ثانيًا: طرق التطبيق١

بالرغم من أن الدراسات الثانوية تقترب من الظاهريات بعدة طرق إلا أنها تتميز بصفات عامة مشتركة تجمع بينها.

لقد أدت الدراسات الثانوية منذ نشأتها دورها، وهو تعريف الظاهريات للجمهور، وقدَّمتها وكأنها اكتشاف لميدان ما زال مجهولًا، ميدان الوجود،٢ وتم تناول الظاهريات الترنسندنتالية والأنطولوجيا الظاهراتية بنفس الطريقة كاكتشاف للوجود، وأعيدت نفس المحاولة مع مشكلة الحقيقة مع تتبع تطور مفهوم الحقيقة من الظاهريات الترنسندنتالية إلى الأنطولوجيا الظاهراتية.٣
وميزة المعلومات العامة أنها أيضًا مفيدة على وجه العموم،٤ تساعد على فهم البيئة الفلسفية التي نشأت فيها الظاهريات، ويُحيي التلاميذ ذكريات الأستاذ، ويعطون صورة حية لشخصه وللدافع الذي أعطاه للإبداع الفلسفي،٥ وتتم رؤية المنهج الظاهرياتي من خلال شخص مؤلفه، وسمع التلاميذ صداه،٦ وانتشرت الظاهريات بين التلاميذ لأنها لمست أكثر المستويات إنسانية للشخص، وأصبحت محررة لكل التراث الفلسفي السابق.٧
ويوجد قسم لا بأس به من الدراسات الثانوية في أعمال المؤتمرات التي تضم مجموعة من البحوث في مختلف الجوانب التي تمت معالجتها وفيها، المعلومات العامة، عروض حول بعض الموضوعات الأساسية في الظاهريات، مساهمتها في تطوير العلوم الإنسانية في مرحلتها الراهنة، حلول المشاكل الفلسفية في التاريخ بمساعدة الظاهريات، مقارنات مع المذاهب الفلسفية السابقة، تأملات فلسفية خاصة بواسطة الظاهريات، وأخيرًا دلالتها في العصر الحاضر أو داخل الحضارة الأوروبية.٨
وقد تساعد بعض الذكريات المعاصرة على فهم المراحل المختلفة المتتابعة في تطور الظاهريات؛ لأن أصحاب هذه الذكريات عاشوها ساعة بساعة مع مؤسسها؛٩ فالظاهريات في الحقيقة خبرة معاشة عند صاحبها، لا تنفصل عن شخصه، كما تؤكد على ذلك ذكريات أتباعه،١٠ ويُساعد الكم الهائل من الرسائل، وأيضًا الاعترافات الشخصية من الأستاذ إلى تلاميذه، بشكل كبير، على التفسير الأخلاقي الديني للظاهريات.١١ وهذا ما تشهد به المخطوطات.

تستطيع عروض الدراسات الثانوية أن تعطي مخططًا عامًّا للعمل الضخم لمؤسس الظاهريات، والذي يصعب على القراء استيعابه، يستطيع عرضه أن يعطي بيانًا دقيقًا ونافعًا أو ملاحظة وجيهة، ويكون العرض أحيانًا مملوءًا بالمعلومات الدالة على حياة المؤلف وعمله.

ومع ذلك هناك قسم كبير ناجم للغاية من الدراسات الثانوية التي قام بها الفلاسفة الظاهراتيون؛ إذ طُبق المنهج الظاهرياتي مباشرة بروح العمل وليس بحرفه. مثلًا، لم تُدرس العاطفة لا على مستوى الذهن ولا على مستوى الانفعال، بل على المستوى الظاهرياتي؛ أي على مستوى الخبرة الحية،١٢ والنتيجة ببساطةٍ فلسفة مجهرية ترى المتناهي في الصغر داخل الحقيقة، مع أن الحقيقة تتطلب رؤية المتناهي في الكبر،١٣ وتبين الدراسات الثانوية القريبة من الظاهريات التطبيقية التقدم في العلوم الإنسانية التي يُطبق فيها المنهج الظاهرياتي،١٤ يكفي شق الطريق بين المنهج العقلي الخالص والمنهج التجريبي الصرف للعثور على مستوى الخبرة الحية؛ أي المستوى الإنساني.
