ثانيًا: أفكار موجهة لقواعد التفسير للظاهريات١

وقد تم استنباط هذه الأفكار الموجهة الاثنتي عشرة من النص الظاهرياتي نفسه، تعتمد الثلاثة الأولى على المعاني المختلفة للفظ «لوجوس»؛ الكلام، والتفكير، والشيء المفكر فيه،٢ والرابعة قاعدة تأويلية، ومن الخامسة حتى الثامنة قواعد مستنبَطة من نفس المبدأ الذي تقوم عليه الخامسة، والتاسعة خاصة بالدراسات المقارنة، والعاشرة بالظاهريات التطبيقية، والاثنتان الأخيرتان يتعلقان ببنية الظاهريات وتطورها كمنهج مكتمل.

وهي قواعد تنطبق على كل عمل فلسفي، وليس على النص الظاهرياتي وحده إذا كان متشعبًا بين التطور والبنية، والنشأة والاكتمال، والنظرية والتطبيق، والفلسفة والمنهج، والرؤية والتاريخ. وظيفتها جمع المادة العلمية في آليات منهجية واحدة من أجل القراءة الدالة، والنتائج العامة بدلًا من التقسيم والتجزيء والتفتيت بدعوى التحليل العلمي ومعرفة الجزئيات.

كما تنطبق على النصوص الدينية التي تتسم بنفس طابع الشتات والتشعيب من أجل إعادة جمعها في منظور كلي واحد، وتنطبق أيضًا على النصوص القانونية خاصة في بعض حالاتها، مثل: القاعدة الرابعة عن الحرف والروح في القانون، وتنطبق كذلك على النص الأدبي لتفسير وحدة العمل الروائي أو الشعري خاصة في الدراسات البنيوية والوصفية، وقد تنطبق أخيرًا على النص التاريخي من أجل تحليل رؤية المؤرخ التي تحدد نصه؛ فالتاريخ تدوين، والتدوين رؤية وتعبير.

(١) من اللفظ إلى الشيء، ومن الشيء إلى اللفظ٣

يتم فهم الظاهريات عن طريق الانتقال من اللفظ إلى الشيء دون المرور بالمعنى أو المفهوم، وبعد تطور الظاهريات إلى الأنطولوجيا الظاهراتية فيما بعدُ بانت اللغة على أنها «منزل الوجود»، لقد استعارت لغة الظاهريات مصادرها الأولى من الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة، ولكنها تشير إلى أشياء بسيطة في الحياة اليومية، ثم أصبحت علمية تقنية اصطلاحية للغاية يصعب استعمالها في الخبرات البسيطة في الحياة اليومية، فإذا حدث انتقال من اللفظ العلمي إلى الشيء البسيط من خلال المعنى العلمي للفظ فإنه من الصعب إدراك الشيء. ويغطي المفهوم المعتمد الشيء، ويغلفه في عديد من النظريات المستخرجة من اللفظ، وإذا توسط المفهوم بين اللفظ والشيء فإنه لن يتم الانتقال من واحد إلى آخر.

وإذا كانت الظاهريات عودًا إلى الأشياء ذاتها، فإنه لا يمكن فهمها إلا بالعود إلى نفس المبدأ، فكل عبارة ظاهراتية تصف شيئًا، ولفهم هذه العبارة يُرى الشيء،٤ والانتقال من عبارة إلى أخرى لا يعطي أي معنًى، في حين أن الانتقال من العبارة إلى الشيء، موضوع الوصف، يؤدي إلى فهم الشيء بتسليط اللغة عليه عن طريق الإشارة والعلاقة وليس بالضرورة عن طريق المفهوم أو المعنى؛ فالمنطوق بديل عن المفهوم، ويساعد العود إلى الأشياء على التخفيف من ثقل هذه اللغة الاصطلاحية التي تئن الظاهريات تحتها، بل وتساعد على توجيه المقاصد الرئيسية للظاهريات نحو اتجاهاتها المرجوة؛٥ ومن ثَم يُستخدم العود إلى الأشياء ذاتها الذي تريده الظاهريات كقاعدة لتفسير النص الظاهرياتي نفسه،٦ وراء اللفظ وتحت المفهوم يقبع الشيء، وبمجرد ما يلمس النص الظاهرياتي الشعور يظهر الشيء، وكل قراءة، خاصةً الظاهراتية، مرتبطة بهذا اللقاء الشعوري مع النص؛ ومن ثَم ينشأ الشيء في الوجدان، يكفي توضيحه حتى يظهر الشيء ذاته؛ أي الحقيقة والواقع معًا.

ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ في الفهم التلقائي للشيء الذي تصفه الظاهريات، فإذا كانت الظاهريات، في الواقع، عودًا إلى الأشياء ذاتها، يكون من الأسهل الاتصال بالأشياء ذاتها مباشرة لإدراك ماهياتها دون المرور بالتحليل المحدد الذي قامت به الظاهريات من قبل، وبتعبير آخر يكفي لفهم الظاهريات العود إلى الأشياء ذاتها التي تتحدث عنها دون المرور بالرطانة الظاهراتية، وبعد هذا الاتصال المباشر مع الأشياء ذاتها يمكن التعبير عن الماهيات المدركة تلقائيًّا بلغة عادية مطابقة لبساطة الأشياء الموصوفة. ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ تلقائيًّا وحتى دون المرور بالوصف الظاهرياتي للشيء أو باللغة التي استعملتها الظاهريات للتعبير عنه.

في الظاهر تبدو الظاهريات منهجًا معقدًا للغاية، خاصة فيما يتعلق ﺑ «الجهاز المفاهيمي»، في حين أن الظاهريات في الواقع منهج بسيط للغاية، وإذا جذب هذا التعقيد المفاهيمي عديدًا من الباحثين عن وعي، فإن بساطتها تجذبهم أيضًا عن لا وعي، فلا يوجد أبسط من الإدراك الحدسي لواقع عياني ينكشف داخل الخبرة الحية، الإغراء العقلي للأكاديميين هو إذَن المسئول عن هذه الحالة من التعقيد الذي يجد فيها المنهج الظاهرياتي نفسه الآن.

وعن طريق الفهم المباشر العميق تترك اللغة ويترك المفهوم جانبًا من أجل الذهاب إلى الأشياء ذاتها، ويمكن للغةٍ خاصة، وهي لغة الظاهريات، أن توقع في الخطأ لو أُخذ كل لفظ على أنه مفهوم أو شيء، فليست المفاهيم في الظاهريات إلا الأشياء ذاتها التي يحياها الشعور، هي دلالات تحيل إلى الأشياء ذاتها، ومن أجل اختصار الطريق، يعني الفهم ترك اللغة والمفاهيم للوصول إلى الأشياء ذاتها، يعني أخذ موقف المؤلف وهو يحفر في الأشياء ذاتها، ثم يحولها إلى دلالات، ثم يعبر عنها باللغة، يعني إذَن التحول من الشيء إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللغة، وتأخذ الدراسات الثانوية الطريق الثاني، من اللفظ إلى المعنى، ومن المعنى إلى الشيء، صحيح أن اللغة منزل الوجود ولكن بعد بالتأمل في نواتها في الاشتقاق، وتصبح نزعة خارجية لو زعمت أنها تدرك الشيء ذاته عن طريق تجميع العبارات.

(٢) من اللفظ إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللفظ٧

إذا تم الانتقال من اللفظ إلى الشيء أو من الشيء إلى اللفظ مباشرة دون توسط المفهوم، فما هو دور المفهوم أو المعنى أو الفكر أو الماهية؟ ما هو دور العقل نفسه كصلة بين اللغة والمواقع؟

الفكرة أو المعنى أو النظرية في الظاهريات، والتي منها تشتق، منها صفة «نظري» ليست من عمل الفعل، أي مفهوم غير مطابق للواقع؛ لأنها أكبر أو أصغر منه بل هي ماهية الواقع،٨ ويمكن إدراكها عن طريق التحليل النظري للخبرات الحية في الحياة اليومية، وبعد رد الموضوع المادي يبقى الموضوع الحي وحده هو مادة التحليل، والفكرة هي دلالة الموضوع الحي، والمفهوم هو الواقع نفسه الحال في الشعور، ويند عن عمل العقل: الثنائية، الصورية، الخارجية، التفريع والتقسيم … إلخ.٩ العقل والواقع شيء واحد؛١٠ لذلك يُستبعد العقل قدر الإمكان من قراءة الظاهريات، ليس من الضروري أن يكون لكل فصلة معنًى في النص الظاهرياتي، كل آليات الظاهريات في التفسير، مثل اللغة والجهاز المفاهيمي … إلخ، ليس لها معنًى في حد ذاتها، بل تعبر عن معنًى يعطيه القصد العام للنص. لا يُبحث إذَن عن معنًى لكل لفظ، بل يكفي إدراك القصد الساري عبر الألفاظ، وبتعبير آخر من أجل فهم الظاهريات يُطبق منهج التمييز بين العلامة والدلالة.١١ اللفظ علامة، والقصد دلالته. اللفظ حامل المعنى دون أن يكون هو نفسه معنًى.١٢

يستطيع العقل أن يبرر كل شيء، يستطيع أن ينسب أي معنًى إلى أي نص سواء كان دالًّا أم غير دال، كما يستطيع نقد كل شيء، وليس عليه أي ضابط لو ترك على سجيته، وما يقلل من حدة العقل هذه هو الحدس؛ إذ يعطي المناسبة لصلة مباشرة مع الواقع الذي يعمل ﮐ «فرملة» لتجوال العقل، وتستطيع القصدية السارية في النص من أوله إلى آخره للتخفيف من آثار العقل باكتشاف المعنى الحال في النص وليس المعنى الذي يسقطه العقل عليه.

