الفصل الثاني

الأهلية

(١) حقيقة الأهلية

من القضايا المسلمة أن الناس «يتنازعون البقاء»؛ أي أنهم كلهم ساعون في مجال هذه الحياة إلى الرزق؛ حرصًا على حياتهم، ولا يخفى أن تكاثر الناس ونموهم حسب قاعدة التناسل يقضيان أن يكون المعمور قد ضاق بهم منذ قرون عديدة، ولكن حال دون هذا التكاثر سبب عمراني؛ وهو أن مجال الاسترزاق أضيق مما يظهر من اتساع هذه البسيطة؛ ولهذا يحتشد الناس في هذا المجال، ويتسابقون فيه؛ فالضعيف يداس ويفنى، والقوي يسابق ويقوى؛ ولهذا ما كل مولود يحيا، ولا كل مكتهل يلد، والقوة اللازمة لهذا السباق هي «الكفاءة» أو «الأهلية».

وقد ثبت أيضًا أن «الأفضل هو الأبقى»؛ لأن العمران أكثر احتياجًا إلى الأفضل من غيره، وأفضلية الإنسان تكون بأهليته، وبناء على ما تقدم يكون الأكثر أهلية وكفاءة أنجح سعيًا؛ لأنه كلما كثرت أهلية الإنسان وكفاءته اشتدت الحاجة إليه، وهكذا يتوفق سعيه، والعكس بالعكس؛ أي كلما قلت أهليته قلت الحاجة إليه، بل قد يستغنى عنه فتخفق مساعيه، وتسوء حاله، وثم يقرضه البؤس.

هب أن مدينة تجارية تحتاج إلى مائة كاتب تجاري فقط، ولكنَّ فيها مائتي كاتب متفاوتين بالمعرفة والخبرة والعلم؛ أي متفاوتين «بالأهلية»، فلا ريب أن المائة كاتب الأكثر أهلية يُستخدَمون دون البقية؛ طبقًا لناموس «فوز الأفضل»، وإذا استُخدم أحد أقل أهلية من أحد الذين لم يستخدموا؛ فلسبب نادر لا يقاس عليه.

وعليه فلا يمكن أن يقفل باب الرزق في وجه من هو أكثر كفاءة مهما كانت أسباب المعائش قليلة، ومجال السعي ضيقًا، ودولاب الأعمال بطيئًا، فلو استقال أكثر هؤلاء الكتبة كفاءة من وظيفته أو أُقيل منها لسبب، فأي وظيفة من التسعة والتسعين الأخرى تفرغ له، ولو بعزل من هو فيها؛ لأن صاحب العمل يفضله على غيره؛ طمعًا بالانتفاع من أهليته.

وهب أن مدينة تحتاج إلى خمسين طبيبًا مثلًا، ولكن فيها مائة، فأكثرهم أهلية وكفاءة في مهنته، وأليقهم بها، أنجحهم وأسعدهم حالًا، ولا يتوهمن أحد أن الكفاءة تقوم بمعرفة أصول الفن فقط، بل بحسن تعاطي المهنة، وملاءمة أذواق المعامَلين. وهذا هو سر أن بعض الأطباء النوابغ في فنهم هم أقل حظًّا ممن ليسوا أطباء إلا بالدبلومة.

وعلى الطبيب والكاتب قِسِ المحاميَ والتاجر والصانع … إلخ، ولا ريب أن أفضلهم أنجحهم، وأكثرهم أهلية لمسعاه وعمله أوفرهم حظًّا وأرقاهم، ولا عبرة بالنادر. والأهلية تتم بأربعة أمور رئيسية: «العلم والاختبار والمعارف الخاصة والمعارف الكمالية». وفيما يلي إيضاح ذلك.