وتقع الدراسات الثانوية أحيانًا في التكرار، تشرح أكثر مما تؤوِّل،١٥ وتشبه الشروح اللاتينية في الفلسفة المدرسية للأعمال الرئيسية للفلسفة اليونانية؛١٦ ففي ذهن المؤلف ليس المنطق الصوري موضوعًا مستقلًّا، ولكن نقطة بداية نحو المنطق الترنسندنتالي، والمنطق عند مؤسس الظاهريات ليس كتابًا واحدًا بل مجموعة من الأعمال الظاهراتية،١٧ هو نقطة تطبيق للمنهج الظاهرياتي بعد اكتماله، ليس هو الظاهريات بل مصدرها ونقطة تطبيقها، والمنهج الظاهرياتي أكثر من نطاق، والصور المسقطة الثابتة على الظاهريات تحولها إلى منطق صوري، إلى فكرة علوم أو علم اجتماع، للظاهريات وحدتها العضوية التي لا يمكن تفكيكها بوجهات نظر مسقطة عليها، وأخطاء هذا الفهم لمثل هذا المشروع ليست مستحيلة، وليس للمشاكل المتناولة هذه الأهمية التي يعطيها الشارح، هي مشاكل عند الشارح أكثر منها عند المؤلف الرئيسي للعمل، تفهم الظاهريات بالروح وليس بالحرف، بالعمل المتكامل وليس بصورة ثابتة مسقطة عليه. الظاهريات كما تبدو في الدراسات الثانوية مجرد تكرار منظم لبعض المفاهيم الرئيسية أو الهامشية في الأعمال الرئيسية دون تحديد هدف واضح باستثناء العرض، يعرض الباحث دون تقييم أو نفي أو إثبات أو برهان، الفهم أولًا هو بحث عن المقاصد الدقيقة في العلم، وليس ما يريد الباحث العثور عليه، وإسقاط وجهات نظر خارجية على الظاهريات ليس فهمًا، وكلا الطريقتين على طرفَي نقيض، عدم قول أي شيء أو قول شيء آخر. وتستطيع المقاصد الدفينة للعلم وحاجة الباحث إخراج الظاهريات من التكرار غير النافع، فقد تكررت أشياء عديدة دون إدراك دلالتها العميقة؛ مثلًا تم عرض «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» دون إدراك علاقته الداخلية في الحركة النازلة من الصوري إلى الترنسندنتالي.١٨
وإذا تضمَّنت الظاهريات بعض المشاكل فإنها ليست في الداخل بل في الخارج؛ فلكل فلسفة مشاكلها النقدية، وقد لا يمكن الدفاع عنها، وهذا لا يطعن في العلم نفسه كقصد، ليست المشكلة إذَن هذه النقطة الخاصة أو تلك، والتي لا دلالة لها في مجموع العمل الظاهرياتي، بل التوجهات العامة، بل التوجه العام للعالم ذاته مثلًا، الظاهريات التطبيقية في مواجهة الظاهريات النظرية أو الظاهريات الحركية في مواجهة الظاهريات السكونية.١٩
وتحاول الدراسات الثانوية أحيانًا رؤية ما لم تستطِع الظاهريات رؤيته إلا على نحو غامض، وذلك مثل مشكلة اللاشعور،٢٠ ربما مسَّت الظاهريات المشكلة، ولكن ليس على نفس الدرجة ونفس الأهمية في «فلسفة اللاشعور» بالمعنى الدقيق أو في التحليل النفسي،٢١ وبوجه عام تترك الدراسات الثانوية المضمون ولا تأخذ إلا الصورة، وتنتمي اللغة وربما أيضًا المفهوم إلى الصورة، الشيء وحده هو الذي ينتمي إلى المضمون، تترك الدراسات الثانوية الحدس الأساسي ولا تأخذ إلا الشذرات، مهمتها إثارة مشاكل ثم محاولة حلها.٢٢