يستطيع العقل أن ينقد كل شيء، هو مجرد آلة للتشريح وتقليب المسألة من كل جوانبها، بل يستطيع أن يقول الشيء ونقيضه وإسقاطه على النص الظاهرياتي، يحول هذا النص إلى مادة صماء، تتغير في كل الاتجاهات الممكنة.

(٣) من المفهوم إلى الشيء، ومن الشيء إلى المفهوم١٣

وبمجرد الحصول على الفكرة فإنها تستطيع الإشارة مباشرة إلى الشيء؛ لأن الفكرة والشيء، العقل والواقع واجهتان لشيء واحد، يتم الفهم إذَن قبل أي استعمال للغة؛ فالظاهريات بعد قلب النظرة، معمل متنقل حي وصامت يستمع إلى صوته الداخلي، وينصت إلى شعوره التأملي وهو يحلل مضامين ويدرك دلالات؛ ومن ثَم تُستبعد لغة الظاهريات مؤقتًا للتحقق من مطابقة المفهوم للواقع، وأكبر عمل للظاهريات هو أن يتم بينه وبين نفسه أي بين الفكر والواقع كما يتحقق منه، فإذا استطاع أن يجد التطابق بينهما، أي إنه إذا استطاع أن يدرك دلالات الخبرات الحية وماهيات الأشياء ليرى الحقيقة في الواقع، في هذه الحالة تكتمل الظاهريات وتتحقق غايتها.

فكل محاولة لفهم الظاهريات دون إدراك مسبق للماهيات من ناحية، ودون إحالات إنسانية في الحياة اليومية من ناحية أخرى، يظل النص الظاهرياتي، كما هو الحال الآن، منطويًا على ذاته، وسجين مذهب مغلق من مصطلحات تعالمية وأفكار مركبة.

(٤) من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح١٤

وتخص هذه القاعدة كل تفسير وليس فقط تفسير الظاهريات، وتحتاج الظاهريات خاصة إلى هذه القاعدة بسبب عيوب لغتها كأداة للتعبير، يمكن فهم الظاهريات بالروح لا بالحرف؛ فهي قصد أكثر منها إيماءً، هي تأهيل لطريق أكثر منها استنباطًا لنتيجة، ونتيجة للتأمل المستمر في النص الظاهرياتي يكفي روحه من أجل توضيح حرفه، يعطي الحرف الروح أدوات تعبيره الأكثر مطابقة، ولكنه لا يعود ضروريًّا، بعد فهم الروح أن يتم التعبير عنه بنفس الحروف، يستطيع الظاهرياتي استعمال ألفاظه الخاصة للتعبير عن روح الظاهريات،١٥ الوحي قصد واحد إلا أن طرق تعبيره ووسائله في المخاطبة تختلف من ثقافة إلى ثقافة، ومن عصر إلى عصر.

هذه القاعدة، من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح، هي قاعدة انتقالية بين القواعد السابقة الخاصة باللفظ والمعنى والشيء والقواعد التالية الخاصة بالكل والجزء، الحرف هو اللفظ، والروح هي المعنى الذي يحيل إلى الشيء، الحرف هو الجزء، والروح هي الكل؛ فالقواعد تتداخل فيما بينها، وربما ترد جميعًا إلى قاعدة واحدة، الإدراك بالحدس الكلي وبالروح السابق على الأجزاء والحروف.

