبعض هؤلاء المؤلِّفين قدَّموا إسهامات في علم الاقتصاد، لكن لا يوجد فيهم مَن قدَّم بحثًا جامعًا شاملًا يصل إلى درجة ونوع البحث الذي جاء به آدم سميث.

كان علم الاقتصاد السياسي يركز قبل سميث على إثراء الملك والدولة بسبائك الذهب والفضة من أجل تمويل الحروب الخارجية. وعندما نُشِر كتاب «ثروة الأمم»، أعاد توجيه أنظار الاقتصاد السياسي إلى إثراء المستهلِك من «الناتج السنوي للأرض والعمل». إن هذا الكتاب لم يكن كتابًا دراسيًّا، بل يناقش موضوعًا محدَّدًا، وهو طبيعة الثروة وما يدفعها إلى النمو.

إن المجلدين الأول والثاني من الكتاب يعرضان السمات المميزة للمجتمع البشري، كالميل إلى التبادل، وتقسيم العمل، وعوامل الإنتاج، وآليات الأسواق، وتوزيع العائد على المشاركين. أما المجلد الثالث، فيضع بريطانيا القرن الثامن عشر في سياق التطور الاجتماعي للمجتمع: من مرحلة «الصيد» البدائية، مرورًا ﺑ «الرعي» و«الزراعة»، وانتهاءً بعصر التجارة، ويبيِّن كيف أن سقوط روما في القرن الخامس أدى إلى عرقلة هذا التقدم «الطبيعي» في أوروبا الغربية.

وعندما بدأت أوروبا تتعافى بعد القرن الخامس عشر، عانت من عوائق السياسات التي كانت تعضد ما يدعوه سميث «التجارة المركَنتيلية»، والتي ينتقدها المجلد الرابع من الكتاب نقدًا لاذعًا بسبب خطئها الرئيسي المتمثِّل في القول بأن ثروة البلاد تنبني من تراكم سبائك الذهب والفضة، وأن الميزان التجاري كان ضروريًّا لأن الدولة كان يتوجب عليها أن تصدِّر أكثر مما تستورد. والأسوأ من ذلك أن هذا المبدأ كان يعتقد بأن الاقتصاد المحلي يصير أقوى بفضل ممارسة الاحتكار الحمائية، والقيود المفروضة على مجال التوظيف وحركة القوة العاملة، والتدخلات في حريات الأسواق الطبيعية.

كانت معالجة سميث لهذه الأخطاء تتمحور حول تحرير الأسواق من التدخلات التي غيَّرت آلية عملها الطبيعية. كان سميث يؤيد توسيع نطاق التبادل الحر للمخرجات المنتجة تنافسيًّا من أجل السماح بتحقيق المعدل الطبيعي للنمو الاقتصادي، وذلك مبدئيًّا عبر السماح للناس بضم ما لديهم من «أرض أو عمل أو رأس مال» إلى ما بحوزة غيرهم، من أجل إنتاج السلع التي تباع في الأسواق. وبعد دفع الإيجار إلى أصحاب الأراضي، والأجور للعمال، والأرباح للتجار والمصنِّعين، يقوم صاحب رأس المال بإعادة استثمار أرباحه الصافية في أنشطة إنتاجية إضافية، ويخلق — عبر جولات متعاقبة من الإنتاج والتبادل — ثروةً حقيقيةً من الناتج السنوي للأرض والعمل في المجتمع، والذي سيستمر في النمو على نحوٍ بطيءٍ وتدريجيٍّ عبر الدوران المتعاقب ﻟ «عجلة التداول العظيمة».

يتناول سميث في المجلد الخامس الأدوارَ المناسبة للحكومات، ويحدِّد وظائفها الأساسية: الدفاع، والعدل، والأشغال والمؤسسات العامة التي تسهِّل الأداء التجاري، وتعليم «الناس من كافة الأعمار»، وإجراءات مكافحة «الأمراض الكريهة والمثيرة للاشمئزاز»، والحفاظ على «الكرامة والسيادة»، وتمويل نفقات هذه المجالات عبر الضرائب والرسوم لصالح المستفيدين (وليس بما يصبُّ في الدَّين العمومي).

