أولًا: فلسفة الدين، وظاهريات الدين، وظاهريات التأويل١

تسبق ظاهرياتُ التأويل ظاهرياتِ الدين، كما تسبق ظاهريات الدين بدورها كل محاولة لإقامة فلسفة للدين. لا يمكن إقامة للدين إلا بعد فهم الظاهرة الدينية، ويستحيل ذلك قبل وضع ظاهريات مُسبقة. فلسفة الدين هي محاولة نسقية نسبيًّا تقوم على عناصر يُقدِّمها التحليل الظاهرياتي وحده.٢ وطبقًا لمنهج البداية الجذرية تسبق ظاهريات التأويل ظاهريات الدين؛ إذ تحل أولًا مشاكل النص المقدس حول الصحة التاريخية، والفهم، والتحقيق، قبل صياغة أي ظاهريات للدين؛ فهذه مرتبطة أشد الارتباط بفهم النص المقدس، والتأويل هو منطق الفهم، وتخاطر كل ظاهريات للدين لا تقوم على ظاهريات التأويل بالوقوع في النزعة النفسية بدراسة ظاهرة التدين؛ أي الإيمان، أو في النزعة التاريخية بدراسة المؤسسة؛ أي الكنيسة.٣ مهمة ظاهريات التأويل إذَن هي وضع منطق للنص المقدس من أجل تأسيس الدين بعد ذلك على أساس يقيني، وكل إهمال في التأويل كمنطق للنص المقدس تكون له نتائج وخيمة على تأسيس الدين. التأويل بالنسبة للدين مثل المنطق بالنسبة إلى الفلسفة؛ الأول وسيلة، والثاني غاية.٤ وبسبب غياب التأويل كمنهجية خاصة منطق للنص، طُبِّق المنهج الظاهرياتي عَنوةً في الظاهرة الدينية بمفردها في تجلياتها الفلسفية واللاهوتية والتاريخية.٥ وإذا ظهر لفظ «ظاهريات» بوضوح في بعض المحاولات، فإن لفظ «تأويل» يظل غائبًا على الإطلاق،٦ بل استُعملت الظاهريات كعلم فلسفي جديد مثل غيره، وليس كمنهج محكَم، كما استُعملت في خدمة اللاهوت الرسمي حتى لا يترك وراء التيارات الفلسفة الأكثر حداثة. لم يُستعمل المنهج الظاهرياتي بطريقة شفافة؛ أي إنه لم يؤخذ على أنه أساس أو أصل، وتمت التضحية بفائدته القصوى ومساهمته الفعلية من أجل تبرير اللاهوت الرسمي مرة أخرى، فلسفة الدين ليست إلا مظهرًا نظريًّا لإشكال الفهم، موضوع التحليل اللغوي، هو تقريبًا نظرية في المعرفة منقولة إلى المستوى الديني.٧ وعلى افتراض أن فلسفة الدين تتعلق بالإشكال الثاني في التأويل، أي التحليل اللغوي من أجل الفهم فأين الإشكال الأول؛ الصحة التاريخية للنص المقدس، موضوع النقد التاريخي؟ وأين الإشكال الثالث؛ التحقيق العملي للنص المقدس بالعمل؟ تتجنب ظاهريات التأويل، في مواجهة ظاهريات الدين في شكل فلسفة للدين، أولًا الطابع النظري للمعرفة الدينية وتوجيهها نحو ميدانها الأول؛ أي منطق النص ابتداءً من التحليل اللغوي. ثانيًا تستعيد النقد التاريخي والتحقيق العملي مع التحليل اللغوي من أجل تكوين المنطق المتكامل للنص؛ وبالتالي منهجية الوحي.