(٥) من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل١٦

كانت هذه الرؤية التدريجية للنص الظاهرياتي من اللفظ حتى مجموع الأعمال كلها، ومن مجموع الأعمال كلها حتى اللفظ، ضرورية من أجل وضع فكرة موجِّهة رئيسية للتفسير، الكل ينير الأجزاء، والأجزاء تشير إلى الكل،١٧ والواقع أن كل عبارة في الظاهريات ليس لها أي دلالة إلا في مجموع أعمال الظاهريات، والتقسيم التدريجي للنص الظاهرياتي كان يهدف إلى وضع سلم للقيمة الكمية؛ أي للمقدار، حيث يظهر الكل والأجزاء على مستويات عديدة، اللفظ جزء بالنسبة إلى العبارة ككلٍّ، والعبارة جزء داخل الفقرة ككلٍّ، والفقرة جزء داخل مجموعة الفقرات أو الشريحة ككلٍّ … إلخ. يعطي الكل اتجاه الحركة للأجزاء، وتعطي الأجزاء الحوامل الحسية لاتجاه حركة المعنى، لا تستطيع الأجزاء أن تكوِّن الكل، والكل يظل فارغًا بلا أجزاء، الجزء بدون الكل أعمى، والكل بدون الجزء فارغ.
وتفسير الظاهريات بناءً على هذه الفكرة الموجهة ليس غريبًا عليها؛ إذ إن لديها نظرية مشابهة حول علاقة الكل بالأجزاء، وهي نظرية في سياق منطقي أكثر منها في سياق تأويلي،١٨ تمت صياغتها للتأكيد على استقلال الموضوعات المنطقية، ومع ذلك تساهم نظرية الكل والأجزاء إلى حد كبير في صياغة قواعد لتفسير الظاهريات، وتمنع من تشتتها في نقاط متشعبة كما حدث في الدراسات الثانوية.

(٦) من المركز إلى المحيط، ومن المحيط إلى المركز١٩

النص الظاهرياتي نص متضخم وثري، والثراء الزائد يؤدي إلى التشتت، ومع ذلك فإن له مركز، وتركيز الانتباه على المركز يمنع من التشتت، ولفهم الظاهريات ينتقل الذهن من المركز إلى المحيطة، ومن المحيط إلى المركز، وفي كل مرة يضيع الظاهرياتي في شتات المحيط فإنه سرعان ما يعود إلى وحدة المركز، يجمع الشتات، ويوحد القصد. وفي كل مرة يشعر الظاهرياتي بضيق المركز فإنه سرعان ما يعود إلى رحابة المحيط، وهي نفس القواعد السابقة ولكن بصورة أخرى؛ فالمركز هو الكل، والمحيط الأجزاء؛ المركز هو الروح، والمحيط الحرف؛ المركز هو المعنى، والمحيط اللفظ.

ومن أجل صياغة منهج ظاهرياتي تظهر القاعدتان الرد والتكوين كقاعدتين رئيسيتين في المنهج، هذا مركز أول. وبعد تطبيق هاتين القاعدتين للمنهج تظهر القصدية كبنية عامة للشعور، وهذا مركز ثانٍ. وللقصدية بناؤها الخاص، صورة الشعور ومضمون الشعور، وهذا مركز ثالث. وأخيرًا فإن لصورة الشعور ومضمون الشعور بنية مشتركة على التبادل في التحليل الصوري المادي،٢٠ وهذا مركز رابع يقترب أكثر فأكثر من المحيط، والذي عليه ينتشر عديد من المفاهيم والتصورات الأخرى.

(٧) من الوحدة إلى الكثرة، ومن الكثرة إلى الوحدة٢١

وهذه القاعدة مثل السابقة تريد إرجاع الظاهريات إلى وحدتها الجوهرية ابتداءً من الكلمات والمفاتيح أو المفاهيم الأساسية؛ فالواقع أنه بالرغم من كثرة المفاهيم في الظاهريات فإنها مرتبطة فيما بينها بوحدة القصد، يُقال دائمًا نفس الشيء ولكن بطرق متعددة.٢٢

لذلك لا ينخدع أحد بالمصطلحات والآليات الظاهراتية، فيقال نفس الشيء بطرق متعددة، مرة بلغة الرياضيات، وأخرى بلغة المنطق، وثالثة بلغة علم النفس، ورابعة بلغة الفلسفة … إلخ. لا يتم التوقف إذَن عند اللغة وأساليب التعبير وألفاظه، كانت بضاعة العصر، كما أن الجهاز المفاهيمي في الظاهريات كان عادة العصر؛ لذلك لا يشير تعدد وسائل التعبير إلى تعدد أشياء مقابلة، وهذا يفسر ظاهر التكرار في مجموع النص الظاهرياتي؛ إذ تتطلب كثرة المصطلحات استعمالها في مواطن عديدة.

الظاهريات مليئة بعدد ضخم من المفاهيم والتصورات، فكيف يمكن تذكرها؟ يستحيل إبقاؤها في الذهن بكل دقيقاتها واختلافاتها المتشعبة، مع ذلك يسهل ردها إلى مفاهيم رئيسية، وتصورات مفاتيح، فترد التقسيمات الفرعية إلى التقسيمات الرئيسية، وترد التقسيمات إلى الأشياء المقسمة، والأشياء المقسمة إلى مصادرها، ودون ذلك، تظل الظاهريات أفكارًا متناثرة، من الصعب تجميعها في منهج عام.

