خامسًا: خصائص ظاهريات التأويل١

لقد انتهى تأويل الظاهريات إلى نتيجةٍ مؤداها أن الظاهريات اتجاه ديني في مصدرها ومنقول على مستوى الأنا الترنسندنتالي، وكما هو المعتاد في كل الفلسفة الأوروبية منذ عصر النهضة وفلسفة التنوير، وتطبيق المنهج الظاهرياتي في ظاهرة الدين خاصة في إشكال التأويل هو عود المنهج إلى حدوسه الأولى، ومن بين ميادين التطبيق التي تم تقصِّيها، ظاهريات الدين وحدها، وبتعبير أدق ظاهريات التأويل، وهي التي تستطيع أن تقدم عناصر جديدة خاصة فيما يتعلق بما تحت الظاهريات؛ فللمرة الأولى تتوقف لعبة التبرير التي ما زالت قائمة، سواء في فلسفة الدين أو في ظاهريات الدين، ولا ينتمي «ما لا يمكن رده» أو «ما لا يمكن معرفته» إلى إثبات اللاهوت العقائدي لوجود الله بل إلى الوجود الإنساني، ويخاطر التفسير الوجودي بفقدان ذاته لو اعتُبر التحليل الوصفي للوجود الإنساني لاهوتًا جديدًا. ليست ظاهريات التأويل ظاهريات الظاهرة الدينية أو ظاهريات الموضوع الديني بل ظاهريات النص الديني. الظاهرة الدينية مجرد عاطفة ذاتية من جانب الذات. والموضوع الديني شيء مادي من جانب الموضوع، في حين أن النص علاقة بين الشعور وموضوعه.

ولظاهريات التأويل الخصائص الآتية:

(١) ظاهريات أكثر منها تأويلًا

تتكون الظاهريات إذَن من عنصرين «الظاهريات» و«التأويل»، والسؤال هو: كيف يمكن التوحيد بينهما والحفاظ على توازنهما بحيث لا ترجح الظاهريات على التأويل أو يرجح التأويل على الظاهريات؟ ومع ذلك، بالنسبة للظاهرياتي وليس المفسر، من الصعب صياغة ظاهريات للتأويل دون إعطاء أولوية للظاهريات على التأويل.٢ وليس هذا عيبًا، بل على العكس هي ميزة كبيرة؛ فالواقع أن الأزمة الحالية للتأويل قد تجد حلًّا لها في الظاهريات.

(٢) مساهمة أكثر منها بحثًا

ليست ظاهريات التأويل دراسة تاريخية في التأويل بالمعنى المهني للفظ، بل مجرد مساهمة في الدراسات الهرمنيطيقية بتطبيق المنهج الظاهرياتي خاصةً قاعدة الإيضاح؛ فالتأويل في وضعه الراهن مملوء بالخلط، وكل دراسة جديدة في مادته تزيد الخلط أكثر مما تزيله. ظاهريات التأويل مجرد مساهمة في دراسات التأويل فقط من أجل إلقاء الضوء على إشكالات التأويل بالاستعانة بالمنهج الظاهرياتي دون البحث التاريخي في هذا الجانب أو ذاك.

(٣) تفكير أكثر منه توثيقًا

تعتمد ظاهريات التأويل على التفكير أكثر من اعتمادها على التوثيق، ويرجع خطأ التأويل التاريخي إلى سيادة التوثيق على التفكير، وخطر التأويل العقائدي هو سيادة التفكير على التوثيق، ويتجنب المنهج النظري بطبيعته الخطرين بالتوجه إلى الأشياء ذاتها، خطر النزعة التاريخية في التوثيق.٣ وبالاعتماد على التفكير المفتوح يمكن تجنب خطر العقائدية اللاهوتية، وتعطي ظاهريات التأويل المقترحة التي تبدأ من الظاهريات أكثر من بدايتها بالتأويل اهتمامًا أكثر بالتفكير المنهجي أكثر من مادة التفكير التي يقدمها التوثيق، ولا يعني أي نقص في التوثيق أي نقص في المنهجية النظرية؛ إذ تقوم هذه المنهجية على الكيف بالنسبة لأسسها المنهجية وليس على الكم بالنسبة لمجموع الوثائق، وهذا ضروري من أجل المحافظة على التوازن المطلوب.