وتهتم ظاهريات الدين بدراسة بعض جوانب الظاهرة الدينية مثل المقدس،٨ ويحدث دائمًا نفس الشيء. تظل ظاهريات الدين دائمًا نظرية؛ نظرًا لانفصالها عن أساسها في منطق النص. كل ظاهريات للدين تأخذ صورة فلسفية ممكنة، يكفي مد كل نسق فلسفي على الظاهرة الدينية، أو يكفي نقل الظاهرة الدينية إلى مستوى أي نظرية فلسفية، حينئذٍ يُنقل الإشكال الخاص بظاهرة الدين إلى سؤال فلسفي حيث يكون الشيء ونقيضه ممكنين. والحقيقية أن ظاهريات الدين مشكلة مستقلة عن الأنساق الفلسفية، تقوم على منطق محكم للنص المقدس الذي يحتوي على النقد التاريخي والتحليل اللغوي والتحقيق العملي، بل على العكس كل الأنساق الفلسفية نقل عقلي لبعض جوانب الظاهرة الدينية،٩ ولا يمكن حل أزمة فلسفة الدين في النظر بل في العمل. يعني النظر هنا الفلسفة، ويعني العمل المنطق؛ فالواقع أن أزمة فلسفة الدين قد حدثت قبل التأويل بمدة طويلة، وترجع إلى أزمة خاصة بها. ترجع أزمة الفهم إلى أزمة التفسير؛ فكل تفكير ممكن، والعقل قادر عليه، وكل حل نظري يمكن نقضه بآخر، لا يقل ملائمة عن الأول، وهكذا. وعلى العكس يستطيع حل، ابتداءً من دراسة عملية وتطبيقية على النص لإيجاد منطقه، أن يكون حلًّا للأزمة؛ ومن ثَم تتم معالجة الأزمة من الأساس أي النص، الصياغة المكتوبة للوحي، موضوع كل فلسفة دين أو كل فلسفة دينية.١٠
١  Ibid., p. 584–7.
٢  ومن ثَم تنقص محاولة هنري ديميتري «فلسفة الدين» H. Duméry Philosophie de la Religion توضيحًا سابقًا لظاهريات الدين. كان يمكن تجنب أخذ المقولات والمخططات والتصورات كنقطة بداية.
٣  محاولة هيرنج «الظاهريات والفلسفة الدينية» من هذا النوع، J. Hering: Phénoménologie et Philosophie Religieuse.
٤  وهنا تبدو قوة منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» Formegeschichte وأعمال بولتمان R. Bultmann واضعًا المشكلة بهذا اللفظ.
٥  يُستثنى بولتمان R. Bultmann من هذا النقد.
٦ 
  • (a)
    J. Hering: Phénoménologie et Phénoménologie Religieurse.
  • (b)
    Van der Leuuw: La Religion dans son essence et ses Manifestations, Phénoménologie de la Religion.
  • (c)
    A. Bruner: La Personne Incarnee, Etude sur la Phénoménologie et la Philosophie Existentialiste.
  • (d)
    Dondeyne: Foi. Théologie de la fol et Phénoménologie.
  • (e)
    Vancourt: La Phénoménologie et la foi.
  • (f)
    H. Duméry: Phénoménologie et Religion.
٧  العنوان الفرعي لمحاولة هيرنج J. Hering هو «دراسة في نظرية المعرفة الدينية» Etude sur la theoire de la connaissance religieuse، دالة للغاية. ذروة المحاولة الإبستمولوجيا الظاهراتية ونظرية المعرفة ch. III, partie III, pp. 118–40.
٨  R. Otto: Le Sacré.
٩  انظر سابقًا الباب الثاني، الفصل الثالث: محاولة في التأويل، وأيضًا ملاحقه الأخيرة. وهي أيضًا حالة جروندلر «عناصر من أجل فلسفة في الدين على أسس ظاهراتية» O. Grürndler: Elemente zu einer Religiouse Philosophie auf Phanomenologische Grundlage.
١٠  انظر التمييز بين اللفظين، الفلسفة الدينية وفلسفة الدين، عند هيرنج J. Hering: Phénoménologie et Philosophie, pp. 6–8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