(٨) من التركيب إلى التحليل، ومن التحليل إلى التركيب٢٣

هذه القاعدة هي آخر صيغة لقاعدة من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل؛ إذ لا يمكن تحليل الجوانب المختلفة للظاهريات دون الحفاظ على اكتمال العلم، وإلا تشعَّبت الظاهريات إلى رياضيات ومنطق وعلم نفس وعلم اجتماع وفلسفة … إلخ. إن مجموع العلم هو الذي يسمح بفهمه في أحد جوانبه، كما أن التحليل يسمح ببناء العلم في كل جوانبه، وإن تحليل الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة داخل الظاهريات يسمح بوضع قواعد المنهج الظاهرياتي المتكامل.

وإذا كانت الظاهريات استكشافًا بطيئًا وشاقًّا لمضامين الشعور والتعبير عنها بأسلوب دقيق فُسيفسائي، فإن فهمها يتطلب الاتجاه المعاكس، وهو تجاوز الأسلوب لإدراك الشيء إدراكًا مباشرًا ثم التعبير عنه، وبتعبير آخر لا تتطلب قراءة الظاهريات التصاق الظاهرياتي شبه الكامل لدرجة التماهي بينه وبين النص، بل على العكس تتطلب بعض المسافة من أجل رؤية النص عن بُعد، وتتبع النص كله عبارةً عبارةً، ولفظًا لفظًا، وحرفًا حرفًا، ونقطةً نقطةً، وفصلةً فصلةً وكأنه نص مقدَّس تجنبًا للخطأ في الفهم والتأويل، نوع من حفريات الفكر الذي تريد الظاهريات الهرب منه،٢٤ تتطلب قراءة الظاهريات تطبيق منهجها الخاص؛ أي إدراك حدسي لمقاصدها دون المرور بإجراءات العقل والتفكيك.
المنهج الظاهرياتي منهج ينكشف تدريجيًّا خطوةً خطوة، لا يعطى مسبقًا مرة واحدة وإلى الأبد، بل يتشكل طبقًا لمدى استكشاف ميدان الشعور،٢٥ وهو ما يدل عليه أسلوب التقطيع والتشريح،٢٦ فكل فصل أو قطع أو اجتزاء داخل التحليل يخرج جانبًا من المنهج عن المنهج الكلي، ويسقط رؤية ساكنة للعقل على ديمومة حية، يفهم المنهج الظاهرياتي إذَن بغايته وهدفه، وببواعثه وبقصديته،٢٧ المنهج الظاهرياتي تشييد رؤية كلية للعالم، وليست بحثًا خاصًّا في ميدان محدد، صحيح من اللازم وجود مواد للبحث، ونقاط تطبيق، والدخول في التاريخ طبقًا لمتطلبات التعليم الأكاديمي، ولكن المنهج الظاهرياتي دائمًا هو رؤية للعالم مستقلة عن مواد البحث ونقاط التطبيق وعن المحاضرات الجامعية.

(٩) من الأعمال المعاصرة إلى أعمال الظاهريات، ومن أعمال الظاهريات إلى الأعمال المعاصرة٢٨

