أولًا: مميزات الظاهريات التطبيقية على الظاهريات النظرية١

للظاهريات التطبيقية عدة مميزات على الظاهريات النظرية. أهمها ثلاثة؛ أولًا: الظاهريات التطبيقية ذات اتجاه واقعي خاصةً إذا كان موضوع الدراسة لا يُرد إلى المبادئ المنطقية.٢ ويكون مضمون الشعور خاليًا من أي حقائق لا واقعية وخيالية ما زالت تسود الظاهريات النظرية. صحيح أن المخيِّلة يمكن دراستها كجانب من الواقع، ولا تكون الدراسة على المخيلة في ذاتها، ولكن المخيلة كوظيفة للشعور.٣
ثانيًا: لا تتعامل الظاهريات التطبيقية مع كل الموضوعات أيًّا كانت، بل تتعامل فقط مع الموضوعات الدالة. وبتعبير آخر كما اختارت الظاهريات التطبيقية من قبل الموضوعات الواقعية أكثر من الموضوعات الخيالية فإنها تختار هذه المرة الموضوعات الواقعية الدالة وليس أي موضوع «دنيوي»؛٤ إذ يضم الواقع وقائع مصمتة ووقائع دالة. والوقائع المصمتة أقل حملًا للدلالات.٥
ثالثًا: تتجه الظاهريات التطبيقية دائمًا إلى غاية عملية، في حين أن الظاهريات النظرية ليست لها أي غاية عملية محددة. الظاهريات العملية أساسًا ظاهريات غائية، في حين أن الظاهريات النظرية يتم فيها التحليل من أجل التحليل.٦ وبالرغم من أن التحليل دقيق إلا أنه لا ينتهي إلى أي غاية عملية. في الظاهريات النظرية العلم من أجل العلم، وفي الظاهريات العملية العلم من أجل الحياة.٧

وبالإضافة إلى هذه المميزات السابقة تجد كثير من المشاكل في الظاهريات النظرية حلولها في الظاهريات التطبيقية؛ فالواقع أنه في الظاهريات النظرية يظل الشعور عالَمًا أكثر اتساعًا من العالم الواقعي. يحتوي تصورات ومقولات وميادين يتكون فيها الموضوع. لا يكفي وضع الموضوع المادي بين قوسين، الرد الظاهرياتي. ولا يكفي أن ينتزع من الموضوع الحي كل الآثار النفسية، الرد النظري، لأن ما تبقى يظل محاطًا ومغلفًا بالمؤلف نفسه بتصورات ومقولات وميادين أو مركباتها، مثل: تصورات ميدانية، مقولات تصورية، ميادين أنطولوجية، أنطولوجيات ميدانية … إلخ. ولا يهم إذا كانت عوامل الشعور هذه واقعية أم لا واقعية، ما يهم هو ما يتبقى من الموضوع بعد أن تم رده مرتين ثم تغليفه مرات عديدة. هذه الملاحظة ليست موجهة من إمكانية قيام أنطولوجيا كعلم شامل، بل هي فقط تذكير بمبدأ «العود إلى الأشياء ذاتها». في الظاهريات التطبيقية، يظهر الموضوع في واقعيته الخاصة دون أي تغليف عقلي. التطبيق يبغي الواقع، ويتجه نحوه؛ فالواقع أغنى وأكثر دسامة من التصورات والمقولات.

ما زالت الظاهريات النظرية ملجأً يؤكد أهمية شرعية القبلي، طبقًا للميراث الفلسفي الذي منه خرجت.٨ من أين يأتي هذا القبلي؟ تحاول الفلسفة التطبيقية حل هذا الإشكال عن طريق إيجاد معطًى أساسي كمصدر للقبلي.٩ هذا القبلي هو معيار عدة أحكام جزئية.
أصدرت الظاهريات النظرية عدة أحكام. كل حركة فكر هي تقريبًا حركة سابقة؛ فاللجوء إلى الاتجاه النفسي هو حكم على الاتجاه الصوري، واللجوء إلى المثالية المنطقية هو حكم على الاتجاه النفسي.١٠ والرد هو حكم ضد علوم الوقائع.١١ الموضوع الواقعي هو حكم ضد الشك والنسبية والوضعية، ويعيد كل حكم بناء الواقع مع التمييز بين عدة مستويات مختلفة، فهو ليس حكم واقعة جزئية ولا حكم قيمة افتراضية، بل هو حكم واقع كلي؛ فالواقعة موضوعة بين قوسين، والقيمة موجودة في حلول الشيء في الشعور. الظاهريات التطبيقية هي القدرة المستمرة على إصدار الأحكام الجزئية من أجل تصحيح العلاقات بين مستويات عديدة للوجود. كل حكم هو تصحيح علاقة تقوم على الخلط أو الفصل.١٢ هذا الحكم الجريء القائم على معيار قبلي يتجنب أن تصبح الظاهريات تبريرًا للأمر الواقع.١٣ وتضمن للظاهريات تصحيح العلاقة بين مختلف المستويات دون الوقوع في تبرير أحدها أو الدفاع عن الآخر، يساعد على تحديد العالم الحي وإعطاء أكبر قدر ممكن من الواقع، وأقل قدر من الخيال. وباختصارٍ الحكم الجريء هو حكم امتلاء، يتجه نحو الوجود من أجل تصحيح الواقع. والتوقف عن الحكم على الوقائع يمهد الطريق نحو الحكم الجريء.