وتعود الدراسات الثانوية إلى المشاكل التي تريد الظاهريات نفسها تجاوزها مثل مشكلة المثالية والواقعية؛٢٣ ومن ثَم تعوق التقدم الذي أرادت الظاهريات القيام به بل وتؤخره. صحيح يمكن تناول مشكلة المثالية والواقعية لبيان إلى أي حد أمكن حلها أو حتى إلغاؤها في الظاهريات،٢٤ ليس الهدف هو تحويل القديم إلى الجديد، بل كيف تحول القديم في الجديد،٢٥ وقامت البداية الجذرية بخطوة واسعة للابتعاد مرة واحدة وإلى الأبد عن العقلية المفرقة التي تبدأ بقسمة الشيء إلى جزأين، ووضع كل جزء في عالم مختلف عن الآخر.٢٦
وعيبُ وضع الظاهريات في تاريخ الفلسفة مثل غيرها هو تحويلها إلى تاريخ، وهي تعلن عن نفسها أنها مستقلة عنه بعد أن اكتملت الحقيقة فيه. الظاهريات، عند مؤسسها الأول، ليست إلا في البداية، ولن تصبح أبدا تصورًا للعالم أو مذهبًا مغلقًا، يمكن أن تدخل في التاريخ كعلم يساهم في تطور الحضارة، صحيح أن الظاهريات ليست مذهبًا في تاريخ الفلسفة إلا أن لها دلالة حضارية مهمة، بل أخذ التاريخ وفلسفة الحضارة على أنهما نقطتا تطبيق للمنهج الظاهرياتي الذي اكتمل من قبل، ومن بين أهم التأويلات للظاهريات التأويل الحضاري.٢٧
وأحيانًا تكون الدراسات الثانوية سببًا في انحراف المحور في الظاهريات، سواء في المصطلحات أو في المفاهيم أو في الأشياء ذاتها،٢٨ وتتحول اللغة الاصطلاحية التي هي مجرد أدوات للتعبير في أعمال هوسرل إلى نظرية كاملة في الدراسات الثانوية، ويُصبح مفهومٌ مساعد لمفهوم رئيسي آخر أكثر أهمية مفهومًا رئيسيًّا، ويصبح الشيء الذي هو مجرد جانب من منطقة بأكملها عالمًا بأكمله، كل دراسة ثانوية هي انحراف عن المحور الرئيسي في أعمال هوسرل، تعطي أقل مما يعطيه العمل الرئيسي، تخفي المشاكل الرئيسية، وتتناول المسائل الفرعية، تثير مشاكل مزيَّفة فتنحرف الرؤية عن العمل الرئيسي، وتُفقد الفكر اتجاهه، وتحول المنهج إلى نظرية، والفكرة الموجِّهة إلى فلسفة، والمفهوم إلى تصور مغلق للعالم.
لقد أبرزت كثير من الدراسات الثانوية بعض جوانب الظاهريات، ولا توجد دراسة واحدة حتى الآن حلَّلت كل جوانبها محاولةً تنظيمها في منهج، صحيح أن التفكير الظاهرياتي تفكير جذري خاصة فيما يتعلق بالاتجاه الطبيعي، ولكن هذا التفكير الجذري ليس إلا خطوة تمهيدية في تكوين المنهج الظاهرياتي ذاته.٢٩ ولا يكفي تطوير النزعة الجذرية في نقاط عديدة: اللغة، النزعة الطبيعية المعتادة، الرد، الوحدة، الاستقلال والغياب لكل افتراضات مسبقة وكل ميتافيزيقا. والنزعة الجذرية في التفكير الظاهرياتي مثل خلوده، الأولى تبين استقلاله بالنسبة إلى التاريخ، والثاني استقلاله كحقيقة.٣٠
وقد أبرزت مؤتمرات أخرى بعض جوانب الظاهريات أكثر من جوانب أخرى،٣١ مثال ذلك الترتيب الزماني للظاهريات في تاريخ الفلسفة أو ظهور كل عمل داخل الظاهريات، ويساعد الترتيب الزماني على فهمٍ أكثر للظاهريات التي تتكون تدريجيًّا، وبالرغم من تعدد مصادرها، الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية، فإن لها قصدها المتجانس، ومع أن للظاهريات تطورها فإنها تحتفظ أيضًا بوحدتها، كما تبرز قضية أخرى وهي فهم كل عمل باعتباره قصدًا، وعولجت موضوعات أخرى مثل القضايا الرئيسية في الظاهريات أو التأملات الفلسفية ابتداءً منها.