(٢) العلم

إذا سئلت عن سبب ارتقاء الغربيين في المدنية والحضارة، وتوفر وسائل السعادة والراحة لهم، ومهارتهم بالصنائع، ومقدرتهم على عظائم الأعمال، وكثرة اختراعاتهم إلى غير ذلك من ثمرات الارتقاء أجبت على الفور: «العلم»؛ لأن العلم يُعرِّف الإنسان أن العمل شرط للحياة، ويدله على أبواب التعيش، وكذلك إذا سئلت عن سبب تأخر الشرقيين، وبقائهم في شظف العيش، واعتسافهم في العمل، وفساد العوائد التي تطرقت إليهم من نفاية العوائد الغربية؛ أجبت على الفور أيضًا: «الجهل»؛ لأن الجهل يعمي الإنسان عن قدر نفسه، وعن مركزه، وعن سبيل مسترزقه، ولا يمكن أن ينهض الشرق من انحطاطه في المدنية والحضارة والعمران ما لم يستنر أهله كلهم بنور العلم.

ومن أغلاطنا — نحن الشرقيين — أن نحسب العلم غير ضروري لكل فرد من الناس؛ لأنه ما دام ارتقاء الهيئة الاجتماعية مترتبًا على ارتقاء أفراد الأمة كلهم؛ فالعلم — وهو أُسُّ الارتقاء — لازمٌ لكل فرد مهما كانت درجته وحالاته، ولكن حاجة الناس إلى القدر اللازم لهم منه تتفاوت بحسب طاقتهم على تحصيله.

إذا طفت بلاد أوروبا ووقفت على أحوال أهلها، وحضرت مجالسهم، رأيت أحطهم يلم بشيء من المعارف العمومية، والمبادئ العلمية حتى إذا جالسته لَذَّ لك مجلسه، أو إذا ناقشته أعجبت بأفكاره وآرائه.

وفي الغرب أوضع العمال كأشرف الناس يقرأ الصحف، ويطالع الروايات في أوقات الفراغ من العمل، وغالب الناس في الأندية العمومية من أي رتبة كانوا يتحدثون بسياسة أيامهم، ويتباحثون بالمباحث العلمية والاقتصادية والأدبية إلى غير ذلك مما يفيدهم تبادل الأفكار فيه، وتلذ لهم المناقشة به؛ ذلك لأنهم يضنون بالوقت على السفاسف، والأحاديث التافهة، والناس عمومًا يختلفون إلى أندية العلم والأدب والخطابة، وإلى المكاتب العمومية كما يختلفون إلى الملاهي. والملاهي نفسها عندهم تفيدهم علمًا.

والحق أن تلك المعارف القليلة التي لا نراها لازمة للحمال والخادم والحوذي وغيرهم من العامة هي التي جعلت الغربيين أرقى منا في كل شيء، وأنعم بالًا؛ لأن قراءة الحوذي أو الحمال أو غيره للجرائد في أوقات الفراغ تسليه عن أتعابه، وتلذ له كسائر ملذاته، وتفيده كثيرًا فتُفقِّه عقله، وتُدمِّث أخلاقه، وتُلطِّف ذوقه، وتُهذِّب كلامه. وكل هذه الأمور تؤهله إلى العمل، وتقدره على إتقانه.

ومهما كان العلم غير لازم للمهنة التي يعول الإنسان عليها؛ فإنه لازم لسعيه وسلوكه ومقامه، ولكل وجه من حياته؛ لأنه يلذه، ويرفع أفكاره، ويعز نفسه، ويوسع دائرة آماله، ويعلي مقامه الأدبي، ويهذب طبعه، ويعرفه حقوقه، ويزين عقله، ويجعل حديثه عذبًا، ومجلسه محترمًا. وما أخطأ الظن أن هذه المبادئ العلمية كالرياضيات والجغرافية والتاريخ … إلخ لا تفيد في المهن التي تستغني عنها؛ لأنه قلما يُشعر بفائدتها، ولكنها في الواقع تفيد جدًّا في جزئيات الأعمال، وأكثر ما يكون التفقه بهذه المعارف علة الاهتداء إلى أسهل الطرق وأخصرها في السعي والعمل.