والظاهريات، كما تم تحليلها من قبل، هي الحركة الفلسفية المعاصرة الأكثر إحكامًا التي استطاعت أن تقدم شيئًا إيجابيًّا، ومع ذلك، محاولاتها ومشاريعها وآمالها ليست حكرًا عليها؛ فهي حركة فلسفية مثل باقي الحركات التي حاولت نفس الشيء مع نفس الدرجة من النجاح، أكثر أو أقل؛ فهناك أوثان مشتركة يتم الصراع ضدها: الصورية نتيجة المثالية الترنسندنتالية، والتجريبية ميراث الاتجاه الحسي القديم، والنزعة النفسية، وخلط العصر الحاضر، وفي مواجهة هؤلاء الأعداد نشأت حركات مشابهة في مناطق مختلفة في الحضارة الأوروبية لنفس الأسباب، ولمناهضة نفس العيوب، ولها نفس الأغراض.٢٩
وكان للظاهريات نجاح أكبر من الحركات الأخرى؛ لأن مصادرها ممتدة في مختلف مناطق الحضارة، تنشأ من المثالية الترنسندنتالية، النقدية أو المطلقة، وهي اكتمال لها، كما أنها مرتبطة بالكوجيتو في العصر الحديث، والظاهريات تحقيق لمشروعها من «الكوجيتو» إلى «الكوجيتوتوم»، من «الأنا أفكر» إلى «الأنا المفكَّر فيه»، كما أنها تبدأ بالتجربة كما أرادت النزعة التجريبية القديمة.٣٠
والظاهريات هي آخر مكسب للوعي الأوروبي، وليست مستقلة عن المكاسب المعاصرة الأخرى التي لها نفس رسالة الظاهريات؛ فالمنهج المقارن ضروري من أجل تأطير الظاهريات في التاريخ المعاصر، وانفتاحها على كل العلوم المشابهة، وهو ما يفيد الظاهريات خاصة فيما يتعلق بالمصطلحات، وأثقلت اللغة المستعملة كأداة للتعبير بالميراث المنطقي الرياضي، وهو ما كان غريبًا على اللغة الفلسفية، وفي مقابل ذلك لم يكن للفلسفات المعاصرة هذا القلق في اللغة الاصطلاحية بالرغم من أنها كانت تعبر عن نفس حدوس الظاهريات،٣١ وما تجده الظاهريات صعبًا في التعبير نجده فلسفة أخرى مشابهة أسهل في التعبير وبلغة أكثر سهولةً ويسرًا، وتحليل الزمان كوعي داخلي أو ديمومة، وتحليل بواعث الخبرة الذاتية المشتركة وتقدم الوعي، وتحليل المعطى الحي أو الخبرة الذاتية تتبع نفس المتطلبات ضد الاتجاهات المشتركة المعارضة، بالرغم من الاختلافات الجزئية بين الجوانب المتعددة للظواهر موضوع التحليل.
وتستطيع الفلسفات المعاصرة أن تساعد على فهم الظاهريات؛ لأنها استطاعت أن تتجنب إلى حدٍّ ما عيوبَ التعبير في الظاهريات؛ فالحدس في فلسفة الحدس أوضح من الحدس في الظاهريات، والخبرة في البرجماتية أكثر وضوحًا من الخبرة في الظاهريات، كما تستطيع الظاهريات أن تساعد على فهم أفضل للفلسفات المعاصرة تستطيع أن تحول فلسفة الحدس أو فلسفة الخبرة إلى منهج، وتستطيع أن تخلصها من بقايا النزعات النفسية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية؛ فالفهم المتبادل بين الظاهريات والفلسفات المعاصرة يساعد على فهم كلٍّ منهما بالآخر.٣٢

(١٠) من الحاجة إلى العمل، ومن العمل إلى الحاجة٣٣

ليس من الضروري أن يكون لكل كلمة ولكل عبارة معنًى في النص الظاهرياتي؛ فالمعنى لا يخرج قسرًا من النص بل إنه يعطي نفسه تلقائيًّا إلى شعور الظاهرياتي؛ ويعتمد فهم معنى النص دائمًا على حاجة المفسِّر وعلى النص الذي يستقبل فيه شعور الظاهرياتي انفعالًا خالصًا؛ فيتم التوقف عنده لتحليل انفعاله، ويكون هو معنى النص؛ فالمعنى علاقة متبادلة بين الشعور والنص، بين الذات والموضوع، بين الشعاع الخارج من الشعور إلى النص والشعاع المقابل الداخل من النص إلى الشعور.

يتم الفهم إذَن طبقًا لما يريد الشعور فهمه، الفهم مشروط بحاجات الشعور المفسر، لا يعطي النص معنًى قسرًا، بل إن النص نفسه هو الذي يرسِّب معناه من خلال قراءته، والشرح أسوأ فهم لأنه يريد طوعًا أو قسرًا إعطاء معنًى لنص دون أن تدعو حاجة إلى ذلك.

ولا يأتي فهم لمعنى عبارة على نحو خارجي بل على نحو داخلي؛ فالفهم مشروط بالحاجة لفهم النص، يسدُّ حاجة في الشعور المولع بالفهم رغبةً في المعرفة، فإذا ما كان الشعور في مواجهة نص دون أي توجه مسبق تكون النتيجة مجرد تكرار، وهذا لا يمنع على الإطلاق من ضرورة وجود شعور محايد أمام النص، وأقل قدرة من اليقظة ضروري للفهم، ليس الشعور فارغًا تمامًا أمام النص، إن مجرد الاهتمام بالنص الظاهرياتي يكفي لهذا الحد الأدنى، ويكفي أن يغوص الباحث في أعماق ذاته كي يرى الأشياء نفسها التي يُعبر النص عنها، وفي التطبيق ما يهم هو معرفة أين يوجد الخلط في أي علم إنساني، ثم البحث عن التمييز الجوهري في الظاهريات الذي يمكنه توضيح هذا الخلط، والخلط بين علوم الوقائع وعلوم الماهيات خلط شائع في كل العلوم، علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ، ويسود أيضًا العلوم الدينية خاصةً اللاهوت المتحدث الرسمي باسمها جميعًا، وفي اللاهوت العقائدي هناك أيضًا خلط بين التاريخ والعقيدة. وتقدم الظاهريات تمييزًا بين الواقع والماهية، بين علم الوقائع وعلم الماهيات. العقيدة هي الماهية، والتاريخ هو الوقائع. من الضروري إذَن وضعُ التاريخ كعلم وقائع بين قوسين حتى لا تبقى إلا العقائد كعلم للماهيات، تجد الظاهريات إذَن تفسيرها في تطبيقها طبقًا للحاجات.