ويحتوي تحليل موضوع رئيسي في الظاهريات في الدراسات الثانوية عناصر كثيرة متناثرة، لكلٍّ منها تطوره الخاص، ويختلط عرض الظاهريات بنقدها، فقد وصفت الظاهريات الترنسندنتالية كظاهريات للفعل وليست كظاهريات للموضوع، كما اختلطت الظاهريات بتأويلاتها المختلفة، ونُقدت اللغة نقدًا عابرًا مثل عدم قدرتها على التعبير، دون أن يتطور هذا النقد أكثر فأكثر، سواء فيما يتعلق بلغة الظاهريات أو فيما ينطلق باللغة على العموم. وأهملت مقارنات عديدة بين مختلف المناطق الحضارية.٣٢
وقد عُرضت الظاهريات بمنهج تحليلي يشرِّح المفاهيم أكثر من منهج تركيبي يضم المفاهيم في قاعدة منهجية، وبسبب نقص الوعي بالظاهريات كمنهج تطبيقي أكثر منها نظرية أو فلسفية، عرضت من خلال عدة مفاهيم خاصة، ولو تمت محاولة عرض تركيبي فإنه لا يتعدى تجاور المفاهيم التي تم تحليلها من قبل، ويمكن تتبع نشأة الظاهريات وهي في سبيل التكوين دون الوقوع في تجزئة مصادرها مع المحافظة على حركتها الصاعدة نحو الظاهريات المكتملة.٣٣

وأحيانًا تثير الدراسات الثانوية في الظاهريات مشاكل لا يستطيع حلَّها إلا المتخصصون وأهل الخبرة، ويسود الاتجاه العلمي جزءًا لرؤية كلٍّ منها تحت المجهر مع الرغبة في استنباط نظريات نفسية وعلمية بالمعنى الدقيق وكأن الظاهريات معمل لعلم النفس. وقامت التحليلات الظاهراتية بالتأمل البسيط في الخبرات اليومية بمساعدة البداهة والحدس، وتنطبق الصرامة الظاهراتية على التأمل وقلب النظرة أكثر منها على التجربة العلمية.

وتستحق التقنية الظاهراتية بعض الانتباه،٣٤ ولا تعني التقنية هنا قواعد المنهج وتوضيحها، بل تشير إلى لغة الظاهريات ومجموع «الجهاز المفاهيمي»، ويضم إلى هذه التقنية أيضًا مناهج الاستدلال وطرق البرهان، وكل ما يتعلق بالتركيب الخارجي للعمل فهو أيضًا من التقنية، وأحيانًا تريد الدراسات الثانوية أن تبين أهميتها باستعمال عدة ألفاظ، وتركيبها على نحو مصطنع للتعبير عن أشياء بسيطة للغاية.
وكانت كل محاولة لعرض المنهج الظاهرياتي دائمًا غير كاملة، وكان ذلك طبيعيًّا؛ لأنه كان من الضروري البحث عن نقطة بداية في موضوع محدد يُظن أنه الموضوع الرئيسي، وعن نقطة نهاية تتوجه نحوها كل الظاهريات. وقد وجَّهت الظاهريات نحو المنطق الترنسندنتالي عن طريق فكرة العلم،٣٥ أما المحاولة عن طريق تنظير التجربة وتعقيلها فوجهت الظاهريات نحو الظاهريات العقل الشاملة،٣٦ ويكون عملًا عبقريًّا محاولة أن تكون نقطة البداية متعددة، وإذا كانت نقطة النهاية الظاهريات المتكاملة نفسها.
وهناك علاقة وثيقة بين الظاهريات والعلوم الإنسانية، الظاهريات منطق كل علم خاصةً العلوم الإنسانية، وعلم النفس أحد المراحل التي مرَّت بها الظاهريات، ويبين نقد النزعة النفسانية حركة صاعدة نحو الخالص، وقد رُفض في نفس الوقت علم النفس التجريبي وعلم النفس العقلي، وقد كانت لثنائية النفس والبدن، وهو ميراث العصور الحديثة خاصةً فلسفة الكوجيتو، آثار وخيمة على تطور الحضارة، الصورية والتجريد من ناحية، والمادية والشيئية من ناحية أخرى، وقد أدى القضاء على الصورية الأولى والمادية الثانية إلى التقابل في «الأنا الخالص»، وتتعدى دلالة علم النفس الظاهرياتي بالنسبة لعلم النفس الحالي التحليل البنيوي للموضوع إلى كل الحضارة،٣٧ والتفسير الحضاري للظاهريات من بين أكثر التفسيرات إحكامًا.