لقد تعامل كتاب «ثروة الأمم» مع «مبادئ الاقتصاد السياسي» المركَنتيلية الهدَّامة على نحوٍ غير مسبوق في عصره، وذلك على مدار تطورها في سياق تعافي أوروبا من سقوط روما وظهور الدول القومية — خلال ألف عام — بفضل القادة العسكريين والإقطاعية. ولنا في القرنَين السابقَين أمثلة كثيرة عن مؤلفين قيَّموا كتابات سميث وبحوزتهم ثمار قرنين من العمل والبحث الإضافي، لكن كتابات سميث صمدت أمامها على نحو يثير الإعجاب.

كانت أغلبية الشعوب في أوروبا الغربية تعاني من فقر مدقع، وكان ما تتعرض له من فقر واضطهاد مطلَقَين دافعًا رئيسيًّا للهجرة إلى أمريكا الشمالية، وجنوب أفريقيا، وأسترالاسيا، واستمر ذلك حتى العقود الأولى من القرن العشرين. أما سميث، فقد كانت نظرته تتعدى الفقر لتخترق أسبابه، وبالتحديد غياب خلق الثروة. فالعون لا يأتي إلا من داخل المجتمع، عبر قيامه بخلق الظروف التي تؤدي إلى تكوين الثروة. فوجَّه سميث مقاربته التاريخية لهذه المشكلة من أجل دراسة البشرية، وتكثر في كتابات سميث الأمثلة والاقتباسات من النصوص الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية التي كان ملمًّا بها إلمامًا كاملًا. وكما هو حال جميع الأسماء اللامعة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر، رجع سميث ببصره إلى الوراء ليبحث عن أصول المجتمع، بدلًا من أن يمد بصره إلى الأمام متطلعًا نحو نسخ من اليوتوبيا، فمثل هذا التفكير الرومانسي ازدهر في القرن التاسع عشر، وليس الثامن عشر.

لقد تدهورت الحضارة الأوروبية وانحَطَّتْ إلى بربرية القادة العسكريين والإقطاعيين، لكنها شهدت أيضًا، وعلى نحو بطيء وتدريجي (وهي عبارة تتكرر كثيرًا في كتاب «ثروة الأمم»)، تعافي الناتج الزراعي، وزيادة أعداد السكان، وانتعاش التجارة مجدَّدًا في معارض وأسواق متناثرة. وفي الأعوام المائة التي سبقت عام ١٧٦٠، كان نطاق المقتنيات المنزلية، حتى في أفقر بيت لعامل متواضِع، يدلِّل على وجود «ثراء» نسبي (يعود معظمه إلى امتلاك مقتنيات مستعمَلة) يفوق ثراء قبائل الصيد في أمريكا الشمالية وأقوى «أمرائها». وباطلاعه على مدوَّنات الرحَّالة، ومشاهداته الشخصية للمصانع والمصاهر الصغيرة القريبة المحيطة بكيركالدي، والتي كانت تنتج المسامير والدبابيس، رأى سميث كيف أن خلق الثروة الحقيقية لا يكون على هيئة سبائك من الذهب والفضة، وإنما يحدث عندما يتحول إنتاج وتوزيع الناتج الخام للأرض وجهود المجتمع إلى مقتنيات ملموسة في منازل الطبقة العاملة، وهو ما كان يُعَدُّ مؤشِّرًا حقيقيًّا لقياس الثراء النسبي في البلاد.

لم تبدأ أفكار سميث اللامعة باكتشاف تقسيم العمل، فهذا «الشرف» يعود إلى أفلاطون قديمًا، وإلى السير ويليام بيتي في العصر «الحديث» (١٦٩٠)، لكن البداية كانت بملاحظة أهمية تقسيم العمل كوسيلة يمكن نشر الثراء الحقيقي بها فيما بين أغلبية السكان دون الاقتصار على أغنى أغنيائهم، وجعلهم جميعًا أكثر ثراءً على نحوٍ متنامٍ خلال بضعة أجيال.