(١١) من النهاية إلى البداية، ومن البداية إلى النهاية٣٤

ليست الظاهريات علمًا تم اكتشافه لأول وهلة، بل هي نتيجة لبحث طويل ينتهي باكتمالها كعلم مستقل للرياضيات والمنطق وعلم النفس بل والفلسفة في التاريخ التي تكوِّن مصادرها الأولى، الظاهريات نفسها بعد اكتمالها تتطور من جديد نحو ميادين التطبيق، ثم تتطور بعد ذلك نحو البحوث الأخلاقية والاجتماعية والدينية كما تعبر عن ذلك المخطوطات؛ فالمقاصد العميقة للظاهريات توجد في النهاية؛ أي في البحوث الأخلاقية الدينية،٣٥ وفهم النهاية تُلقي على نحو تراجعي ضوءًا كثيرًا على التطور السابق؛ فالفهم الاستباقي للبداية كبحث خالص يساعد على معرفة وحدة القصد في الظاهريات، والتفسير الزماني يمهد سلفًا للتفسير البنيوي، فهم البداية يؤدي إلى النهاية في التطور التقدمي، وفهم النهاية يؤدي إلى البداية في الفهم التراجعي، والظاهريات هي هذا المنهج التقدمي التراجعي لتاريخ الوعي الأوروبي.٣٦

تفسر الظاهريات المكتملة في النهاية الظاهريات الناشئة في البداية، فهم النهاية بالبداية، وفهم البداية بالنهاية، كما هو الحال في تسلسل الأنبياء بين آدم والمسيح أو بين إبراهيم ومحمد، لقد تجلَّت الظاهريات أولًا بأول، فلا تحتوي الأعمال الأولى على ظاهريات ضمنية بل على العكس، يمكن تفسيرها عن طريق فهم الأعمال الأخيرة، الظاهريات في مرحلتها الأخيرة تفسر مرحلتها الأولى، المنهج التراجعي هو وحده القادر على تفسير الظاهريات، والرؤية التقدمية وحدها تستطيع أن تعطيها معناها الدقيق، وفهم النهاية يساعد أكثر على فهم كل الوسائل المستخدمة للوصول إلى هذه النهاية.

(١٢) من التاريخ إلى البنية، ومن البنية إلى التاريخ٣٧

الظاهريات تحقق للمثالية الألمانية واكتمال لها، وهي أيضًا اكتمال للحقيقة وتجلٍّ نهائي لها، والتي طالما بحث عنها الوعي الأوروبي منذ العصور الحديثة، تعتبر نفسها علمًا مستقلًّا بذاته وعن التاريخ، وقد لعب التاريخ دورًا في اكتمال الحقيقة في الظاهريات؛ ومن ثَم يترك التفسير الزماني مكانه إلى التفسير البنيوي، المهم إذَن هو عرض المنهج الظاهرياتي كحقيقة مكتملة بوحدة قصد كل عمل أو بوحدة قصد مجموع الأعمال، والمهم أيضًا إيجاد تأويل للظاهريات طبقًا لهذه القواعد. البنية بلا تاريخ فارغة، والتاريخ بلا نية أعمى، والتطور بلا اكتمال نزعة تاريخية، والاكتمال بلا تطور نزعة صورية. الحقيقة المطلقة تكتمل في التاريخ، والتاريخ تحقق لها. لا فرق إذَن بين العقل والتاريخ؛ ففي كليهما تتكشف الحقيقة وتكتمل.