وقد دُفعت الدراسات الثانوية إلى حد كبير نحو الظاهريات النظرية؛ إذ تحاول كل دراسة عن الظاهريات إدراك موضوعاتها الأساسية، ويؤدي هذا العمل «الثقافي» إلى تحويل الظاهريات إلى مجموعة من الأفكار والنظريات داخل إطار تاريخ الفلسفة،٣٨ مع أن غاية الظاهريات القصوى هو العود إلى الأشياء ذاتها، يريد كل اتجاه تنظير كل موضوع مقدمًا في التصور-المفتاح؛٣٩ ومن ثَم نقدت الظاهريات مضمونها الأصلي وهي تتكيف مع هذا التصور أو ذاك،٤٠ يحاول كل اتجاه ربط مجموع الموضوعات في مذهب متسق مثل باقي المذاهب، ففقدت الظاهريات صفتها كمنهج للبحث له نفس الخاصية التي للظاهرة الإنسانية.
والخطر الداهم هو عرض الظاهريات كمذهب مغلق، الظاهريات قادرة ولا شك على تقديم نفسها فعليًّا وعلى نحو ملموس ودون أن تكون مذهبًا، وأقل من عقيدة، ولكن فقط كمنهج للتطبيق له قواعد محددة، ويمكن عرض هذا المنهج تدريجيًّا ودون فرضه كمجموع واحد يؤخذ كلية أو يُترك كلية، وهناك خطر آخر وهو الدخول إلى المنهج، ولكن من جانب واحد، يستبعد كل الجوانب الأخرى، مضيفًا المنهج العام، وموجهًا له نحو أحد اتجاهاته.٤١ صحيح أن فكرة العلم مدخل وطريق؛ فالظاهريات علم دقيق، ولكن المنطق الترنسندنتالي نتيجة نقطة تطبيق للمنهج الظاهرياتي المكتمل دون أن تكون نقطة النهاية للمنهج الظاهرياتي نفسه،٤٢ وصحيح أن فكرة الظاهريات طريق آخر للاقتراب من المنهج الظاهرياتي وهو في طريق التكوين دون أن يكون المنطق الترنسندنتالي هو نهاية المطاف في الظاهريات،٤٣ كانت أبواب الدخول دقيقة، ولكن نقاط الوصول كانت أجزاءً من الظاهريات، وليست الظاهريات نفسها.
وتحاول الظاهريات النظرية التي تعرضها الدراسات الثانوية أن تصوغ الظاهريات كمذهب مكتمل وتعرض بنيتها الداخلية، تحاول تجميع أكبر قدر ممكن من العناصر المتفرقة التي يمكن بواسطته تشييد المعمار الظاهرياتي، والظاهريات التطبيقية هي عملية فلسفية لا تنتهي ولا تكتمل ولكن تُعاد باستمرار، تبدأ حتى المنتصف ثم تبدأ من جديد ثم ينتهي كل شيء،٤٤ وتظل الظاهريات، بالرغم من أنها علم محكَم، مفتوحة دائمًا، تُعطيها كل دراسة خبرة جديدة أو ميدانًا جديدًا للاستكشاف.
تحليل الظاهريات عملًا عملًا أمرٌ ممكن لو تمَّت المحافَظة على الوحدة القصدية لكل عمل في إطار من القصدية العامة للأعمال، «الفلسفة كعلم محكم» حقيقة مستقلة وليست مجرد محاولة تاريخية تحمل هذا الاسم، صحيح أنه قبل الظاهريات كانت هناك محاولات لتحقيق هذا المشروع ولكنها ظلت دائمًا محدودة،٤٥ ويظهر بوضوحٍ تحليل عمل عمل في الشروح.٤٦
صحيح أن الظاهريات تصدر أحكامًا على النظريات الفلسفية السابقة؛ أي رؤية الحاضر في الماضي، والماضي في الحاضر، ولكنها ليست أحكام واقع بل أحكام قيمة، وأُصدرت على نحو استرجاعي،٤٧ وهذا هو المعنى الحقيقي للتقدم في تاريخ الفلسفة،٤٨ وإذا لم تكن الأحكام صائبة لمؤرخ الفلسفة، فإنها صائبة بالنسبة للفيلسوف. صحيح أن الدفاع عن الحقائق التاريخية ممكن، ولكن اكتشاف حقيقة أخرى أكثر اتساعًا وأكثر رحابة يمكن إسقاطها على حقيقة الماضي ورؤيتها على أنها جزئية من وجهة نظر هذا العصر مع أنها كانت كلية في عصرها.٤٩ وفي العمل الفلسفي والحضاري لا يوجد تاريخ صحيح للفلسفة، ولكن هناك عملية غائية لاكتشاف الحقيقة، ولا تهم «الحقيقة» التاريخية؛ إذ إنها لا توجد في ذاتها لأنها مقروءة من المؤرخ وخاضعة لتفسيره، وعلى أقصى تقدير، الدراسة المقارنة ممكنة بين الظاهريات والمذاهب الفلسفية السابقة من منظور تقدم الحقيقة في التاريخ.