قاده هذا إلى التساؤل: إذا كان تقسيم العمل هو المفتاح، فما الظروف التي من شأنها أن تزيد الناتج؟ كيف يمكن تحديد حصة كل شخص؟ والسؤال المصيري: ما العوائق التي تقف في وجه تحقيق ذلك؟ إن القفزة التي أنجزها سميث من الوصف إلى التحليل كانت خطوته الأولى تجاه وضع أُسُس علم الاقتصاد الجديد.

وفيما يلي أقدِّم للقارئ نبذةً مختصرة عن نموذج سميث للاقتصاد التجاري الذي يعمل بحرية كاملة، وذلك كتكملة لما سيقرؤه فيما بعدُ من عرضٍ رائعٍ قدَّمه لنا إيمون باتلر؛ مؤلِّف هذا الكتاب.

إن المجتمع التجاري يطور تبادل السلع القابلة للتسويق والناتجة عن تقسيم العمل، وكانت المقايضة — وهي التبادل المباشر غير الفعَّال لسلعة مقابل سلعة أخرى — قد ظهرت قبل وقت طويل من ظهور التبادل غير المباشر الأكثر فاعلية باستخدام المال. ويشير سك النقود في الحضارات القديمة قبل عدة آلاف من السنين إلى الوجود المبكر للتجارة كنتيجة لتقسيم العمل (وإلا فلِمَ الحاجة إلى سك النقود أصلًا؟)

كانت التبادلات الأولى تتم بين منتجات الريف (كالغذاء والمواد الخام)، ومنتجات البَلْدَات (كالأدوات والمقتنيات البدائية المصنَّعة)، وكانت أسعار السوق للسلع المتبادَلة تتحدَّد وفقًا للعرض والطلب الفعلي، وقد تختلف عما يدعوه سميث «الأسعار الطبيعية»، وفيها تكون العائدات التي يحصل عليها مَالِكُو عناصر الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال)، المتعاونون في الإنتاج، متوافِقَةً مع تكاليفهم بالضبط، بما في ذلك المعدَّل الطبيعي المحلي للربح. وأسعار السوق، التي لا تكفُّ عن التأرجح حول نقطة التوازن الكامل دون أن تستقر عندها، ربما لا تغطي التكاليف، لكنَّ تغيُّر أسعار السوق يومِئ للمشاركين بأن يدفعوا أكثر أو أقل مقابل السلع المتاحة، أو أن يزوِّدوا السوق بالمزيد أو القليل منها، وهكذا لا بد للعرض الفعلي أن يُعدَّل وفقًا لهذه الإيماءات مع مرور الوقت، وهذا يشكِّل آليات الاقتصاد التنافسي.

إن العمل إما أن يكون إنتاجيًّا أو غير إنتاجي، والتمييز بينهما يعتمد على ما إذا كان العمل، إضافةً إلى رأس المال الثابت، يؤدي إلى إنتاج سلعٍ تُبَاع في الأسواق وتعوض تكلفتها، إلى جانب جلب أرباح المشروع. وتُعَدُّ منتجات العمل غير الإنتاجي (مثل الخدم البسطاء الذين يقدِّمون الطعام لعائلة ثرية) — التي لا تباع في الأسواق لتعويض تكلفتها — استهلاكًا من العائد، أمَّا منتجات العمل الإنتاجي، فهي تعوض تكلفتها وتعيد إنتاج العائد الصافي (الربح)، والذي قد يُستخدَم للاستهلاك (الإسراف) أو الاستثمار الصافي (الاقتصاد في الإنفاق). وتصبح الأمم أكثر ثراءً عندما تكون فيها نسبة أعلى من المنتجين المقتصدين، بالمقارنة مع نسبة المستهلكين المسرفين خلال مدة من الزمن. وبالاعتماد على المعدل السنوي للاستثمار الصافي، يزيد الاقتصاد من نطاق التوظيف (عن طريق زيادة أجور العمل، ونشر الثراء بين الأغلبية الأكثر فقرًا)؛ مما يؤدي إلى زيادة الناتج السنوي من «ضروريات الحياة ووسائل الراحة والتسلية».