هذا، وإذا لم يكن من داع لاقتباس العلم إلا مجاراة أهل العصر فكفى؛ لأننا إذا لم نطلب كسائر الناس ما له قيمة عندهم فلا نقدر أن نسير معهم في طريق هذه الحياة، وقد اتضحت أهمية العلم وفوائده العظيمة، فلم يبقَ إذًا من ريب بأنه ركن من أركان السعي. فإذا كان الإنسان جاهلًا تقهقر سريعًا إلى الوراء مهما كان متقدمًا بسبب نسبه أو نشبه. وأخيرًا يصبح في آخر القوم؛ فعلى إنسان هذا الزمان أن يعلم مع القراءة والكتابة بعض المبادئ العلمية؛ كالحساب والجغرافية، وخلاصة التاريخ العام، وموجز نواميس الطبيعة العامة، وأهم أصول لغته، وكل ما يزيده على هذه المعارف ينتفع به أكثر.

ويقال: «كل لسانٍ إنسان.» وهو قول حري بالاعتبار؛ لأن من يعرف لغة أجنبية أو أكثر يتسع مجال مساعيه بقدر انطلاق لسانه، واتساع نطاق اللغات التي يعرفها حيث هو قاطن، وكثيرًا ما يكون سعي من يعرف لغتين مضاعف الفائدة؛ ولذلك كان حريًّا بالإنسان أن يعرف من اللغات ما استطاع إليه سبيلًا، ولا سيما في هذا العصر الذي اتسع فيه مجال المعاملة والعمل، وكثر اختلاط الناس من أمم مختلفة؛ فاحتيج إلى استعمال اللغات في أكثر الأعمال، ولا سيما في التجارة.

(٣) الاختبار

لا يخفى عليك أن السعي يستلزم «وسطًا» تسعى فيه؛ فوسط السعي هو جمهور الناس، ولكي تستطيع السعي وتحسنه جيدًا يجب أن تختبر ذلك «الوسط» الذي تسعى فيه؛ لئلا تضل السبيل إلى مسترزقك، فاختبر الناس الذين تدأب بينهم بأن تقف على جميع أحوالهم؛ لتستسهل معاملتهم، وتنتفع منها، وبقدر اتساع الخبرة يتسع نطاق السعي.

عليك أن تجول بين مراكز الحركة ومواضع العمل، وتتأمل كل جزء من أجزاء مساعي الناس، وتخالط كل طبقة من البشر.

فاختبر أولًا الأشخاص؛ لتعلم الصديق من العدو، والصالح من الطالح، والعالم من الجاهل، والعظيم من الحقير؛ لئلا تخدعك ظواهرهم، ولكي تصيب الغرض في معاملتهم، وتصدق أحكامك عليهم، وتستطيع مسالمتهم، والانتفاع منهم.

اختبر أبواب الرزق؛ لتعلم أيها أقرب منك، وأوسع لك، وأضمن لعيشك، وأسهل لك فتتبعه آمنًا إخفاق المسعى.

اختبر الأشغال والأعمال كلها، وانظر كيف يعمل الناس؛ لينتفعوا من أشغالهم، وتفهَّم كل طرق المكاسب، ولوازمها الاستعدادية والمالية، وأساليب رواجها؛ لتكون على بصيرة في انتقاء أفضلها لك.

اختبر سلوك كل من تتصل به فتستفيد منه شيئًا على كل حال، فإن كان مستقيمًا علمت كيف يسلك المستقيم في هذا الجيل الأعوج، وإن كان أعوجَ علمت كيف تميز الأعوج من المستقيم، وإن كان شريرًا حذرته، وعرفت كيف تأمن شره.

اختبر حالة كل إنسان من المحيطين بك لتقابلها بحالتك؛ فإن كان سعيدًا بذلت جهدك أن تُباريه، وإن كان شقيًّا شعرت بسعادتك، واطلع على أسباب شقاء الشقي لتتلافاها، وابحث عن أسباب سعادة السعيد لتحذو حذوه.

وهكذا كن كلك عيونًا ترى، وآذانًا تسمع، وذاكرة تعي، واطلع على كل شيء؛ لأن كل ما تعلمه تستفيد منه.

