سابعًا: الانتقادات الموجَّهة إلى الظاهريات١
كان يمكن أن تؤدي الانتقادات التي وُجهت إلى الظاهريات إلى
تطورها لو كانت قد انتهت إلى أقصى نتائجها، مثلًا أن الظاهريات
تريد أن تصبح فلسفة دون افتراضات مسبقة، وصحيح هذا ممكن.
الفلسفة كعلم محكم ليست افتراضًا مسبقًا، بل هو تمنٍّ ومثل
أعلى، ومطلب مشروع.٢ الفلسفة بداهة أولى لا تحتاج إلى كل هذه التحليلات
والافتراضات الخيالية المناقضة، والتوحيد بين الفلسفة والعلم
المطلق ليس أيضًا افتراضًا مسبقًا، وإن لم تكن الفلسفة كذلك
فماذا تكون؟ واستقلال العقل ليس على الإطلاق افتراضًا مسبقًا،
بل هو مكسبٌ تم الحصول عليه بعد معركة قاسية منذ يقظة الوعي
الأوروبي في بداية العصور الحديثة، وقد أعلن العقل استقلاله ضد
القطعية في اللاهوت والميتافيزيقا وضد الشك في العلوم المادية،
ودخل في نسيج الوجود الإنساني؛ فالظاهريات تقريبًا وللمرة
الأولى في تاريخ الفلسفة الغربية فلسفة دون افتراضات مسبقة،
وتستطيع ظاهريات الدين مرة واحدة وإلى الأبد رفع الشك واضعةً
معطى الوحي كقبلي تعتمد عليه دون افتراض مسبق.
وتتضمن الظاهريات في نفسها عوامل موضوعيتها، وذلك عن طريق
القصدية، التركيز على الشعور الذي يخلق موضوعه، الحقيقة في
بداهتها والواقع تحققه الإمكانية نسيج الشعور، ولا تعني
الموضوعية أكثر من الوعي بها.٣
ولم تهمل الظاهريات الترنسندنتالية تمامًا مشكلة التاريخ،
ويبين نقد فلسفة تصورات العالم والنزعة التاريخية الأهمية التي
توليها الظاهريات للتاريخ، بل يمكن اعتبار الظاهريات باعتبارها
فلسفة للحضارة أساسًا فلسفة في التاريخ، صحيح أن التاريخ محل
النماذج الحية للتحقق التدريجي للحقيقة، ومع ذلك انتهى دور
التاريخ، ينقص فقط النظر إلى غائيته لرؤية المراحل المختلفة
لتجلي الحقيقة التي اكتملت من قبل، ويحل منهج التحليل النظري
للخبرات اليومية محل منهج البحث عن الحقيقة عبر التاريخ،٤ وفي هذه البداية الجذرية وفي هذه «البراءة»
التاريخية تكمن الحقيقة،٥ فإذا كانت الظاهريات قد أهملت التاريخ إلا أنها
أدركت قيمته الحقيقية.٦
ويمكن التحقق من فكرة وجود مطلق حال في التجربة، ما قبل
الحمل المنطقي، في الخبرة اليومية.٧ الوجود الإنساني مسكون بمطالب البحث عن الأفضل،
وهذا هو المعنى الفعلي للتعالي أو المفارقة، المطلق النسبي
إحساس إنساني ينبثق منه المطلق؛ أي من الذاتية الإنسانية، وتجد
ظاهريات الدين خاصةً ظاهريات الفعل أساسها في هذا المطلب،
الظاهريات ليست إذَن مثالية ترنسندنتالية ترد الوجود إلى
المعرفة بل مطلب وجود،٨ والمطلب لا يخطئ؛ فاللاوجود وجود، والإمكانية
واقع، والذاتية موضوعية، والروح طبيعة. الخطأ اختراع منطقي
نفسي، لا يوجد في أفضل العوالم الممكنة.٩
والانتقادات الموجَّهة للظاهريات في الدراسات الثانوية من
أتباع هوسرل أكثر دقة، ويمكن استخدامها لتطوير المنهج
الظاهرياتي، مثال ذلك غياب التمييز بين الموضوع الواقعي
والموضوع الخيالي في الظاهريات، والذي يقبل تحليل كل مضمون
الشعور يسمح ابتداء بتقوية المنهج الظاهرياتي؛ وذلك بأن يقدم
له فقط الموضوع الواقعي،١٠ ومعطى الوحي وحده يمكن اعتباره نموذج الموضوع
الواقعي، هذا الإصلاح للظاهريات النظرية يمكن أن يؤدي إلى
ظاهريات الدين، المعطى المادي أقل يقينًا لأنه في حاجة إلى
تنظير ظاهراتي سابق من أجل التخلص من مضمونه المادي، والمعطى
الصوري أيضًا أقل يقينًا لأنه في حاجة إلى أن يتحول قبل ذلك
إلى معطًى ترنسندنتالي. المعطى الحي هو الأكثر يقينًا لأنه
يكوِّن المادة الأولى في التحليل القصدي. المعطى الحي القبلي
وحده هو القادر على إعطاء يقين واقع الموضوع، ويمكن لمعطى
الوحي أن يقوم بدور هذا الموضوع الواقعي.
ونقد «الأنا الخالص» أيضًا نقدٌ وجيه؛ فليس «الأنا» كنشاط
مطلق خلَّاق هو الأنا الظاهرياتي الخالص،١١ يمكن استخدام هذا النقد من أجل وضع ظاهريات حركية
تبدأ من «الأنا» كفاعل، كمركز للحركة وكفعل مستمر. كان يمكن
لنقد الطابع العقلي للظاهريات أن يؤدي إلى الحركية المرجوة،
وإذا كانت الماهيات في الظاهريات معقولة فإن ظاهريات الدين
قادرة على التعامل مع الماهيات المادية،١٢
١
Ex. Phéno., pp.
228–31.
٢
Q. Lauer: La Phénoménologie de
Husserl, pp. 393–405.
٣
Ibid., pp.
421–8.
٤
ويرجع السبب في معرفة هوسرل الأولية بالتاريخ إلى
هذا السبب.
٥
براءة
Naiveté.
٦
Q. Lauer: op. cit., pp.
415–20.
٧
ما قبل الحمل
Anté-Prédicative.
٨
في الفلسفة النقدية عند كانط مُثُل العقل الخالص:
النفس، والعالم، والله، هي أيضًا مطالب وجود
Exigences، كما هو
الحال في القانون الخلقي.
٩
يمكن إذَن أن يكون في تفاؤل ليبنتز دفاع عن
الظاهريات التي اتُّهمت بأنها لا تعرف فكرة الخطأ
Q. Lauer: op. cit., p.
405–15.
١٠
G. Gurvitch: op. cit., p.
57–61.
١١
مصدر النقد تاريخي خالص. أراد المؤلف أن يوحد بين
الظاهريات ومثالية الفعل عند فشته والفعل الخلاق عند
برجسون G. Gurvitch, op. cit., pp.
61–4.