ويمكن تحليل الرسالة التحررية للظاهريات دون إرجاعها إلى المشاكل التاريخية الصغيرة، صحيح أن الظاهريات تغير جذري لمسار الوعي الأوروبي الذي ما زالت تسوده النتائج السلبية لفلسفة الروح؛ النفسية، العقلية، الصورية … إلخ. فالعالم لم يعد موضوعًا للتمثل بل للحياة،٥٠ ويكفي الاحتفاظ بالدافع الحيوي الذي أعطته الظاهريات في مختلف العلوم الإنسانية لاستعماله لتقدمها ولحل كل المشاكل المنهجية الحالية.٥١
وأحيانًا تكون النتائج خارجة تمامًا عن الظاهريات، وأحيانًا تكون ضئيلة للغاية بالنسبة لها، وأحيانًا تتضمن ملاحظات مهمة دون تطويرها ودون أخذها إلى نتائج الأخيرة. والنتائج الخارجية هي تلك التي تحيل الظاهريات إلى المشاكل الفلسفية التي تريد الظاهريات تجاوزها أو التي وضعتها بين قوسين. والنتائج الضئيلة هي تلك التي تعود إلى بعض المفاهيم الجزئية خاصة في المنطق أو الفلسفة دون أن تعطي الظاهريات نفسها مرة واحدة وإلى الأبد مقصدها الدفين. والنتائج المضبوطة هي الملاحظات الصائبة التي كان يمكن أن تؤدي إلى تطوير الظاهريات النظرية إلى ظاهريات تطبيقية. وكان يمكن استخدام النموذج «الواقعة-الفكرة» إلى اكتشاف الحالة الممثلة أو الحالة المثالية لمنهج يقوم على الشامل العياني،٥٢ وكان يمكن أن تؤدي وحدة الوجود والصيرورة إلى ضرورة إبراز ظاهريات حركية بجوار الظاهريات السكونية، وهو المشروع الذي كانت الظاهريات نفسها تأمل في تحقيقه.٥٣
وما تقدمه الظاهريات من فائدة للعلم مستقلة عما تقدمه لشخص بعينه،٥٤ وأهمية الظاهريات التاريخية هي الإلغاء الكلي للتاريخ الذي اكتمل فيها، وأهميتها المنهجية هي صياغة منهج يكون هو تحقيق لمشروع الوعي الأوروبي منذ عصر النهضة، وأهميتها الإنسانية في الأمل الذي تعطيه للوعي الأوروبي وهو في نهايته.
وقد استخدم اسم «هوسرل» مرات عديدة كصفة «هوسرلي»، ولحسن الحظ لم يتم استخدامه حتى الآن اسم «الهوسرلية»، وربما يأتي ذلك لسوء الحظ عن قريب، صحيح أن هوسرل هو مؤسس الظاهريات ولكنها علم مستقل عنه، هي بحث دائم من جماعة بحثية مقاربة للحقيقة بالعودة إلى الأشياء ذاتها، ولا تنتمي الحقيقة ولا الأشياء ذاتها إلى «هوسرل»، فقد جرت العادة في الوعي الأوروبي ارتباط الحقيقة باسم مكتشِفها، والفلسفة باسم واضعها؛ الديكارتية، الكانطية، الهيجلية، البرجسونية … إلخ. ولا يرتبط العلم باسم مؤسِّسه فيقال كبلر وليس الكبلرية، ونيوتن وليس النيوتنية، وجاليليو وليس الجاليلية. بل إن الدين أيضًا ارتبط باسم نبيه مثل: المسيحية، والبوذية، والكونفوشوسية؛ وكأن الشخص هو الذي يخترع الفلسفة أو الدين، ولا يكتشف حقيقة معطاة سلفًا مستقلة عن الشخص الذي أعلنها باستثناء الإسلام الذي لا يُسمى «محمدية» إلا عند بعض المستشرقين، ومن بين مزايا الظاهريات أنها قضت على التشخيص المستمر للفلسفة، وهذا ما يوضح غياب الإحالة الدائمة للأعمال التي تستلهمها الظاهريات، وتثبت الظاهريات نفسها موضوعًا مستقلًّا عن كل مضمون مادي، والشخص أحد جوانبه،٥٥ ومع ذلك تُعرَض كل الظاهريات أحيانًا تحت صفة «هوسرلي» اشتقاقًا من اسم مؤسسها «هوسرل».٥٦