أكثر العلم نتيجة الاختبار، فإذا كنت خبيرًا بأهم الأمور لم تكن بأقلَّ فهمًا من العلماء، بل قد تنتفع من اختبارك أكثر مما ينتفعون من علمهم، وَرُبَّ خبير حنكه الدهر وجربته الأيام هو أسدُّ رأيًا من عالم قضى نصف العمر في المدارس الجامعة.

(٤) المعرفة الخاصة

أَبَنَّا في الفصلين السابقين أنه لا بد للإنسان من الخبرة الواسعة، ومن معرفة بعض المبادئ العلمية، فضلًا عن القراءة والكتابة؛ ليتسع مجال السعي أمامه، ولا يخفى أن تلك المعارف العلمية والاختبارية إنما هي عمومية لازمة للجمهور؛ لكل حسب طاقته، وما يتسنى له، وبما أن أميال الناس متضاربة، ومساعيهم وأعمالهم مختلفة؛ فلا بد لكلٍّ من معرفة خاصة؛ ليحسن مسعاه الخاص.

والمراد من المعرفة الخاصة أن يحيط المرء علمًا بقواعد العمل الذي يعمله من كلية وجزئية، وأن يفهم الأسباب والنتائج فيه، ويقف على كل حالة من حالاته؛ حتى يكون ماهرًا في عمله، وإلا أخفق مسعاه.

مثال ذلك: إذا كان كاتبًا في محل تجاري وجب عليه أن يحسن الخط في كل اللغات التي يعرفها، أو يقتضي شغله أن يكتبها، وأن يكون سريعًا بالكتابة، وعارفًا كل اصطلاحات التجار، وطرق المعاملات التجارية، ومتضلعًا من القواعد الحسابية، ولا سيما قواعد علم الدوبيا، إلى غير ذلك مما يلزم لحرفته.

وإذا أقدم المرء على عمل وهو جاهل أحواله وكيفية عمله خاب سعيه لا محالة، ولا بد أن يكون خاسرًا، ويعرض نفسه لهزء الناس وشماتتهم به، على أن بعض الناس يقدمون على بعض الأعمال وهم يجهلون أبوابها؛ بغية أن يهتدوا إليها بعد مزاولتها مدة، ولو كان نصيبهم منها الخسارة قبل أن يحسنوا العمل، ولكن هذا الإقدام لا يصح في كل الأعمال؛ لئلا تكون الخسارةُ التي لا بد منها قبل الاهتداء إلى أبواب ذلك العمل خسارةً جسيمة ولا تعوَّض؛ مثال ذلك: أن تفتح محلًّا تجاريًّا برأس مال كبير وأنت لا تعرف من أصول التجارة إلا اسمها فلا تأمن الخسارة، فَحَرِيٌّ بك والحالة هذه أن تفتح محلًّا صغيرًا برأس مال زهيد تتعلم فيه أصول هذا الفن وأساليبه، حتى إذا خسرت لا تكون الخسارة كبيرة، أو أن تُستخدَم عند أحد التجار برهة من الزمان تقف فيها على قواعد التجارة وطرقها، وتهتدي إلى أبواب المكاسب.

وما يقال في التجارة يقال في سائر المهن، ولكن يتفاوت الإقدام عليها بحسب أهميتها؛ لأن بعضها يحتاج إلى طول اختبار وتمرُّنٍ وسعة علم أكثر من بعض، فالأفضل أن تسعى إلى تعلم أصول الحرفة التي تحترفها بطرق لا تكلفك إلا الخسائر القليلة، والوقت القصير، ومن الغلط الفاضح أن تُقدم على عمل وأنت غير واثق من نفسك بكفاءتك له، وغير مقدر ربحك أو خسارتك منه، وبسعة الخبرة تُصيب أقرب تقدير إلى الصحة. فعليك أن تتدبر الأمور قبل الشروع بها، وتنظر إلى النتيجة قبل المقدمة، وتفرض الخسارة في تعديلاتك كما تفرض الربح؛ فلا تخدعنَّك الآمال، ولا يغشنك القياس على غيرك؛ لئلا تكون المقايسة في نظرك صحيحة وهي في الواقع فاسدة.