مما يؤسَف له أن سقوط روما أدَّى إلى عرقلة هذه العملية الطبيعية، لكن ما إن تعافى الاقتصاد في الألفية اللاحقة واستفاد من التحسينات في تكنولوجيا الزراعة، ومن الإمكانيات التقنية الجديدة التي نتجت عن النهضة العلمية؛ حتى أنشأت المجتمعاتُ مؤسساتٍ سياسيةً، بما فيها الدوجمائية الدينية، والتي اشترعت أفكارًا مركَنتيلية زائفة عملت على تثبيط التطور الطبيعي للاقتصاد.

انتُقِصت الحرية الكاملة بسبب القوانين التي فرضت التعريفات والرسوم والمحظورات على التجارة الحرة، وكُبِّلت أيضًا من جانب رابطات عمالية بلدية وهيئات احتكارية حِرْفية أدَّت إلى تقليل المنافع الناتجة عن الجو التنافسي لدخول الأسواق والخروج منها بحرية. كما قامت تلك الهيئات أيضًا بحظر الحق الطبيعي للعمل في مجالات لم تُستغرَق فيها مدة طويلة من التدريب، ومنعت الأفراد من بيع أو شراء السلع التي لم تُنتَج في مواقع محلية محدَّدة، وفي سبيل السعي خلف السراب المركَنتيلي للتوازن التجاري فرضت الرسوم، واستردت رسوم الاستيراد بعد تصدير السلع، ومنحت مكافآت على الصادرات والواردات على نحوٍ يُلحق الأذى بالمستهلِك.

إن الحقيقة التي تبعث على الشعور بالقلق هي أن الكثير من العوائق التي تَحُول دون الحفاظ على معدل إيجابي للاستثمار الصافي — وهو ما كان سميث يهتم به — لا تزال قائمة حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال يدعو إليها، على نحوٍ مشابه، مجموعةٌ من المشرِّعين ذوي العقول المركَنتيلية، وتدعمها أكاذيب شائعة. أما اليوم، في ظل الاقتصاد العالمي الذي لم يَعُدْ فيه الفقر المطلَق يمثِّل مشكلةً في الدول المتقدمة كما كان عليه الحال في أيام سميث، فإن مشكلة الفقر المطلَق والنسبي في الدول النامية وغير النامية يجب أن تحرِّك قلوب جميع الاقتصاديين، كما فعلت بقلب سميث وعقله من قبلُ، وهو الذي يُعتبَر أول خبير اقتصادي عرفه التاريخ.

إن جميع الالتفاتات المزعومة وكذلك الاستعراضات المفصلة الواردة في كتاب «ثروة الأمم»، والتي تجعله على الأرجح كتابًا «صعبًا» و«غير وثيق الصلة» بالقارئ الحديث؛ تنشأ من إساءة فهم ما كان يرمي إليه المؤلف؛ فهو لم يكن مؤلِّفًا من الطراز الحديث يكتب كتابًا عن «مبادئ الاقتصاد»؛ إذ لم يكن هذا الموضوع موجودًا في أيامه، وإنما كتب تقريرًا حول بحثه في المعنى الحقيقي للثروة الوطنية، وما الذي دفع الثروة إلى النمو، والمجتمع إلى التقدم تجاه الثراء. لقد كان هذا البحث يمثِّل ذكاءه وتراثه، وما كتبه إيمون باتلر في هذا العرض التقديمي يوفِّر لك أفضل فرصة لمعرفة السبب الذي يدعونا إلى قول ذلك.

هوامش

(1) Gavin Kennedy is Professor Emeritus at Heriot-Watt University and author of Adam Smith’s Lost Legacy, published by Palgrave Macmillan in 2005.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