١  Ex. Phéno., pp. 196–209. طرق Le Modes.
٢  E. Levinas: En découvrant L’Existence avec Husserl et Heidegger.
٣  A. De Waelhens: Phénoménologie et Vérité Essai sur l’évolution de l’Idée de Vérité chéz Husserl et Heidegger.
٤  H. L. Van Breda: La sauvedage de l’heritage Husserlien et la foundation des Archives-Husserl, Phänomenologica pp. 1–42, 2.
٥  W. E. Hocking: From the early days of the “Logische” Untersuchungen, Phänomenologica, 4, pp. 1–11.
٦  W. Scharp: Erinnerungen an Husserl, Ibid., pp. 12–25.
٧  فيما يتعلق بتحرير علم النفس، انظر L. Binswanger: Dank an Husserl, Ibid., pp. 64–72.
٨  وهي مجموع الموضوعات التي تمت معالجتها في Husserl et la Pensée Moderne, Colloque de 1956, Phänomenologica, 2.
٩  H. Plessner: Bei Husserl in Göttingen, Phänomenologica 4, pp. 29–39.
١٠  F. Kaufmann: Ibid., pp. 40–7.
١١  K. Loewith: Eine Erinnerung an E. Husserl, Ibid., pp. 48–55.
١٢  P. Ricoeur: Le sentiment, Phänomenologica 4, pp. 260–74.
١٣  انظر أيضًا الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية، الفصل الثاني.
١٤  A. Gurvitsch: Sur la conscience conceptuelle, Phänomenologica 4, pp. 272–82.
١٥  الشرح Explication، التأويل Interprétation.
١٦  S. Bachélard: La Logique de Husserl.
١٧  منطق هوسرل هو شرح حرفي لكتاب هوسرل «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي».
١٨  Muralt: L’Idée de la Phénoménologie, 3ème and 4ème Partie.
١٩  S. Breton: Consience et Intentionalité, pp. 231–67.
٢٠  النص المتعلق بمشكلة اللاشعور كتبه فنك Fink. Krisis, p. 423–5.
٢١  فلسفة اللاشعور هي فلسفة E. V. Hartmann. ويتحدث التحليل النفسي عما تحت الشعور أكثر مما يتحدث عن اللاشعور. انظر أيضًا A. De Waelhens: Réflexions sur une problématique Husserlienne de l’Inconcscient. Husserl et Hegel, Phänomenologica, 4, pp. 221–37.
٢٢  «التفكير ليس امتلاك أشياء للفكر، بل تحديد ميدان التفكير فيها ما زلنا لا نفكر فيه بعد.» M. Murleau-Ponty: Le Philosophe et son ombre, Phänomenologica 4, p. 196.
٢٣  R. Ingarden: De L’Idéalisme Transcendentale chez Husserl, Phänomenologica, z, pp. 204–15.
٢٤  وتظهر هنا أهمية فهم هوسرل عن طريق برجسون؛ فإلغاء المشكلة أحد حلولها كما لاحظ برجسون.
٢٥  Phil. Merlan: Idéalisme, Réalisme, Phénoménologie, Husserl, Cahiers de Royaumont, pp. 382–410.
٢٦  مثلًا: ماهية – وجود، جوهر – عرَض، عام – خاص … إلخ.
٢٧  G. Gurvitch: Les Téndances actuelles de la Philosophie Allémande, pp. 11–28.
٢٨  حدث هذا الانحراف في المحور مرات عديدة في تاريخ الفلسفة الأوروبية. انحراف محور كانط عند الفلاسفة بعده، وأصبحت الأولوية للإرادة وليس للعقل، وانحراف هيجل عند اليسار الهيجلي، وتحول الجدل المطلق إلى مادية جدلية. انحراف المحور Désaxation.