١  Ex. Phéno., pp. 238–51.
٢  Log. Form. Trans., pp. 27-8.
٣  Ex. Phéno., pp. 238–40.
٤  وهو ما يظهر عند هيدجر فيما بعدُ في تصوره «اللغة منزل الوجود».
٥  لذلك وجَّه ماكس شيلر وهيدجر وهارتمان الظاهريات نحو الموضوع أكثر من توجيهها نحو الفعل.
٦  النص الظاهرياتي L’Oeuvre Phénoménologique.
٧  Ex. Phéno., pp. 240–2.
٨  فكرة، معنًى، نظرية Idée، نظري Eidetique.
٩  وهذا هو معنى العقل عند برجسون.
١٠  Ideen I, IV section: Raison et Realité, pp. 433–518.
١١  Rech. Log., II, 1ere Rech.
١٢  Ideen I.
١٣  Ex. Phéno., p. 242.
١٤  Ex. Phéno., pp. 242-3.
١٥  موضوع الروح والحرف هو مجرد قاعدة تأويلية وليس مشكلة ميتافيزيقية.
١٦  Ex. Phéno., p. 243-4.
١٧  هذه السمة موجودة بوضوح عند برجسون، حيث إن كل عبارة عنده توضح مجموع أعماله، وإن مجموع أعماله توضح كل عبارة.
١٨  Rech. Log., II, Rech. III, pp. 5–75.
١٩  Ex. Phéno., p. 244.
٢٠  صورة الشعور Noèse. مضمون الشعور Noême. التحليل الصوري المادي L’Analyse noètico-Noêmatique.
٢١  Ex. Phéno., pp. 244-5.
٢٢  وتوجد هذه الخاصية أيضًا في أعمال برجسون، يقول كل عمل نفس الشيء الذي يقوله العمل الآخر ولكن بطريقة أخرى طبقًا لنقاط التطبيق، الزمان (رسالة في المعطيات المباشرة للوجدان)، الذاكرة (المادة والذاكرة)، التطور (التطور الخالق)، الدين (منبعا الأخلاق والدين)، الفن (الضحك)، الفلسفة (الفكر والمحرك)، علم النفس (الطاقة الروحية).
٢٣  Ex. Phéno., pp. 245-6.
٢٤  حفريات الفكر Archéologie de Pensée.
٢٥  وضعت مسبقًا أربع قواعد للمنهج الاستنباطي أو خمس طرق للبحث عن العلية في المنهج الاستقرائي، وثلاث خطوات للمنهج الجدلي.
٢٦  التقطيع والتشريح Amorcage.
٢٧  «وفي كل لحظة يأخذ الإنسان الانطباع أن الجوهري لم يُقل بعد …» ملاحظة بول ريكير Ideen I, p. XIII.
٢٨  Ex. Phéno., pp. 246–8.
٢٩  وذلك مثل: ظاهريات هوسرل في ألمانيا، الاتجاه الحدسي عند برجسون في فرنسا، وفلسفة الخبرة الحية عند وليم جيمس في أمريكا.
٣٠  فلسفة الحدس عند برجسون فلسفة فرنسية بالأصالة. تبدأ بالتجربة، مصدر كل ميتافيزيقا. وهي فلسفة مضادة للنزعة الألمانية وأقرب إلى النزعة الأنجلوسكسونية. وفلسفة الخبرة عند وليم جيمس أمريكية بالأصالة. الظاهريات وحدها تعطي مكانًا كافيًا للمثالية الألمانية بجوار ميتافيزيقا الخبرة في فرنسا والبرجماتية في أمريكا.
٣١  بالرغم من التعارض الظاهري بين فلسفة هوسرل وفلسفة برجسون فإنهما يتشابهان تشابهًا عميقًا. وفلسفة برنشفيج وفلسفة وليم جيمس أيضًا في نفس الموقف لفلسفة هوسرل التي توحِّد بين العقل والتجربة.
٣٢  ومن ثَم فإن مقارنة بين هوسرل وبرجسون مقارنة دالة، وقد قُورِن برجسون من قبل مع أفلوطين وتيار دي شاردان، ومقارنات أخرى واردة بين هوسرل وبرنشفيج Brunschvicg ووليم جيمس.
٣٣  Ex. Phéno., pp. 248-9.
٣٤  Ex. Phéno., pp. 249–50.
٣٥  الظاهريات إذَن هي ظاهريات البحوث الأخلاقية أكثر منها البحوث المنطقية، وتستطيع «الأزمة» أن تشرح أفضل «الفلسفة كعلم محكم» كما تستطيع «التجربة والحكم» أن تشرح أفضل ثلاثية «الأفكار»؛ ومن ثَم فإن المخطوطات تشرح كل النص الظاهرياتي؛ لذلك لم ينشر هوسرل كثيرًا في حياته؛ فالمهم يوجد في النهاية.
٣٦  تقدمي-تراجعي Prospective-Retrospective.
٣٧  Ex. Phéno., pp. 250-1. كان العنوان في الأصل الفرنسي «التفسير البنيوي للظاهريات المكتملة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