(٥) المعرفة الكمالية

ثبت مما تقدم أن المعارف العلمية والاختبارية والخاصة لازمة للإنسان كل اللزوم؛ لأنها تطلق رجليه في السعي، ويديه في العمل، بقي أن نلمع إلى بعض المعارف الكمالية التي يُزَيِّنُ بها الإنسان مساعيه، ويحلي بها جيد سلوكه، ويزخرف بها ثوب معاملته للناس، وعلاقاته معهم.

نعم، إن هذه المعارف الكمالية غير ضرورية، بيد أن بعضها يكون في بعض الظروف كالضروري، وربما يتوقف عليه النجاح، فعلى الإنسان أن يحرز منها ما استطاع وما يراه لازمًا له، ولو بعض اللزوم.

وأهم هذه المعارف معرفة فن المجاملة الذي يدعى عند الإفرنج: «إتيكيت» Etiquette، وهو علم تعرف به أصول العشرة والمعاملة في التحيات والزيارات والمحاضرات والمراسلات … إلخ، وقد أصبح لازمًا لكل امرئ في هذا العصر الذي سادت فيه دولة اللطف والإنسانية، ولا يخفى أن المرء بأدبه وحسن سلوكه، فهذا الفن يقوِّم الأدب والسلوك. نعم؛ إن الذوق العقلي ينطبق على كليات هذا الفن بحيث يعرفه المرء من طبعه، ولكن اختلاف الناس بالعوائد والأخلاق اقتضى أن تكون قواعده الجزئية اصطلاحية تختلف حسب الزمان والمكان، تبعًا لعوائد القوم وأخلاقهم؛ ولهذا اقتضى أن يقف الإنسان على آداب قومه، وآداب أقرب الأقوام إليه، ولا سيما إذا لم يكن من بدٍّ لمخالطتهم.

ثم الفنون الجميلة؛ وهي: الموسيقى، والشعر، والنقش، والتصوير، فهذه الفنون تدل على سلامة ذوق متقنها، وذكائه، ودماثة أخلاقه، فإذا علمها كلها أو بعضها كان في عيون معارفه وأصدقائه أكبر قيمة منه لو كان يجهلها، ولا يخفى ما ليقينهم هذا من التأثير في سعيه، ثم إن الموسرين وسليمي الذوق والظرفاء يقتبسونها وهم في غنًى عنها؛ ليتجمَّلوا بها، ويشغلوا بعض أوقات الفراغ من العمل في ممارستها؛ ترويضًا للعقل.

فالموسيقى أفضل ما يشغل به المرء أوقات الفراغ؛ تسلية للنفس، وتفريجًا لها، وأجمل ما يُسرُّ به الأصدقاء في مجالسهم؛ لأن الغناء والعزف يحركان العواطف، ويبسطان النفس، ويُنسيان الهموم والأتعاب، ويفرِّجان الكروب، وأفضل الآلات ذوات الضرب؛ كالبيانو، والكمنجة، والعود، والقانون. وأما ذوات النفخ؛ كالفلوت والناي ونحوهما فتعل الصدر على الغالب!

والإنسان موسيقي بالطبع، فإذا أتيح له أن يزاول الضرب على آلة موسيقية منذ حداثته أتقنها لا محالة، وإلا صعب عليه وهو رجل منهمك في السعي والعمل أن يحسن هذا الفن، فلينتبه الآباء إلى هذه الحقيقة الراهنة، ويوفروا لأولادهم وسائل مزاولة هذه الصناعة؛ فإنها أصبحت في العصر الحاضر كضربة لازب؛ لأنها تدمث الخلق، وتجلو صدأ الذوق!