٢٩  M. Farber: On the meaning of radical refection, Phänomenologica 4, pp. 154–66.
٣٠  Sofia Vanni-Rovighi: E. Husserl e la perennita della Philosophia, Phänomenologica 4, p. 18–94. الخلود Pérennité.
٣١  Husserl: Cahiers de Royaumont, Philosophie III Colloque, 1957.
٣٢  A. De Waelhens: L’Idée Phénoménologique d’Intionalité, Phänomenologica, 2, pp. 115–29.
٣٣  توجد هذه الحركة الصاعدة بوضوح تام في «بحوث منطقية».
٣٤  E. Levinas: Réflexions sur la Technique Phénoménologique, Husserl, Cahiers de Royaumont, p. 118–95.
٣٥  Muralt: L’Idée de la Phénoménologie.
٣٦  Q. Lauer: La Phénoménologie de Husserl.
٣٧  F. J. J. Buytendijk: La Sigmnification de la Phénoménologie Husserlienne pour la psychologie actuelle, Phänomenologica 2, pp. 98–113.
٣٨  مثلًا التمييز الذي قام به فنك Fink بين التصور الموضوعي Thématique والتصور الإجرائي Opératoire. انظر Cahiers de Royaumont, Philosophie No. III, Husserl. Fink: Les Concepls Opératoires dans la Phénoménologie de Husserl, pp. 214–31.
٣٩  تنظير Conceptualisation.
٤٠  الفعل الثقافي Travail d’Intéllectualisation.
٤١  دخل مورا Muralt الظاهريات بفكرة العلم، وهو ليس الطريق الوحيد، من أجل توجيه فكرة الظاهريات، نموذج هوسرل، نحو المنطق الترنسندنتالي كاتجاه وحيد للظاهريات وكجزء منها.
٤٢  اعتبرت «الفلسفة كعلم مُحكَم» ١٩١١م بيان الظاهريات بعد اكتشافها في المبحث الخامس في «بحوث منطقية»، «الخبرات الحية القصدية ومضامينها»، وفي المبحث السادس، عناصر توضيح «ظاهراتي للمعرفة». توضيح Eluicidation.
٤٣  اعتبرت أيضًا فكرة الظاهريات L’Idée de la Phénoménologie 1905 كبيان أول للظاهريات، وكما يدل العنوان على ذلك.
٤٤  إذا كانت الظاهريات حركة قبل أن تكون نظرية أو مذهبًا، فإن ذلك ليس مصادفة أو خداعًا M. Murleau-Ponty: Phénoménologie de la Imposture Perception, p. XVI.
٤٥  K. Kuypers: La conception de la Philosophie comme science rigoureuse et les fondements des sciences chez Husserl, Cahiers de Royaunont, pp. 72–94.
٤٦  A. De Waehlens: Commentaire sur l’idée de la Phénoménologie, Ibid., 143–69. الوحدة الوحيدة التي يتطلبها الإنسان هي الوحدة القصدية التي تظهر لنا G. Berger: Le Cogito dans la Philosophie de Husserl, p. 15.
٤٧  على نحو استرجاعي Rétrospectivement.
٤٨  ساعدت أنطولوجيا هيدجر على اكتشاف أنطولوجيا الفلاسفة السابقين على سقراط.
٤٩  J. Wahl: Au sujet des jugements de Husserl sur Descartes et Locke. Husserl, Cahiers de Royaumont, p. 119–42.
٥٠  E. Levians: La ruine de la Représentation, Phänomenologica 4, pp. 73–85.
٥١  قام شوتز بهذا التأويل «التقدمي» على نحو مُرضٍ A. Schutz: Husserl’s. importance for the social sciences, Phänomenologica 4, pp. 86–98.
٥٢  Muralt: op. cit., pp. 337-8. الشامل العياني L’Universel-conrnet.
٥٣  Ibid., pp. 338–44.
٥٤  M. Yamamoto: why I am interested in Phenomenology, Phenomenologica, 4, pp. 123–33.
٥٥  مثل: المنطق الصوري الهوسرلي، المنطق الترنسندنتالي الهوسرلي. وهذه عناوين في الجزء الثالث من Muralt: l’Idée de la Phénoménologie، وأيضًا العنوان الفرعي النموذج الهوسرلي L’Exemplarisme Husserlien.
٥٦  Lyotard: La Phénoménologie, p. 11–46.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