وقد فتحت الظاهريات النظرية الطريق من أجل إدراك الواقع دون تأطيرها في تصور ممكن للعالم ونسق شامل، وتحاول الدراسات الثانوية تقديم الظاهريات كفلسفة مستقلة بالنسبة إلى الميراث الفلسفي أو معتمدة عليه، وعلى النقيض من ذلك تعطي الظاهريات التطبيقية دائمًا إلى الظاهريات النظرية دوافع حيوية جديدة باكتشاف ميادين جديدة للتحليل، وكل تجربة جديدة في ميدانٍ ما تمد الظاهريات بأحد جوانب الواقع. الظاهريات التطبيقية هي الضامن للغنى الدائم للظاهريات النظرية.

وأخيرًا تتعهد الظاهريات التطبيقية بتحويل الظاهريات إلى منهج للتطبيق؛ لأنها في علاقة مباشرة مع الواقع، وتستطيع أن تحكم على مدى أهمية هذا المشروع، ولا تستطيع الظاهريات النظرية أن تشعر بهذه الضرورة لأن لديها أسباب وجودها في ذاتها، وتبحث عن وسائل تطويرها في ذاتها. وهكذا فإن الظاهريات التطبيقية لا تقوم فقط بدور إعادة تصحيح العلاقة بين التصورات الظاهراتية وصياغة منهج ظاهراتي على قد الواقع، وقادر على التكيف مع الميادين التي يتم تطبيقه فيها. وإذا كانت الظاهريات الحالية في حاجة إلى إصلاح، فإن طريق الإصلاح العاجل يكون في هذا الاتجاه.

١  Ex. Phéno., pp. 101–105.
٢  هذه حالة ظاهريات ماكس شيلر، وموضوعها المشاكل الأخلاقية والدينية.
٣  درَس سارتر خاصة «الخيال» L’Imagination، والمخيلة L’Imaginaire، ساد «الخيال الجانب التاريخي» للمشكلة في حين أن التحليل النفسي هو الذي ساد «المخيلة». الأول صورة الشعور Noèse، والثاني مضمون الشعور Noême.
٤  دنيوي Mondan.
٥  لاحَظ باسكال من قبلُ التمييز بين الواقعة العادية والواقعة الدالة J. Guitton: Génie de Pascal, pp. 12-3.
٦  هذه الصفة واضحة للعيان خاصة في «محاضرات في ظاهريات الشعور الداخلي بالزمان» Vorlesungen zur Phénoménologie der inneren Zeit-Bewustsein.
٧  في تطور المنهج الظاهرياتي، يوجد هذا الميل إلى العمل بوضوح عند ماكس شيلر.
٨  ما زالت الظاهريات مغروزة في نظرية المعرفة، الميراث الكانطي، تدفعها نفس المتطلبات، ضد الشك والنسبية والدوجماطيقية Ideen I, p. 80.
٩  في الظاهريات التطبيقية، ظاهريات الدين، أُخذ الوحي كمعطًى أصلي، نموذجًا للقبلي، سواء في الشعور الفردي أو في الشعور الجمعي؛ أي الحضارة. ومن الملاحَظ أن المصدر اليهودي المسيحي للحضارة الأوروبية، كما تم عرضه، لم يؤخذ في الاعتبار في Krisis مع المصدرين، اليوناني والروماني وأوروبا نفسها. انظر الملاحق Appendice, II, III, IV.
١٠  الحكم الأول هو مرحلة «فلسفة الحساب» Philosophie der Arithmetik، والثاني مرحلة «بحوث منطقية» Rech. Log.
١١  Ideen I, 1ère section, chapitres 1, 2.
١٢  الفلسفة المعاصرة، خاصةً فلسفة برجسون وجيبتون، فلسفةُ علاقة مثل فلسفة هوسرل.
١٣  حكم الواقع يحفظ الظاهريات كمعيارية، وإلا خاطر المنهج الظاهرياتي بأن يكون مثل المنهج الدفاعي (الجدلي) الذي يبرر كل شيء. الأول في الشعور، والثاني في التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