والشعر يلذ للنفس ويطربها، ولكن غير متيسر لكل فرد من الناس؛ لما يقتضيه من المعاناة في دراسة اللغة وأصولها لإجادته، فهو مزية الخاصة الذين أولعوا به، وأتيح لهم أن يحكموا صناعته، فإن استطعت النظم فاغتنم الفرص الملائمة لصوغ معاني عواطفك وتصوُّراتك في قوالب الشعر، فتجد لذة عظيمة بتلاوة ما نظمت، ولا سيما إذا برعت في هذه الصناعة حتى يتمثل الناس بأبياتك، ويردد أصحابك قصائدك، وإلا فلا مندوحة لك عن فهم المنظوم؛ لكيلا تفوتك اللذة من تلاوة أشعار الشعراء المجيدين، ولكن إياك أن تتعاطى الشعر كمهنة؛ فإنه في الشرق بضاعة كاسدة، ومتعبة بلا فائدة.

والنقش والتصوير لا يقلَّان لَذَّةً لذويهما عن الموسيقى والشعر، وما قيل في ذينك يقال فيهما، فإذا توفر لك الوقت وشعرت بأقل ميل إلى أحد هذين الفنين — وهما أخوان — فطاوع هذا الميل وزاولهما، حتى إذا أحكمت صناعتهما شعرت بلذة عظيمة. وثم يتسنى لك أن تزين منزلك ببعض الرسوم والتماثيل، وتُهادِي أعزاءك رسومهم، ورسوم المناظر التي يميلون إليها إلى غير ذلك مما يفتخرون به، ويثنون عليك لأجله، ويشهدون بحسن ذوقك. وفي كل ذلك لذة لك، وشهرة بين القوم. والشهرة كما لا يخفى عليك تسهل السعي.

وهناك معارف كمالية أخرى يتمنى الإنسان في بعض الاجتماعات والمجالس أن يكون ملمًّا بها؛ كالرقص الإفرنجي، والألعاب التي يتسلى بها الأصدقاء في اجتماعاتهم الليلية، والألعاب الرياضية، وركوب الخيل والدراجة … إلى غير ذلك من الملاهي الحديثة، وكلها إذا كنت ملمًّا بها اكتسبت استحسان بعض الناس إذا مارستها لديهم، ولكن لا تغرم بكل ذلك، ولا تعلق عليه كل الأهمية، ولتكن ممارستك له عند اللزوم فقط؛ لئلا يعتقد القوم أن هذه فقط كل مزاياك ومعارفك.

ومما لا تكاد تستغني عنه هو أن تكون عالمًا بالسياسات الدولية الحاضرة، ومطلعًا على الصحف الإخبارية، وملمًّا، ولو بعض الإلمام، بمبادئ علم الاقتصاد السياسي، وكليات الفقه، وعلم الاجتماع، ونحو ذلك مما يدور على مواضيعه حديث الأدباء في مجالسهم كثيرًا؛ لكي يكون لك ضلع في مطارحاتهم.

هذا، وإذا كنت عَائِشًا في وسط من المدنيين المتمدنين، فمعرفة اللغة الشائعة إنما هي أهم الكماليات اللازمة لك في هذا العصر الذي أصبح فيه التكلُّم بلغة أجنبية في اجتماعات الأصدقاء ومجالسهم من صنوف «المُودَّة»؛ حتى إنهم قد لا يتكلمون بلغتهم الوطنية، ولو خلا مجلسهم من الأجنبي، أو لو كان بعضهم لا يعرف إلَّاها، فتعلَّمْ من اللغات الشائعة ما استطعت؛ لئلا تكون محتقرًا من محترمي «الموده المقدسة»، ولكن متى عرف القوم أنك تعرف اللغة الأجنبية الرائجة فتجنَّب بقدر الإمكان أن تتكلم بها؛ لئلا تسيء إلى من لا يعرفها منهم.

وحاصل القول: تعلم، واختبر، واعرف كل ما يمكنك أن تتعلمه وتختبره وتعرفه؛ لأنه كله نافع ولازم وإن تفاوت نفعه ولزومه، وكله يزيد المرء قيمة ولذة وسعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