(٤) حل جديد أكثر منه إدانة للقديم

ليس هدف ظاهريات التأويل القضاء على التأويل القائم، التاريخي أو العقائدي. ليس الغرض تفريغ التاريخ أو تبخير العقائد.٤ تقترح فقط حلولًا قد تكون لها بعض الفائدة، وبهذه الطريقة يحافظ التأويل على نفسه من الوقوع في مجال ينقل المشكلة الرئيسية من مستوًى إلى مستوًى آخر؛٥ وبالتالي يتحول التأويل إلى فرع من السجال التاريخي اللاهوتي، ويضيع تأصيله في الشعور في علاقة النص بالواقع؛ فالنص هو مرآة الواقع في الشعور، ومرآة الشعور في الواقع، والتأويل يبني الموضوع، والسجال بين وجهات النظر التي يقصي بعضها بعضا لتوحد كلٍّ منها ﺑ «الحقيقة»، وهو موقف لاهوتي مسبق. التأويل في الحقيقة التكامل في رؤية الموضوع في كل جوانبه ومن كل زواياه بحثًا عن المعطى القصدي الأول، وليس عن تعيناته التاريخية في النص.٦

(٥) افتراض أكثر منه حلًّا

لا تدَّعي ظاهريات التأويل تقديم حلول لمسائل التأويل الشائكة خاصة فيما يتعلق بالتأويل التاريخي، وتظل هذه المشاكل بلا حلول طالما أنها مشدودة بين التاريخ من ناحية والعقيدة من ناحية أخرى، ومع ذلك نظرًا للفائدة الكبرى للمنهج الظاهرياتي بتطبيقه في إشكالات التأويل تصبح نتائج البحث قضايا خصبة في الوقت الذي يستطيع فيه التأويل الخروج من الحصار بين التاريخ والعقيدة، والتفكير في الأصول أجدى من اقتناص الفروع، وكل تغير في نتائج الفروع إنما كان نتيجة لتغير في وضع الأصول. والافتراض الجديد أفضل من إضافة نتيجة للقديم، وكان تقدم العلم باستمرار مرهونًا برؤى العالم أكثر منها بنتائج العلم.٧

(٦) قواعد عملية أكثر منها نظرية

صحيح أن التأويل يمثل بالنسبة للهرمنيطيقا خطوة كبيرة نحو البحوث العيانية والعملية في النص المقدس. ومع ذلك، يظل التأويل مشوبًا أيضًا بعناصر خارجية، حوادث تاريخية أو عقائد لاهوتية. والتأويل مستقل تمامًا عن مصادره التاريخية، ويستطيع أن يتحول إلى علم دقيق لو تأسس كعلم مستقل عن مصادره التاريخية، كما أنه يستطيع أن يقدم منهجية عملية يمكن تطبيقها على أي نص مقدس. وبتعبير آخر، يتم التأويل على خطوتين؛ الأولى الانفصال عن مادة البحث ونصوصه الأولى كي يتكون كمنهجية مستقلة، والثانية التوجه من جديد إلى أي نوع من النص لحل إشكالاتها في النقد التاريخي والتحليل اللغوي والتحقيق العملي.

١  Ex. Phéno., pp. 608–10.
٢  هذه أول مرة تظهر فيها عبارة في الشخص الأول، وتعني ظاهرياتي هنا أن العلم الذي ينتمي إليه الباحث هو الفلسفة وليس التأويل المهني الذي يغرق فيها أصحاب اللسانيات.
٣  النظري Réflexive.
٤  ومن ثَم فإن كل الانتقادات التي وُجِّهت إلى التأويل خاصةً عند بولتمان R. Bultman انتقادات سطحية.
٥  عادةً ما يُنقل التأويل إلى مشكلة الإيمان والإلحاد.
٦  النصف الآخر من هذه الفقرة بعد «إلى مستوًى آخر» إضافة جديدة.
٧  الفقرة ابتداءً من «التفكير في الأصول» إضافة جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